نواف النجيدي
07-11-2006, 08:55 PM
خديجة بنت خويلد
(لا والله ما أبدلني الله خيرا منها .. آمنت بي إذ كفر الناس وصدقتني إذ كذبني الناس .. وواستني بمالها إذ حرمني الناس .. ورزقني الله منها الولد دون غيرها من النساء).
(محمد عليه الصلاة والسلام)
كانت مكة تعيش أيامها كما تعودت أن تعيش .. أيام رتيبة مملة .. وليال أكثر رتابة .. يتحدثون خلالها عما يجري في مجتمع مكة .. أو يرددون أشعار هذا أو ذاك من الشعراء .. وهو يمدح أو يذم كبيرا من كبرائهم .. فإذا زاد ضجرهم خرجوا يطوفون حول الكعبة يعظمون ما بها من أصنام.
في هذا المناخ نشأ محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم .. عرفته مكة .. جميل المحيا .. راجح العقل .. بليغ الكلمات .. قوي الحجة .. أمينا .. صادقا .. متكامل الصفات .. بعيدا تماما عن لهو شباب مكة وعبثهم .. لم يسجد لصنم قط..
والذين اقتربوا منه عرفوا عنه عزوفه التام عما كان يبهر غيره من الشباب، أما حرفته فهو رعي الغنم.. وسمته التفكر الطويل .. والتأمل في كل ما حوله من مظاهر الكون .. السماء وما فيها من نجوم .. والأرض ما فيها من جبال ووديان وسهول..
وذات يوم علم عمه أبو طالب أن خديجة بنت خويلد .. سيدة مكة الثرية الفاضلة والتي رفضت الزواج ممن تقدم إليها من كبار رجالات مكة لأنها خشيت أن يكون الزواج منها طمعا في أموالها، وكانت قد تزوجت مرتين من قبل.
علم أبو طالب بأنها تريد من يخرج ليتاجر لها في مالها في الشام وكانت تعطي له "زوجا" من الإبل نظير هذه المهمة .. فعرض عليها أن يقوم بهذه المهمة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم .. فوافقت السيدة الفاضلة وهي لا تكاد تصدق ما تسمع .. فقد سمعت عن محمد وعفته وطهارته وذكائه وأمانته الكثير .. وقررت أن تعطيه أربعة من الإبل عن رحلته تلك..
ووافق محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم أن يتاجر في مال السيدة خديجة، وأن يسافر إلي الشام في هذه المهمة .. فهو يحب السفر لأن السفر يتيح له أن يخلو إلي نفسه .. وأن يفرغ لتأملاته .. أنه سوف يسير في نفس الطريق الذي سلكه وهو يتجه نحو الشام مع عمه أبي طالب عندما كان صبيا .. حيث أنه سوف يمر على أديرة الرهبان .. وعلى بلاد طالما سمع عنها..
وأرسلت خديجة معه خادمها ميسرة .. واشترى لها محمد وباع .. وربحت تجارته .. بينما عاد ميسرة مبهورا بشخصية محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم .. الشاب الرزين .. صاحب الفكر العميق .. والكلمات التي تسيل رقة وعذوبة والذي أوتى جوامع الكلم..!
وعاد محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم فاستقبلته خديجة باحترام يليق بشخصية بالغة الإبهار .. واستمعت إلي ما يقوله عنه ميسرة بشغف وحب شديدين .. وربما لاحظت صديقتها (نفيسة بنت منية) مدى تعلقها بمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرت خديجة بأنه الشاب المناسب الجدير بالزواج منها..
وفهمت نفيسة أن رأيها لقي قبولا عند صديقتها واستأذنتها أن تفاتح محمدا في هذه الرغبة، على أن تكفيه خديجة المال .. وعرض محمد الأمر على عمه أبي طالب الذي سره ما أقدم عليه ابن أخيه وأمهره عشرين ناقة من ماله .. ويوم الخطبة وقف أبو طالب يلقي خطبة الزواج .. وقال مما قاله:
ـ "الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، ونسل إسماعيل وجعل لنا بيتا محجوبا وحرما آمنا وبعد: فإن محمدا ـ ابن أخي ـ شاب لا يوزن به فتى من قريش إلا زاد عليه شرفا وخلقا وعقلا، وأن كان قليل المال فالمال ظل زائل، وله في "خديجة بنت خويلد" رغبة ولها في مثل ذلك، وقد ساق محمد إليها عشرين ناقة مهرا".
وفي رواية أخرى أنه أمهرها اثنتي عشرة أوقبة ذهبا..
ورد على خطبة (أبو طالب) ابن عم خديجة ورقة بن نوفل فقال:
ـ "الحمد لله الذي جعلنا كما ذكرت، وفضلنا على مم عددت فنحن سادة العرب وقادتها، وأنتم أهل ذلك كله .. لا تنكر العشيرة فضلكم، ولا يرد أحد من الناس فخركم ولا شرفكم، وقد رغبنا في الاتصال بحبلكم وشرفكم، فاشهدوا يا معشر قريش بأني قد زوجت خديجة بنت خويلد من محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم".
وتقول الروايات أن عمرها عن تزويجها الرسول كان أربعين عاما وكان عمره خما وعشرين سنة.. وهكذا بدأ محمد حياته الجديدة .. فقد توافر له المال الذي يتيح له أن يبتعد عن الانغماس وراء الجري خلفه .. وأصبحت تأملاته وتفكره في ظواهر الحياة يشغل معظم أوقاته .. أنه يريد أن يستشف ما وراء هذا الكون..
