نواف النجيدي
06-23-2006, 03:23 PM
الإمام ابن حزم
لم يعرف تاريخ الفقه من قبله رجلا كتب في الحب وأحوال العشاق بمثل هذه الرقة والعذوبة والصراحة، وجادل الفقهاء في الوقت نفسه بكل تلك الحدة والعنف والصرامة ..!
اجتمعت فيه صفات متناقضة: لين الطبع وسعة الأفق وعذوبة النفس، مع التشدد والتضييق وسرعة الانفعال، والتعصب لكل ما يعتقد أنه حق، ورفض ما عداه .. فهو يناقش كل وجوه النظر في المسائل، حتى إذا اطمأن إلى رأي، أدان كل مخالفيه بلا رحمة، وسخر بهم، وكال لهم الاتهامات، لا يراعي لهم فضلا ولا وقارا ..!
من أجل ذلك أحبه بعض الناس حتى تحدوا فيه حكام عصرهم، وكرهه آخرون حتى أهدروا فيه تعاليم الدين ومبادئ الأخلاق إذ أغروا به السلطان.!
يشهد مجالس الأنس، ويسمع مع ظرفاء عصره، ويستمع للغناء حتى يؤذن للفجر فينصرف للصلاة، ثم يعتكف النهار والليل بعد ذلك بعيداً عن السمار والظرفاء، يقرأ ويتأمل ويكتب، ثم يخرج ليحضر مجالس العلم يتلقى، ويحاور الشيوخ، ويعلم الطلاب.
ولد وعاش ومات في الأندلس ـ أجمل بلاد المسلمين وخيرها ـ في شر فترة من عصور التاريخ الإسلامي .. إذ كانت الدولة الإسلامية العظمى في الأندلس، قد تمزقت إلى دويلات صغيرة، فذهب زمن الخلفاء أولى العزم العماليق العظام، ليجيء بدلا منه عصر الحكام الأقزام، ليتصارعوا فيما بينهم، وليكيد كل واحد منهم لأخيه. ويعربد على دويلته فينقصها من أطرافها، ويحالف الفرنجة الطامعين في أن يستعيدوا الأندلس بأسره .. ومن هؤلاء الحكام الأقزام من رضى الدنية في دينه ودنياه، فأغرى الفرنج بالأموال الطائلة ليعينوه على أطماعه في الدويلات الإسلامية المجاورة الأخرى..!
وهكذا انطفأت منارات المعرفة في قرطبة، وهي التي تضيء لكل ما حولها وما يليها من بلاد أوربا، فأصبحت قرطبة عاصمة الدولة الكبرى في الأيام الزاهد الذاهبة، دويلة من الدويلات الإسلامية..! وانصرف أهل قرطبة من جد الأمور إلى هزلها ..
ونهبت خزائن الكتب في قرطبة، وهي خزائن لم يعرف لها التاريخ مثيلا من قبل .. وانصرف أهل قرطبة عن اقتناء الكتب كما تعودوا، إلى حيازة الجواري الحسان والغلمان!. وبعد أن كان الأثرياء يتنافسون على شراء الكتب الجديدة، حتى لقد كان المؤلفون في المشرق العربي ينشرون كتبهم في الأندلس، قبل أن تظهر في بلادهم، كما صنع صاحب الأغاني، بعد كل هذا أصبح الناس يتنافسون على شراء الجواري الشقراوات والغلمان من فرنا وإيطاليا والجزر المجاورة في المحيط والبحر الأبيض المتوسط.
وبدلا من التفنن في إقامة خزائن للكتب، تفننوا في بناء الأجنحة للجواري. وذوي فن النسخ وافتقر الناسخون، لتزدهر صناعة النخاسة ويثري النخاسون!. وأصبحت أسواق الأدب في متنزهات قرطبة مغاني للعشاق وخمائل للمتعة!
وإذ بالعقل العربي في الأندلس يهجر تقاليده الإسلامية في البحث والمغامرة واكتشاف المجهول وإغناء الحياة بالإضافات، ليسقط في الجمود والتقليد. وإذ بالناس يتخذون الشيوخ أولياء من دون الله، ويتشفعون بهم من دون العمل..!
وخلال هذا التحول كانت الفضائل تتهاوى، وقيم الإسلام تترنح، والباطل يغشى وجه الحياة، والإنسان الصادق يغترب .. والحق كسير!
وانطفأت الحمية .. وخبت الغيرة، وتزايل قدر الكتاب والشعراء والمفكرين ومهرة الصناع وأهل الفنون، المنتجة ليعلو مقام الجواري والغلمان والمخنثين والشذاذ..!
