سيف الإسلام
04-02-2013, 08:38 PM
خلق الله سبحانه وتعالى هذه الحياة، وجعلها على شقين، حياة دنيوية فانية، قصيرة زائلة، دار عبور ليس إلا، مليئة بالمتاعب والآلام، يقول تعالى ( ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة)، وحياة أخرى هي الحياة الآخرة، حياة أبدية باقية، يقول جل في علاه عنها (وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون).
فهذه الحياة التي نحياها على الأرض ليست إلا محطة نتزود فيها بالإيمان والعمل الصالح، للوصول إلى الحياة الحقيقة الأبدية السرمدية والفوز بجنات النعيم، وهي على قصرها وإن طالت، فهي لا تساوي شئ في الحياة الحقيقية، التي هي في الأصل حياة المتاعب، السرور فيها أمر طارئ، والفرح فيها شئ نادر، الحياة الدنيا دار ابتلاء، تكثر فيها الأمراض والأكدار والأسقام، يقول عنها الشاعر:
طبعت على كدر وانت تريدها .:. صفواً من الأقذار والأكدار
ومن هنا جاء خلق الصبر، الذي حث عليه الله جل في علاه في أكثر من تسعين موضعاً في كتابه الحكيم، وحث عليه الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم عشرات المرات، الصبر على البؤس والعناء، الصبر على المرض والإبتلاء، الصبر على الفقر والغنى، الصبر على الفتن والمعاصي، والصبر بمجمله هو أن يجدك الله حيث أمرك، ويفتقدك حيث نهاك، ويراك مستسلماً له خاضعاً طائعا في كل ما نزل بك، من غير تأفف ولا اعتراض.
الصبر خلق الأنبياء والمرسلين، امتدحهم الله جل في علاه به في كتابه الكريم في أكثر من موضع، بل ويأمر نبينا عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم بأن يصبر صبرهم ويحذو حذوهم في هذا الخلق الكريم، فيقول( فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل)....
l فهذا نبي الله نوح عليه السلام، يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، اتخذ كل وسائل الدعوة إلى الله، صبر على جحودهم ونكرانهم، تحمل سفاهتهم وأذاهم، دعاهم في الليل والنهار، دعاهم بالجهر والإسرار، ومع ذلك وفي تسعمائة وخمسين عاماً لم يؤمن معه سوى بضعة وثمانون فقط، ومع ذلك ظل يدعوهم ويلح في دعوتهم أملا في هدايتهم حتى قال الله جل في علاه له (لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن).
l وهذا نبي الله إبراهيم عليه السلام، يلقى في النار فيصبر ويحتسب ويتوكل على الله.
l وهذا ابنه إسماعيل، يصفه الله جل في علاه بالصبر حين أخذه أباه ليذبحه بعد أن رأى ذلك في منامه، فما كان منه إلا أن أذعن لأباه طائعاً منقاداً قائلاً بلسان الصابر المحتسب، (يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين)
l وهذا نبي الله يعقوب، يفقد أعز وأحب أولاده إلى قلبه، يعود إليه أبناءه بقميصه عليه دم كاذب، فيصبر ويحتسب أجره عند الله سبحانه وتعالى، ويسلم بقضاء الله وقدره، وإن ظل يتذكر ولده كل لحظة، إلا أنه صابر محتسب راضٍ بما قدره الله عليه، حتى تبيض عليناه ويذهب نورهما حزناً عليه، وبعد ذلك بسنوات يفقد ابنه الآخر الذي كان عزاءه بعد يوسف، أخاه من أباه وأمه، فلم يزده ذلك إلا احتساباً وتصبراً، فيقول مخاطباً أولاده (فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً، إنه هو العليم الحكيم)
l وهذا نبي الله أيوب الذي ابتلاه الله سبحانه وتعالى بفقد المال والولد والصحة، فأصابه المرض حتى اعياه واعتزله الناس ولم يتبقى له إلا زوجته، ومع ذلك كان صابراً محتسباً، لم يشتكي مما أصابه ولا لمرة واحدة، حتى أن الله سبحانه وتعالى امتدحه فقال (إنا وجدناه صابراً نعم العبد إنه أواب)
