نواف النجيدي
08-22-2006, 12:30 AM
مفكرة الإسلام : ما عدت أشعر به إنه بالداخل، هذا مؤكد، ولكني ما عدت أشعر به منذ أمد, حقيقة لا أدري متى كان هذا أو أين أو حتى كيف؟ كل ما يدور بداخلي الآن أني لا أشعر به, لقد فقدته, كان موجودًا بداخلي, شعرت به حقًا, ولكنه ما لبث أن مات.
إني أذكره بينما كان حيًا متقدًا بحرارته، كنت أشعر معه بالحياة تدب في أوصالي، وكلما أقدمت جوارحي على مرضاة الله؛ امتلأ هذا القلب الحي سرورًا وسعادة، وعلى النقيض من ذلك تظلمه المعصية، وتسدل الستور من حوله؛ فلا تسمح للضياء بالولوج إليه.
قال ابن القيم رحمه الله: والقلب المريض: [ قلب له حياة وبه علة، فله مادتان تمده هذه مرة وهذه أخرى، وهو لما غلب عليه منهما، ففيه من محبة الله تعالى والإيمان به والإخلاص له والتوكل عليه ما هو مادة حياته، وفيه من محبة الشهوات وإيثارها والحرص على تحصيلها، والحسد والكبر والعجب وحب العلو، والفساد في الأرض بالرياسة ما هو مادة هلاكه وعطبه، وهو ممتحن بين داعيين: داع يدعوه إلى الله ورسوله والدار الآخرة، وداع يدعوه إلى العاجلة، وهو إنما يجيب أقربهما منه بابًا وأدناهما إليه جوارًا، فالقلب مريض فإما إلى السلامة أدنى، وإما إلى العطب أدنى ].
لكنني لم أتوقف، لم أسترح لقلبي وهو يتأرجح بين النور والظلام، لا أعلم هل نفسي تحب الظلام أم تعشق النور؟ يشعر المرء المتذبذب بين الاثنين أنه كالمجنون، يصل إلى أعلى مراتب الطاعات والقرب من الله؛ فيشعر بأن الأمر قد انتهى وأنه لا بد له أن يستقيم، ولكنه لا يلبث حتى يناديه الظلام يشده إلى دائرته، ويأبى أن ينفلت من إطاره فيقع في براثن المخالفة، ويهوي إلى عمق المبارزة لله، ثم يفيق بعد أن يصعق من هول الهبوط وعظم البعد؛ فيهرع مسرعًا إلى الله لاجئاً متضرعًا أن ينقذه من هوى الظلمات.
وبينما صاحبنا بين هذا وذاك، إذ به يترك الحبل لنفسه على الغارب تجره إلى الظلمات، يناديه عقله: أن قم، أفق قبل فوات الأوان، لكنه لم يصرف جهدًا في النجاة، بل ظل يسقط ويسقط ويسقط....
فلما وصل إلى القاع؛ وصل إلى فقد الشعور بقلبه، أماته بيده، لم يعد يشعر فيه بألم المعصية ولا لذة الطاعة، فقد كل شعور من حوله، بل فقد طعم الحياة نفسها.
لقد مات قلبي
أعلنها صرخة مدوية في جنبات المكان: لقد مات قلبه، فما عاد يشعر بشيء، ولكنه عاد يسأل نفسه هل لهذا الميت من حياة؟ هل له من عودة؟ كيف وقد مات؟ كيف وقد قتل نفسه بيده ؟
قال ابن القيم رحمه الله: [[ ضد هذا وهو القلب الميت الذي لا حياة به، فهو لا يعرف ربه ولا يعبده بأمره وما يحبه ويرضاه، بل هو واقف مع شهواته ولذاته، ولو كان فيها سخط ربه وغضبه، فهو لا يبالي إذا فاز بشهوته وحظه رضى ربه أم سخط؟ فهو متعبد لغير الله؛ حبًا وخوفًا ورجاء ورضًا وسخطًا وتعظيمًا وذلاً، إن أحب أحب لهواه، وإن أبغض أبغض لهواه، وإن أعطى أعطى لهواه، وإن منع منع لهواه، فهواه آثر عنده وأحب إليه من رضا مولاه، فالهوى إمامه والشهوة قائده والجهل سائقه والغفلة مركبه، فهو بالفكر في تحصيل أغراضه الدنيوية مغمور، وبسكرة الهوى وحب العاجلة مخمور، ينادي إلى الله وإلى الدار الاخرة من مكان بعيد، ولا يستجيب للناصح ويتبع كل شيطان مريد، الدنيا تسخطه وترضيه، والهوى يصمه عما سوى الباطل ويعميه، فهو في الدنيا كما قيل في ليلى:
عدو لمن عادت وسلم لأهلها ومن قربت ليلى أحب وأقربا
بشرى إلى أصحاب القلوب الميتة:
تعالى معي نتأمل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه: [[ كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسًا، فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على راهب، فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفساً، فهل له من توبة؟ قال: لا، فقتله، فكمل به مائة.
ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدُل على رجل عالم، فقال: إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ فقال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أناساً يعبدون الله فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء.
فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبًا مقبلًا بقلبه إلى الله، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرًا قط، فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم، فقالوا: قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد؛ فقبضته ملائكة الرحمة، قال قتادة: فقال الحسن: ذكر لنا أنه لما أتاه الموت نأى بصدره ]]
رواه البخاري ومسلم.
لهذا الحديث الشريف فوائد كثيرة أحصاها العلماء رحمهم الله، لكن ما يعنينا منها ها هنا نقاط هي:
1-لقد قتل تسعة وتسعين نفسًا:
ترى هل نظن أن مثل هذا ما زال صاحب قلب سليم أو مريض؟ بل إنك تلمح في قتله للراهب -وهو الذي جاء يسأله عن التوبة فأكمل به المائة- إصرارًا عجيبًا، بل وعدم وجود أدنى شعور بالندم على الفعل، لكن العجيب حقًا هنا أنه قتل الراهب، ثم تنص رواية الحديث أنه خرج من عنده يسأل عن أعلم أهل الأرض.
يا للعجب، إنه ما زال يريد التوبة، إن قرار الإحياء الذي اتخذه قاتل المائة نفس كان قرارًا محسومًا، لا يقبل التأجيل ولا التأخير أو التعطيل لأي سبب كان، لقد كان مصمماً على إحياء هذا القلب بعد أن مات.
ألا تعجب من كونه لم يتوقف ولو للحظات بعد قتله للراهب يقول فيها لنفسه: ها قد عدت ثانية، ها قد ارتكبت ما ترتكبه، دائمًا لن يتوب مثلك لن يقبلك الله؟!!
كلا، لم يقل لنفسه أياً من هذه الكلمات المحبطة المعتادة، بل وضع ذلك كله جانباً، وانطلق يعلم تماماً ما الذي يريده [التوبة] .
2-قبول التوبة من جميع الكبائر:
وهذه القصة أصل عظيم في الدلالة على قبول التوبة من المذنب وإن تفاحش ذنبه، وتعاظم إثمه مهما بلغ، طالما صلحت رغبته في التوبة.
وقد نطقت بذلك آيات القرآن وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، فالله تعالى يقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [53] سورة الزمر.
وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [[ والذي نفسي بيده، لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم ]] رواه مسلم.
3- سعة رحمة الله عز وجل وخطورة تقنيط الناس منها:
تدل القصة برواياتها المتعددة على سعة رحمة الله تعالى، وأنها تغلب غضبه، وأن صدق العبد في التوجه إلى الله يمنحه-فوق قبول الله له- توفيقًا وهداية إلى الطريق المستقيم، وقد صرحت الروايات المختلفة بتدخل العناية الإلهية بما يفيد سعة رحمة الله ومزيد فضله على العبد التائب.
ففي رواية البخاري وروايات أخرى في مسلم [[ فأوحى الله إلى هذه أن تقربي، وأوحى إلى هذه أن تباعدي، وقال: قيسوا ما بينهما فوجد إلى هذه اقرب بشبر فغفر له ]].
وفي إبعاد أرض المعصية، وتقريب أرض التوبة ما يشعر بأن الله لا يقبل التوبة عن عباده وفقط، بل يزيدهم فوق القبول من فضله، ويؤيد هذا ما جاء في الحديث القدسي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: [[ يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلي بشبر تقربت إليه ذراعًا، وإن تقرب إلي ذراعًا تقربت إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة]] رواه البخاري ومسلم.
وقد قال ابن عباس رضي الله عنه: [[ قد دعا الله تعالى إلى مغفرته من زعم أن المسيح هو الله، ومن زعم أن المسيح هو ابن الله، ومن زعم أن عزيرًا ابن الله، ومن زعم أن الله فقير، ومن زعم أن يد الله مغلولة، ومن زعم أن الله ثالث ثلاثة، يقول الله تعالى لهؤلاء: {أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} سورة المائدة [74]، ثم دعا إلى التوبة من هو أعظم قولًا من هؤلاء، من قال: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} سورة النازعات [24]، وقال: {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي } سورة القصص [38] ]]
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: [ من أيَّس عباد الله من التوبة بعد هذا؛ فقد جحد كتاب الله عز وجل] تفسير ابن كثير[4/59].
هل تراك عزيزي صاحب القلب الميت قلبك من بين القلوب تفقد فيه الأمل فلا تظنه يحيا؟ فما بالك بقلوب الكفار والملحدين الذي خربت قلوبهم بنكران وجود الله؟!!
