ماجد سليمان البلوي
04-22-2016, 02:20 PM
أسطور وملحمة رحيلُ الحمير..؟؟
السلام عليكم
بدأت مشكلة الحمير من شرارة صغير، صارت مع الوقت حرائق لا يقدر على إطفائها أو الفرار منها أى حمار، أو أتانٍ، أو جحش. فقد عرف سكان البلد أن بعض المطاعم المعروفة تقدم لروادها لحم الحمير مطبوخاً، فهاجوا وساقوا أصحاب هذه المطاعم إلى المحاكم، فصدرت ضدهم أحكامٌ مشددة وأُغلقت أماكنهم.
لكن محلات أخرى فُتحت وفعل أصحابها مثل السابقين، فسيقوا أيضاً إلى ساحات المحاكم، وكان مصيرهم هو مصير سابقيهم. الأحكامُ المغلّظة بالسجن المشدد، وإغلاق المحلات.
وظلت الأحوال على هذا المنوال زمناً، وكانت الظاهرة اللافتة وغير المفهومة فى بادئ الأمر، هى أن المطاعم والدكاكين ومشروعات «الدليفرى» كلما طبخت لحم الحمير، أقبل عليها سكانُ البلد إقبالاً كبيراً والتذُّوا بهذه الوجبات أكثر من غيرها.
فطُرح هذا السؤال على مائدة البحث العلمى، وعلى طاولة النشطاء:
ما هو السرُ فى الإقبال العام على أكل لحم الحمير؟
فى البداية، ظهرت نظرية تقول إن الأغبياء هم الذين ينجذبون
إلى لحم «الحمار» لأنه غبى مثلهم، وكما قال أرسطو فإن الشبيه يدرك الشبيه.
ثم ظهرت نظرية مضادة تقول إن الأذكياء هم الذين يستبد بهم الحنينُ إلى الغباء، فيُقبلون بقوة على تناول لحم الحمير، وفقاً لقانون «الأقطاب المتشابهة متنافرة والمختلفة متجاذبة».
وقد تعارك أصحاب النظريتين طويلاً، حتى سقطت النظريتان سقوطاً مروّعاً حين أعلنت وزارة المذاق نتائج الاستقصاء الواسع الذى قام به عدد هائل من الباحثين، تحت إشراف جهات دولية مرموقة السمعة. فكان من أهم هذه النتائج ..
أن سكان البلدة جميعهم يحبون لحم الحمير، ويقبلون على أى وجبة تحتوى
عليه مطبوخاً أو مشوياً أو مسلوقاً ومُطيّباً بالبصل والبهارات.
ولا يُعقل، حسبما يقول هذا التقرير المعتمد، أن يكون السكان كلهم أغبياء
أو أنهم جميعاً أذكياء..
وهكذا سقطت النظريتان فى هاوية النسيان.
لم يكن أمام السكان لتفسير الظاهرة التى شملتهم إلا اللجوء لمراكز البحث العالمية،
مع أنها تتكلف كثيراً. لكن المسألة تستحق.
وبعد عدة أعوام من الدراسة ومن إقبال الناس علانية على تناول لحم الحمير، رفضت مراكزُ البحث إعلان النتائج، أو تفسير السبب فى هروب الباحثين فجأة من البلد. وازداد الموضوع تعقيداً وإبهاماً، حتى انفرجت الأزمة مع اكتشاف أنه لا توجد أصلاً أزمة.
ويعود الفضل فى ذلك إلى الكاتب الوحيد بالبلد، وهو المرموق «صابر العريان أبو ودان» الذى نشر مقالاً مطولاً فى الجريدة الوحيدة التى تُطبع بعناوين وأسماء مختلفة كل حين، وكان عنوان المقال طويلاً كأُذن حمار، ودالاً على ما يريد الكاتب أن يقول..
كان نصُّ العنوان:
لا داعى لحُمرة الخجل، فالحمرةُ أصلاً مشتقة من الحمير التى يأكلها الصغير والكبير، ويحبها النحيف والسمين، ونحن منذ قديم زماننا نأكل ما نحب، فلماذا صرنا اليوم نغطس بلا هدفٍ ثم نقب.
أحدثتِ المقالةُ دوياً هائلاً فى البلد، وقوبلت باستحسانٍ جماهيرى غير مسبوق.
ولم يقدح فيها أو يحدّ من أثرها الإيجابى على الناس، قول أحد الهراطقة المشهورين بقلة الأدب وانعدام اليقين، إن تناول لحوم الحمير أكثر من مرةٍ واحدةٍ يُحدث نوعاً من الإدمان، الذى لا يستسيغ معه المدمن إلا لحم الحمير..
وكما هو متوقع، فقد صخب على الهرطوقى هذا زاعقون كثيرون، وشككوا فى سلامة عقله لأنه من النباتيين، واحتجوا ضد رأيه الهرطوقى هذا بالشعار الذى صار من يومه مشهوراً: لا تتكلم أبداً عننا، مادمت يا بارد لا تأكل أكلنا.
■ ■ ■
فلما انتهى الحالُ بأهل البلد إلى هذه المواجهة الصريحة مع الذات، تم إلغاء القوانين المحرمة لحم الحمير وإسقاط جميع العقوبات السابقة، والتُّهم الظالمة، واعترف الجميع بأن الأكلة الشعبية الأولى بالبلد هى لحم الحمير.