وخلال هذا كله يتناقل الناس قصة أمير في أشبيلية اشتهت إحدى نسائه أن تغوص بأقدامها في الطين، فأمر بأن تصنع لها بركة من المسك المعجون بالماء المعطر..! أنفق على هذه البركة ما يكفي لتجهيز جيش، حتى إذا أحاطت جيوش الفرنجة بأشبيلية والأمير ونساؤه يعبثون عراة في طين المسك لم يجد الأمير في خزائنه ما يتقوى به على الدفاع عن مدينته.!
وهكذا سقطوا في الطين .. المعطر!
وفي بعض نواحي الأندلس تقل المياه، وينقطع المطر فتجف الأرض، ويعطش الأحياء، وبدلا من أن يؤدي المسلمون صلاة الاستسقاء، عسى أن يستجيب لهم الله فيعم الماء، ليسقوا الأحياء والأرض، كانوا يتجهون إلى فلنسوة جلبها أسلافهم من الإمام مالك، ليستسقوا بها..!
ثم يتناقل الناس قصة رجل فاضل من أهل العم عشق جندياً حسن الطلعة من جيش الفرنجة الذي كان يحاصر إحدى المدن، فاستخلص الرجل الذي كان فاضلا هذا الجندي لنفسه، وأمره على قصره لينهي ويأمر فيه، وأباحه حريم القصر، لينال الرجل العالم من الجندي ما يريد..!
وحين كانت خزائن الدويلات خالية مما تتطلبه مؤنة الجيش، بنى أحد الأمراء قصرا ضخما وجلب له غرائب الأزهار والأشجار والطيور النادرة، وشق له نهرا صغيرا من قمة الجبل حيث تتراكم الثلوج في الشتاء لينحدر الماء إذا ذابت الثلوج، ويصب في جداول تتخلل حدائق القصر، وتنتهي إلى بحيرة صنع قاعها من الرخام الأزرق الفاخر الثمين، ورصعت شطآنها بالأحجار الكريمة! لتسبح فيها الجواري الشقراوات المجلوبات من جنوب فرنسا، على شعاع الشمس إذا كان النهار، وعلى ضوء القمر أو المصابيح الذهبية في ليالي الصيف..!
وسط هذا الجو الزاخر بصور رائعة من جمال الطبيعة، ومظاهر مؤسية من فساد المجتمع نشأ ابن حزم.
عاش في هذا المضطرب نحو اثنين وسبعين عاما .. اشتغل خلالها بالسياسة والأدب، والفقه، والشعر، وكابد الحياة والناس، وعرف المتاع والعذاب، وحاول أن يتعاطى الفلسفة والمنطق وعلوم الاجتماع والفلك والرياضة وعلم النفس وسماه بهذه الاسم، واحتك بمجتمعه، فصوره ورسم أعماقه ومفاسده ومظالمه، وهب في انفعال يرفض مجتمعه ذاك، ويحاول أن يهدم واقعه لينيبه من جديد!
وفي سبيل ذلك لم يكتف بالكتابة بل خاض غمرات الصراع السياسي واشترك في مغامرات عسكرية .. وعرف الحب والنعيم، وعرف الجوى، ولم يتحرج ـ وهو الفقيه الذي يتربص به أعداؤه ـ من التصريح بتجاربه ومشاهداته، في بيان مشرق عذب، لم يتكلف فيه تغطية العبارات والألفاظ ..
وترك مؤلفات كتبها بلغت عدتها أربعمائة بين كتب طوال ورسائل قصيرة كالمقالات .. ذلك أن ابن حزم كان حين يعكف على القراءة والكتابة لا يخرج عما أخذ فيه، ولا يسمح لأي ظرف مهما يكن خطره بأن يعطله!
وكثيرا ما كان يرفض الخروج من غرفة عمله، ويأمر برد زواره وقاصديه! ولقد أغضب بسلوكه ذاك. كثيرا من أصدقائه والمقربين إليه، ولكنه كان يعتذر إليهم إذا خرج من عمله يستروح، فلولا أنه يأخذ نفسه بالشدة في العمل، لما أتيح له أن ينجز شيئا .. والعمل عنده عبادة، ولئن اعتكف العابد ليتعبد، فما ينبغي أن يصرفه عن شأنه أي طارق حتى يفرغ مما هو فيه!
ولد علي بن احمد بن سعيد بن حزم، في آخر شهر رمضان قبيل شروق يوم عيد الفطر عام 384 هـ، في قرطبة حاضرة ذلك الزمان. كان أبوه وزيراً للخليفة الأموي هشام المؤيد وهو من أواخر الخلفاء الأمويين في الأندلس .
