أحمد بن حمودالعرادي
06-11-2006, 11:51 AM
البطل ..
لم يكن أبو عبد الله يختلف كثيراًُ عن بقية أصدقائي .. لكنه – والله يشهد – من أحرصهم على الخير ..
له عدة نشاطات دعوية من أبرزها ما يقوم به أثناء عمله .. فهو يعمل مترجما في معهد الصم البكم ..
اتصل بي يوما وقال : ما رأيك أن أحضر إلى مسجدك اثنين من منسوبي معهد الصم لإلقاء كلمة على المصلين ..
تعجبت !! وقلت : صم يلقون كلمة على ناطقين ؟
قال : نعم .. وليكن مجيئنا يوم الأحد ..
انتظرت يوم الأحد بفارغ الصبر .. وجاء الموعد ..
وقفت عند باب المسجد أنتظر .. فإذا بأبي عبد الله يقبل بسيارته ..
وقف قريباً من الباب .. نزل ومعه رجلان .. أحدهما كان يمشي بجانبه ..
والثاني قد أمسكه أبو عبد الله يقوده بيده ..
نظرت إلى الأول فإذا هو أصم أبكم .. لا يسمع ولا يتكلم .. لكنه يرى ..
والثاني أصم .. أبكم .. أعمى .. لا يسمع ولا يتكلم ولا يرى ..
مددت يدي وصافحت أبا عبد الله ..
كان الذي عن يمينه – وعلمت بعدها أن اسمه أحمد - ينظر إليّ مبتسماً .. فمددت يدي إليه مصافحاً ..
فقال لي أبو عبد الله - وأشار إلى الأعمى - :
سلم أيضاً على فايز .. قلت : السلام عليكم .. فايز ..
فقال أبو عبد الله : أمسك يده .. هو لا يسمعك ولا يراك ..
جعلت يدي في يده .. فشدني وهز يدي ..
دخل الجميع المسجد .. وبعد الصلاة جلس أبو عبد الله على الكرسي وعن يمينه أحمد .. وعن يساره فايز .. كان الناس ينظرون مندهشين .. لم يتعودوا أن يجلس على كرسي المحاضرات أصم ..التفت أبو عبد الله إلى أحمد وأشار إليه ..
فبدأ أحمد يشير بيديه .. والناس ينظرون .. لم يفهموا شيئاً ..
فأشرت إلى أبي عبد الله .. فاقترب إلى مكبر الصوت وقال :
أحمد يحكي لكم قصة هدايته .. ويقول لكم .. ولدت أصم .. ونشأت في جدة .. وكان أهلي يهملونني .. لا يلتفتون إليّ .. كنت أرى الناس يذهبون إلى المسجد .. ولا أدري لماذا ! أرى أبي أحياناً يفرش سجادته ويركع ويسجد .. ولا أدري ماذا يفعل ..
وإذا سألت أهلي عن شيء .. احتقروني ولم يجيبوني ..
ثم سكت أبو عبد الله والتفت إلى أحمد وأشار له ..
فواصل أحمد حديثه .. وأخذ يشير بيديه .. ثم تغير وجهه .. وكأنه تأثر ..
خفض أبو عبد الله رأسه ..ثم بكى أحمد .. وأجهش بالبكاء ..
تأثر كثير من الناس .. لا يدرون لماذا يبكي ..واصل حديثه وإشاراته بتأثر .. ثم توقف ..فقال أبو عبد الله : أحمد يحكي لكم الآن فترة التحول في حياته .. وكيف أنه عرف الله والصلاة بسبب شخص في الشارع عطف عليه وعلمه .. وكيف أنه لما بدأ يصلي شعر بقدر قربه من الله .. وتخيل الأجر العظيم لبلائه .. وكيف أنه ذاق حلاوة الإيمان ..
ومضى أبو عبد الله يحكي لنا بقية قصة أحمد ..
كان أكثر الناس مشدوداً متأثراً ..
لكني كنت منشغلاً .. أنظر إلى أحمد تارة .. وإلى فايز تارة أخرى .. وأقول في نفسي .. هاهو أحمد يرى ويعرف لغة الإشارة .. وأبو عبد الله يتفاهم معه بالإشارة .. ترى كيف سيتفاهم مع فايز .. وهو لا يرى ولا يسمع ولا يتكلم ..!!
انتهى أحمد من كلمته .. ومضى يمسح بقايا دموعه ..