فهلم بنا إلى إحياء هذا القلب الميت عبر مقالتنا القادمة
مات فكيف أحييه ؟
وإلى حين اللقاء لكم مني خير تحية وأطيب سلام
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إني أذكره بينما كان حيًا متقدًا بحرارته، كنت أشعر معه بالحياة تدب في أوصالي، وكلما أقدمت جوارحي على مرضاة الله؛ امتلأ هذا القلب الحي سرورًا وسعادة، وعلى النقيض من ذلك تظلمه المعصية، وتسدل الستور من حوله؛ فلا تسمح للضياء بالولوج إليه.
قال ابن القيم رحمه الله: والقلب المريض: [ قلب له حياة وبه علة، فله مادتان تمده هذه مرة وهذه أخرى، وهو لما غلب عليه منهما، ففيه من محبة الله تعالى والإيمان به والإخلاص له والتوكل عليه ما هو مادة حياته، وفيه من محبة الشهوات وإيثارها والحرص على تحصيلها، والحسد والكبر والعجب وحب العلو، والفساد في الأرض بالرياسة ما هو مادة هلاكه وعطبه، وهو ممتحن بين داعيين: داع يدعوه إلى الله ورسوله والدار الآخرة، وداع يدعوه إلى العاجلة، وهو إنما يجيب أقربهما منه بابًا وأدناهما إليه جوارًا، فالقلب مريض فإما إلى السلامة أدنى، وإما إلى العطب أدنى ].
لكنني لم أتوقف، لم أسترح لقلبي وهو يتأرجح بين النور والظلام، لا أعلم هل نفسي تحب الظلام أم تعشق النور؟ يشعر المرء المتذبذب بين الاثنين أنه كالمجنون، يصل إلى أعلى مراتب الطاعات والقرب من الله؛ فيشعر بأن الأمر قد انتهى وأنه لا بد له أن يستقيم، ولكنه لا يلبث حتى يناديه الظلام يشده إلى دائرته، ويأبى أن ينفلت من إطاره فيقع في براثن المخالفة، ويهوي إلى عمق المبارزة لله، ثم يفيق بعد أن يصعق من هول الهبوط وعظم البعد؛ فيهرع مسرعًا إلى الله لاجئاً متضرعًا أن ينقذه من هوى الظلمات.
وبينما صاحبنا بين هذا وذاك، إذ به يترك الحبل لنفسه على الغارب تجره إلى الظلمات، يناديه عقله: أن قم، أفق قبل فوات الأوان، لكنه لم يصرف جهدًا في النجاة، بل ظل يسقط ويسقط ويسقط....
فلما وصل إلى القاع؛ وصل إلى فقد الشعور بقلبه، أماته بيده، لم يعد يشعر فيه بألم المعصية ولا لذة الطاعة، فقد كل شعور من حوله، بل فقد طعم الحياة نفسها.
لقد مات قلبي
أعلنها صرخة مدوية في جنبات المكان: لقد مات قلبه، فما عاد يشعر بشيء، ولكنه عاد يسأل نفسه هل لهذا الميت من حياة؟ هل له من عودة؟ كيف وقد مات؟ كيف وقد قتل نفسه بيده ؟
قال ابن القيم رحمه الله: [[ ضد هذا وهو القلب الميت الذي لا حياة به، فهو لا يعرف ربه ولا يعبده بأمره وما يحبه ويرضاه، بل هو واقف مع شهواته ولذاته، ولو كان فيها سخط ربه وغضبه، فهو لا يبالي إذا فاز بشهوته وحظه رضى ربه أم سخط؟ فهو متعبد لغير الله؛ حبًا وخوفًا ورجاء ورضًا وسخطًا وتعظيمًا وذلاً، إن أحب أحب لهواه، وإن أبغض أبغض لهواه، وإن أعطى أعطى لهواه، وإن منع منع لهواه، فهواه آثر عنده وأحب إليه من رضا مولاه، فالهوى إمامه والشهوة قائده والجهل سائقه والغفلة مركبه، فهو بالفكر في تحصيل أغراضه الدنيوية مغمور، وبسكرة الهوى وحب العاجلة مخمور، ينادي إلى الله وإلى الدار الاخرة من مكان بعيد، ولا يستجيب للناصح ويتبع كل شيطان مريد، الدنيا تسخطه وترضيه، والهوى يصمه عما سوى الباطل ويعميه، فهو في الدنيا كما قيل في ليلى:
عدو لمن عادت وسلم لأهلها ومن قربت ليلى أحب وأقربا
بشرى إلى أصحاب القلوب الميتة:
تعالى معي نتأمل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه: [[ كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسًا، فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على راهب، فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفساً، فهل له من توبة؟ قال: لا، فقتله، فكمل به مائة.
ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدُل على رجل عالم، فقال: إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ فقال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أناساً يعبدون الله فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء.
فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبًا مقبلًا بقلبه إلى الله، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرًا قط، فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم، فقالوا: قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد؛ فقبضته ملائكة الرحمة، قال قتادة: فقال الحسن: ذكر لنا أنه لما أتاه الموت نأى بصدره ]]
رواه البخاري ومسلم.
لهذا الحديث الشريف فوائد كثيرة أحصاها العلماء رحمهم الله، لكن ما يعنينا منها ها هنا نقاط هي:
1-لقد قتل تسعة وتسعين نفسًا:
ترى هل نظن أن مثل هذا ما زال صاحب قلب سليم أو مريض؟ بل إنك تلمح في قتله للراهب -وهو الذي جاء يسأله عن التوبة فأكمل به المائة- إصرارًا عجيبًا، بل وعدم وجود أدنى شعور بالندم على الفعل، لكن العجيب حقًا هنا أنه قتل الراهب، ثم تنص رواية الحديث أنه خرج من عنده يسأل عن أعلم أهل الأرض.
يا للعجب، إنه ما زال يريد التوبة، إن قرار الإحياء الذي اتخذه قاتل المائة نفس كان قرارًا محسومًا، لا يقبل التأجيل ولا التأخير أو التعطيل لأي سبب كان، لقد كان مصمماً على إحياء هذا القلب بعد أن مات.
ألا تعجب من كونه لم يتوقف ولو للحظات بعد قتله للراهب يقول فيها لنفسه: ها قد عدت ثانية، ها قد ارتكبت ما ترتكبه، دائمًا لن يتوب مثلك لن يقبلك الله؟!!
كلا، لم يقل لنفسه أياً من هذه الكلمات المحبطة المعتادة، بل وضع ذلك كله جانباً، وانطلق يعلم تماماً ما الذي يريده [التوبة] .
2-قبول التوبة من جميع الكبائر:
وهذه القصة أصل عظيم في الدلالة على قبول التوبة من المذنب وإن تفاحش ذنبه، وتعاظم إثمه مهما بلغ، طالما صلحت رغبته في التوبة.
وقد نطقت بذلك آيات القرآن وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، فالله تعالى يقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [53] سورة الزمر.
وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [[ والذي نفسي بيده، لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم ]] رواه مسلم.
3- سعة رحمة الله عز وجل وخطورة تقنيط الناس منها:
تدل القصة برواياتها المتعددة على سعة رحمة الله تعالى، وأنها تغلب غضبه، وأن صدق العبد في التوجه إلى الله يمنحه-فوق قبول الله له- توفيقًا وهداية إلى الطريق المستقيم، وقد صرحت الروايات المختلفة بتدخل العناية الإلهية بما يفيد سعة رحمة الله ومزيد فضله على العبد التائب.
ففي رواية البخاري وروايات أخرى في مسلم [[ فأوحى الله إلى هذه أن تقربي، وأوحى إلى هذه أن تباعدي، وقال: قيسوا ما بينهما فوجد إلى هذه اقرب بشبر فغفر له ]].
وفي إبعاد أرض المعصية، وتقريب أرض التوبة ما يشعر بأن الله لا يقبل التوبة عن عباده وفقط، بل يزيدهم فوق القبول من فضله، ويؤيد هذا ما جاء في الحديث القدسي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: [[ يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلي بشبر تقربت إليه ذراعًا، وإن تقرب إلي ذراعًا تقربت إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة]] رواه البخاري ومسلم.
وقد قال ابن عباس رضي الله عنه: [[ قد دعا الله تعالى إلى مغفرته من زعم أن المسيح هو الله، ومن زعم أن المسيح هو ابن الله، ومن زعم أن عزيرًا ابن الله، ومن زعم أن الله فقير، ومن زعم أن يد الله مغلولة، ومن زعم أن الله ثالث ثلاثة، يقول الله تعالى لهؤلاء: {أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} سورة المائدة [74]، ثم دعا إلى التوبة من هو أعظم قولًا من هؤلاء، من قال: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} سورة النازعات [24]، وقال: {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي } سورة القصص [38] ]]
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: [ من أيَّس عباد الله من التوبة بعد هذا؛ فقد جحد كتاب الله عز وجل] تفسير ابن كثير[4/59].
هل تراك عزيزي صاحب القلب الميت قلبك من بين القلوب تفقد فيه الأمل فلا تظنه يحيا؟ فما بالك بقلوب الكفار والملحدين الذي خربت قلوبهم بنكران وجود الله؟!!
فهلم بنا إلى إحياء هذا القلب الميت عبر مقالتنا القادمة
مات فكيف أحييه ؟
وإلى حين اللقاء لكم مني خير تحية وأطيب سلام
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته