ماجد سليمان البلوي
08-13-2017, 11:19 PM
صفحات من تراث نابلس والشعبانية..؟؟
د. لطفي زغلول..
كثيرة هي العادات العريقة التي غيبتها التطورات التقنية، وبات الحديث عنها استرجاعًا للذكريات الجميلة التي نتمنى أن تعود يومًا، أو أنها اندمجت مع روح العصر وتأقلمت معه في حفاظها على سماتها الأساسية.
"الشعبونية" نسبة إلى شهر شعبان، وهو الشهر الثامن الهجري من العادات التي تميز بها أهل مدينة نابلس عن سواهم في بقية المدن الفلسطينية، وحافظوا على ديمومتها عبر السنين.
إنها عادة دأب عليها النابلسيون منذ عشرات السنين، حيث يقوم "كبير العائلة" -أو من ينوب عنه من أبنائه- بدعوة أرحامه كأخواته وبناته وبنات أعمامه وبنات عماته، وفي كثير من المرات يدعو عموميته من النساء وخاصة المتزوجات لأصهار غرباء عن العائلة، برفقة الأطفال الصغار، إلى الإقامة في بيته مدة تتراوح من ثلاثة أيام إلى أسبوع تُعَدّ فيها الولائم -للمقتدرين طبعًا- وتقام السهرات الليلية والحفلات العائلية الساهرة.
الأصل اللغوي للشعبونية هو الشعبانية، نسبة إلى شهر شعبان، وهو كما أسلفنا الشهر الثامن في التقويم الهجري. إعتاد النابلسيون في هذا الشهر أن يستضيفوا بناتهم وأخواتهم وعماتهم وخالاتهم المتزوجات. وفي العادة كانت الشعبانية تستمر ثلاثة أيام وثلث اليوم، يستضيفون فيها الإناث وأطفالهم ، وفي اليوم الأخير يستضاف الأزواج وأولادهم البالغين.
في كتابه نابلسيات، يقول الكاتب النابلسي مالك فايز المصري: هناك أسباب أخرى للدعوة إلى الشعبونية مثل اختيار العروس والتعرف عليها عن قرب، فعندما كانت إحدى النساء تريد تزويج ابنها كانت تستغل وجود عدد كبير من النساء أيام شعبان؛ لتشاهد المخطوبة عن قرب، وتتأكد من مهاراتها البيتية الأخرى كالطبيخ والتنظيف، والتضييف، والسلوكيات الأخرى.
كما كانت الشعبونية تمتد لتشمل دعوات إلى "الحمام" للاغتسال، فمن المعلوم أن الحمامات -ونابلس مشهورة بها- كانت المكان الوحيد والمفضل لاجتماع الناس للاغتسال الأسبوعي، وكان هناك مآرب أخرى عند النساء في ارتياد الحمامات للاطلاع عن كثب "فحص فسيولوجي غير مباشر لأجساد البنات المراد خطبتهن".
لم تكن الشعبانية تقتصر على إقامة الموائد على شرف "المُشعبنات"، فكانت فيما تعنيه "لمة" تضم الأهل والأحباب ينجم عنها السهرات والغناء والرقص، كون هذه اللمة لا تجتمع في العادة إلا في هذه المناسبة من كل عام.
ومن أشهر أطعمة شهر شعبان أكلة الكوارع "الرؤوس والمقادم والكرش"، وأصناف الكبة واليخنة النابلسية والفسيخ والمفتول والمحاشي، فتجلس النسوة من أصحاب البيت والمدعوات كل تشارك في جانب من جوانب إعداد الطبخة وهن مرحات مسرورات لفرصة الاجتماع بما لا يقل عن فرحتهن بالأطعمة النادرة التكرار.
وتتبع "التحلاية" وهي أما الكنافة النابلسية المشهورة وأما القلاّز أو ما يسمى بالكلاج المحشو بالجبن النابلسي أو المكسرات كالجوز، أيضا البقلاوة وأنواع أخرى من الحلويات، تليها القهوة السادة لاعتقادهم أنها تساعد على الهضم.
في ساعات المساء والسهرة التي قد تمتد في الصيف إلى الفجر، تجتمع الأسرة والضيوف في ساحة المنزل بجوار نوافير الماء، يتحدثون عن يومهم، ثم يستمعون إلى الطرائف والنوادر من بعضهم البعض، كما أنهم يستمعون ويستمتعون بالعزف على العود والطبل بمصاحبة الأناشيد والأهازيج الشعبية.
لم يكن شهر شعبان يقتصر على الشعبونيات، فهناك عادة أخرى كان أهل المدينة يحتفلون بها سنويًّا، وهي "الشعلة" وتكون في ليلة الخامس عشر من الشهر الفضيل، وهي تصادف ذكرى تحول المسلمين عن قبلتهم الأولى في بيت المقدس إلى قبلة بيت الله الحرام في مكة المكرمة .