وعندما شرعت مكة في إعادة بناء الكعبة وكان ذلك قبل البعثة بخمس سنوات .. اختلفوا فيمن يكون له شرف وضع الحجر الأسود مكانه .. حسم محمد هذا الصراع عندما احتكمت مكة لمن يكون أول من يدخل بيت الله الحرام .. وكان هذا الشخص الذي ساقته العدالة الإلهية حتى يوقف نزيفا من الدم ما كان ليتوقف لو اندلعت الحروب بين القبائل .. وكان رأيه أن يوضع الحجر الأسود في ثوب، وتشترك كل القبائل في حمل جزء من هذا الثوب .. وقام بوضع الحجر الأسود في مكانه .. وهكذا انتهت هذا الفتنة.
ويقول الرواة أن محمدا في حياته الجديدة، قد سعد بالاستقرار العائلي .. فخديجة سيدة موفورة العقل .. وعلى جانب كبير من الثراء .. وكان حبها لمحمد دافعا له أن توفر له ما يمكن أن يسعد الرجل .. ثم رفرفت السعادة على الدار عندما أنجبت "القاسم" .. وبعد عام وضعت "زينب" .. غير أن القاسم مات بعد سنة ونصف من عمره..!
وصبرت خديجة .. وصبر محمد لفقد القاسم .. غير أن خديجة أرادت أن تسري عن الرسول فوهبته أحد مواليها (زيد بن حارثة) وكان زيد قد سرقه البعض، وباعه في سوق عكاظ، واشتراه لخديجة ابن أخيها (حكيم بن حزام) .. وقد شعر هذا الغلام بحب محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم .. فآثره على الجميع حتى أن أهله عندما استدلوا عليه رفض العودة إليهم ليعيش عيشة الأحرار، مؤثرا البقاء بجانب محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
وعندما رأى محمد هذا الإخلاص من زيد أشهد الناس أن زيدا بمثابة ابنه وقال لهم:
ـ "يا من حضر من قريش وسائر العرب أشهدكم أن زيدا ابني يرثني وأرثه، وأنه حر أمره بيده"!
ومن هذه القصة نرى مدى الرحمة والعطف والتكامل في شخصية أعظم من سارت له على الأرض خطى. وكان محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم يتردد على غار حراء .. يطيل التأمل والتفكير .. فما أكثر ما سأل نفسه عن السماء .. وعن الأرض .. وما رواء كل هذا الكون المنسق البديع .. وما كنه هذه القوة العظمة التي تدبر أمور الكون..!
وشفت روحه حتى أن ما كان يراه في منامه يتحقق في الواقع .. ثم أخذ يرى أشياء غريبة عندما يخلو إلي نفسه .. فهو يرى نورا أو يسمع صوتا .. ولا يدري لذلك سببا .. حتى خشي على نفسه أن يكون قد ألم به شيء! أو يكون ذلك وسوسة من الجن، وعندما كان يعرض ما يراه .. وما يسمعه على زوجته العظيمة تقول له وهي تهدئ من روعه:
ـ "معاذ الله، ما كان الله ليفعل ذلك بك، فوالله إنك لتؤدي الأمانة، وتصل الرحم، وتصدق الحديث فلا تقترب منك الشياطين"!وتمضي الأيام ..
وبينما هو في غار حراء .. إذ هبط عليه جبريل ليخبره أنه مبعوث الله إلي خلقه .. وأنه خاتم الأنبياء، ثم أخذ يقرئه أول ما نزل من القرآن الكريم:
(اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم). ورأى جبريل وهو يرتفع بعدها إلي السماء..
وعاد محمد صلى الله عليه وسلم إلي منزله خائفا يرتجف .. وعندما قص على خديجة ما سمعه وما رآه قالت له:
ـ أبشر يا ابن العم واثبت، فوالله أني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة.
وذهبت خديجة إلي ابن عمها ورقة بن نوفل لتقص عليه ما قاله لها محمد .. وما كان من ورقة إلا أن صمت قليلا ثم أخذ يقول: قدوس .. قدوس.
والتفت إلي خديجة وقال لها:
ـ لئن كنت صدقتني يا خديجة لقد جاءه الملك الأكبر الذي كان يأتي موسى فقولي له فليثبت ولا يخشى شيئا".
وعادت خديجة .. لترى زوجها وقد تصبب العرق على وجهه بعد أن أفاق من نومه .. فقد جاءه الوحي .. وكانت كلمات الوحي:
ـ (يا أيها المدثر. قم فأنذر، وربك فكبر، وثيابك فطهر، والرجز فاهجر، ولا تمنن تستنكر ولربك فأصبر).
ولم يعد الأمر تخيلات .. أنه واقع جديد .. وأنه نبي هذه الأمة حقيقة لا شك فيها .. وأنه مبلغ رسالة خالدة خلود الحياة .. وبأن هذه الرسالة ستغير المسار الإنساني في الكون كله .. وليس في مكة وحدها .. ولم يعد هناك سوى تبليغ هذه الرسالة .. مهما كانت المصاعب التي سوف يصادفها .. وأن محمدا ليعرف معرفة اليقين أن الأمر ليس سهلا ولا هينا .. فأناس عاشوا على تقديس ما كان يعبد الأباء والأجداد من الصعب عليهم أن يصدقوا من جاء يقول لهم اعبدوا الله وحده لا شريك له .. وذروا عبادة الأصنام التي لا تنفع ولا تضر..
ومحمد يعرف تمام المعرفة أن هناك من سيحارب الدعوة لا لوضوحها ولا لصدق مبلغها ولكن حقد وكراهية أن يرتفع إنسان بالنبوة إلي مكانة تسمو على مكانة علية القوم في مكة..!
وهو يعلم تماما أن عقولا درجت على تقديس قيم وعادات بالية لا يمكن لهم بسهولة أن يستبدلوا بها فكرا جديدا .. وعقيدة جديدة .. محمد صلى الله عليه وسلم بذكائه الحاد يعرف كل ذلك ويعرف أن الطريق صعب للغاية .. فيقول لزوجته العظيمة:
ـ "قد انتهى يا خديجة عهد النوم والراحة، فقد أمرني ربي أن أنذر الناس، وأن أدعوهم إلي عبادة إله واحد .. فمن ذا أدعو ومن ذا يجيب؟!!".
وكانت خديجة أول من آمنت به من النساء .. وعندما سمع ورقة بن نوفل من الرسول صلى الله عليه وسلم ما رأى من أمور الوحي قال له:
ـ والله الذي نفسي بيده أنك لنبي هذه الأمة".
ثم قال له:
ـ ليتني أعيش لأنصرك حين يعاديك قومك ويخرجونك من بلدك!! ويدهش خاتم النبيين وهو يقول له:
ـ أيخرجونني من مكة؟!
قال له ورقة: ما جاء نبي برسالة من عند ربه مثل ما جئت به إلا عاداه قومه وأخرجوه من بلده .. ولئن أدركت هذا اليوم لأنصرنك نصرا مبينا!
وتمضي الأيام ..
تعلم قريش بالدعوة .. ولكنها لم تأبه بها في أول الأمر، فقد ظنوا أن الأمر لا يعدو أن تكون دعوة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم مثل الدعوات التي سبقته من أناس نبذوا عبادة الأصنام .. وعبدوا الله على دين النصارى .. أو تحدثوا في الحكمة من أمثال قيس بن ساعدة وأمية ابن الصلت وورقة بن نوفل .. ولكن ما كادت تمضي السنوات الثلاث الأولى من نزول الوحي حتى جاء الأمر الإلهي بأن يجاهر بالدعوة .. وأن يبدأ بعشيرته الأقربين.
ـ (وأنذر عشيرتك الأقربين، واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين. فإن عصوك فقل إني برئ مما تعملون).
ودعا محمد عشيرته إلي طعام في منزله .. وبعدها قال لهم:
ـ ما أعلم إنسانا في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به .. فقد جئتكم بخيري الدنيا والآخرة .. وقد أمرني ربي أن أدعوكم إليه فأيكم يؤاذرني على هذا الأمر؟
ولكن أهله انصرفوا مستهزئين بما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم .. وبعد ذلك بأيام صعد النبي عليه الصلاة والسلام وجمع أهل مكة يعرض عليهم الإسلام .. فلما التف حوله الناس وسمعوا من الرسول ما سمعوا صاح به عمه أبو لهب:
ـ تباً لك سائر هذا اليوم ألهذا جمعتنا؟!
ونزل قوله تعالى:
ـ (تبت يدا أبى لهب وتب، ما أغنى عنه ماله وما كسب. سيصلى نارا ذات لهب).
وبدأ الصراع بين قوى الشرك وبين دعوة الرسول الخاتم .. وخديجة رضي اله عنها تؤازر النبي بكل ما تملك من طاقة ومال .. وصدق الرسول العظيم عندما قال لأم المؤمنين خديجة .. وقد تهيأ لنشر نور الله:
ـ "انقضي يا خديجة عهد النوم والراحة، فقد أمرني جبريل أن أنذر الناس وأن أدعوهم إلي الله وعبادته، فمن ذا أدعوه؟ ومن ذا يستجيب لي؟
فما كان من خديجة العظيمة إلا أن ثبتت فؤاده .. ووقفت بجانبه .. لم تتخاذل .. ولم تجد مبررا يبعدها عن مجابهة طغيان مكة وعبثها مع زوجها العظيم .. أنها تعلم علم اليقين أن محمدا الصادق الأمين .. الذي لم يعرف عنه أحد من الناس خيانة لعهد، أو عبادة لصنم، أو حنثا في يمين .. لا يمكن لمثل هذا الإنسان الكامل في شمائله .. الذي لم يكذب على الناس، أن يكذب على الله..
من هنا فقد كرست حياتها للدفاع، عما يدعو إليه خاتم رسل الله .. وأخذت الدعوة تشق طريقها عندما أسلم أبو بكر من الرجال وعلى ابن أبي طالب من الأطفال، وبإسلام أبي بكر دخل الإسلام بعض أصدقائه ممن لهم مكانة في مكة من أمثال عثمان بن عفان .. وعبد الرحمن بن عوف .. وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وأبو عبيدة بن الجراح..
وإذا بمكة تثور ثائرتها..
وإذا بها تعلن حربا لا هوادة فيها على هذه الدعوة، وتعذب المستضعفين من المسلمين .. وإذا بشهداء يتساقطون (كياسر) وزوجته سمية .. وبينما يزداد طغيان أهل الكفر وعنادهم دخل في الإسلام شخصيات جديدة .. وأصبحت الدعوة نورا يبدد ظلمات الجهل والجاهلية .. زاد الطغيان .. كلما زاد النبي وصحابته تمسكا بالإيمان..
