نواف النجيدي
04-01-2006, 02:16 PM
ثلاثة يمكن أن نعتد برأيهم ، ونطمئن إلى حكمهم على صلاح الدين ؛ لأنهم عاشروه،
ولازموه، وكانوا أعرف الناس به وبشمائله : هؤلاء الثلاثة هم: القاضي الفاضل ،
والقاضي بهاء الدين بن شداد ، والكاتب الشاعر عماد الدين الأصفهاني . وإذا ذهبت
تقرأ ما كتبه هؤلاء الثلاثة عن السلطان ، فستقف معهم مبهوتا مأخوذا بعظمته ، مؤمنا
بأن الشرق في وقت من الأوقات لم يكن يصلح له إلا رجل له نفس كنفسه ، وعزيمة كعزيمته
. فما هي بعض نواحي العظمة في هذا السلطان ؟ وأيها أولى من سواها بزيادة الإعجاب
والإعظام ؟
قد تقرأ كثيرا من نوابغ الحرب ، وقد تعجب كثيرا بما يظهرونه من الشجاعة والصبر ،
ولكنك لم تسمع بعد إلا في فترات قليلة بالطبع أن جنديا جمع إلى نبوغه في ميدان
القتال نبوغا في ميدان الأخلاق ، وبحسبك أن تعلم أن صلاح الدين كان هو الرجل الذي
بنى حياته الحربية كلها على الوفاء ، وأنه كان أبعد الناس عن الطرق التي توصف
بالغمــوض والالتواء .
وقد تقرأ كثيرا عن مشهوري الملوك ، وتعجب أحيانا بما يظهرونه من التواضع والنبل
وكرم السلوك أن ملكا مهما بلغت سماحته ، وحكم عليه تواضعه أن أخضع نفسه للقانون ،
وسوى في ذلك بينه وبين خصمه ، وإن كان خصمه من أصغر أبناء الشعب .
الحق لقد كان السلطان الناصر صلاح الدين ملكا تجتمع فيه كل هذه الخصال ، بل رجلا
يمكن أن تكون سيرته مثلا عاليا لكل واحدة من هذه الخصال ، فلا تزنه فقط بواحد من
عظماء التاريخ ، وإنما زنه بثلاثة أو أربعة منهم ، يختص كل عظيم منهم بناحية من
نواحي العظمة لا يشركه فيها أحد سواه .
ومن أمثلة تواضعه ما ذكره ابن شداد بقوله : - قيل إن رجلا من خدم السلطان رمى رجلا
آخر مثله بحذاء كان في يده ، فاجتاز الحذاء الخادم إلى السلطان نفسه في خيمته . فما
كان من السلطان إلا أن أدار وجهه ، وانتحى به ناحية أخرى كي لا يحرجهما. إلى أن
ابتعدا عنه حياء وخجلا منه !
هذا في زمن السلم : أما في أوقات الحرب فبحسبنا أن نعلم أن هذا السلطان كان ينقل
الحجارة بيده ، ويحمل التراب على كتفه ، لا فرق في ذلك بينه وبين سائر الجند ، ولقد
أورد الكتاب والأدباء أمثلة كثيرة على رأفته ورحمته على الفقراء والنساء والأطفال
والعجزة في يوم حطين ما يكفي للدلالة على نبله إلى الحد الذي لايبلغه أحد سواه .
وقد ينسى له أعداؤه كل شيء ، ولكنهم لا يستطيعون أن ينسوا له كرمه ومروءته ، واتساع
إنسانيته ، وذلك حين سمع بمرض عدوه اللدود ريتشارد قلب الأسد ، فأبت رحمته وشفقته
إلا أن يبعث إليه بطبيبه الخاص . ومعه كل ما يستطيع أن يحمله من الدواء والعقاقير .
على أن الحياة نفسها لم تكن في نظر الرجل عدوا يؤسر ، وبلادا تقهر ، وحصونا تنهار،
وحروبا تثار ، وإنما الحياة الصحيحة عنده هي كذلك علم ينشر ، وأدب يزهر ، وعقيدة
تظهر وتتطهر ، ومن هنا جاء فضله على الحضارة الإسلامية والعقل الإسلامي في العصور
الوسطى .
لقد كان متمسكا بالسنة إلى أبعد حد ، فكان يكره الفاطميين ، ويبغض الفلاسفة من
قلبه فقد قتل السهروردي حتى لا ينفذ سمه إلى العقيدة ، ويشكك في عقيدة أهل السنة .