كما تم إبرام اتفاقية دولية مع الشقيقة كوريا، بموجبها تستورد البلدُ منها الحمير
وتصدّر إليها كلاب الشوارع، لأنها الوجبة الشعبية الأولى هناك.
وهى الاتفاقية المعروفة اختصاراً باسم «زِيح»..
ويوم توقيعها صدحت فى البلدين الأغنية التى تمّ تأليفها خصّيصاً لهذه المناسبة، ويقول مطلعُها: كل واحد ينام على الجنب اللى يريَّحه، ويأكل حتّة اللحمة اللى تفرَّحه.
وهكذا أصبح لحم الحمير بلا منازع، هو الوجبة المفضلة.
ثم صار تدريجياً هو الوجبة الوحيدة التى تحظى بالقبول بين الناس.
سواءً على هيئة مفرومٍ، أو شرائح تقلى، أو قطعٍ مُكعّبةٍ تُطبخ
لراغبى السمنة وتُشوى لمحبى النحافة..
حتى بقية الطعام صاروا يتخذونه من لحم الحمير، فمن أراد تنويع المأكولات وضع على مائدته لحم الحمير منحوتاً على هيئة الحمام المحشى، أو صدور البطّ، أو أوراك الديك الرومى.
فيشعر الآكلون بلذة الطعم، ويستمتعون بمنظر الطيور المخلية من العظام. وتخصَّصت جماعةٌ فى تقطيع لحم الحمير على هيئة الأسماك والمأكولات البحرية، وجماعةٌ أخرى فى تجهيز لحم الجحوش لتؤكل باردة، وجماعةٌ ثالثة فى تسمين الحمير بالطرق التقليدية أو بتطبيقات الهندسة الوراثية.
ولم يلتزم الهرطوقى الكافر بالصمت، ولم تردعه العقوبات الاجتماعية
التى تعرّض لها، لأنه بارد.
وظل يقتات على الخضروات فى تحدٍ صارخ للجميع، وتعدىَ ذلك إلى الأفعال الإجرامية التى تستوجب المساءلة القانونية والتعذيب، إذ كتب ذات ليلةٍ على حوائط بيوت البلد عبارة تدل على انحرافه وإنكاره للحقائق العلمية المعلومة بالضرورة، فلما صحا الناسُ صباحاً من نومهم الهانئ وجدوا على حوائطهم العبارة الدالة على ازدراء السائد.
وكان العجيب، بل الأعجب، هو جرأة الكافر الهرطوقى، إذ جعل عبارته الملحدة الحمقاء على هيئة سؤال، مع أن الجميع يعرف أن البلد يعتزُّ فقط بالإجابات.
كانت العبارة، أو السؤال التافه السخيف، تقول: هل سنجد الصديق فى بلد النهيق؟.
وقال فريقٌ من الحكماء المستحمرين، إن عبارة الهرطوقى تدل على أنه ينوى الهجرة من البلد، وهذه بالطبع خيانة. وقال فريقٌ من حُفَّاظ النظام من أى تطوير، أنه يُعانى من الوساوس والهلاوس.
وأجمع المجموع على أن هذا المختلّ، لابد من عقابه بالعدل.
فحكم عليه بالإعدام جوعاً وعطشاً، ثم حرق جثته كيلا يؤول إلى نعيمٍ أو جحيم..
ولكن للأسف، لم يُنفذ الحكمُ الصادرُ بمباركة السكان ورضاهم،
لأن الهرطوقى المجرم هرب، فلم يُعثر له على أثر أقدامٍ أو حوافر.
فثبت للجميع بسبب هروبه أنه كان دوماً كافراً، فلما كشفته الأيامُ راح.
فأراح واستراح.
ولم تكفِ الحميرُ المستوردة احتياجات سكان البلد، ناهيك عن عدم الإقبال
على لحم الحمار المستورد والميل إلى «البلدى» الذى يجدونه أطيب مذاقاً،
وأسهل هضماً، وأنسب كيموساً، وأفيد كيلوساً.
فارتفعت فى السوق أسعار البلدى حتى كسرت حاجز الألف جنيه للحمار،
وخمسمائة جنيه للأتان، وأربعمائة للجحش.
ومن المتوقع أن يستمر هذا الارتفاع، خصوصاً أن حمير البلد أوشكت
على الانقراض ولم يبق منها فى مزارع التسمين والبيوت الريفية وبدروم
العمارات إلا عدد محدود يتراوح بين المئات فى إحصاء والملايين فى إحصاء آخر.
ومن المعلوم من الاقتصاد بالضرورة، أنه كلما قلَ المعروض وزاد الطلب ارتفع الثمن.
أما من جهة الحمير، فقد فشلت كل محاولات الخروج من المأزق
وتفادى خطر الانقراض، فنهقوا جميعاً فى يومٍ واحد وساعةٍ واحدة،
حتى يصل صدى النهيق إلى عنان السماء وأنحاء الأرض.
وأعلنوا العصيان.
لكنهم لم يجدوا نتيجةً إلا ضحكات السكان، وازدياد شهوتهم إلى الطعام المغذّى
الذى لا غنى عنه ولابد منه، خصوصاً بعدما صاروا يعافون لحم العجول
والجواميس والغزلان والطيور التى لا تطير..
بل صاروا يعافون أيضاً، الأسماك والفواكه.
