النبع الخالد
12-02-2005, 01:52 PM
هل نحتفل بآلام الطفولة ؟
نشرت"الوطن" يوم الثلاثاء 22 نوفمبر، أي بعد يومين من احتفال العالم باليوم العالمي للطفولة، قضية الطفلة الضحية (رهف) ذات السنوات الست، التي تعرضت لأحد أعنف أشكال التعذيب الجسدي والنفسي. هذه القضية تحتاج منّا إلى وقفة متأنية متأملة، ففي العالم المتحضر اليوم حرصٌ على صيانة حقوق الإنسان/الطفل منذ ولادته؛ إذ إن الطفولة السويّة أساس بناء الشعوب السويّة.
الطفلة رهف ليست الوحيدة بالتأكيد التي تتعرضّ للتعذيب الجسدي، فالعنف الجسدي والنفسي ما زال يحدث باستمرار من خلال ما نشاهده كل يوم في مدارسنا الحكومية رغم كل القرارات الوزارية لمنعه وتحجيمه أو الحد منه كظاهرة على الأقل. إذن ما الذي يحدث؟
قبل هذه الحادثة بمدة ليست بطويلة روى لي أحد الأصدقاء قصة موغلة في الألم مشابهة لهذه القصة، بطلتها زوجة الأب أيضاً، استمرت أحداثها أكثر من عشرين عاماً دون علم أحد. فالطفلة رهف رغم سوء طالعها، إلا أنها أوفر حظاً من غيرها بسبب إنسانية معلماتها أولاً ثم تناول الصحافة لقضيتها كقضية اجتماعية هامة، وتفاعل شرائح المجتمع وبعض مؤسسات الدولة معها تفاعلاً كبيراً.
البريئة رهف وقعت ضحية أعمال عنف لا تمت للإنسانية بصلة قامت بها زوجة (أبيها) التي تعمل معلمة ومديرة مدرسة سابقة، بالإضافة إلى عملها في لجنة "إصلاح ذات البين"، رغم أن بعض المسؤولين سارع إلى نفي كونها "عضوة" والتأكيد على أنها "متعاونة" مُعارة للعمل في اللجنة من قِبل وزارة التربية والتعليم، وكأن هذا هو أساس المشكلة! هذا الأمر إن دل على شيء فإنما يدل على إيمان مجتمعنا السعودي عامة بأوهام الطُّهر والفضيلة المطلقة وتوخيها دائماً... نأمل أن توقظ مثل هذه الحادثة مجتمعنا الحالم.
في مجتمعنا يختلط الحابل بالنابل، فبعض الذين يتخذون من مناصبهم ومهامهم مصلحة ذاتية أو وجاهة اجتماعية كحال (مُصلحة ذات البين) التي كانت فعلتها تلك تعبيراً عن اغتيال الطفولة. وليس الأمر ببعيد عن جمعية "حقوق الإنسان" التي تفاعلت مشكورة مع القضية، والتي سبق أن صرّح بعض المنتسبين إليها بمشروعية إظهار الفرح عند حدوث الكوارث لغير المسلمين،كالذي أحدثه إعصار (كاترينا) المدمر في الولايات المتحدة!
بلا شك هناك خلل ثقافي جعلنا نعيش أحلاماً وردية تتمثل بـ"المثالية" الوهمية السائدة في مجتمعنا التي رسّخت مفهوم أفضليتنا اللانهائية بالنسبة لشعوب العالم؛ وبالتالي فإن الأحداث والظواهر السيئة التي تحدث في مجتمعنا تكون قابلة للنبذ والرفض تلقائياً بحجة أن مثل تلك الشرور دخيلة على مجتمعنا الذي ليس فيه سوى عمل الخير!
اليوم لا يمكن لنا أن ندّعي الأفضلية ونصنع منها شمّاعة نعلق عليها أخطاءنا ونتهرّب من الواقع والوقائع، إذ من الأفضل لنا إضاءة شمعة بدل شتم الظلام! فاختزال الواقع والخلل الثقافي بالقول إنه (أحداث فردية) لم يعد مجدياً، لا لسبب سوى أننا جزء مهم من هذا العالم، وأن الكثير من الأضواء مسلطة على ما يجري في مجتمعنا أكثر من أي بلد آخر، ثم إننا-وهذا المهم- بحاجة ملحة إلى إصلاح أنفسنا ومجتمعنا.