وجن جنون مكة .. وظهر الحسد واضحا في تصرفات سادتها فبعد أن عرفوا أن ما يدعو إليه محمد يرفع من القيم الإنسانية .. ويهدي إلي التي هي أقوم .. ولم يعد هناك خلاف حول ما يدعو إليه .. فهو يدعو إلي الطهر والاستقامة والبعد عن الفحشاء والمنكر .. وهذا ما يتطلبه الإيمان بالله الواحد الأحد الذي خلق كل هذا الوجود .. لم يعد في استطاعتهم إنكار ما جاء به من بيان واضح ورؤية واضحة .. فعمى الحقد والحسد قلوبهم .. حتى أن (الوليد بن المغيرة) قال:
ـأينزل القرآن على محمد وأترك أنا كبير قريش وسيدها، ويترك أبو مسعود عمروا بن عمير الثقفي سيد ثقيف ونحن عظيما القريتينوينزل قوله تعالى:
{وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم، أهم يقسون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا}
.. وقال أبو جهل هو يعبر عما يمتلئ به قلبه من حسد:
ـ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف .. أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا .. وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا الركب وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك مثل هذه؟ والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه؟!
ومن هذا الكلام يتضح مدى عداوتهم للدعوة الجديدة بدافع من الغيرة والحسد، أن يأتي من بني هاشم نبي، فيزدادوا شرفا بهذه النبوة، وتسمو مكانتهم على مكانتهم!!
شقت الدعوة طريقها رغم الحصار .. والتعذيب .. والسخرية من الداعي والدعوة .. ويشت مكة تماما من أن تثني محمدا عن عزمه .. وكانت أم المؤمنين خديجة بجانبه .. ترعى أولاده، وتسهر على راحته .. وكانت قد رزقت منه قبل المبعث بالقاسم الذين مات صغيرا .. وزينب ورقية وأم كلثوم، وفاطمة، وجاء "عبد الله" بعد المبعث ومات بعد فترة قصيرة..
وقد تزوجت "زينب" بنت الرسول أبا العاص بن الربيع .. وهو ابن أخت خديجة .. كما أن "عتبة وعتيبة" ابني أبي لهب كانا قد خطبا ابنتي الرسول الكريم (رقية وأم كلثوم) وهناك روايات تقول أنهما تزوجا من كريمتي الرسول وأرغمتها أمهما أم جميل على تطليقهما عندما نادى الرسول بالإسلام .. وهناك من يقول أنهما خطبا لابني أبي لهب .. وعندما أعلن النبي الدعوة أرغمها أبو لهب على أن يطلقا ابنتي الرسول .. فتزوجت رقية وكانت شبيهة بأمها من عثمان بن عفان رضي الله عنه وقد عاشت رقية مع زوجها، وهاجرت معه إلي الحبشة في هجرته إليها، كما هاجرت معه عندما هاجر إلي المدينة وقد انتقلت رقية إلي جوار ربها عند عودة المسلمين وانتصارهم في غزوة بدر..
أما فاطمة صغرى بنات الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام فقد ولدت قبل البعثة بخمس سنوات .. فقد كان والدها العظيم في الخامسة والثلاثين من عمره .. وكانت شبيهة بوالدها العظيم .. في طريقة كلامها ومشيتها .. وكان والدها يحبها حبا جما..!
ويروي الرواة .. كيف أن أبا جهل كان قد أمر بعض سفهاء مكة (عقبة بن أبي معيط) بأن يرمي بعض القاذورات على الرسول وهو يصلي بالكعبة فرمى (بكرشة شاة) على الرسول وهو ساجد .. وهم يتضاحكون ويتغامزون وجاءت فاطمة لتزيل هذه الأقذار عن والدها العظيم .. وهي تبكي..
وقد دعا الرسول ربه:
ـ "اللهم عليك بأبي جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشبيبة ابن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط .. ويقول ابن مسعود: "والذي بعث محمدا بالحق، لقد رأيت الذين سماهم النبي عليه الصلاة والسلام .. صرعى يوم بدر".
وكانت حياة النبي مع أسرتة حياة سعيدة .. فهو سعيد بزوجته .. سعيد بأولاده. راضيا بقضاء الله عندما فقد (عبد الله) .. كما فقد من قبله القاسم .. وكم ضحت هذه السيدة العظيمة .. أنها وهي السيدة التي تملك المال والجاه .. تعيش الحصار الظالم الذي فرضته مكة على بني هاشم لمدة سنوات ثلاث..
وعندما شعرت مكة (بعقدة الذنب) إزاء ما فعلته بالنبي وعشيرته ..وتحللت من "وثيقتها الظالمة" التي بمقتضاها حاصرت مكة بني هاشم في شعب أبي طالب لا تبيع لهم، ولا تشتري منهم .. بعد كل هذا الكفاح الطويل شعرت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها بالتعب .. وسرعان ما انتقلت إلي أكرم جوار..
وقد حزن النبي حزنا شديدا لفراقها .. وقد سمى هذا العام الذي فقد فيه خديجة، وعمه أبا طالب عام الحزن .. وظلت حياة خديجة عزيزة إلي نفسه، وظلت ذكراها عالقة في ذاكرته طوال حياته .. يهش لأصدقائها عندما يلقاهن، ويقابلهن بترحاب شديدة، لأنهن كن يذكرنه بخديجة العظيمة..
وكان حب النبي العظيم لها عظيما لدرجة أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها كانت تغار منها حتى بعد أن انتقلت خديجة إلي جوار ربها..
قالت للرسول يوما عندما جاء ذكر خديجة:
ـ "هل كانت إلا عجوزا بدلك الله خيرا منها؟"
فقال لها الرسول مغضبا:
ـ "لا والله .. ما أبدلني الله خيرا منها .. آمنت بي إذ كفر الناس.
وصدقتني إذ كذبني الناس. وواستني بمالها إذ حرمني الناس. ورزقني الله منه الولد دون غيرها من النساء".
