سجى الليل
07-07-2011, 11:52 PM
http://2.bp.blogspot.com/_iF6zHiO0fHI/TMSBmha0wjI/AAAAAAAAAUU/AZtJ7BPxnU8/s1600/moon.jpg
فهذه خطبة استضاءت بنور القرآن ، كنتُ خطبتها منذ أكثر من ثلاث سنوات ، حرصتُ أن تكون مرتبطة بواقع الناس، محاولاً أن تعالج مشكلةً عمّت وهي السهر المفرط في أمثال هذه الليالي الصيفية، ولا حاجة للتنبيه على أن مقام الخطبة ليس مقام استيعاب ، بل هو مقام تذكير وتنبيه ، وإلا فالآيات التي تحدثت عن الليل كثيرة جداً، والمؤمن تكفيه آية واحدة ، جعلنا الله من المعتبرين.
الحمد لله ، ... وبعد :
فحينما يبدأ موسمٌ كموسم الإجازة ،تتنوع الأحاديث ،وتختلف ألوان الخطاب ، نظراً للنقلة الكبيرة التي تحدثها هذه الإجازة في المجتمع ، نقلةً يصل تأثيرها إلى مؤسسات الدولة ..
وماذا عسى الإنسان أن يتحدث أو يقول ؟! وما الذي يمكن للخطيب أن يتناوله في مقام كهذا لا يحتمل الناس فيه سوى عدة دقائق ؟!
بيد أن هناك عاملاً مؤثراً ـ في كل المواضيع التي تطرح ـ ،بل هو السبب في هذه النقلة كلها ،والمشاريع المتنوعة برمتها .. إنه عامل الوقت ..
وإذا كان اليوم نصفين : ليل ونهار ،فإن لليل النصيب الأكبر من هذه البرامج ،ومن سمر الناس ،وحديثهم ،خصوصاً وأن الإجازة تأتي في ـ بلادنا ـ في حرٍّ لاهب ،وصيف لاغب.
ولن يجد المرء أجمل ،ولا أحسن ،بل ولا أشد وعظاً له ،من أن يتأمل كلامَ خالق الليل عن الليل ..
فكم تحدث القرآن عن الليل ؟! وكم في حديثه عنه من الوعظ البليغ لمن عقل ذلك !!
1 ـ إن أشرف شيء يمكن أن يذكره الإنسان ـ وهو يتحدث عن الليل ـ أنْ يكون ابتداء نور القلوب ،وحياة الأرواح ،وطب القلوب الحقيقي في هذا الجزء من اليوم : [COLOR="DarkSlateGray"](إنا أنزلناه في ليلة القدر) ،وليس هذا فحسب ،بل أول ما نزل الوحي على كليم الرحمن نزل عليه ليلاً ،حينما سمع ربه يكلمه ،في الوادي المقدس طوى ،قريباً من الشجرة.
2 ـ إنه الزمن الذي أسري فيه بأشرف جسد إلى أعلى مكان!
(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ)
ولا تسل عن بركات هذه الإسراء وخيراته ،ولو لم يكن من ذلك إلا فرض الصلوات الخمس ،لكفى به فضلاً .
3 ـ إنه الليل .. الذي ذاق فيه أهل القرآن لذة مناجاة الله فيه بكلامه!
ألم يستوقفك قوله تعالى :
(يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6))؟!
ألم تسمع قوله سبحانه :
(وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا)؟!.
بل ألم تسمع ذلك العتاب المبطن لمن آتاه الله علماً ،ولم يكن له نصيب من الليل :
( أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ)؟!.
لقد وجد الصالحون في قديم الزمان وحديثه ، هذه اللذة في ترتيل آيات الله ،ومناجاته بها ،حتى قال قائلهم : أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا.
وقال آخر : ليس في الدنيا وقت يشبه نعيم أهل الجنة إلا ما يجده أهل التملق في قلوبهم بالليل من حلاوة المناجاة.
ولكن : هل يمكن أن ينال هذه اللذة أناسٌ امتد سهرهم إلى ساعات الفجر في كلام مباح؟!
فضلاً عمّن ضيعوه في محرم من القول والعمل؟!
وهل يمكن أن ينالها من ملأ خزينة أعماله بالنهار في باطل من القول والعمل؟!
قِيلَ لِابْنِ مَسْعُودٍ : مَا نَسْتَطِيعُ قِيَامَ اللَّيْلِ ، قَالَ : أَبْعَدَتْكُمْ ذُنُوبُكُمْ.
وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ : : إذَا لَمْ تَقْدِرْ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ وَصِيَامِ النَّهَارِ فَاعْلَمْ أَنَّك مَحْرُومٌ مُكَبَّلٌ كَبَّلَتْك خَطِيئَتُك.