l وكذلك كل الأنبياء، ابتلاهم الله تعالى فصبروا واحتسبوا، موسى وعيسى وداود وسليمان وحتى نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وازكى التسليم، نزل عليه الوحي فاعتزله الناس، ونفر منه المقربون فصبر، وضعوا في طريقه الشوك فصبر، عذبوا أصحابه ومن آمن به فصبر، خنقه أحدهم برداءه حتى كاد يموت فصبر، كان لا يخرج ماشياً في طريق إلا تبعه عمه يحذر الناس منه مجنون مجنون فصبر، خرج إلى الطائف فاستقبله أصحابهم بالحجارة فصبر، عرضوا عليه الملك والمال والجاه، ولكنه صبر ورفض كل تلك المغريات، حورب في مكة فهاجر إلى المدينة وترك بلده التي ترعرع فيها ونشأ عليها وصبر، صبر على الفقر والجوع، حتى تقول عائشة أنه يمر الشهر والشهرين ولا توقد في بيتهم نار، وتأتيه فاطمة بكسرة خبز اعدتها وأبت أن تذوقها قبل أن يتذوقها هو، فيقول لها (هذا أول طعام يدخل جوف أبيك منذ ثلاثة أيام)، يدفن صلى الله عليه وسلم بيديه الكريمتين ستة من أولاده في حياته، ابنته زينب ورقية وأم كلثوم، وأولاده عبدالله والقاسم ومن ثم أحب بنيه إليه إبراهيم، ومع هذا كان صابراً محتسباً الأجر عند الله سبحانه وتعالى.
إذاً أيها الأحبة، الصبر ليس حكراً على عباد الله الصالحين، بل هو خلق الأنبياء قبل ذلك، بل إن الأنبياء هم أشد الناس بلاء، يقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص حين سأله: قائلاً يا رسول الله، أي الناس أشد بلاء؟ فيجيب: (الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، فيبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان عبداً صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة، ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة).
فليس على المؤمن بالله إلا أن يصبر ويحتسب، لينال الأجر والثواب العظيم يوم القيامة، (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب)، ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)
فالمؤمن يتقلّب بين مقام الشكر على النعماء ، وبين مقام الصبر على البلاء، فيعلم علم يقين أنه لا اختيار له مع اختيار مولاه وسيّده ومالكه سبحانه وتعالى، فيتقلّب في البلاء كما يتقلّب في النعماء، وهو مع ذلك يعلم أنه ما مِن شدّة إلا وسوف تزول ، وما من حزن إلا ويعقبه فرح ، وأن مع العسر يسرا ، وأنه لن يغلب عسر يُسرين .
فلا حزن يدوم ولا سرور = ولا بؤس يدوم ولا شقاء
والمؤمن يرى المنح في طيّـات المحن، ويرى تباشير الفجر من خلال حُلكة الليل، ويرى في الصفحة السوداء نُقطة بيضاء.
والله لا يبتلي إلا من يحب، فقد ورد في الصحيح (إذا أحب الله قوما ابتلاهم فمن صبر فله الصبر ومن جزع فله الجزع)
أحد السلف كان أقرع الرأس ، أبرص البدن ، أعمى العينين ، مشلول القدمين واليدين ، وكان يقول : "الحمد لله الذي عافاني مما ابتلى به كثيراً ممن خلقه وفضلني تفضيلاً " فَمَرّ بِهِ رجل فقال له : مِمَّ عافاك ؟ أعمى وأبرص وأقرع ومشلول . فَمِمَّ عافاك ؟
فقال : ويحك يا رجل ! جَعَلَ لي لساناً ذاكراً ، وقلباً شاكراً ، وبَدَناً على البلاء صابراً !
قال عليه الصلاة والسلام : من يستعفف يعفه الله ، ومن يستغن يغنه الله ، ومن يتصبر يصبره الله ، وما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر.