أما ميوله الأدبية فقد ظهرت في حبه الشعر ، وتشجيعه للشعراء ، واستحسانه لما يسمع
منه ، وتأثره وانفعاله بهذا الذي يسمع . بل قيل إن ديوان الحماسة لأبي تمام كان من
حفظه ، وكان كثيرا ما ينشد بعض قصائده .
ومن الأبيات التي كانت تعجبه ، قول الشاعر في خضاب الشيب :
وما خضب الناس البياض لقبحه
فأقبح منه حين يظهر ناصله
ولكنه مات الشباب فسودت
على الرسم من حزن عليه منازله
وكان إذا قال : ولكنه مات الشباب : أمسك كريمته بيده، ونظر إليها وهو يقول : أي
والله مات الشباب !!
وبتلك الأخلاق التي اشتهر بها الملك الناصر صلاح الدين، وبهذه السيرة التي عرفها
المسلمون والصليبيون ، أصبحت شخصية جذابة استطاعت أن تؤثر في الخلقين الشرقي
والأوربي . فأما الخلق الشرقي فقد شاع فيه الميل إلى التضحية وإنكار الذات ، وساده
نوع من الزهد واستصغار شأن الدنيا . وأما الخلق الأوربي فقد تلخص عندهم في -نظام
الفروسية - . وهو نظام أخذه الأوربيون باعترافهم عن المسلمين في أثناء الحروب
الصليبية.
وفي وفاة هذا السلطان العظيم يقول ابن شداد : -غاب ذهن السلطان في تلك الليلة وإلى
جانبه الشيخ أبو جعفر يتلو القرآن ، فلما انتهى إلى قوله تعالى - هو الله الذي لا
إله إلا هو عالم الغيب والشهادة- سمعه يقول : صحيح. صحيح . ثم لما أتى قوله تعالى :
-لا إله إلا هو عليه توكلت- تهلل وجهه بالبشر وسلم روحه إلى بارئها ! وتجهز الناس
لدفن السلطان ، فدفنوه بقلعة دمشق ، ووقفوا يبكونه بكاء مرّا .
منـــــــــــــــــــــــــــقول من طريق الأيمــــان
ولازموه، وكانوا أعرف الناس به وبشمائله : هؤلاء الثلاثة هم: القاضي الفاضل ،
والقاضي بهاء الدين بن شداد ، والكاتب الشاعر عماد الدين الأصفهاني . وإذا ذهبت
تقرأ ما كتبه هؤلاء الثلاثة عن السلطان ، فستقف معهم مبهوتا مأخوذا بعظمته ، مؤمنا
بأن الشرق في وقت من الأوقات لم يكن يصلح له إلا رجل له نفس كنفسه ، وعزيمة كعزيمته
. فما هي بعض نواحي العظمة في هذا السلطان ؟ وأيها أولى من سواها بزيادة الإعجاب
والإعظام ؟
قد تقرأ كثيرا من نوابغ الحرب ، وقد تعجب كثيرا بما يظهرونه من الشجاعة والصبر ،
ولكنك لم تسمع بعد إلا في فترات قليلة بالطبع أن جنديا جمع إلى نبوغه في ميدان
القتال نبوغا في ميدان الأخلاق ، وبحسبك أن تعلم أن صلاح الدين كان هو الرجل الذي
بنى حياته الحربية كلها على الوفاء ، وأنه كان أبعد الناس عن الطرق التي توصف
بالغمــوض والالتواء .
وقد تقرأ كثيرا عن مشهوري الملوك ، وتعجب أحيانا بما يظهرونه من التواضع والنبل
وكرم السلوك أن ملكا مهما بلغت سماحته ، وحكم عليه تواضعه أن أخضع نفسه للقانون ،
وسوى في ذلك بينه وبين خصمه ، وإن كان خصمه من أصغر أبناء الشعب .
الحق لقد كان السلطان الناصر صلاح الدين ملكا تجتمع فيه كل هذه الخصال ، بل رجلا
يمكن أن تكون سيرته مثلا عاليا لكل واحدة من هذه الخصال ، فلا تزنه فقط بواحد من
عظماء التاريخ ، وإنما زنه بثلاثة أو أربعة منهم ، يختص كل عظيم منهم بناحية من
نواحي العظمة لا يشركه فيها أحد سواه .