وفى غمرة هذا اليأس الحميرى التام وبلوغ القنوطُ مداه،علا نهيق «مبروكة»،
كبيرة حمير البلد، فكان نهيقها يقول: يا طويلى الآذان ويا ضحايا هوس الإنسان،
لم يعد هناك إلا حلٍّ وحيدٍ، سوف أجرِّبه الليلة.
وسواءً نجح مسعاى الأخير أم كان نصيبه الفشل، فسوف يكون لقاؤنا فَجرَ غدٍ
فى المنطقة الفسيحة مترامية الأطراف، المسماة شريط البرزخ.
واحذروا أن يتأخّر أى حمارٍ أو أتان أو جحش عن الحضور فى الموعد المحدد.
هذا بلاغٌ للجميع. وفور سماعهم البيان، نهق الحمير جميعاً: السمع والطاعة،
السمع والطاعة، السمع والطاعة أيتها الكبيرة مبروكة.
■ ■ ■
للأتان «مبروكة» مكانةٌ خاصة فى نفوس حمير البلد كلهم، ليس فقط
لأنها الأكبر سناً، والأكثر صبراً، والأوفر حكمةً.
ولكن لأسبابٍ أخرى عديدةٍ، منها أن «مبروكة» سليلة الجدة الغابرة
«حاشى آتون» التى يعنى اسمها حرفياً: التى يركبها آتون، ويقول لها حا، شى..
ومنها أنها حمارة عمدة البلد، بل هى الأتان المحبوبة التى طالما
أوحت إليه سابقاً بأفكارٍ جعلها لاحقاً قوانين..
ومنها أنها صاحبة الأقوال الحكيمة والعبارات البليغة التى يرددها الحميرُ،
حين ينهقون وحين يتهامسون. فمن مشهور أقوالها المأثورة:
اعمل عبيط، تاكل بدل الشعير سميط..
إمشى بشويش بشويش، لا تقدر عليك شرطة ولا جيش..
شيل على قدّك، مادام الزمن هدّك..
يا زعلان من الشعير الجاف، أهو جالك التبن حاف..
طول ما انت كده حمار، بالأكيد هاتنام فى الدار.
وغير ذلك من جواهر العبارات التى صارت مع دوام الترديد،
قواعد يلتزم بها كلُّ حمارٍ أو أتان، عقب البلوغ وتخطى مرحلة الجحش.
ولم يقتصر أثر «مبروكة» وتأثيرها على الحمير،
فحكمتها اتسربت إلى عقول البشر وأقوالهم المأثورة.
فمن المؤكد أنها كانت أول من قال العبارة التى سارت مَثَلاً:
اربط الحمار، مطرح ما صاحبه يريد..
وأيضاً: حمارتك العرجا يا عبدالرحيم، تغنيك عن استلاف حمارة اللئيم..
وأيضاً: تجرى يا خيل جرى الوحوش، غير العليقة لن تحوش.
وقد أوحت مبروكة إلى صاحبها «العمدة» بهذه العبارات، فردّدها أمام الناس فأعجبتهم حكمته وجعلوه بناءً على ذلك عمدةً عليهم. وقد وقع التحريف مع تداول البشر لهذه المأثورات، إذ غيّروا بعض الكلمات لتصير العبارات أبسط وأسهل عليهم فهماً.. ولم تعترض مبروكة على ذلك.
مع بزوغ أول شعاع للشمس، لمح الحميرُ الواقفون عند الحوافَ الشرقية للمنطقة البرزخية، أطراف آذان الجدة «مبروكة» فعرفوا أنها مقبلةً إليهم، فاهتاجت بالبهجة قلوبهم..
جاءت تمشى بخطى واثقةٍ، بطيئةٍ، عملاً بقاعدة: امشى بشويش بشويش.
لما اقتربت رويداً، خفقت أفئدتهم واهتزت الآذان،
ونهق ناهقٌ منهم «جاءت.. جاءت».
سكت الجميعُ، وهدأ الصخب والتمرُّغ فى الرمال.
والتزم الحميرُ جميعاً، حتى المتحمّسين منهم، بحدود الأدب الواجب عند وجود الجدة..
ومع ذلك، ظل قادة المجموعات الحميرية الناشطة، ورؤساء جمعيات حقوق الجحوش، يتهامسون مع الأتن المثيرات المتحلّقات حولهم.
وهذا أمرٌ معتادٌ فى التجمعات، لأن النشطاء لهم جاذبية خاصة،
يفتقر إليها كثير من الحمير.
عند وصولها، أفسح الحمير ممراً للجدة لتصعد على التلة العليا بالمنطقة،
وتلقى إليهم بخطابها الذى طال انتظاره..
على مهل سارت «مبروكة» فى الممر المفسوح، يتبعها ما لا حصر له
من الجحوش المبهورين بالاقتراب منها.
وحين اعتلت التلة، تراجع الصغارُ فتقدّم الكبار وخلفهم الأصغر فالأصغر،
وتكأكأوا جميعاً حول التلة وكلهم شغفٌ لسماع ما ستُدلى به الجدةُ المبجلة.
رفعت «مبروكة» رأسها، فامتلأت نظراتها فخراً بهذه الجموع الهادرة من الحمير،
لكنها لم تشأ التصريح بذلك كيلا تُصاب جماهير الحمير بالغرور،
وبدأت كلامها بالدخول المباشر فى الموضوع، ثم أعلنتِ القرارَ التاريخى
الذى انتهت إليه من بعد تفكيرٍ عميق..