ولنا في سير الصالحين وقصصهم الكثير من الدروس والعبر، فهذه امرأة يأتيها الصرع فتذهب لتطلب من الحبيب صلى الله عليه وسلم أن يدعو له فتشفى، فيخيرها صلى الله عليه وسلم بين أن يدعو لها فتشفى أو تصبر ولها الجنة، فتوازن بين الأمرين، وتختار الجنة، وهذا عروة ابن الزبير يخرج في زيارة للخليفة فتقطع رجله لداء نزل بها، وترفس دابة ابنه محمد فتقتله، ويعود إلى قومه فيقولون له كيف أنت، فيجيب (لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً)، ثم يردف : اللهم إنه كان لي أطراف أربعة فأخذت واحداً وأبقيت لي ثلاثة فلك الحمد ، وكان لي بنون أربعة فأخذت واحداً وأبقيت لي ثلاثة فلك الحمد وأيم الله لئن أخذت لقد أبقيت ولئن ابتليت لطالما عافيت.
هذا هو الصبر، وهذا دأب الصالحين فيه، فلنصبر على هذه الحياة القصيرة، ولننظر إلى الجانب المشرق فيها، فوالله ما نزل بك من بلاء إلا لأن الله يحبك، ومهما ابتلاك الله في هذه الحياة، فهو لا يساوي شئ مقارنة بالحياة الأخرى الأبدية، فما هذه الدنيا إلا سجن مصغر للمؤمن بالله، وجنة عظيمة للكافرين به، فغمسة في نار جهنم تنسى أكثر أهل الأرض نعيماً كل ما مر به من نعيم، وغمسة في جنان الخلد، تنسي أشقى أهل الأرض كل ما مر به من شقاء.
والصبر لا يقتصر على المكاره والمصائب، بل هو أدناها مرتبة، أما أولى مراتب الصبر فهي الصبر على نعم الله تعالى وعلى عبادته وطاعته، بأداء حقوقها وشكر الله عليها، فكم من عبد تقي، أنعم الله عليه فتاه وفجر، وكم من عبد مريض متعبد لله، رزقه الله صحة فطغى وتجبر...
أما ثاني مراتب الصبر فهو الصبر على المعاصي والفتن حتى لا يقع فيها، وتأتي بعدها الصبر على قضاء الله وقدره حتى لا يتسخطها.
نسأل الله جل في علاه أن يكتبنا في الصابرين، ويجعلنا في الشاكرين، ونكون من الذين قال فيهم (وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا).
سبحان ربك رب العزة عما يصفون. وسلام على المرسلين. والحمدلله رب العالمين
فهذه الحياة التي نحياها على الأرض ليست إلا محطة نتزود فيها بالإيمان والعمل الصالح، للوصول إلى الحياة الحقيقة الأبدية السرمدية والفوز بجنات النعيم، وهي على قصرها وإن طالت، فهي لا تساوي شئ في الحياة الحقيقية، التي هي في الأصل حياة المتاعب، السرور فيها أمر طارئ، والفرح فيها شئ نادر، الحياة الدنيا دار ابتلاء، تكثر فيها الأمراض والأكدار والأسقام، يقول عنها الشاعر:
طبعت على كدر وانت تريدها .:. صفواً من الأقذار والأكدار
ومن هنا جاء خلق الصبر، الذي حث عليه الله جل في علاه في أكثر من تسعين موضعاً في كتابه الحكيم، وحث عليه الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم عشرات المرات، الصبر على البؤس والعناء، الصبر على المرض والإبتلاء، الصبر على الفقر والغنى، الصبر على الفتن والمعاصي، والصبر بمجمله هو أن يجدك الله حيث أمرك، ويفتقدك حيث نهاك، ويراك مستسلماً له خاضعاً طائعا في كل ما نزل بك، من غير تأفف ولا اعتراض.
الصبر خلق الأنبياء والمرسلين، امتدحهم الله جل في علاه به في كتابه الكريم في أكثر من موضع، بل ويأمر نبينا عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم بأن يصبر صبرهم ويحذو حذوهم في هذا الخلق الكريم، فيقول( فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل)....
l فهذا نبي الله نوح عليه السلام، يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، اتخذ كل وسائل الدعوة إلى الله، صبر على جحودهم ونكرانهم، تحمل سفاهتهم وأذاهم، دعاهم في الليل والنهار، دعاهم بالجهر والإسرار، ومع ذلك وفي تسعمائة وخمسين عاماً لم يؤمن معه سوى بضعة وثمانون فقط، ومع ذلك ظل يدعوهم ويلح في دعوتهم أملا في هدايتهم حتى قال الله جل في علاه له (لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن).