لاتنسونا من الدعاء باركم الله فيكم
لم يعرف تاريخ الفقه من قبله رجلا كتب في الحب وأحوال العشاق بمثل هذه الرقة والعذوبة والصراحة، وجادل الفقهاء في الوقت نفسه بكل تلك الحدة والعنف والصرامة ..!
اجتمعت فيه صفات متناقضة: لين الطبع وسعة الأفق وعذوبة النفس، مع التشدد والتضييق وسرعة الانفعال، والتعصب لكل ما يعتقد أنه حق، ورفض ما عداه .. فهو يناقش كل وجوه النظر في المسائل، حتى إذا اطمأن إلى رأي، أدان كل مخالفيه بلا رحمة، وسخر بهم، وكال لهم الاتهامات، لا يراعي لهم فضلا ولا وقارا ..!
من أجل ذلك أحبه بعض الناس حتى تحدوا فيه حكام عصرهم، وكرهه آخرون حتى أهدروا فيه تعاليم الدين ومبادئ الأخلاق إذ أغروا به السلطان.!
يشهد مجالس الأنس، ويسمع مع ظرفاء عصره، ويستمع للغناء حتى يؤذن للفجر فينصرف للصلاة، ثم يعتكف النهار والليل بعد ذلك بعيداً عن السمار والظرفاء، يقرأ ويتأمل ويكتب، ثم يخرج ليحضر مجالس العلم يتلقى، ويحاور الشيوخ، ويعلم الطلاب.
ولد وعاش ومات في الأندلس ـ أجمل بلاد المسلمين وخيرها ـ في شر فترة من عصور التاريخ الإسلامي .. إذ كانت الدولة الإسلامية العظمى في الأندلس، قد تمزقت إلى دويلات صغيرة، فذهب زمن الخلفاء أولى العزم العماليق العظام، ليجيء بدلا منه عصر الحكام الأقزام، ليتصارعوا فيما بينهم، وليكيد كل واحد منهم لأخيه. ويعربد على دويلته فينقصها من أطرافها، ويحالف الفرنجة الطامعين في أن يستعيدوا الأندلس بأسره .. ومن هؤلاء الحكام الأقزام من رضى الدنية في دينه ودنياه، فأغرى الفرنج بالأموال الطائلة ليعينوه على أطماعه في الدويلات الإسلامية المجاورة الأخرى..!
وهكذا انطفأت منارات المعرفة في قرطبة، وهي التي تضيء لكل ما حولها وما يليها من بلاد أوربا، فأصبحت قرطبة عاصمة الدولة الكبرى في الأيام الزاهد الذاهبة، دويلة من الدويلات الإسلامية..! وانصرف أهل قرطبة من جد الأمور إلى هزلها ..
ونهبت خزائن الكتب في قرطبة، وهي خزائن لم يعرف لها التاريخ مثيلا من قبل .. وانصرف أهل قرطبة عن اقتناء الكتب كما تعودوا، إلى حيازة الجواري الحسان والغلمان!. وبعد أن كان الأثرياء يتنافسون على شراء الكتب الجديدة، حتى لقد كان المؤلفون في المشرق العربي ينشرون كتبهم في الأندلس، قبل أن تظهر في بلادهم، كما صنع صاحب الأغاني، بعد كل هذا أصبح الناس يتنافسون على شراء الجواري الشقراوات والغلمان من فرنا وإيطاليا والجزر المجاورة في المحيط والبحر الأبيض المتوسط.
وبدلا من التفنن في إقامة خزائن للكتب، تفننوا في بناء الأجنحة للجواري. وذوي فن النسخ وافتقر الناسخون، لتزدهر صناعة النخاسة ويثري النخاسون!. وأصبحت أسواق الأدب في متنزهات قرطبة مغاني للعشاق وخمائل للمتعة!
وإذ بالعقل العربي في الأندلس يهجر تقاليده الإسلامية في البحث والمغامرة واكتشاف المجهول وإغناء الحياة بالإضافات، ليسقط في الجمود والتقليد. وإذ بالناس يتخذون الشيوخ أولياء من دون الله، ويتشفعون بهم من دون العمل..!
وخلال هذا التحول كانت الفضائل تتهاوى، وقيم الإسلام تترنح، والباطل يغشى وجه الحياة، والإنسان الصادق يغترب .. والحق كسير!
وانطفأت الحمية .. وخبت الغيرة، وتزايل قدر الكتاب والشعراء والمفكرين ومهرة الصناع وأهل الفنون، المنتجة ليعلو مقام الجواري والغلمان والمخنثين والشذاذ..!