قَالَ ابن رجب : مَا يُؤَهِّلُ الْمُلُوكُ لِلْخَلْوَةِ بِهِمْ إلَّا مَنْ أَخْلَصَ فِي وُدِّهِمْ وَمُعَامَلَتِهِمْ ، فَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمُخَالَفَةِ ،فَلَا يُؤَهِّلُونَهُ وَلَا يَرْضَوْنَهُ لِذَلِكَ.
ولهذا كان من أحسن ما أثنى الله به على مؤمني أهل الكتاب قوله تعالى عنهم :
(لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ)!
فما الذي يوقظهم من الفرش اللذيذة ؟ والنوم الهنيء ؟
فيقال : لقد سمعوا الحادي .. لقد سمعوا رسول الله يخبر عن ربه ـ الذي خزائن الدنيا والآخرة بيده ـ يقول : ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول : من يدعوني فأستجيب له ، من يسألني فأعطيه ، من يستغفرني فأغفر له ؟!
وهل يفرط في هذا إلا محروم ؟! وهل يفرط في هذا إلا محروم ؟! وهل يفرط في هذا إلا محروم ؟!
إخوة الإسلام :
4 ـ وإذا كان الحديث عن الليل في القرآن ،فلا يمكن لنا أن نتجاوز امتنان الله تعالى علينا بهذه النعمة ،وكونه سكناً ولباساً ومناماً :
:
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ)
:
(وَمِنْ آَيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ)
:
(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا).
وإن هذا الامتنان يوجب على العبد أن يقف معه وقفات ،أهمها :
1 ـ كثرة الشكر والثناء على الله ،فإن الله يقول : (وما بكم من نعمة فمن الله).
2 ـ أن يوطن نفسه على السير فيها على هذه الفطرة التي فطر الناس عليها ، فلا يقلبن الليل نهارا ،ولا النهار ليلاً ؛ لأن مخالفة الفطرة ـ في هذا الأمر ـ تقلل بركة العمر بل قد تذهبه.
أيها المسلمون :
وللمنفقين مع الليل أسرار وأخبار ... ، فقد سمعوا قول ربهم :
(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) .
جاء في ترجمة الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ـ المشهور بزين العابدين ـ حفيد النبي ،جاء في ترجمته أنه كان يُبَخّلُ ـ أي : يوصف بالبخل ـ فلما مات وجدوه يقوت مائة أهل بيت بالمدينة ، فلما جاء المغسل ليغسله وجد بظهره أثاراً مما كان يحمل بالليل من الجرب إلى المساكين ،حتى قال أحد أهل المدينة : ما فقدنا صدقة السر حتى مات علي بن الحسين ([1]).
سلام الله على تلك الأرواح .. ورحمة الله على تلك الأرواح .. لم يبق إلا أخبار و آثار .. كم بين من يمنع الحق الواجب عليه .. و بين أهل الإيثار ؟! :
لا تعرضن لذكرنا في ذكرهم * * * ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد !
كما أن للّيل جانباً مشرقاً ،وصورةً وضاءة .. فهو ـ أيضاً ـ وقتٌ نبّه الله عباده إلى أن أحد أوقات غفلة الناس ، فليحذروا سخط الله ،وبأسه ، قال تعالى :
(وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ)
وقال ـ : (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)).
فهل يعقل هذا المعنى ،من يمضون أوقاتهم بما لا يرضي الله ، بل بما يسخطه ؟!
وهل يعي هذا المعنى أهل السهرات الآثمة ؟! والليالي الحمراء ؟!
هل يعي هذا الدرس الإلهي من قطّع ليله بأعمال تزيد من رصيد سيئاته ؟!
(أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ).
فالآمن من مكر الله خاسر .. ،والذي يصفه بأنه خاسر ليس محللاً اقتصادياً ،ولا خبيراً اجتماعياً ، بل هو رب العالمين .
ومن صور مكر الله بعبده .. أن ينسيه ساعة الموت ،فيقبض على معصية ،وسوء خاتمة ـ والعياذ بالله ـ وأنى له الاستدراك ؟!
(أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ).
وأخيراً ...
تذكر صورتين اثنتين لاثنين يعملان في الليل، أحدهما قال الله عنه:
(أمن هو قانت) ... ، والآخر أتته المنية وهو يشرب ،أو يزني ،أو في أي معصية كانت ..
فليحذر العبد أن تمر به تلك الساعة التي ذكرها الله عن بعض العصاة والمجرمين : (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ).
اللهم بارك لنا في ليلنا ونهارنا ، وفي عمرنا كله ..
اللهم اجعل خير أعمارنا أواخرها ،وخير أعمالنا خواتمها ، واجعل خير أيامنا يوم نلقاك فيه
اللهم أصلحنا ،وأصلح بنا ،وأصلح أحوالنا .. اللهم بصرنا بمواطن الزلل منا ..