في ثقافتنا العربية تبقى صورة زوجة الأب كشبح يطارد الأطفال المحرومين من أمهاتهم الذين غالباً ما يرتبط حرمانهم بوجود آباء غير عابئين بتربية وحماية أطفالهم. لكننا اليوم لم نعد خارج هذا العالم، فقد انضممنا لاتفاقية "حقوق الطفل" المؤرخة في (20 نوفمبر) 1989 التي وقعت عليها المملكة في 1996 ومما جاء فيها: "تضمن الدول الأعضاء عدم فصل الطفل عن والديه على كره منهما إلا عندما تقرر السلطات المختصة، رهناً بإجراء إعادة نظر قضائية، وفقا للقوانين والإجراءات المعمول بها، إن هذا الفصل ضروري لصون مصالح الطفل الفضلى. وقد يلزم مثل هذا القرار في حالة معينة مثل حالة إساءة الوالدين معاملة الطفل أو إهمالهما له، أو عندما يعيش الوالدان منفصلين ويتعين اتخاذ قرار بشأن محل إقامة الطفل" (الفقرة1 من المادة 9).
الطفلة رهف هي ضحية لعوامل اجتماعية كثيرة، أهمها انفصال والديها، حتى أصبحت ضحية عنف أُسري شديد تمثّل بقسوة زوجة أبيها (التربوية) البعيدة عن أدنى درجات الإنسانية في التعامل مع تلك الطفلة البريئة، إذ يبدو أنه لا سبب حقيقياً لدى تلك السيدة سوى أن الطفلة ابنة ضرتها السابقة! أما الأب الذي نفى علمه بما حدث لابنته في البداية، ثم هدد لاحقاً بإقامة شكوى ضد الصحافة بدعوى التشهير بابنته وضد المدرسة التي نقلت ابنته إلى المستشفى دون إبلاغه! فأظن أنه غير بريء من الاشتراك في هذا الذنب الكبير؛ لعدم تقديمه الحماية الكافية لابنته، ولا سيّما ما ذُكر من أنه تنازل عن حقه الخاص تجاه زوجته في هذه القضية. ولكن ثمة تساؤل: كيف يتنازل عن حق ليس له؟! إذ إن الحق فقط للطفلة المعتدى عليها (رهف) التي من المفترض أن يكفل لها القضاء أو النظام الحصول على حقها الخاص كاملاً، خصوصاً أن اتفاقية "حقوق الطفل" الدولية تنص على أنه "لا يجوز أن يجري أي تعرض تعسفي أو غير قانوني للطفل في حياته الخاصة أو أسرته أو منزله أو مراسلاته، ولا أي مساس غير قانوني بشرفه أو سمعته"، وأنّ " للطفل حق في أن يحميه القانون من مثل هذا التعرض أو المساس". (الفقرة 1،2 من المادة16). فالمفترض أيضاً أن يكون الأب وزوجته في دائرة الاتهام (والمتهم بريء حتى تثبت إدانته)؛ حيث إن الطفلة تعرضت لعنف بل إرهاب أُسري مستمر، إذ لم يكن الأب حامياً لطفلته من اعتداء زوجته الوحشي عليها، ومن المهم أن تُبعد عن البيئة التي أوذيت فيها، فبحسب الحقوق العالمية للطفل يجب "ألاّ يُعرض أي طفل للتعذيب أو لغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة"، و "ألاّ يُحرم أي طفل من حريته بصورة غير قانونية أو تعسفية"، وأن "يكون لكل طفل الحق في الحصول بسرعة على مساعدة قانونية وغيرها من المساعدة المناسبة، فضلا عن الحق في الطعن في شرعية حرمانه من الحرية أمام محكمة أو سلطة مختصة مستقلة ومحايدة أخرى، وفي أن يجري البت بسرعة في أي إجراء من هذا القبيل". (الفقرة أ، ب، د، من المادة 37). ما زالت حقوق الطفولة تنتهك في هذا العالم الذي نحن جزء منه، ولكن وجود القوانين الخاصة بحماية الإنسان عامةً-والطفل خاصةً- من شأنها الحد من ظاهرة العنف الجسدي والإيذاء النفسي.