قالت بنهيقها الشجى المؤثر:
يا أبنائى الأعزاء. أعرف أنكم تعرضتم لظلمٍ فادح، وعانيتم من الفزع،
ومن فقدان الأحبة بسبب نهم الناس..
وليت أفعال البشر المهووسين قد اقتصرت على بشاعة عمليات الذبح المحموم،
ولن أفيض فى هذا الكلام، فكلكم تعرفونه ولا داعى لنشر هذا الغسيل
فى وجود هذه الجحوش البريئة.
فالمهم الآن هو المشكلة الأساسية التى دعتنى إلى إطلاق نهيق هذا
التجمع التاريخى، الذى لم يشهد الزمان مثله من قبل.
أعنى مشكلة الذبح المسعور، الذى وقف
بالحمير على حافة الانقراض..
لكننا لن ننقرض.. لن ننقرض.. لن ننقرض.
هاجت الجموعُ وسالت دموع وانطلق النهيقُ الهادر بالشعارات الحماسية:
لن نؤكل بعد اليوم.. إحنا بس بنشيل، يا بشر ما بيحفظ جميل..
إحنا حمير وجحوش وأتان، مش جاموس وبقر وغزلان..
بعد المشى باحترام ف الشوارع، بقينا هَمّ هَمّ من الراس للكوارع.
هزت الجدة «مبروكة» أذنيها مراتٍ فعاد السكون، واستكملت ما كانت تنهق به.
قالت: كان عندى حل أخير، لكنه لم يفلح، فقد أوحيت إلى العمدة بأن يقنع الناس
بأكل لحوم البغال، وتكون الحمير له هو وأسرته فقط. فرفض.
أفهمته أن الحمير فى طريقها للانقراض،
فاستخف بالتحذير وردّ علىّ بقوله العامى الخليع
«إحيينى النهارده وادبحنى بكره» وأخذته نوبةً من الضحك.
فلما عرفتُ أنه لا فائدة من الكلام تركت خلفى مسقط رأسى وسيقانى،
مثلما فعلتم جميعاً، وجئت إليكم مع أنه أعطانى وعداً بعدم ذبحى تقديراً للذكريات.
ولكن هيهات أن أصدّقه.
وها نحن أمام التحدى الرهيب، وليس أمامنا إلا طريق وحيد،
هو اللجوء إلى الصحراء مع التسليم بأن الاحتمالات كلها مفتوحة.
فربما تصادفنا واحةً نعيش فيها بسلام، وربما نهلك فى الطريق جوعاً أو عطشاً.
لكننا فى نهاية الأمر ومهما كان المصير، فسوف نعيش أحراراً أو نموت أبطالاً
غير مستسلمين.. فهيا جميعاً إلى الصحراء.. إلى الصحراء.. إلى الصحراء.
■ ■ ■
تقدم الجموع الحمار الحصاوى الحاصل على وسام زهرة البرسيم، تقديراً لشجاعته،
إذ بادر يوم ذبحه برفس الجزار، وانطلق فى الأرض حتى وصل قبل عامين
إلى المنطقة البرزخية، وأمضى وحده هذه الفترة حتى لحقت به بقية الحمير،
ولم يزعجه خلال حياته هنا إنسٌ ولا جانٌ ولا حيوان.
ولهذا استحق الوسام. تقدّمهم بهمةٍ، وانسربت خلفه الجموع متوغلين جميعا
فى قلب الصحراء، تاركين خلفهم البلد الماسخ، ومرحِّبين بأية أقدارٍ
يلقاها الحميرُ الأحرار فى الصحراء.
فقط، ثلاثةُ من الحمر وخمسٌ من الأتن خلفهم أربعةُ جحوش،
هم الذين تهيَّبوا من دخول الصحراء. قالوا «ليلها قارس ونهارها هجير،
ولن نجد برسيماً هناك ولا شعير» فنظرت الجدة إليهم بحسرةٍ
وقالت إنهم تأثروا بالبشر بسبب طول الصحبة، فصاروا مثلهم جبناء
يفكرون بالبطون لا بالعقول، وتمنّت لهم ما يحلمون به:
أن يحتفظ البشر بهم، ويُحسنوا معاملتهم،
باعتبارهم آخر مَن تبقّى من سلالة الحمار البلدى.
الجدة ودّعتهم بعينٍ دامعة ثم لحقت بالمتوجّهين إلى المجهول،
فوقفوا فى مكانهم صفّاً ينظرون بأسى إلى مؤخّرات وذيول الأحرار الراحلين،
وأطالوا النظر حتى غابت عن أعينهم سحابات الغبار.
الحمير الذين ذهبوا لم يرهم من بعد رحيلهم أحد،
ولا أحد يعرف طبيعة النهاية
التى كانت تنتظرهم..
وصار يوم رحيلهم هو آخر عهد البلد بالحمير البلدى،
لأن الذين رفضوا الرحيل إلى الصحراء عادوا إلى
ديار الذلِّ مُطأطئى الرؤوس،
فهجم عليهم المفجوعون فوراً، فذبحوهم فى الميادين
وجعلوهم بعد ساعاتٍ معدودات أطباقاً تسدُّ البطون..