كان أهل المدينة يحتفظون بالرماد الناجم عن وقود التدفئة فيعبئونه بالعلب "كيل" ويصفون هذه العلب المعبأة بالرماد على حواف أسطح بيوتهم، ثم يصبون عليها قليلاً من الوقود السائل "الكاز" ويشعلونها.
وكان هناك نفر آخر من الأطفال والشبان يحملون هذه الشعلات ويطوفون في شوارع المدينة القديمة وأزقتها وهم ينشدون أناشيد دينية خاصة في المناسبة ترافقهم في كثير من الأحيان "العدة"، وهي مجموعة من الشيوخ المنتمين إلى الزاوية الصوفية فيحملون الطبول والصاجات والسيوف والرايات ويطوفون في طرقات المدينة وقصباتها وهم يقرعون هذه الطبول والصاجات حتى ساعات متأخرة من الليل.
يقول الكاتب محمد عزة دروزة في كتابه "مذكرات وتسجيلات مئة عام فلسطينية" عن ليلة الشعلة: "إن القدماء كانوا يروون عنها قصصًا، بأن الله يقسم أرزاق الناس وأعمارهم للسنة الجديدة في هذه الليلة..
ويضيف أن هذا الاعتقاد جعل دائرة الأوقاف وقتها توظف أشخاصًا بمرتبات سنوية زهيدة عليهم أن يقوموا بدعاء ليلة النصف من شعبان ويبتهلون للمسلمين بعد صلاة المغرب في المساجد، على أن يتغمدهم الله برحمته وتيسيره".
الشعبونية الحالية:
بالطبع فإن الشعبونية ليست فرضًا، ولكنها عادة أصبحت تقليدًا وما زالت نابلس تؤديها وإن تطورت حيثياتها وأشكالها، إذ إن هناك من العائلات من تقدم المال أو الهدايا لبناتها أو القريبات الأخريات عوضا عن الشعبونية.
رغم طبيعة الحياة وتسارعها ما زال أهل نابلس متعلقين بهذه العادة، وما زال كثير من العائلات يدعون أقاربهم لتناول طعام الغداء في شعبان، لكنها اختلفت في كونها باتت تقتصر على يوم الجمعة، فبعد الصلاة يجتمعون في بيت الداعي يتناولون الأطعمة المقدمة وينتظرون الكنافة ولا تكاد الشمس تغرب حتى يعود الجميع إلى بيوتهم..
ولكم تحيات
ماجد البلوي
د. لطفي زغلول..
كثيرة هي العادات العريقة التي غيبتها التطورات التقنية، وبات الحديث عنها استرجاعًا للذكريات الجميلة التي نتمنى أن تعود يومًا، أو أنها اندمجت مع روح العصر وتأقلمت معه في حفاظها على سماتها الأساسية.
"الشعبونية" نسبة إلى شهر شعبان، وهو الشهر الثامن الهجري من العادات التي تميز بها أهل مدينة نابلس عن سواهم في بقية المدن الفلسطينية، وحافظوا على ديمومتها عبر السنين.
إنها عادة دأب عليها النابلسيون منذ عشرات السنين، حيث يقوم "كبير العائلة" -أو من ينوب عنه من أبنائه- بدعوة أرحامه كأخواته وبناته وبنات أعمامه وبنات عماته، وفي كثير من المرات يدعو عموميته من النساء وخاصة المتزوجات لأصهار غرباء عن العائلة، برفقة الأطفال الصغار، إلى الإقامة في بيته مدة تتراوح من ثلاثة أيام إلى أسبوع تُعَدّ فيها الولائم -للمقتدرين طبعًا- وتقام السهرات الليلية والحفلات العائلية الساهرة.
الأصل اللغوي للشعبونية هو الشعبانية، نسبة إلى شهر شعبان، وهو كما أسلفنا الشهر الثامن في التقويم الهجري. إعتاد النابلسيون في هذا الشهر أن يستضيفوا بناتهم وأخواتهم وعماتهم وخالاتهم المتزوجات. وفي العادة كانت الشعبانية تستمر ثلاثة أيام وثلث اليوم، يستضيفون فيها الإناث وأطفالهم ، وفي اليوم الأخير يستضاف الأزواج وأولادهم البالغين.
في كتابه نابلسيات، يقول الكاتب النابلسي مالك فايز المصري: هناك أسباب أخرى للدعوة إلى الشعبونية مثل اختيار العروس والتعرف عليها عن قرب، فعندما كانت إحدى النساء تريد تزويج ابنها كانت تستغل وجود عدد كبير من النساء أيام شعبان؛ لتشاهد المخطوبة عن قرب، وتتأكد من مهاراتها البيتية الأخرى كالطبيخ والتنظيف، والتضييف، والسلوكيات الأخرى.