..هذه هي لمحة من حياة هذه السيدة العظيمة التي تركت كل هذا الأثر في قلب أعظم من عرفته الحياة .. محمد عليه الصلاة والسلام
(لا والله ما أبدلني الله خيرا منها .. آمنت بي إذ كفر الناس وصدقتني إذ كذبني الناس .. وواستني بمالها إذ حرمني الناس .. ورزقني الله منها الولد دون غيرها من النساء).
(محمد عليه الصلاة والسلام)
كانت مكة تعيش أيامها كما تعودت أن تعيش .. أيام رتيبة مملة .. وليال أكثر رتابة .. يتحدثون خلالها عما يجري في مجتمع مكة .. أو يرددون أشعار هذا أو ذاك من الشعراء .. وهو يمدح أو يذم كبيرا من كبرائهم .. فإذا زاد ضجرهم خرجوا يطوفون حول الكعبة يعظمون ما بها من أصنام.
في هذا المناخ نشأ محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم .. عرفته مكة .. جميل المحيا .. راجح العقل .. بليغ الكلمات .. قوي الحجة .. أمينا .. صادقا .. متكامل الصفات .. بعيدا تماما عن لهو شباب مكة وعبثهم .. لم يسجد لصنم قط..
والذين اقتربوا منه عرفوا عنه عزوفه التام عما كان يبهر غيره من الشباب، أما حرفته فهو رعي الغنم.. وسمته التفكر الطويل .. والتأمل في كل ما حوله من مظاهر الكون .. السماء وما فيها من نجوم .. والأرض ما فيها من جبال ووديان وسهول..
وذات يوم علم عمه أبو طالب أن خديجة بنت خويلد .. سيدة مكة الثرية الفاضلة والتي رفضت الزواج ممن تقدم إليها من كبار رجالات مكة لأنها خشيت أن يكون الزواج منها طمعا في أموالها، وكانت قد تزوجت مرتين من قبل.
علم أبو طالب بأنها تريد من يخرج ليتاجر لها في مالها في الشام وكانت تعطي له "زوجا" من الإبل نظير هذه المهمة .. فعرض عليها أن يقوم بهذه المهمة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم .. فوافقت السيدة الفاضلة وهي لا تكاد تصدق ما تسمع .. فقد سمعت عن محمد وعفته وطهارته وذكائه وأمانته الكثير .. وقررت أن تعطيه أربعة من الإبل عن رحلته تلك..
ووافق محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم أن يتاجر في مال السيدة خديجة، وأن يسافر إلي الشام في هذه المهمة .. فهو يحب السفر لأن السفر يتيح له أن يخلو إلي نفسه .. وأن يفرغ لتأملاته .. أنه سوف يسير في نفس الطريق الذي سلكه وهو يتجه نحو الشام مع عمه أبي طالب عندما كان صبيا .. حيث أنه سوف يمر على أديرة الرهبان .. وعلى بلاد طالما سمع عنها..
وأرسلت خديجة معه خادمها ميسرة .. واشترى لها محمد وباع .. وربحت تجارته .. بينما عاد ميسرة مبهورا بشخصية محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم .. الشاب الرزين .. صاحب الفكر العميق .. والكلمات التي تسيل رقة وعذوبة والذي أوتى جوامع الكلم..!
وعاد محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم فاستقبلته خديجة باحترام يليق بشخصية بالغة الإبهار .. واستمعت إلي ما يقوله عنه ميسرة بشغف وحب شديدين .. وربما لاحظت صديقتها (نفيسة بنت منية) مدى تعلقها بمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرت خديجة بأنه الشاب المناسب الجدير بالزواج منها..
وفهمت نفيسة أن رأيها لقي قبولا عند صديقتها واستأذنتها أن تفاتح محمدا في هذه الرغبة، على أن تكفيه خديجة المال .. وعرض محمد الأمر على عمه أبي طالب الذي سره ما أقدم عليه ابن أخيه وأمهره عشرين ناقة من ماله .. ويوم الخطبة وقف أبو طالب يلقي خطبة الزواج .. وقال مما قاله:
ـ "الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، ونسل إسماعيل وجعل لنا بيتا محجوبا وحرما آمنا وبعد: فإن محمدا ـ ابن أخي ـ شاب لا يوزن به فتى من قريش إلا زاد عليه شرفا وخلقا وعقلا، وأن كان قليل المال فالمال ظل زائل، وله في "خديجة بنت خويلد" رغبة ولها في مثل ذلك، وقد ساق محمد إليها عشرين ناقة مهرا".
وفي رواية أخرى أنه أمهرها اثنتي عشرة أوقبة ذهبا..
ورد على خطبة (أبو طالب) ابن عم خديجة ورقة بن نوفل فقال:
ـ "الحمد لله الذي جعلنا كما ذكرت، وفضلنا على مم عددت فنحن سادة العرب وقادتها، وأنتم أهل ذلك كله .. لا تنكر العشيرة فضلكم، ولا يرد أحد من الناس فخركم ولا شرفكم، وقد رغبنا في الاتصال بحبلكم وشرفكم، فاشهدوا يا معشر قريش بأني قد زوجت خديجة بنت خويلد من محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم".
وتقول الروايات أن عمرها عن تزويجها الرسول كان أربعين عاما وكان عمره خما وعشرين سنة.. وهكذا بدأ محمد حياته الجديدة .. فقد توافر له المال الذي يتيح له أن يبتعد عن الانغماس وراء الجري خلفه .. وأصبحت تأملاته وتفكره في ظواهر الحياة يشغل معظم أوقاته .. أنه يريد أن يستشف ما وراء هذا الكون..