د.عمر المقبل
فهذه خطبة استضاءت بنور القرآن ، كنتُ خطبتها منذ أكثر من ثلاث سنوات ، حرصتُ أن تكون مرتبطة بواقع الناس، محاولاً أن تعالج مشكلةً عمّت وهي السهر المفرط في أمثال هذه الليالي الصيفية، ولا حاجة للتنبيه على أن مقام الخطبة ليس مقام استيعاب ، بل هو مقام تذكير وتنبيه ، وإلا فالآيات التي تحدثت عن الليل كثيرة جداً، والمؤمن تكفيه آية واحدة ، جعلنا الله من المعتبرين.
الحمد لله ، ... وبعد :
فحينما يبدأ موسمٌ كموسم الإجازة ،تتنوع الأحاديث ،وتختلف ألوان الخطاب ، نظراً للنقلة الكبيرة التي تحدثها هذه الإجازة في المجتمع ، نقلةً يصل تأثيرها إلى مؤسسات الدولة ..
وماذا عسى الإنسان أن يتحدث أو يقول ؟! وما الذي يمكن للخطيب أن يتناوله في مقام كهذا لا يحتمل الناس فيه سوى عدة دقائق ؟!
بيد أن هناك عاملاً مؤثراً ـ في كل المواضيع التي تطرح ـ ،بل هو السبب في هذه النقلة كلها ،والمشاريع المتنوعة برمتها .. إنه عامل الوقت ..
وإذا كان اليوم نصفين : ليل ونهار ،فإن لليل النصيب الأكبر من هذه البرامج ،ومن سمر الناس ،وحديثهم ،خصوصاً وأن الإجازة تأتي في ـ بلادنا ـ في حرٍّ لاهب ،وصيف لاغب.
ولن يجد المرء أجمل ،ولا أحسن ،بل ولا أشد وعظاً له ،من أن يتأمل كلامَ خالق الليل عن الليل ..
فكم تحدث القرآن عن الليل ؟! وكم في حديثه عنه من الوعظ البليغ لمن عقل ذلك !!
1 ـ إن أشرف شيء يمكن أن يذكره الإنسان ـ وهو يتحدث عن الليل ـ أنْ يكون ابتداء نور القلوب ،وحياة الأرواح ،وطب القلوب الحقيقي في هذا الجزء من اليوم : [COLOR="DarkSlateGray"](إنا أنزلناه في ليلة القدر) ،وليس هذا فحسب ،بل أول ما نزل الوحي على كليم الرحمن نزل عليه ليلاً ،حينما سمع ربه يكلمه ،في الوادي المقدس طوى ،قريباً من الشجرة.
2 ـ إنه الزمن الذي أسري فيه بأشرف جسد إلى أعلى مكان!
(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ)
ولا تسل عن بركات هذه الإسراء وخيراته ،ولو لم يكن من ذلك إلا فرض الصلوات الخمس ،لكفى به فضلاً .
3 ـ إنه الليل .. الذي ذاق فيه أهل القرآن لذة مناجاة الله فيه بكلامه!
ألم يستوقفك قوله تعالى :
(يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6))؟!
ألم تسمع قوله سبحانه :
(وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا)؟!.
بل ألم تسمع ذلك العتاب المبطن لمن آتاه الله علماً ،ولم يكن له نصيب من الليل :
( أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ)؟!.
لقد وجد الصالحون في قديم الزمان وحديثه ، هذه اللذة في ترتيل آيات الله ،ومناجاته بها ،حتى قال قائلهم : أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا.
وقال آخر : ليس في الدنيا وقت يشبه نعيم أهل الجنة إلا ما يجده أهل التملق في قلوبهم بالليل من حلاوة المناجاة.
ولكن : هل يمكن أن ينال هذه اللذة أناسٌ امتد سهرهم إلى ساعات الفجر في كلام مباح؟!
فضلاً عمّن ضيعوه في محرم من القول والعمل؟!
وهل يمكن أن ينالها من ملأ خزينة أعماله بالنهار في باطل من القول والعمل؟!
قِيلَ لِابْنِ مَسْعُودٍ : مَا نَسْتَطِيعُ قِيَامَ اللَّيْلِ ، قَالَ : أَبْعَدَتْكُمْ ذُنُوبُكُمْ.
وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ : : إذَا لَمْ تَقْدِرْ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ وَصِيَامِ النَّهَارِ فَاعْلَمْ أَنَّك مَحْرُومٌ مُكَبَّلٌ كَبَّلَتْك خَطِيئَتُك.