ماذكر أعلاه: مقال للكاتب بجريدة الوطن السعوديه لهذا اليوم الجمعة
30شوال1426هـ ص16
سعود خليف العصباني البلوي
skab@alwatan.com.sa (skab@alwatan.com.sa)
نشرت"الوطن" يوم الثلاثاء 22 نوفمبر، أي بعد يومين من احتفال العالم باليوم العالمي للطفولة، قضية الطفلة الضحية (رهف) ذات السنوات الست، التي تعرضت لأحد أعنف أشكال التعذيب الجسدي والنفسي. هذه القضية تحتاج منّا إلى وقفة متأنية متأملة، ففي العالم المتحضر اليوم حرصٌ على صيانة حقوق الإنسان/الطفل منذ ولادته؛ إذ إن الطفولة السويّة أساس بناء الشعوب السويّة.
الطفلة رهف ليست الوحيدة بالتأكيد التي تتعرضّ للتعذيب الجسدي، فالعنف الجسدي والنفسي ما زال يحدث باستمرار من خلال ما نشاهده كل يوم في مدارسنا الحكومية رغم كل القرارات الوزارية لمنعه وتحجيمه أو الحد منه كظاهرة على الأقل. إذن ما الذي يحدث؟
قبل هذه الحادثة بمدة ليست بطويلة روى لي أحد الأصدقاء قصة موغلة في الألم مشابهة لهذه القصة، بطلتها زوجة الأب أيضاً، استمرت أحداثها أكثر من عشرين عاماً دون علم أحد. فالطفلة رهف رغم سوء طالعها، إلا أنها أوفر حظاً من غيرها بسبب إنسانية معلماتها أولاً ثم تناول الصحافة لقضيتها كقضية اجتماعية هامة، وتفاعل شرائح المجتمع وبعض مؤسسات الدولة معها تفاعلاً كبيراً.
البريئة رهف وقعت ضحية أعمال عنف لا تمت للإنسانية بصلة قامت بها زوجة (أبيها) التي تعمل معلمة ومديرة مدرسة سابقة، بالإضافة إلى عملها في لجنة "إصلاح ذات البين"، رغم أن بعض المسؤولين سارع إلى نفي كونها "عضوة" والتأكيد على أنها "متعاونة" مُعارة للعمل في اللجنة من قِبل وزارة التربية والتعليم، وكأن هذا هو أساس المشكلة! هذا الأمر إن دل على شيء فإنما يدل على إيمان مجتمعنا السعودي عامة بأوهام الطُّهر والفضيلة المطلقة وتوخيها دائماً... نأمل أن توقظ مثل هذه الحادثة مجتمعنا الحالم.
في مجتمعنا يختلط الحابل بالنابل، فبعض الذين يتخذون من مناصبهم ومهامهم مصلحة ذاتية أو وجاهة اجتماعية كحال (مُصلحة ذات البين) التي كانت فعلتها تلك تعبيراً عن اغتيال الطفولة. وليس الأمر ببعيد عن جمعية "حقوق الإنسان" التي تفاعلت مشكورة مع القضية، والتي سبق أن صرّح بعض المنتسبين إليها بمشروعية إظهار الفرح عند حدوث الكوارث لغير المسلمين،كالذي أحدثه إعصار (كاترينا) المدمر في الولايات المتحدة!
بلا شك هناك خلل ثقافي جعلنا نعيش أحلاماً وردية تتمثل بـ"المثالية" الوهمية السائدة في مجتمعنا التي رسّخت مفهوم أفضليتنا اللانهائية بالنسبة لشعوب العالم؛ وبالتالي فإن الأحداث والظواهر السيئة التي تحدث في مجتمعنا تكون قابلة للنبذ والرفض تلقائياً بحجة أن مثل تلك الشرور دخيلة على مجتمعنا الذي ليس فيه سوى عمل الخير!
اليوم لا يمكن لنا أن ندّعي الأفضلية ونصنع منها شمّاعة نعلق عليها أخطاءنا ونتهرّب من الواقع والوقائع، إذ من الأفضل لنا إضاءة شمعة بدل شتم الظلام! فاختزال الواقع والخلل الثقافي بالقول إنه (أحداث فردية) لم يعد مجدياً، لا لسبب سوى أننا جزء مهم من هذا العالم، وأن الكثير من الأضواء مسلطة على ما يجري في مجتمعنا أكثر من أي بلد آخر، ثم إننا-وهذا المهم- بحاجة ملحة إلى إصلاح أنفسنا ومجتمعنا.