وعندما شرعت مكة في إعادة بناء الكعبة وكان ذلك قبل البعثة بخمس سنوات .. اختلفوا فيمن يكون له شرف وضع الحجر الأسود مكانه .. حسم محمد هذا الصراع عندما احتكمت مكة لمن يكون أول من يدخل بيت الله الحرام .. وكان هذا الشخص الذي ساقته العدالة الإلهية حتى يوقف نزيفا من الدم ما كان ليتوقف لو اندلعت الحروب بين القبائل .. وكان رأيه أن يوضع الحجر الأسود في ثوب، وتشترك كل القبائل في حمل جزء من هذا الثوب .. وقام بوضع الحجر الأسود في مكانه .. وهكذا انتهت هذا الفتنة.
ويقول الرواة أن محمدا في حياته الجديدة، قد سعد بالاستقرار العائلي .. فخديجة سيدة موفورة العقل .. وعلى جانب كبير من الثراء .. وكان حبها لمحمد دافعا له أن توفر له ما يمكن أن يسعد الرجل .. ثم رفرفت السعادة على الدار عندما أنجبت "القاسم" .. وبعد عام وضعت "زينب" .. غير أن القاسم مات بعد سنة ونصف من عمره..!
وصبرت خديجة .. وصبر محمد لفقد القاسم .. غير أن خديجة أرادت أن تسري عن الرسول فوهبته أحد مواليها (زيد بن حارثة) وكان زيد قد سرقه البعض، وباعه في سوق عكاظ، واشتراه لخديجة ابن أخيها (حكيم بن حزام) .. وقد شعر هذا الغلام بحب محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم .. فآثره على الجميع حتى أن أهله عندما استدلوا عليه رفض العودة إليهم ليعيش عيشة الأحرار، مؤثرا البقاء بجانب محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
وعندما رأى محمد هذا الإخلاص من زيد أشهد الناس أن زيدا بمثابة ابنه وقال لهم:
ـ "يا من حضر من قريش وسائر العرب أشهدكم أن زيدا ابني يرثني وأرثه، وأنه حر أمره بيده"!
ومن هذه القصة نرى مدى الرحمة والعطف والتكامل في شخصية أعظم من سارت له على الأرض خطى. وكان محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم يتردد على غار حراء .. يطيل التأمل والتفكير .. فما أكثر ما سأل نفسه عن السماء .. وعن الأرض .. وما رواء كل هذا الكون المنسق البديع .. وما كنه هذه القوة العظمة التي تدبر أمور الكون..!
وشفت روحه حتى أن ما كان يراه في منامه يتحقق في الواقع .. ثم أخذ يرى أشياء غريبة عندما يخلو إلي نفسه .. فهو يرى نورا أو يسمع صوتا .. ولا يدري لذلك سببا .. حتى خشي على نفسه أن يكون قد ألم به شيء! أو يكون ذلك وسوسة من الجن، وعندما كان يعرض ما يراه .. وما يسمعه على زوجته العظيمة تقول له وهي تهدئ من روعه:
ـ "معاذ الله، ما كان الله ليفعل ذلك بك، فوالله إنك لتؤدي الأمانة، وتصل الرحم، وتصدق الحديث فلا تقترب منك الشياطين"!وتمضي الأيام ..
وبينما هو في غار حراء .. إذ هبط عليه جبريل ليخبره أنه مبعوث الله إلي خلقه .. وأنه خاتم الأنبياء، ثم أخذ يقرئه أول ما نزل من القرآن الكريم:
(اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم). ورأى جبريل وهو يرتفع بعدها إلي السماء..
وعاد محمد صلى الله عليه وسلم إلي منزله خائفا يرتجف .. وعندما قص على خديجة ما سمعه وما رآه قالت له:
ـ أبشر يا ابن العم واثبت، فوالله أني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة.
وذهبت خديجة إلي ابن عمها ورقة بن نوفل لتقص عليه ما قاله لها محمد .. وما كان من ورقة إلا أن صمت قليلا ثم أخذ يقول: قدوس .. قدوس.
والتفت إلي خديجة وقال لها:
ـ لئن كنت صدقتني يا خديجة لقد جاءه الملك الأكبر الذي كان يأتي موسى فقولي له فليثبت ولا يخشى شيئا".
وعادت خديجة .. لترى زوجها وقد تصبب العرق على وجهه بعد أن أفاق من نومه .. فقد جاءه الوحي .. وكانت كلمات الوحي:
ـ (يا أيها المدثر. قم فأنذر، وربك فكبر، وثيابك فطهر، والرجز فاهجر، ولا تمنن تستنكر ولربك فأصبر).
ولم يعد الأمر تخيلات .. أنه واقع جديد .. وأنه نبي هذه الأمة حقيقة لا شك فيها .. وأنه مبلغ رسالة خالدة خلود الحياة .. وبأن هذه الرسالة ستغير المسار الإنساني في الكون كله .. وليس في مكة وحدها .. ولم يعد هناك سوى تبليغ هذه الرسالة .. مهما كانت المصاعب التي سوف يصادفها .. وأن محمدا ليعرف معرفة اليقين أن الأمر ليس سهلا ولا هينا .. فأناس عاشوا على تقديس ما كان يعبد الأباء والأجداد من الصعب عليهم أن يصدقوا من جاء يقول لهم اعبدوا الله وحده لا شريك له .. وذروا عبادة الأصنام التي لا تنفع ولا تضر..
ومحمد يعرف تمام المعرفة أن هناك من سيحارب الدعوة لا لوضوحها ولا لصدق مبلغها ولكن حقد وكراهية أن يرتفع إنسان بالنبوة إلي مكانة تسمو على مكانة علية القوم في مكة..!