قَالَ ابن رجب : مَا يُؤَهِّلُ الْمُلُوكُ لِلْخَلْوَةِ بِهِمْ إلَّا مَنْ أَخْلَصَ فِي وُدِّهِمْ وَمُعَامَلَتِهِمْ ، فَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمُخَالَفَةِ ،فَلَا يُؤَهِّلُونَهُ وَلَا يَرْضَوْنَهُ لِذَلِكَ.
ولهذا كان من أحسن ما أثنى الله به على مؤمني أهل الكتاب قوله تعالى عنهم :
(لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ)!
فما الذي يوقظهم من الفرش اللذيذة ؟ والنوم الهنيء ؟
فيقال : لقد سمعوا الحادي .. لقد سمعوا رسول الله يخبر عن ربه ـ الذي خزائن الدنيا والآخرة بيده ـ يقول : ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول : من يدعوني فأستجيب له ، من يسألني فأعطيه ، من يستغفرني فأغفر له ؟!
وهل يفرط في هذا إلا محروم ؟! وهل يفرط في هذا إلا محروم ؟! وهل يفرط في هذا إلا محروم ؟!
إخوة الإسلام :
4 ـ وإذا كان الحديث عن الليل في القرآن ،فلا يمكن لنا أن نتجاوز امتنان الله تعالى علينا بهذه النعمة ،وكونه سكناً ولباساً ومناماً :
:
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ)
:
(وَمِنْ آَيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ)
:
(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا).
وإن هذا الامتنان يوجب على العبد أن يقف معه وقفات ،أهمها :
1 ـ كثرة الشكر والثناء على الله ،فإن الله يقول : (وما بكم من نعمة فمن الله).
2 ـ أن يوطن نفسه على السير فيها على هذه الفطرة التي فطر الناس عليها ، فلا يقلبن الليل نهارا ،ولا النهار ليلاً ؛ لأن مخالفة الفطرة ـ في هذا الأمر ـ تقلل بركة العمر بل قد تذهبه.
أيها المسلمون :
وللمنفقين مع الليل أسرار وأخبار ... ، فقد سمعوا قول ربهم :
(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) .
جاء في ترجمة الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ـ المشهور بزين العابدين ـ حفيد النبي ،جاء في ترجمته أنه كان يُبَخّلُ ـ أي : يوصف بالبخل ـ فلما مات وجدوه يقوت مائة أهل بيت بالمدينة ، فلما جاء المغسل ليغسله وجد بظهره أثاراً مما كان يحمل بالليل من الجرب إلى المساكين ،حتى قال أحد أهل المدينة : ما فقدنا صدقة السر حتى مات علي بن الحسين ([1]).
سلام الله على تلك الأرواح .. ورحمة الله على تلك الأرواح .. لم يبق إلا أخبار و آثار .. كم بين من يمنع الحق الواجب عليه .. و بين أهل الإيثار ؟! :
لا تعرضن لذكرنا في ذكرهم * * * ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد !
كما أن للّيل جانباً مشرقاً ،وصورةً وضاءة .. فهو ـ أيضاً ـ وقتٌ نبّه الله عباده إلى أن أحد أوقات غفلة الناس ، فليحذروا سخط الله ،وبأسه ، قال تعالى :
(وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ)
وقال ـ : (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)).
فهل يعقل هذا المعنى ،من يمضون أوقاتهم بما لا يرضي الله ، بل بما يسخطه ؟!
وهل يعي هذا المعنى أهل السهرات الآثمة ؟! والليالي الحمراء ؟!
هل يعي هذا الدرس الإلهي من قطّع ليله بأعمال تزيد من رصيد سيئاته ؟!
(أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ).
فالآمن من مكر الله خاسر .. ،والذي يصفه بأنه خاسر ليس محللاً اقتصادياً ،ولا خبيراً اجتماعياً ، بل هو رب العالمين .
ومن صور مكر الله بعبده .. أن ينسيه ساعة الموت ،فيقبض على معصية ،وسوء خاتمة ـ والعياذ بالله ـ وأنى له الاستدراك ؟!
(أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ).
وأخيراً ...
تذكر صورتين اثنتين لاثنين يعملان في الليل، أحدهما قال الله عنه:
(أمن هو قانت) ... ، والآخر أتته المنية وهو يشرب ،أو يزني ،أو في أي معصية كانت ..
فليحذر العبد أن تمر به تلك الساعة التي ذكرها الله عن بعض العصاة والمجرمين : (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ).
اللهم بارك لنا في ليلنا ونهارنا ، وفي عمرنا كله ..
اللهم اجعل خير أعمارنا أواخرها ،وخير أعمالنا خواتمها ، واجعل خير أيامنا يوم نلقاك فيه
اللهم أصلحنا ،وأصلح بنا ،وأصلح أحوالنا .. اللهم بصرنا بمواطن الزلل منا ..
د.عمر المقبل