ومن أمثلة تواضعه ما ذكره ابن شداد بقوله : - قيل إن رجلا من خدم السلطان رمى رجلا
آخر مثله بحذاء كان في يده ، فاجتاز الحذاء الخادم إلى السلطان نفسه في خيمته . فما
كان من السلطان إلا أن أدار وجهه ، وانتحى به ناحية أخرى كي لا يحرجهما. إلى أن
ابتعدا عنه حياء وخجلا منه !
هذا في زمن السلم : أما في أوقات الحرب فبحسبنا أن نعلم أن هذا السلطان كان ينقل
الحجارة بيده ، ويحمل التراب على كتفه ، لا فرق في ذلك بينه وبين سائر الجند ، ولقد
أورد الكتاب والأدباء أمثلة كثيرة على رأفته ورحمته على الفقراء والنساء والأطفال
والعجزة في يوم حطين ما يكفي للدلالة على نبله إلى الحد الذي لايبلغه أحد سواه .
وقد ينسى له أعداؤه كل شيء ، ولكنهم لا يستطيعون أن ينسوا له كرمه ومروءته ، واتساع
إنسانيته ، وذلك حين سمع بمرض عدوه اللدود ريتشارد قلب الأسد ، فأبت رحمته وشفقته
إلا أن يبعث إليه بطبيبه الخاص . ومعه كل ما يستطيع أن يحمله من الدواء والعقاقير .
على أن الحياة نفسها لم تكن في نظر الرجل عدوا يؤسر ، وبلادا تقهر ، وحصونا تنهار،
وحروبا تثار ، وإنما الحياة الصحيحة عنده هي كذلك علم ينشر ، وأدب يزهر ، وعقيدة
تظهر وتتطهر ، ومن هنا جاء فضله على الحضارة الإسلامية والعقل الإسلامي في العصور
الوسطى .
لقد كان متمسكا بالسنة إلى أبعد حد ، فكان يكره الفاطميين ، ويبغض الفلاسفة من
قلبه فقد قتل السهروردي حتى لا ينفذ سمه إلى العقيدة ، ويشكك في عقيدة أهل السنة .
أما ميوله الأدبية فقد ظهرت في حبه الشعر ، وتشجيعه للشعراء ، واستحسانه لما يسمع
منه ، وتأثره وانفعاله بهذا الذي يسمع . بل قيل إن ديوان الحماسة لأبي تمام كان من
حفظه ، وكان كثيرا ما ينشد بعض قصائده .
ومن الأبيات التي كانت تعجبه ، قول الشاعر في خضاب الشيب :
وما خضب الناس البياض لقبحه
فأقبح منه حين يظهر ناصله
ولكنه مات الشباب فسودت
على الرسم من حزن عليه منازله
وكان إذا قال : ولكنه مات الشباب : أمسك كريمته بيده، ونظر إليها وهو يقول : أي
والله مات الشباب !!
وبتلك الأخلاق التي اشتهر بها الملك الناصر صلاح الدين، وبهذه السيرة التي عرفها
المسلمون والصليبيون ، أصبحت شخصية جذابة استطاعت أن تؤثر في الخلقين الشرقي
والأوربي . فأما الخلق الشرقي فقد شاع فيه الميل إلى التضحية وإنكار الذات ، وساده
نوع من الزهد واستصغار شأن الدنيا . وأما الخلق الأوربي فقد تلخص عندهم في -نظام
الفروسية - . وهو نظام أخذه الأوربيون باعترافهم عن المسلمين في أثناء الحروب
الصليبية.
وفي وفاة هذا السلطان العظيم يقول ابن شداد : -غاب ذهن السلطان في تلك الليلة وإلى
جانبه الشيخ أبو جعفر يتلو القرآن ، فلما انتهى إلى قوله تعالى - هو الله الذي لا
إله إلا هو عالم الغيب والشهادة- سمعه يقول : صحيح. صحيح . ثم لما أتى قوله تعالى :
-لا إله إلا هو عليه توكلت- تهلل وجهه بالبشر وسلم روحه إلى بارئها ! وتجهز الناس
لدفن السلطان ، فدفنوه بقلعة دمشق ، ووقفوا يبكونه بكاء مرّا .
منـــــــــــــــــــــــــــقول من طريق الأيمــــان