وهو يعلم تماما أن عقولا درجت على تقديس قيم وعادات بالية لا يمكن لهم بسهولة أن يستبدلوا بها فكرا جديدا .. وعقيدة جديدة .. محمد صلى الله عليه وسلم بذكائه الحاد يعرف كل ذلك ويعرف أن الطريق صعب للغاية .. فيقول لزوجته العظيمة:
ـ "قد انتهى يا خديجة عهد النوم والراحة، فقد أمرني ربي أن أنذر الناس، وأن أدعوهم إلي عبادة إله واحد .. فمن ذا أدعو ومن ذا يجيب؟!!".
وكانت خديجة أول من آمنت به من النساء .. وعندما سمع ورقة بن نوفل من الرسول صلى الله عليه وسلم ما رأى من أمور الوحي قال له:
ـ والله الذي نفسي بيده أنك لنبي هذه الأمة".
ثم قال له:
ـ ليتني أعيش لأنصرك حين يعاديك قومك ويخرجونك من بلدك!! ويدهش خاتم النبيين وهو يقول له:
ـ أيخرجونني من مكة؟!
قال له ورقة: ما جاء نبي برسالة من عند ربه مثل ما جئت به إلا عاداه قومه وأخرجوه من بلده .. ولئن أدركت هذا اليوم لأنصرنك نصرا مبينا!
وتمضي الأيام ..
تعلم قريش بالدعوة .. ولكنها لم تأبه بها في أول الأمر، فقد ظنوا أن الأمر لا يعدو أن تكون دعوة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم مثل الدعوات التي سبقته من أناس نبذوا عبادة الأصنام .. وعبدوا الله على دين النصارى .. أو تحدثوا في الحكمة من أمثال قيس بن ساعدة وأمية ابن الصلت وورقة بن نوفل .. ولكن ما كادت تمضي السنوات الثلاث الأولى من نزول الوحي حتى جاء الأمر الإلهي بأن يجاهر بالدعوة .. وأن يبدأ بعشيرته الأقربين.
ـ (وأنذر عشيرتك الأقربين، واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين. فإن عصوك فقل إني برئ مما تعملون).
ودعا محمد عشيرته إلي طعام في منزله .. وبعدها قال لهم:
ـ ما أعلم إنسانا في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به .. فقد جئتكم بخيري الدنيا والآخرة .. وقد أمرني ربي أن أدعوكم إليه فأيكم يؤاذرني على هذا الأمر؟
ولكن أهله انصرفوا مستهزئين بما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم .. وبعد ذلك بأيام صعد النبي عليه الصلاة والسلام وجمع أهل مكة يعرض عليهم الإسلام .. فلما التف حوله الناس وسمعوا من الرسول ما سمعوا صاح به عمه أبو لهب:
ـ تباً لك سائر هذا اليوم ألهذا جمعتنا؟!
ونزل قوله تعالى:
ـ (تبت يدا أبى لهب وتب، ما أغنى عنه ماله وما كسب. سيصلى نارا ذات لهب).
وبدأ الصراع بين قوى الشرك وبين دعوة الرسول الخاتم .. وخديجة رضي اله عنها تؤازر النبي بكل ما تملك من طاقة ومال .. وصدق الرسول العظيم عندما قال لأم المؤمنين خديجة .. وقد تهيأ لنشر نور الله:
ـ "انقضي يا خديجة عهد النوم والراحة، فقد أمرني جبريل أن أنذر الناس وأن أدعوهم إلي الله وعبادته، فمن ذا أدعوه؟ ومن ذا يستجيب لي؟
فما كان من خديجة العظيمة إلا أن ثبتت فؤاده .. ووقفت بجانبه .. لم تتخاذل .. ولم تجد مبررا يبعدها عن مجابهة طغيان مكة وعبثها مع زوجها العظيم .. أنها تعلم علم اليقين أن محمدا الصادق الأمين .. الذي لم يعرف عنه أحد من الناس خيانة لعهد، أو عبادة لصنم، أو حنثا في يمين .. لا يمكن لمثل هذا الإنسان الكامل في شمائله .. الذي لم يكذب على الناس، أن يكذب على الله..
من هنا فقد كرست حياتها للدفاع، عما يدعو إليه خاتم رسل الله .. وأخذت الدعوة تشق طريقها عندما أسلم أبو بكر من الرجال وعلى ابن أبي طالب من الأطفال، وبإسلام أبي بكر دخل الإسلام بعض أصدقائه ممن لهم مكانة في مكة من أمثال عثمان بن عفان .. وعبد الرحمن بن عوف .. وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وأبو عبيدة بن الجراح..
وإذا بمكة تثور ثائرتها..
وإذا بها تعلن حربا لا هوادة فيها على هذه الدعوة، وتعذب المستضعفين من المسلمين .. وإذا بشهداء يتساقطون (كياسر) وزوجته سمية .. وبينما يزداد طغيان أهل الكفر وعنادهم دخل في الإسلام شخصيات جديدة .. وأصبحت الدعوة نورا يبدد ظلمات الجهل والجاهلية .. زاد الطغيان .. كلما زاد النبي وصحابته تمسكا بالإيمان..