وعاشت حمير الأمة العربية..
ولكم تحيات
ماجد البلوي
السلام عليكم
بدأت مشكلة الحمير من شرارة صغير، صارت مع الوقت حرائق لا يقدر على إطفائها أو الفرار منها أى حمار، أو أتانٍ، أو جحش. فقد عرف سكان البلد أن بعض المطاعم المعروفة تقدم لروادها لحم الحمير مطبوخاً، فهاجوا وساقوا أصحاب هذه المطاعم إلى المحاكم، فصدرت ضدهم أحكامٌ مشددة وأُغلقت أماكنهم.
لكن محلات أخرى فُتحت وفعل أصحابها مثل السابقين، فسيقوا أيضاً إلى ساحات المحاكم، وكان مصيرهم هو مصير سابقيهم. الأحكامُ المغلّظة بالسجن المشدد، وإغلاق المحلات.
وظلت الأحوال على هذا المنوال زمناً، وكانت الظاهرة اللافتة وغير المفهومة فى بادئ الأمر، هى أن المطاعم والدكاكين ومشروعات «الدليفرى» كلما طبخت لحم الحمير، أقبل عليها سكانُ البلد إقبالاً كبيراً والتذُّوا بهذه الوجبات أكثر من غيرها.
فطُرح هذا السؤال على مائدة البحث العلمى، وعلى طاولة النشطاء:
ما هو السرُ فى الإقبال العام على أكل لحم الحمير؟
فى البداية، ظهرت نظرية تقول إن الأغبياء هم الذين ينجذبون
إلى لحم «الحمار» لأنه غبى مثلهم، وكما قال أرسطو فإن الشبيه يدرك الشبيه.
ثم ظهرت نظرية مضادة تقول إن الأذكياء هم الذين يستبد بهم الحنينُ إلى الغباء، فيُقبلون بقوة على تناول لحم الحمير، وفقاً لقانون «الأقطاب المتشابهة متنافرة والمختلفة متجاذبة».
وقد تعارك أصحاب النظريتين طويلاً، حتى سقطت النظريتان سقوطاً مروّعاً حين أعلنت وزارة المذاق نتائج الاستقصاء الواسع الذى قام به عدد هائل من الباحثين، تحت إشراف جهات دولية مرموقة السمعة. فكان من أهم هذه النتائج ..
أن سكان البلدة جميعهم يحبون لحم الحمير، ويقبلون على أى وجبة تحتوى
عليه مطبوخاً أو مشوياً أو مسلوقاً ومُطيّباً بالبصل والبهارات.
ولا يُعقل، حسبما يقول هذا التقرير المعتمد، أن يكون السكان كلهم أغبياء
أو أنهم جميعاً أذكياء..
وهكذا سقطت النظريتان فى هاوية النسيان.
لم يكن أمام السكان لتفسير الظاهرة التى شملتهم إلا اللجوء لمراكز البحث العالمية،
مع أنها تتكلف كثيراً. لكن المسألة تستحق.
وبعد عدة أعوام من الدراسة ومن إقبال الناس علانية على تناول لحم الحمير، رفضت مراكزُ البحث إعلان النتائج، أو تفسير السبب فى هروب الباحثين فجأة من البلد. وازداد الموضوع تعقيداً وإبهاماً، حتى انفرجت الأزمة مع اكتشاف أنه لا توجد أصلاً أزمة.
ويعود الفضل فى ذلك إلى الكاتب الوحيد بالبلد، وهو المرموق «صابر العريان أبو ودان» الذى نشر مقالاً مطولاً فى الجريدة الوحيدة التى تُطبع بعناوين وأسماء مختلفة كل حين، وكان عنوان المقال طويلاً كأُذن حمار، ودالاً على ما يريد الكاتب أن يقول..
كان نصُّ العنوان:
لا داعى لحُمرة الخجل، فالحمرةُ أصلاً مشتقة من الحمير التى يأكلها الصغير والكبير، ويحبها النحيف والسمين، ونحن منذ قديم زماننا نأكل ما نحب، فلماذا صرنا اليوم نغطس بلا هدفٍ ثم نقب.
أحدثتِ المقالةُ دوياً هائلاً فى البلد، وقوبلت باستحسانٍ جماهيرى غير مسبوق.
ولم يقدح فيها أو يحدّ من أثرها الإيجابى على الناس، قول أحد الهراطقة المشهورين بقلة الأدب وانعدام اليقين، إن تناول لحوم الحمير أكثر من مرةٍ واحدةٍ يُحدث نوعاً من الإدمان، الذى لا يستسيغ معه المدمن إلا لحم الحمير..
وكما هو متوقع، فقد صخب على الهرطوقى هذا زاعقون كثيرون، وشككوا فى سلامة عقله لأنه من النباتيين، واحتجوا ضد رأيه الهرطوقى هذا بالشعار الذى صار من يومه مشهوراً: لا تتكلم أبداً عننا، مادمت يا بارد لا تأكل أكلنا.
■ ■ ■
فلما انتهى الحالُ بأهل البلد إلى هذه المواجهة الصريحة مع الذات، تم إلغاء القوانين المحرمة لحم الحمير وإسقاط جميع العقوبات السابقة، والتُّهم الظالمة، واعترف الجميع بأن الأكلة الشعبية الأولى بالبلد هى لحم الحمير.
كما تم إبرام اتفاقية دولية مع الشقيقة كوريا، بموجبها تستورد البلدُ منها الحمير
وتصدّر إليها كلاب الشوارع، لأنها الوجبة الشعبية الأولى هناك.
وهى الاتفاقية المعروفة اختصاراً باسم «زِيح»..
ويوم توقيعها صدحت فى البلدين الأغنية التى تمّ تأليفها خصّيصاً لهذه المناسبة، ويقول مطلعُها: كل واحد ينام على الجنب اللى يريَّحه، ويأكل حتّة اللحمة اللى تفرَّحه.
وهكذا أصبح لحم الحمير بلا منازع، هو الوجبة المفضلة.
ثم صار تدريجياً هو الوجبة الوحيدة التى تحظى بالقبول بين الناس.
سواءً على هيئة مفرومٍ، أو شرائح تقلى، أو قطعٍ مُكعّبةٍ تُطبخ
لراغبى السمنة وتُشوى لمحبى النحافة..
حتى بقية الطعام صاروا يتخذونه من لحم الحمير، فمن أراد تنويع المأكولات وضع على مائدته لحم الحمير منحوتاً على هيئة الحمام المحشى، أو صدور البطّ، أو أوراك الديك الرومى.
فيشعر الآكلون بلذة الطعم، ويستمتعون بمنظر الطيور المخلية من العظام. وتخصَّصت جماعةٌ فى تقطيع لحم الحمير على هيئة الأسماك والمأكولات البحرية، وجماعةٌ أخرى فى تجهيز لحم الجحوش لتؤكل باردة، وجماعةٌ ثالثة فى تسمين الحمير بالطرق التقليدية أو بتطبيقات الهندسة الوراثية.
ولم يلتزم الهرطوقى الكافر بالصمت، ولم تردعه العقوبات الاجتماعية
التى تعرّض لها، لأنه بارد.
وظل يقتات على الخضروات فى تحدٍ صارخ للجميع، وتعدىَ ذلك إلى الأفعال الإجرامية التى تستوجب المساءلة القانونية والتعذيب، إذ كتب ذات ليلةٍ على حوائط بيوت البلد عبارة تدل على انحرافه وإنكاره للحقائق العلمية المعلومة بالضرورة، فلما صحا الناسُ صباحاً من نومهم الهانئ وجدوا على حوائطهم العبارة الدالة على ازدراء السائد.
وكان العجيب، بل الأعجب، هو جرأة الكافر الهرطوقى، إذ جعل عبارته الملحدة الحمقاء على هيئة سؤال، مع أن الجميع يعرف أن البلد يعتزُّ فقط بالإجابات.
كانت العبارة، أو السؤال التافه السخيف، تقول: هل سنجد الصديق فى بلد النهيق؟.
وقال فريقٌ من الحكماء المستحمرين، إن عبارة الهرطوقى تدل على أنه ينوى الهجرة من البلد، وهذه بالطبع خيانة. وقال فريقٌ من حُفَّاظ النظام من أى تطوير، أنه يُعانى من الوساوس والهلاوس.
وأجمع المجموع على أن هذا المختلّ، لابد من عقابه بالعدل.
فحكم عليه بالإعدام جوعاً وعطشاً، ثم حرق جثته كيلا يؤول إلى نعيمٍ أو جحيم..
ولكن للأسف، لم يُنفذ الحكمُ الصادرُ بمباركة السكان ورضاهم،
لأن الهرطوقى المجرم هرب، فلم يُعثر له على أثر أقدامٍ أو حوافر.
فثبت للجميع بسبب هروبه أنه كان دوماً كافراً، فلما كشفته الأيامُ راح.
فأراح واستراح.
ولم تكفِ الحميرُ المستوردة احتياجات سكان البلد، ناهيك عن عدم الإقبال
على لحم الحمار المستورد والميل إلى «البلدى» الذى يجدونه أطيب مذاقاً،
وأسهل هضماً، وأنسب كيموساً، وأفيد كيلوساً.
فارتفعت فى السوق أسعار البلدى حتى كسرت حاجز الألف جنيه للحمار،
وخمسمائة جنيه للأتان، وأربعمائة للجحش.
ومن المتوقع أن يستمر هذا الارتفاع، خصوصاً أن حمير البلد أوشكت
على الانقراض ولم يبق منها فى مزارع التسمين والبيوت الريفية وبدروم
العمارات إلا عدد محدود يتراوح بين المئات فى إحصاء والملايين فى إحصاء آخر.
ومن المعلوم من الاقتصاد بالضرورة، أنه كلما قلَ المعروض وزاد الطلب ارتفع الثمن.
أما من جهة الحمير، فقد فشلت كل محاولات الخروج من المأزق
وتفادى خطر الانقراض، فنهقوا جميعاً فى يومٍ واحد وساعةٍ واحدة،
حتى يصل صدى النهيق إلى عنان السماء وأنحاء الأرض.
وأعلنوا العصيان.
لكنهم لم يجدوا نتيجةً إلا ضحكات السكان، وازدياد شهوتهم إلى الطعام المغذّى
الذى لا غنى عنه ولابد منه، خصوصاً بعدما صاروا يعافون لحم العجول
والجواميس والغزلان والطيور التى لا تطير..
بل صاروا يعافون أيضاً، الأسماك والفواكه.