التفت أبو عبد الله إلى فايز ..
قلت في نفسي : هه ؟؟ ماذا سيفعل ؟!!
ضرب أبو عبد الله بأصابعه على ركبة فايز .. فانطلق فايز كالسهم .. وألقى كلمة مؤثرة ..تدري كيف ألقاها ؟
بالكلام ؟ كلا .. فهو أبكم .. لا يتكلم ..
بالإشارة ؟ كلا .. فهو أعمى .. لم يتعلم لغة الإشارة ..
ألقى الكلمة بـ ( اللمس ) .. نعم باللمس .. يجعل أبو عبد الله ( المترجم ) يده بين يدي فايز .. فيلمسه فايز لمسات معينة .. يفهم منها المترجم مراده .. ثم يمضي يحكي لنا ما فهمه من فايز .. وقد يستغرق ذلك ربع ساعة ..
وفايز ساكن هادئ لا يدري هل انتهى المترجم أم لا .. لأنه لا يسمع ولا يرى ..
فإذا انتهى المترجم من كلامه .. ضرب ركبة فايز .. فيمد فايز يديه ..
فيضع المترجم يده بين يديه .. ثم يلمسه فايز للمسات أخر ..
ظل الناس يتنقلون بأعينهم بين فايز والمترجم .. بين عجب تارة .. وإعجاب أخرى ..
وجعل فايز يحث الناس على التوبة .. كان أحياناً يمسك أذنيه .. وأحياناً لسانه .. وأحياناً يضع كفيه على عينيه ..
فإذا هو يأمر الناس بحفظ الأسماع والأبصار عن الحرام ..
كنت أنظر إلى الناس .. فأرى بعضهم يتمتم : سبحان الله .. وبعضهم يهمس إلى الذي بجانبه .. وبعضهم يتابع بشغف .. وبعضهم يبكي ..
أما أنا فقد ذهبت بعيييييداً ..
أخذت أقارن بين قدراته وقدراتهم .. ثم أقارن بين خدمته للدين وخدمتهم ..
الهم الذي يحمله رجل أعمى أصم أبكم .. لعله يعدل الهم الذي يحمله هؤلاء جميعاً ..
والناس ألف منهم كواحد ** وواحد كالألف إن أمر عنا
رجل محدود القدرات .. لكنه يحترق في سبيل خدمة هذا الدين .. يشعر أنه جندي من جنود الإسلام .. مسئول عن كل عاص ومقصر ..
كان يحرك يديه بحرقة .. وكأنه يقول يا تارك الصلاة إلى متى ..؟ يا مطلق البصر في الحرام إلى متى ..؟ يا واقعاً في الفواحش ؟ يا آكلاً للحرام ؟ بل يا واقعاً في الشرك ؟
كلكم إلى متى .. أما يكفي حرب الأعداء لديننا .. فتحاربونه أنتم أيضاً !!
كان المسكين يتلون وجهه ويعتصر ليستطيع إخراج ما في صدره ..
تأثر الناس كثيراً .. لم ألتفت إليهم .. لكني سمعت بكاء وتسبيحات ..
انتهى فايز من كلمته .. وقام .. يمسك ابو عبد الله بيده ..
تزاحم الناس عليه يسلمون ..
كنت أراه يسلم على الناس .. وأحس أنه يشعر أن الناس عنده سواسيه ..
يسلم على الجميع .. لا يفرق بين ملك ومملوك .. ورئيس ومرؤوس ..وأمير ومأمور ..
يسلم عليه الأغنياء والفقراء .. والشرفاء والوضعاء .. والجميع عنده سواء ..
كنت أقول في نفسي ليت بعض النفعيين مثلك يا فايز ..
أخذ أبو عبد الله بيد فايز .. ومضى به خارجاً من المسجد ..
أخذت أمشي بجانبهما .. وهما متوجهان للسيارة ..
والمترجم وفايز يتمازحان في سعادة غامرة ..
آآآه ما أحقر الدنيا .. كم من أحد لم يصب بربع مصابك يا فايز ولم يستطع أن ينتصر على الضيق والحزن ..
أين أصحاب الأمراض المزمنة .. فشل كلوي .. شلل .. جلطات .. سكري .. إعاقات .. لماذا لا يستمتعون بحياتهم .. ويتكيفون مع واقعهم ..
ما أجمل أن يبتلي الله عبده ثم ينظر إلى قلبه فيراه شاكراً راضياً محتسباً ..