وجن جنون مكة .. وظهر الحسد واضحا في تصرفات سادتها فبعد أن عرفوا أن ما يدعو إليه محمد يرفع من القيم الإنسانية .. ويهدي إلي التي هي أقوم .. ولم يعد هناك خلاف حول ما يدعو إليه .. فهو يدعو إلي الطهر والاستقامة والبعد عن الفحشاء والمنكر .. وهذا ما يتطلبه الإيمان بالله الواحد الأحد الذي خلق كل هذا الوجود .. لم يعد في استطاعتهم إنكار ما جاء به من بيان واضح ورؤية واضحة .. فعمى الحقد والحسد قلوبهم .. حتى أن (الوليد بن المغيرة) قال:
ـأينزل القرآن على محمد وأترك أنا كبير قريش وسيدها، ويترك أبو مسعود عمروا بن عمير الثقفي سيد ثقيف ونحن عظيما القريتينوينزل قوله تعالى:
{وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم، أهم يقسون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا}
.. وقال أبو جهل هو يعبر عما يمتلئ به قلبه من حسد:
ـ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف .. أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا .. وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا الركب وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك مثل هذه؟ والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه؟!
ومن هذا الكلام يتضح مدى عداوتهم للدعوة الجديدة بدافع من الغيرة والحسد، أن يأتي من بني هاشم نبي، فيزدادوا شرفا بهذه النبوة، وتسمو مكانتهم على مكانتهم!!
شقت الدعوة طريقها رغم الحصار .. والتعذيب .. والسخرية من الداعي والدعوة .. ويشت مكة تماما من أن تثني محمدا عن عزمه .. وكانت أم المؤمنين خديجة بجانبه .. ترعى أولاده، وتسهر على راحته .. وكانت قد رزقت منه قبل المبعث بالقاسم الذين مات صغيرا .. وزينب ورقية وأم كلثوم، وفاطمة، وجاء "عبد الله" بعد المبعث ومات بعد فترة قصيرة..
وقد تزوجت "زينب" بنت الرسول أبا العاص بن الربيع .. وهو ابن أخت خديجة .. كما أن "عتبة وعتيبة" ابني أبي لهب كانا قد خطبا ابنتي الرسول الكريم (رقية وأم كلثوم) وهناك روايات تقول أنهما تزوجا من كريمتي الرسول وأرغمتها أمهما أم جميل على تطليقهما عندما نادى الرسول بالإسلام .. وهناك من يقول أنهما خطبا لابني أبي لهب .. وعندما أعلن النبي الدعوة أرغمها أبو لهب على أن يطلقا ابنتي الرسول .. فتزوجت رقية وكانت شبيهة بأمها من عثمان بن عفان رضي الله عنه وقد عاشت رقية مع زوجها، وهاجرت معه إلي الحبشة في هجرته إليها، كما هاجرت معه عندما هاجر إلي المدينة وقد انتقلت رقية إلي جوار ربها عند عودة المسلمين وانتصارهم في غزوة بدر..
أما فاطمة صغرى بنات الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام فقد ولدت قبل البعثة بخمس سنوات .. فقد كان والدها العظيم في الخامسة والثلاثين من عمره .. وكانت شبيهة بوالدها العظيم .. في طريقة كلامها ومشيتها .. وكان والدها يحبها حبا جما..!
ويروي الرواة .. كيف أن أبا جهل كان قد أمر بعض سفهاء مكة (عقبة بن أبي معيط) بأن يرمي بعض القاذورات على الرسول وهو يصلي بالكعبة فرمى (بكرشة شاة) على الرسول وهو ساجد .. وهم يتضاحكون ويتغامزون وجاءت فاطمة لتزيل هذه الأقذار عن والدها العظيم .. وهي تبكي..
وقد دعا الرسول ربه:
ـ "اللهم عليك بأبي جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشبيبة ابن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط .. ويقول ابن مسعود: "والذي بعث محمدا بالحق، لقد رأيت الذين سماهم النبي عليه الصلاة والسلام .. صرعى يوم بدر".
وكانت حياة النبي مع أسرتة حياة سعيدة .. فهو سعيد بزوجته .. سعيد بأولاده. راضيا بقضاء الله عندما فقد (عبد الله) .. كما فقد من قبله القاسم .. وكم ضحت هذه السيدة العظيمة .. أنها وهي السيدة التي تملك المال والجاه .. تعيش الحصار الظالم الذي فرضته مكة على بني هاشم لمدة سنوات ثلاث..
وعندما شعرت مكة (بعقدة الذنب) إزاء ما فعلته بالنبي وعشيرته ..وتحللت من "وثيقتها الظالمة" التي بمقتضاها حاصرت مكة بني هاشم في شعب أبي طالب لا تبيع لهم، ولا تشتري منهم .. بعد كل هذا الكفاح الطويل شعرت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها بالتعب .. وسرعان ما انتقلت إلي أكرم جوار..
وقد حزن النبي حزنا شديدا لفراقها .. وقد سمى هذا العام الذي فقد فيه خديجة، وعمه أبا طالب عام الحزن .. وظلت حياة خديجة عزيزة إلي نفسه، وظلت ذكراها عالقة في ذاكرته طوال حياته .. يهش لأصدقائها عندما يلقاهن، ويقابلهن بترحاب شديدة، لأنهن كن يذكرنه بخديجة العظيمة..
وكان حب النبي العظيم لها عظيما لدرجة أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها كانت تغار منها حتى بعد أن انتقلت خديجة إلي جوار ربها..
قالت للرسول يوما عندما جاء ذكر خديجة:
ـ "هل كانت إلا عجوزا بدلك الله خيرا منها؟"
فقال لها الرسول مغضبا:
ـ "لا والله .. ما أبدلني الله خيرا منها .. آمنت بي إذ كفر الناس.
وصدقتني إذ كذبني الناس. وواستني بمالها إذ حرمني الناس. ورزقني الله منه الولد دون غيرها من النساء".
..هذه هي لمحة من حياة هذه السيدة العظيمة التي تركت كل هذا الأثر في قلب أعظم من عرفته الحياة .. محمد عليه الصلاة والسلام