وفى غمرة هذا اليأس الحميرى التام وبلوغ القنوطُ مداه،علا نهيق «مبروكة»،
كبيرة حمير البلد، فكان نهيقها يقول: يا طويلى الآذان ويا ضحايا هوس الإنسان،
لم يعد هناك إلا حلٍّ وحيدٍ، سوف أجرِّبه الليلة.
وسواءً نجح مسعاى الأخير أم كان نصيبه الفشل، فسوف يكون لقاؤنا فَجرَ غدٍ
فى المنطقة الفسيحة مترامية الأطراف، المسماة شريط البرزخ.
واحذروا أن يتأخّر أى حمارٍ أو أتان أو جحش عن الحضور فى الموعد المحدد.
هذا بلاغٌ للجميع. وفور سماعهم البيان، نهق الحمير جميعاً: السمع والطاعة،
السمع والطاعة، السمع والطاعة أيتها الكبيرة مبروكة.
■ ■ ■
للأتان «مبروكة» مكانةٌ خاصة فى نفوس حمير البلد كلهم، ليس فقط
لأنها الأكبر سناً، والأكثر صبراً، والأوفر حكمةً.
ولكن لأسبابٍ أخرى عديدةٍ، منها أن «مبروكة» سليلة الجدة الغابرة
«حاشى آتون» التى يعنى اسمها حرفياً: التى يركبها آتون، ويقول لها حا، شى..
ومنها أنها حمارة عمدة البلد، بل هى الأتان المحبوبة التى طالما
أوحت إليه سابقاً بأفكارٍ جعلها لاحقاً قوانين..
ومنها أنها صاحبة الأقوال الحكيمة والعبارات البليغة التى يرددها الحميرُ،
حين ينهقون وحين يتهامسون. فمن مشهور أقوالها المأثورة:
اعمل عبيط، تاكل بدل الشعير سميط..
إمشى بشويش بشويش، لا تقدر عليك شرطة ولا جيش..
شيل على قدّك، مادام الزمن هدّك..
يا زعلان من الشعير الجاف، أهو جالك التبن حاف..
طول ما انت كده حمار، بالأكيد هاتنام فى الدار.
وغير ذلك من جواهر العبارات التى صارت مع دوام الترديد،
قواعد يلتزم بها كلُّ حمارٍ أو أتان، عقب البلوغ وتخطى مرحلة الجحش.
ولم يقتصر أثر «مبروكة» وتأثيرها على الحمير،
فحكمتها اتسربت إلى عقول البشر وأقوالهم المأثورة.
فمن المؤكد أنها كانت أول من قال العبارة التى سارت مَثَلاً:
اربط الحمار، مطرح ما صاحبه يريد..
وأيضاً: حمارتك العرجا يا عبدالرحيم، تغنيك عن استلاف حمارة اللئيم..
وأيضاً: تجرى يا خيل جرى الوحوش، غير العليقة لن تحوش.
وقد أوحت مبروكة إلى صاحبها «العمدة» بهذه العبارات، فردّدها أمام الناس فأعجبتهم حكمته وجعلوه بناءً على ذلك عمدةً عليهم. وقد وقع التحريف مع تداول البشر لهذه المأثورات، إذ غيّروا بعض الكلمات لتصير العبارات أبسط وأسهل عليهم فهماً.. ولم تعترض مبروكة على ذلك.
مع بزوغ أول شعاع للشمس، لمح الحميرُ الواقفون عند الحوافَ الشرقية للمنطقة البرزخية، أطراف آذان الجدة «مبروكة» فعرفوا أنها مقبلةً إليهم، فاهتاجت بالبهجة قلوبهم..
جاءت تمشى بخطى واثقةٍ، بطيئةٍ، عملاً بقاعدة: امشى بشويش بشويش.
لما اقتربت رويداً، خفقت أفئدتهم واهتزت الآذان،
ونهق ناهقٌ منهم «جاءت.. جاءت».
سكت الجميعُ، وهدأ الصخب والتمرُّغ فى الرمال.
والتزم الحميرُ جميعاً، حتى المتحمّسين منهم، بحدود الأدب الواجب عند وجود الجدة..
ومع ذلك، ظل قادة المجموعات الحميرية الناشطة، ورؤساء جمعيات حقوق الجحوش، يتهامسون مع الأتن المثيرات المتحلّقات حولهم.
وهذا أمرٌ معتادٌ فى التجمعات، لأن النشطاء لهم جاذبية خاصة،
يفتقر إليها كثير من الحمير.
عند وصولها، أفسح الحمير ممراً للجدة لتصعد على التلة العليا بالمنطقة،
وتلقى إليهم بخطابها الذى طال انتظاره..
على مهل سارت «مبروكة» فى الممر المفسوح، يتبعها ما لا حصر له
من الجحوش المبهورين بالاقتراب منها.
وحين اعتلت التلة، تراجع الصغارُ فتقدّم الكبار وخلفهم الأصغر فالأصغر،
وتكأكأوا جميعاً حول التلة وكلهم شغفٌ لسماع ما ستُدلى به الجدةُ المبجلة.
رفعت «مبروكة» رأسها، فامتلأت نظراتها فخراً بهذه الجموع الهادرة من الحمير،
لكنها لم تشأ التصريح بذلك كيلا تُصاب جماهير الحمير بالغرور،
وبدأت كلامها بالدخول المباشر فى الموضوع، ثم أعلنتِ القرارَ التاريخى
الذى انتهت إليه من بعد تفكيرٍ عميق..