مرت الأيام .. ولا تزال صورة فايز مرسومة أمام ناظري ..
التقيت بأبي عبد الله بعدها .. فسألته عن فايز ..
فقال : آآآه .. هذا الرجل الأعمى له أعاجيب .. قلت : كيف ..
قال : في حياتي لم أر أحرص على الصلاة من فايز ..
فايز من منطقة خارج الرياض .. وقد جعلنا له غرفة صغيرة في معهد الصم يسكن فيها .. ووكلنا أحد العمال يهتم به .. يطبخ طعامه .. يوقظه للصلاة ..
كان العامل يأتي إليه عند كل صلاة .. يفتح الباب .. يحركه ..
فيقوم فايز ويتوضأ .. وينتظر في الأسفل عند باب المعهد ليأخذ العامل بيده إلى الصلاة ..
أحياناً يتأخر العامل .. فيضرب فايز الباب يستعجله .. فإذا تأخر العامل وخاف فايز فوات الصلاة مشى إلى المسجد .. وبينه وبين المسجد شارعان متواجهان .. يمشي وهو يلوح بيديه لأجل أن يراه أصحاب السيارات – إن كان هناك سيارات –
وكم من سيارات تصادمت بسببه .. وهو لا يدري عنهم ..
فايز له أعاجيب ..
في إحدى المرات جئت إلى المعهد عصراً فإذا مجموعة من الصم ينتظروني عند باب المعهد .. ويشيرون بأن فايز عنده مشكلة ..
أقبلت إلى فايز .. فلما رأيته فإذا هو غضباااان .. قد ألقى غترته جانباً .. ويشير بيديه ..والصم لا يفهونه ..
فلما وضعت يدي في يده .. عرفني .. فشد يدي .. وجعل يلمسني لمسات معينة .. ثم لمسته مثلها .. وسكن غضبه ..تدري ما الذي أغضبه ؟!
في فجر ذلك اليوم .. فاتته الصلاة مع الجماعة ..
وكان يقول : افصلوا هذا العامل .. استبدلوه بغيره ..
ويدافع عبراته .. وأنا أسكن غضبه ..
فرحم الله فايز .. ورحمنا ..
الدكتور الشيخ / محمد العريفي
لم يكن أبو عبد الله يختلف كثيراًُ عن بقية أصدقائي .. لكنه – والله يشهد – من أحرصهم على الخير ..
له عدة نشاطات دعوية من أبرزها ما يقوم به أثناء عمله .. فهو يعمل مترجما في معهد الصم البكم ..
اتصل بي يوما وقال : ما رأيك أن أحضر إلى مسجدك اثنين من منسوبي معهد الصم لإلقاء كلمة على المصلين ..
تعجبت !! وقلت : صم يلقون كلمة على ناطقين ؟
قال : نعم .. وليكن مجيئنا يوم الأحد ..
انتظرت يوم الأحد بفارغ الصبر .. وجاء الموعد ..
وقفت عند باب المسجد أنتظر .. فإذا بأبي عبد الله يقبل بسيارته ..
وقف قريباً من الباب .. نزل ومعه رجلان .. أحدهما كان يمشي بجانبه ..
والثاني قد أمسكه أبو عبد الله يقوده بيده ..
نظرت إلى الأول فإذا هو أصم أبكم .. لا يسمع ولا يتكلم .. لكنه يرى ..
والثاني أصم .. أبكم .. أعمى .. لا يسمع ولا يتكلم ولا يرى ..
مددت يدي وصافحت أبا عبد الله ..
كان الذي عن يمينه – وعلمت بعدها أن اسمه أحمد - ينظر إليّ مبتسماً .. فمددت يدي إليه مصافحاً ..
فقال لي أبو عبد الله - وأشار إلى الأعمى - :
سلم أيضاً على فايز .. قلت : السلام عليكم .. فايز ..
فقال أبو عبد الله : أمسك يده .. هو لا يسمعك ولا يراك ..
جعلت يدي في يده .. فشدني وهز يدي ..
دخل الجميع المسجد .. وبعد الصلاة جلس أبو عبد الله على الكرسي وعن يمينه أحمد .. وعن يساره فايز .. كان الناس ينظرون مندهشين .. لم يتعودوا أن يجلس على كرسي المحاضرات أصم ..التفت أبو عبد الله إلى أحمد وأشار إليه ..