l وهذا نبي الله إبراهيم عليه السلام، يلقى في النار فيصبر ويحتسب ويتوكل على الله.
l وهذا ابنه إسماعيل، يصفه الله جل في علاه بالصبر حين أخذه أباه ليذبحه بعد أن رأى ذلك في منامه، فما كان منه إلا أن أذعن لأباه طائعاً منقاداً قائلاً بلسان الصابر المحتسب، (يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين)
l وهذا نبي الله يعقوب، يفقد أعز وأحب أولاده إلى قلبه، يعود إليه أبناءه بقميصه عليه دم كاذب، فيصبر ويحتسب أجره عند الله سبحانه وتعالى، ويسلم بقضاء الله وقدره، وإن ظل يتذكر ولده كل لحظة، إلا أنه صابر محتسب راضٍ بما قدره الله عليه، حتى تبيض عليناه ويذهب نورهما حزناً عليه، وبعد ذلك بسنوات يفقد ابنه الآخر الذي كان عزاءه بعد يوسف، أخاه من أباه وأمه، فلم يزده ذلك إلا احتساباً وتصبراً، فيقول مخاطباً أولاده (فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً، إنه هو العليم الحكيم)
l وهذا نبي الله أيوب الذي ابتلاه الله سبحانه وتعالى بفقد المال والولد والصحة، فأصابه المرض حتى اعياه واعتزله الناس ولم يتبقى له إلا زوجته، ومع ذلك كان صابراً محتسباً، لم يشتكي مما أصابه ولا لمرة واحدة، حتى أن الله سبحانه وتعالى امتدحه فقال (إنا وجدناه صابراً نعم العبد إنه أواب)
l وكذلك كل الأنبياء، ابتلاهم الله تعالى فصبروا واحتسبوا، موسى وعيسى وداود وسليمان وحتى نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وازكى التسليم، نزل عليه الوحي فاعتزله الناس، ونفر منه المقربون فصبر، وضعوا في طريقه الشوك فصبر، عذبوا أصحابه ومن آمن به فصبر، خنقه أحدهم برداءه حتى كاد يموت فصبر، كان لا يخرج ماشياً في طريق إلا تبعه عمه يحذر الناس منه مجنون مجنون فصبر، خرج إلى الطائف فاستقبله أصحابهم بالحجارة فصبر، عرضوا عليه الملك والمال والجاه، ولكنه صبر ورفض كل تلك المغريات، حورب في مكة فهاجر إلى المدينة وترك بلده التي ترعرع فيها ونشأ عليها وصبر، صبر على الفقر والجوع، حتى تقول عائشة أنه يمر الشهر والشهرين ولا توقد في بيتهم نار، وتأتيه فاطمة بكسرة خبز اعدتها وأبت أن تذوقها قبل أن يتذوقها هو، فيقول لها (هذا أول طعام يدخل جوف أبيك منذ ثلاثة أيام)، يدفن صلى الله عليه وسلم بيديه الكريمتين ستة من أولاده في حياته، ابنته زينب ورقية وأم كلثوم، وأولاده عبدالله والقاسم ومن ثم أحب بنيه إليه إبراهيم، ومع هذا كان صابراً محتسباً الأجر عند الله سبحانه وتعالى.
إذاً أيها الأحبة، الصبر ليس حكراً على عباد الله الصالحين، بل هو خلق الأنبياء قبل ذلك، بل إن الأنبياء هم أشد الناس بلاء، يقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص حين سأله: قائلاً يا رسول الله، أي الناس أشد بلاء؟ فيجيب: (الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، فيبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان عبداً صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة، ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة).