قالت بنهيقها الشجى المؤثر:
يا أبنائى الأعزاء. أعرف أنكم تعرضتم لظلمٍ فادح، وعانيتم من الفزع،
ومن فقدان الأحبة بسبب نهم الناس..
وليت أفعال البشر المهووسين قد اقتصرت على بشاعة عمليات الذبح المحموم،
ولن أفيض فى هذا الكلام، فكلكم تعرفونه ولا داعى لنشر هذا الغسيل
فى وجود هذه الجحوش البريئة.
فالمهم الآن هو المشكلة الأساسية التى دعتنى إلى إطلاق نهيق هذا
التجمع التاريخى، الذى لم يشهد الزمان مثله من قبل.
أعنى مشكلة الذبح المسعور، الذى وقف
بالحمير على حافة الانقراض..
لكننا لن ننقرض.. لن ننقرض.. لن ننقرض.
هاجت الجموعُ وسالت دموع وانطلق النهيقُ الهادر بالشعارات الحماسية:
لن نؤكل بعد اليوم.. إحنا بس بنشيل، يا بشر ما بيحفظ جميل..
إحنا حمير وجحوش وأتان، مش جاموس وبقر وغزلان..
بعد المشى باحترام ف الشوارع، بقينا هَمّ هَمّ من الراس للكوارع.
هزت الجدة «مبروكة» أذنيها مراتٍ فعاد السكون، واستكملت ما كانت تنهق به.
قالت: كان عندى حل أخير، لكنه لم يفلح، فقد أوحيت إلى العمدة بأن يقنع الناس
بأكل لحوم البغال، وتكون الحمير له هو وأسرته فقط. فرفض.
أفهمته أن الحمير فى طريقها للانقراض،
فاستخف بالتحذير وردّ علىّ بقوله العامى الخليع
«إحيينى النهارده وادبحنى بكره» وأخذته نوبةً من الضحك.
فلما عرفتُ أنه لا فائدة من الكلام تركت خلفى مسقط رأسى وسيقانى،
مثلما فعلتم جميعاً، وجئت إليكم مع أنه أعطانى وعداً بعدم ذبحى تقديراً للذكريات.
ولكن هيهات أن أصدّقه.
وها نحن أمام التحدى الرهيب، وليس أمامنا إلا طريق وحيد،
هو اللجوء إلى الصحراء مع التسليم بأن الاحتمالات كلها مفتوحة.
فربما تصادفنا واحةً نعيش فيها بسلام، وربما نهلك فى الطريق جوعاً أو عطشاً.
لكننا فى نهاية الأمر ومهما كان المصير، فسوف نعيش أحراراً أو نموت أبطالاً
غير مستسلمين.. فهيا جميعاً إلى الصحراء.. إلى الصحراء.. إلى الصحراء.
■ ■ ■
تقدم الجموع الحمار الحصاوى الحاصل على وسام زهرة البرسيم، تقديراً لشجاعته،
إذ بادر يوم ذبحه برفس الجزار، وانطلق فى الأرض حتى وصل قبل عامين
إلى المنطقة البرزخية، وأمضى وحده هذه الفترة حتى لحقت به بقية الحمير،
ولم يزعجه خلال حياته هنا إنسٌ ولا جانٌ ولا حيوان.
ولهذا استحق الوسام. تقدّمهم بهمةٍ، وانسربت خلفه الجموع متوغلين جميعا
فى قلب الصحراء، تاركين خلفهم البلد الماسخ، ومرحِّبين بأية أقدارٍ
يلقاها الحميرُ الأحرار فى الصحراء.
فقط، ثلاثةُ من الحمر وخمسٌ من الأتن خلفهم أربعةُ جحوش،
هم الذين تهيَّبوا من دخول الصحراء. قالوا «ليلها قارس ونهارها هجير،
ولن نجد برسيماً هناك ولا شعير» فنظرت الجدة إليهم بحسرةٍ
وقالت إنهم تأثروا بالبشر بسبب طول الصحبة، فصاروا مثلهم جبناء
يفكرون بالبطون لا بالعقول، وتمنّت لهم ما يحلمون به:
أن يحتفظ البشر بهم، ويُحسنوا معاملتهم،
باعتبارهم آخر مَن تبقّى من سلالة الحمار البلدى.
الجدة ودّعتهم بعينٍ دامعة ثم لحقت بالمتوجّهين إلى المجهول،
فوقفوا فى مكانهم صفّاً ينظرون بأسى إلى مؤخّرات وذيول الأحرار الراحلين،
وأطالوا النظر حتى غابت عن أعينهم سحابات الغبار.
الحمير الذين ذهبوا لم يرهم من بعد رحيلهم أحد،
ولا أحد يعرف طبيعة النهاية
التى كانت تنتظرهم..
وصار يوم رحيلهم هو آخر عهد البلد بالحمير البلدى،
لأن الذين رفضوا الرحيل إلى الصحراء عادوا إلى
ديار الذلِّ مُطأطئى الرؤوس،
فهجم عليهم المفجوعون فوراً، فذبحوهم فى الميادين
وجعلوهم بعد ساعاتٍ معدودات أطباقاً تسدُّ البطون..
وعاشت حمير الأمة العربية..
ولكم تحيات
ماجد البلوي