وخلال هذا كله يتناقل الناس قصة أمير في أشبيلية اشتهت إحدى نسائه أن تغوص بأقدامها في الطين، فأمر بأن تصنع لها بركة من المسك المعجون بالماء المعطر..! أنفق على هذه البركة ما يكفي لتجهيز جيش، حتى إذا أحاطت جيوش الفرنجة بأشبيلية والأمير ونساؤه يعبثون عراة في طين المسك لم يجد الأمير في خزائنه ما يتقوى به على الدفاع عن مدينته.!
وهكذا سقطوا في الطين .. المعطر!
وفي بعض نواحي الأندلس تقل المياه، وينقطع المطر فتجف الأرض، ويعطش الأحياء، وبدلا من أن يؤدي المسلمون صلاة الاستسقاء، عسى أن يستجيب لهم الله فيعم الماء، ليسقوا الأحياء والأرض، كانوا يتجهون إلى فلنسوة جلبها أسلافهم من الإمام مالك، ليستسقوا بها..!
ثم يتناقل الناس قصة رجل فاضل من أهل العم عشق جندياً حسن الطلعة من جيش الفرنجة الذي كان يحاصر إحدى المدن، فاستخلص الرجل الذي كان فاضلا هذا الجندي لنفسه، وأمره على قصره لينهي ويأمر فيه، وأباحه حريم القصر، لينال الرجل العالم من الجندي ما يريد..!
وحين كانت خزائن الدويلات خالية مما تتطلبه مؤنة الجيش، بنى أحد الأمراء قصرا ضخما وجلب له غرائب الأزهار والأشجار والطيور النادرة، وشق له نهرا صغيرا من قمة الجبل حيث تتراكم الثلوج في الشتاء لينحدر الماء إذا ذابت الثلوج، ويصب في جداول تتخلل حدائق القصر، وتنتهي إلى بحيرة صنع قاعها من الرخام الأزرق الفاخر الثمين، ورصعت شطآنها بالأحجار الكريمة! لتسبح فيها الجواري الشقراوات المجلوبات من جنوب فرنسا، على شعاع الشمس إذا كان النهار، وعلى ضوء القمر أو المصابيح الذهبية في ليالي الصيف..!
وسط هذا الجو الزاخر بصور رائعة من جمال الطبيعة، ومظاهر مؤسية من فساد المجتمع نشأ ابن حزم.
عاش في هذا المضطرب نحو اثنين وسبعين عاما .. اشتغل خلالها بالسياسة والأدب، والفقه، والشعر، وكابد الحياة والناس، وعرف المتاع والعذاب، وحاول أن يتعاطى الفلسفة والمنطق وعلوم الاجتماع والفلك والرياضة وعلم النفس وسماه بهذه الاسم، واحتك بمجتمعه، فصوره ورسم أعماقه ومفاسده ومظالمه، وهب في انفعال يرفض مجتمعه ذاك، ويحاول أن يهدم واقعه لينيبه من جديد!
وفي سبيل ذلك لم يكتف بالكتابة بل خاض غمرات الصراع السياسي واشترك في مغامرات عسكرية .. وعرف الحب والنعيم، وعرف الجوى، ولم يتحرج ـ وهو الفقيه الذي يتربص به أعداؤه ـ من التصريح بتجاربه ومشاهداته، في بيان مشرق عذب، لم يتكلف فيه تغطية العبارات والألفاظ ..
وترك مؤلفات كتبها بلغت عدتها أربعمائة بين كتب طوال ورسائل قصيرة كالمقالات .. ذلك أن ابن حزم كان حين يعكف على القراءة والكتابة لا يخرج عما أخذ فيه، ولا يسمح لأي ظرف مهما يكن خطره بأن يعطله!
وكثيرا ما كان يرفض الخروج من غرفة عمله، ويأمر برد زواره وقاصديه! ولقد أغضب بسلوكه ذاك. كثيرا من أصدقائه والمقربين إليه، ولكنه كان يعتذر إليهم إذا خرج من عمله يستروح، فلولا أنه يأخذ نفسه بالشدة في العمل، لما أتيح له أن ينجز شيئا .. والعمل عنده عبادة، ولئن اعتكف العابد ليتعبد، فما ينبغي أن يصرفه عن شأنه أي طارق حتى يفرغ مما هو فيه!
ولد علي بن احمد بن سعيد بن حزم، في آخر شهر رمضان قبيل شروق يوم عيد الفطر عام 384 هـ، في قرطبة حاضرة ذلك الزمان. كان أبوه وزيراً للخليفة الأموي هشام المؤيد وهو من أواخر الخلفاء الأمويين في الأندلس .
لاتنسونا من الدعاء باركم الله فيكم