كما كانت الشعبونية تمتد لتشمل دعوات إلى "الحمام" للاغتسال، فمن المعلوم أن الحمامات -ونابلس مشهورة بها- كانت المكان الوحيد والمفضل لاجتماع الناس للاغتسال الأسبوعي، وكان هناك مآرب أخرى عند النساء في ارتياد الحمامات للاطلاع عن كثب "فحص فسيولوجي غير مباشر لأجساد البنات المراد خطبتهن".
لم تكن الشعبانية تقتصر على إقامة الموائد على شرف "المُشعبنات"، فكانت فيما تعنيه "لمة" تضم الأهل والأحباب ينجم عنها السهرات والغناء والرقص، كون هذه اللمة لا تجتمع في العادة إلا في هذه المناسبة من كل عام.
ومن أشهر أطعمة شهر شعبان أكلة الكوارع "الرؤوس والمقادم والكرش"، وأصناف الكبة واليخنة النابلسية والفسيخ والمفتول والمحاشي، فتجلس النسوة من أصحاب البيت والمدعوات كل تشارك في جانب من جوانب إعداد الطبخة وهن مرحات مسرورات لفرصة الاجتماع بما لا يقل عن فرحتهن بالأطعمة النادرة التكرار.
وتتبع "التحلاية" وهي أما الكنافة النابلسية المشهورة وأما القلاّز أو ما يسمى بالكلاج المحشو بالجبن النابلسي أو المكسرات كالجوز، أيضا البقلاوة وأنواع أخرى من الحلويات، تليها القهوة السادة لاعتقادهم أنها تساعد على الهضم.
في ساعات المساء والسهرة التي قد تمتد في الصيف إلى الفجر، تجتمع الأسرة والضيوف في ساحة المنزل بجوار نوافير الماء، يتحدثون عن يومهم، ثم يستمعون إلى الطرائف والنوادر من بعضهم البعض، كما أنهم يستمعون ويستمتعون بالعزف على العود والطبل بمصاحبة الأناشيد والأهازيج الشعبية.
لم يكن شهر شعبان يقتصر على الشعبونيات، فهناك عادة أخرى كان أهل المدينة يحتفلون بها سنويًّا، وهي "الشعلة" وتكون في ليلة الخامس عشر من الشهر الفضيل، وهي تصادف ذكرى تحول المسلمين عن قبلتهم الأولى في بيت المقدس إلى قبلة بيت الله الحرام في مكة المكرمة .
كان أهل المدينة يحتفظون بالرماد الناجم عن وقود التدفئة فيعبئونه بالعلب "كيل" ويصفون هذه العلب المعبأة بالرماد على حواف أسطح بيوتهم، ثم يصبون عليها قليلاً من الوقود السائل "الكاز" ويشعلونها.
وكان هناك نفر آخر من الأطفال والشبان يحملون هذه الشعلات ويطوفون في شوارع المدينة القديمة وأزقتها وهم ينشدون أناشيد دينية خاصة في المناسبة ترافقهم في كثير من الأحيان "العدة"، وهي مجموعة من الشيوخ المنتمين إلى الزاوية الصوفية فيحملون الطبول والصاجات والسيوف والرايات ويطوفون في طرقات المدينة وقصباتها وهم يقرعون هذه الطبول والصاجات حتى ساعات متأخرة من الليل.
يقول الكاتب محمد عزة دروزة في كتابه "مذكرات وتسجيلات مئة عام فلسطينية" عن ليلة الشعلة: "إن القدماء كانوا يروون عنها قصصًا، بأن الله يقسم أرزاق الناس وأعمارهم للسنة الجديدة في هذه الليلة..
ويضيف أن هذا الاعتقاد جعل دائرة الأوقاف وقتها توظف أشخاصًا بمرتبات سنوية زهيدة عليهم أن يقوموا بدعاء ليلة النصف من شعبان ويبتهلون للمسلمين بعد صلاة المغرب في المساجد، على أن يتغمدهم الله برحمته وتيسيره".
الشعبونية الحالية:
بالطبع فإن الشعبونية ليست فرضًا، ولكنها عادة أصبحت تقليدًا وما زالت نابلس تؤديها وإن تطورت حيثياتها وأشكالها، إذ إن هناك من العائلات من تقدم المال أو الهدايا لبناتها أو القريبات الأخريات عوضا عن الشعبونية.
رغم طبيعة الحياة وتسارعها ما زال أهل نابلس متعلقين بهذه العادة، وما زال كثير من العائلات يدعون أقاربهم لتناول طعام الغداء في شعبان، لكنها اختلفت في كونها باتت تقتصر على يوم الجمعة، فبعد الصلاة يجتمعون في بيت الداعي يتناولون الأطعمة المقدمة وينتظرون الكنافة ولا تكاد الشمس تغرب حتى يعود الجميع إلى بيوتهم..
ولكم تحيات
ماجد البلوي