فليس على المؤمن بالله إلا أن يصبر ويحتسب، لينال الأجر والثواب العظيم يوم القيامة، (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب)، ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)
فالمؤمن يتقلّب بين مقام الشكر على النعماء ، وبين مقام الصبر على البلاء، فيعلم علم يقين أنه لا اختيار له مع اختيار مولاه وسيّده ومالكه سبحانه وتعالى، فيتقلّب في البلاء كما يتقلّب في النعماء، وهو مع ذلك يعلم أنه ما مِن شدّة إلا وسوف تزول ، وما من حزن إلا ويعقبه فرح ، وأن مع العسر يسرا ، وأنه لن يغلب عسر يُسرين .
فلا حزن يدوم ولا سرور = ولا بؤس يدوم ولا شقاء
والمؤمن يرى المنح في طيّـات المحن، ويرى تباشير الفجر من خلال حُلكة الليل، ويرى في الصفحة السوداء نُقطة بيضاء.
والله لا يبتلي إلا من يحب، فقد ورد في الصحيح (إذا أحب الله قوما ابتلاهم فمن صبر فله الصبر ومن جزع فله الجزع)
أحد السلف كان أقرع الرأس ، أبرص البدن ، أعمى العينين ، مشلول القدمين واليدين ، وكان يقول : "الحمد لله الذي عافاني مما ابتلى به كثيراً ممن خلقه وفضلني تفضيلاً " فَمَرّ بِهِ رجل فقال له : مِمَّ عافاك ؟ أعمى وأبرص وأقرع ومشلول . فَمِمَّ عافاك ؟
فقال : ويحك يا رجل ! جَعَلَ لي لساناً ذاكراً ، وقلباً شاكراً ، وبَدَناً على البلاء صابراً !
قال عليه الصلاة والسلام : من يستعفف يعفه الله ، ومن يستغن يغنه الله ، ومن يتصبر يصبره الله ، وما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر.
ولنا في سير الصالحين وقصصهم الكثير من الدروس والعبر، فهذه امرأة يأتيها الصرع فتذهب لتطلب من الحبيب صلى الله عليه وسلم أن يدعو له فتشفى، فيخيرها صلى الله عليه وسلم بين أن يدعو لها فتشفى أو تصبر ولها الجنة، فتوازن بين الأمرين، وتختار الجنة، وهذا عروة ابن الزبير يخرج في زيارة للخليفة فتقطع رجله لداء نزل بها، وترفس دابة ابنه محمد فتقتله، ويعود إلى قومه فيقولون له كيف أنت، فيجيب (لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً)، ثم يردف : اللهم إنه كان لي أطراف أربعة فأخذت واحداً وأبقيت لي ثلاثة فلك الحمد ، وكان لي بنون أربعة فأخذت واحداً وأبقيت لي ثلاثة فلك الحمد وأيم الله لئن أخذت لقد أبقيت ولئن ابتليت لطالما عافيت.
هذا هو الصبر، وهذا دأب الصالحين فيه، فلنصبر على هذه الحياة القصيرة، ولننظر إلى الجانب المشرق فيها، فوالله ما نزل بك من بلاء إلا لأن الله يحبك، ومهما ابتلاك الله في هذه الحياة، فهو لا يساوي شئ مقارنة بالحياة الأخرى الأبدية، فما هذه الدنيا إلا سجن مصغر للمؤمن بالله، وجنة عظيمة للكافرين به، فغمسة في نار جهنم تنسى أكثر أهل الأرض نعيماً كل ما مر به من نعيم، وغمسة في جنان الخلد، تنسي أشقى أهل الأرض كل ما مر به من شقاء.
والصبر لا يقتصر على المكاره والمصائب، بل هو أدناها مرتبة، أما أولى مراتب الصبر فهي الصبر على نعم الله تعالى وعلى عبادته وطاعته، بأداء حقوقها وشكر الله عليها، فكم من عبد تقي، أنعم الله عليه فتاه وفجر، وكم من عبد مريض متعبد لله، رزقه الله صحة فطغى وتجبر...
أما ثاني مراتب الصبر فهو الصبر على المعاصي والفتن حتى لا يقع فيها، وتأتي بعدها الصبر على قضاء الله وقدره حتى لا يتسخطها.
نسأل الله جل في علاه أن يكتبنا في الصابرين، ويجعلنا في الشاكرين، ونكون من الذين قال فيهم (وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا).
سبحان ربك رب العزة عما يصفون. وسلام على المرسلين. والحمدلله رب العالمين