فبدأ أحمد يشير بيديه .. والناس ينظرون .. لم يفهموا شيئاً ..
فأشرت إلى أبي عبد الله .. فاقترب إلى مكبر الصوت وقال :
أحمد يحكي لكم قصة هدايته .. ويقول لكم .. ولدت أصم .. ونشأت في جدة .. وكان أهلي يهملونني .. لا يلتفتون إليّ .. كنت أرى الناس يذهبون إلى المسجد .. ولا أدري لماذا ! أرى أبي أحياناً يفرش سجادته ويركع ويسجد .. ولا أدري ماذا يفعل ..
وإذا سألت أهلي عن شيء .. احتقروني ولم يجيبوني ..
ثم سكت أبو عبد الله والتفت إلى أحمد وأشار له ..
فواصل أحمد حديثه .. وأخذ يشير بيديه .. ثم تغير وجهه .. وكأنه تأثر ..
خفض أبو عبد الله رأسه ..ثم بكى أحمد .. وأجهش بالبكاء ..
تأثر كثير من الناس .. لا يدرون لماذا يبكي ..واصل حديثه وإشاراته بتأثر .. ثم توقف ..فقال أبو عبد الله : أحمد يحكي لكم الآن فترة التحول في حياته .. وكيف أنه عرف الله والصلاة بسبب شخص في الشارع عطف عليه وعلمه .. وكيف أنه لما بدأ يصلي شعر بقدر قربه من الله .. وتخيل الأجر العظيم لبلائه .. وكيف أنه ذاق حلاوة الإيمان ..
ومضى أبو عبد الله يحكي لنا بقية قصة أحمد ..
كان أكثر الناس مشدوداً متأثراً ..
لكني كنت منشغلاً .. أنظر إلى أحمد تارة .. وإلى فايز تارة أخرى .. وأقول في نفسي .. هاهو أحمد يرى ويعرف لغة الإشارة .. وأبو عبد الله يتفاهم معه بالإشارة .. ترى كيف سيتفاهم مع فايز .. وهو لا يرى ولا يسمع ولا يتكلم ..!!
انتهى أحمد من كلمته .. ومضى يمسح بقايا دموعه ..
التفت أبو عبد الله إلى فايز ..
قلت في نفسي : هه ؟؟ ماذا سيفعل ؟!!
ضرب أبو عبد الله بأصابعه على ركبة فايز .. فانطلق فايز كالسهم .. وألقى كلمة مؤثرة ..تدري كيف ألقاها ؟
بالكلام ؟ كلا .. فهو أبكم .. لا يتكلم ..
بالإشارة ؟ كلا .. فهو أعمى .. لم يتعلم لغة الإشارة ..
ألقى الكلمة بـ ( اللمس ) .. نعم باللمس .. يجعل أبو عبد الله ( المترجم ) يده بين يدي فايز .. فيلمسه فايز لمسات معينة .. يفهم منها المترجم مراده .. ثم يمضي يحكي لنا ما فهمه من فايز .. وقد يستغرق ذلك ربع ساعة ..
وفايز ساكن هادئ لا يدري هل انتهى المترجم أم لا .. لأنه لا يسمع ولا يرى ..
فإذا انتهى المترجم من كلامه .. ضرب ركبة فايز .. فيمد فايز يديه ..
فيضع المترجم يده بين يديه .. ثم يلمسه فايز للمسات أخر ..
ظل الناس يتنقلون بأعينهم بين فايز والمترجم .. بين عجب تارة .. وإعجاب أخرى ..
وجعل فايز يحث الناس على التوبة .. كان أحياناً يمسك أذنيه .. وأحياناً لسانه .. وأحياناً يضع كفيه على عينيه ..
فإذا هو يأمر الناس بحفظ الأسماع والأبصار عن الحرام ..
كنت أنظر إلى الناس .. فأرى بعضهم يتمتم : سبحان الله .. وبعضهم يهمس إلى الذي بجانبه .. وبعضهم يتابع بشغف .. وبعضهم يبكي ..
أما أنا فقد ذهبت بعيييييداً ..
أخذت أقارن بين قدراته وقدراتهم .. ثم أقارن بين خدمته للدين وخدمتهم ..
الهم الذي يحمله رجل أعمى أصم أبكم .. لعله يعدل الهم الذي يحمله هؤلاء جميعاً ..
والناس ألف منهم كواحد ** وواحد كالألف إن أمر عنا
رجل محدود القدرات .. لكنه يحترق في سبيل خدمة هذا الدين .. يشعر أنه جندي من جنود الإسلام .. مسئول عن كل عاص ومقصر ..
كان يحرك يديه بحرقة .. وكأنه يقول يا تارك الصلاة إلى متى ..؟ يا مطلق البصر في الحرام إلى متى ..؟ يا واقعاً في الفواحش ؟ يا آكلاً للحرام ؟ بل يا واقعاً في الشرك ؟
كلكم إلى متى .. أما يكفي حرب الأعداء لديننا .. فتحاربونه أنتم أيضاً !!
كان المسكين يتلون وجهه ويعتصر ليستطيع إخراج ما في صدره ..
تأثر الناس كثيراً .. لم ألتفت إليهم .. لكني سمعت بكاء وتسبيحات ..
انتهى فايز من كلمته .. وقام .. يمسك ابو عبد الله بيده ..
تزاحم الناس عليه يسلمون ..
كنت أراه يسلم على الناس .. وأحس أنه يشعر أن الناس عنده سواسيه ..
يسلم على الجميع .. لا يفرق بين ملك ومملوك .. ورئيس ومرؤوس ..وأمير ومأمور ..
يسلم عليه الأغنياء والفقراء .. والشرفاء والوضعاء .. والجميع عنده سواء ..
كنت أقول في نفسي ليت بعض النفعيين مثلك يا فايز ..
أخذ أبو عبد الله بيد فايز .. ومضى به خارجاً من المسجد ..
أخذت أمشي بجانبهما .. وهما متوجهان للسيارة ..
والمترجم وفايز يتمازحان في سعادة غامرة ..
آآآه ما أحقر الدنيا .. كم من أحد لم يصب بربع مصابك يا فايز ولم يستطع أن ينتصر على الضيق والحزن ..
أين أصحاب الأمراض المزمنة .. فشل كلوي .. شلل .. جلطات .. سكري .. إعاقات .. لماذا لا يستمتعون بحياتهم .. ويتكيفون مع واقعهم ..
ما أجمل أن يبتلي الله عبده ثم ينظر إلى قلبه فيراه شاكراً راضياً محتسباً ..
مرت الأيام .. ولا تزال صورة فايز مرسومة أمام ناظري ..
التقيت بأبي عبد الله بعدها .. فسألته عن فايز ..
فقال : آآآه .. هذا الرجل الأعمى له أعاجيب .. قلت : كيف ..
قال : في حياتي لم أر أحرص على الصلاة من فايز ..
فايز من منطقة خارج الرياض .. وقد جعلنا له غرفة صغيرة في معهد الصم يسكن فيها .. ووكلنا أحد العمال يهتم به .. يطبخ طعامه .. يوقظه للصلاة ..
كان العامل يأتي إليه عند كل صلاة .. يفتح الباب .. يحركه ..
فيقوم فايز ويتوضأ .. وينتظر في الأسفل عند باب المعهد ليأخذ العامل بيده إلى الصلاة ..
أحياناً يتأخر العامل .. فيضرب فايز الباب يستعجله .. فإذا تأخر العامل وخاف فايز فوات الصلاة مشى إلى المسجد .. وبينه وبين المسجد شارعان متواجهان .. يمشي وهو يلوح بيديه لأجل أن يراه أصحاب السيارات – إن كان هناك سيارات –
وكم من سيارات تصادمت بسببه .. وهو لا يدري عنهم ..
فايز له أعاجيب ..
في إحدى المرات جئت إلى المعهد عصراً فإذا مجموعة من الصم ينتظروني عند باب المعهد .. ويشيرون بأن فايز عنده مشكلة ..
أقبلت إلى فايز .. فلما رأيته فإذا هو غضباااان .. قد ألقى غترته جانباً .. ويشير بيديه ..والصم لا يفهونه ..
فلما وضعت يدي في يده .. عرفني .. فشد يدي .. وجعل يلمسني لمسات معينة .. ثم لمسته مثلها .. وسكن غضبه ..تدري ما الذي أغضبه ؟!
في فجر ذلك اليوم .. فاتته الصلاة مع الجماعة ..
وكان يقول : افصلوا هذا العامل .. استبدلوه بغيره ..
ويدافع عبراته .. وأنا أسكن غضبه ..
فرحم الله فايز .. ورحمنا ..
الدكتور الشيخ / محمد العريفي