في ثقافتنا العربية تبقى صورة زوجة الأب كشبح يطارد الأطفال المحرومين من أمهاتهم الذين غالباً ما يرتبط حرمانهم بوجود آباء غير عابئين بتربية وحماية أطفالهم. لكننا اليوم لم نعد خارج هذا العالم، فقد انضممنا لاتفاقية "حقوق الطفل" المؤرخة في (20 نوفمبر) 1989 التي وقعت عليها المملكة في 1996 ومما جاء فيها: "تضمن الدول الأعضاء عدم فصل الطفل عن والديه على كره منهما إلا عندما تقرر السلطات المختصة، رهناً بإجراء إعادة نظر قضائية، وفقا للقوانين والإجراءات المعمول بها، إن هذا الفصل ضروري لصون مصالح الطفل الفضلى. وقد يلزم مثل هذا القرار في حالة معينة مثل حالة إساءة الوالدين معاملة الطفل أو إهمالهما له، أو عندما يعيش الوالدان منفصلين ويتعين اتخاذ قرار بشأن محل إقامة الطفل" (الفقرة1 من المادة 9).
الطفلة رهف هي ضحية لعوامل اجتماعية كثيرة، أهمها انفصال والديها، حتى أصبحت ضحية عنف أُسري شديد تمثّل بقسوة زوجة أبيها (التربوية) البعيدة عن أدنى درجات الإنسانية في التعامل مع تلك الطفلة البريئة، إذ يبدو أنه لا سبب حقيقياً لدى تلك السيدة سوى أن الطفلة ابنة ضرتها السابقة! أما الأب الذي نفى علمه بما حدث لابنته في البداية، ثم هدد لاحقاً بإقامة شكوى ضد الصحافة بدعوى التشهير بابنته وضد المدرسة التي نقلت ابنته إلى المستشفى دون إبلاغه! فأظن أنه غير بريء من الاشتراك في هذا الذنب الكبير؛ لعدم تقديمه الحماية الكافية لابنته، ولا سيّما ما ذُكر من أنه تنازل عن حقه الخاص تجاه زوجته في هذه القضية. ولكن ثمة تساؤل: كيف يتنازل عن حق ليس له؟! إذ إن الحق فقط للطفلة المعتدى عليها (رهف) التي من المفترض أن يكفل لها القضاء أو النظام الحصول على حقها الخاص كاملاً، خصوصاً أن اتفاقية "حقوق الطفل" الدولية تنص على أنه "لا يجوز أن يجري أي تعرض تعسفي أو غير قانوني للطفل في حياته الخاصة أو أسرته أو منزله أو مراسلاته، ولا أي مساس غير قانوني بشرفه أو سمعته"، وأنّ " للطفل حق في أن يحميه القانون من مثل هذا التعرض أو المساس". (الفقرة 1،2 من المادة16). فالمفترض أيضاً أن يكون الأب وزوجته في دائرة الاتهام (والمتهم بريء حتى تثبت إدانته)؛ حيث إن الطفلة تعرضت لعنف بل إرهاب أُسري مستمر، إذ لم يكن الأب حامياً لطفلته من اعتداء زوجته الوحشي عليها، ومن المهم أن تُبعد عن البيئة التي أوذيت فيها، فبحسب الحقوق العالمية للطفل يجب "ألاّ يُعرض أي طفل للتعذيب أو لغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة"، و "ألاّ يُحرم أي طفل من حريته بصورة غير قانونية أو تعسفية"، وأن "يكون لكل طفل الحق في الحصول بسرعة على مساعدة قانونية وغيرها من المساعدة المناسبة، فضلا عن الحق في الطعن في شرعية حرمانه من الحرية أمام محكمة أو سلطة مختصة مستقلة ومحايدة أخرى، وفي أن يجري البت بسرعة في أي إجراء من هذا القبيل". (الفقرة أ، ب، د، من المادة 37). ما زالت حقوق الطفولة تنتهك في هذا العالم الذي نحن جزء منه، ولكن وجود القوانين الخاصة بحماية الإنسان عامةً-والطفل خاصةً- من شأنها الحد من ظاهرة العنف الجسدي والإيذاء النفسي.
ماذكر أعلاه: مقال للكاتب بجريدة الوطن السعوديه لهذا اليوم الجمعة
30شوال1426هـ ص16
سعود خليف العصباني البلوي
skab@alwatan.com.sa (skab@alwatan.com.sa)