صوت المطر
11-08-2003, 05:21 AM
مشاري بن عبدالله النعيم
جريدة الرياض
يبدو أننا، معشر أساتذة الجامعات في المملكة، نعيش واقعاً غير مرض يتعدى مجرد التذمر من الكادر وسلم الرواتب، فمسألة الراتب الذي لا يكفي لنهاية الشهر وصورة الأستاذ الجامعي الذي "من بره الله الله ومن جوه يعلم الله" أصبحت قصة متكررة ومملة تصيب الجميع بالإحباط دون أمل في التغيير. الأستاذ السعودي في الآونة الأخيرة، رغم كل الإشاعات أن هناك تغيراً قادماً بعد زيارة سمو ولي العهد إلى جامعة الملك سعود وأمره بتشكيل لجنة لدراسة وضع الأستاذ السعودي (وهي اللجنة التي كنا نتوقعها أن تكون لجنة تحسين أو إسعاف حال الأستاذ السعودي الذي لم يتغير كادره منذ أكثر من خمسة وعشرين عاما)، أقول أن الأساتذة السعوديين عندما يسمعون عن التغيير يهزون أكتافهم دون اكتراث يصاحب ذلك ابتسامة مليئة بالمرارة. والذي يبدو من الوضع، والله أعلم، أن ثقتهم باللجان "السلحفائية" التي تخصهم وخصوصاً تلك التي تخص كادرهم معدومة بعد أن تلقوا الضربات تلو الضربات. فخلال السنوات الماضية كانت هناك محاولات للتغيير انتهت إلى تعقيد في نظام الترقية وزيادة في العبء التدريسي مع ثبات للكادر المالي وانعدام تام لأي حوافز أخرى ممكن أن تحسن وضع الأستاذ السعودي.
وبما أن الوضع يتجه دائماً للأسوأ فإننا "معشر الدكاترة"، نضع يدنا على قلوبنا مع كل لجنة جديدة تحاول أن تدرس أوضاعنا، فنحن نعتقد أنها ستنتهي إلى أننا نعيش وضعاً أفضل مما نستحق وستكون توجيهاتها بأنه يجب أن يضيق علينا أكثر حتى نكون أكثر تواضعاً والتصاقاً بطبقات المجتمع و"يكفي علينا الوجاهة" التي لا تؤكل خبزا، بل تزيد من أعبائنا، تلك اللجان التي خذلتنا على مر السنين الماضية لا نستبشر بها خيرا، فهي لجان "مستترة" ولا نعلم من هم أعضاؤها، وما هي القضايا التي يناقشونها، وكل ما نسمع به و نراه "أن هناك مشروعاً لتحسين الوضع معروضاً على المسؤولين"، والنتيجة سنوات من الانتظار دون أن نعرف لماذا كل هذا الانتظار وهل الموضوع فعلاً يحتاج كل هذا الوقت حتى يبت فيه. ومع أن هناك عدم اكتراث حقيقي بنتيجة هذه اللجنة أو تلك لأن المحصلة المرتسمة في أذهان أعضاء هيئة التدريس واحدة وهي أن كل ما يقال مجرد كلام وأن لا قرار فعلي سيتم اتخاذه، إلا أن هناك من يبحث عن أمل يجعله يشعر أن البقاء في الجامعة والعمل فيها أمر يستحق الحرص عليه.
لقد بدأنا بالمشكلة الأهم (على المستوى الشخصي لكل أستاذ سعودي) وهي الوضع المالي المزري الذي يعيشه الأستاذ الجامعي، إلا أننا يجب أن نذكر أن هذه المشكلة هي مشكلة خاصة جداً قد يراها البعض أنها مفصولة عن قضية التعليم ذاتها والتي هي تعاني من مشاكل مستفحلة، والحق نقول إنه لا يمكن أن نفصل الأستاذ ومشاكله الشخصية عن العملية التعليمية، فهو الناقل الرئيسي للمعرفة والاهتمام به كوسط مؤثر ومشكل لشخصية الأجيال التي يقوم بتعليمها مسألة تحتاج الى البحث في اسباب تردي التعليم العالي في بلادنا، وهي كثيرة منها مشكلة الكادر المالي.
لا أخفيكم القول إنني أتألم كثيرا عندما أقرأ في بعض صحفنا المحلية حول أساتذة الجامعة وأنهم أصبحوا "شحاتين" حول أبواب الدوائر الحكومية والشركات الخاصة يبحثون عن استشارة من هنا وهناك يدعمون بها دخلهم. والغريب أنهم محسودون من أفراد المجتمع، فهم إن كتبوا في الصحف انتقدوا وقيل عنهم إنهم يكتبون لأنفسهم وأنهم متعالون، وان بحثوا عن استشارة قيل عنهم إنهم شحاتون وطماعون. كما أنهم محاربون داخل الجامعة، فلا حوافز ولا انتدابات وإن فكروا في تطوير أنفسهم وحضور بعض المؤتمرات في التخصص قيل لهم لا يحق لكم إلا الحضور مرة "وبالواسطة مرتين" كل عام ويصرف لم تذاكر السفر فقط وباقي تكاليف السفر والإقامة ورسوم المؤتمر عليهم. ومع ذلك فإن الجامعة تتوقع من الأستاذ أن يقوم بنشر أربعة أبحاث حتى يترقى الى مرتبة أستاذ مشارك وستة بعد ذلك ليترقى لمرتبة أستاذ.
نحن بحاجة الى مصنع من العصي السحرية حتى تنقذنا من هذا الواقع المتردي الذي يجر الجامعات السعودية الى ان تصبح "مدارس" وليست معاقل للفكر والتطوير. لا أعتقد أن مهمة الجامعة مجرد تخريج الطلاب دون أي قياس جودتهم. ولا أعتقد ان مهمة الجامعة تقتصر على قاعات الدرس. إنني، وكثير من زملائي، أتساءل دائماً لماذا لا يوجد بيننا مبدعون كثر في المجال الأكاديمي؟ هذا التساؤل المشروع يقودنا الى حقيقة أن هناك مشكلة إدارية عميقة يعاني منها التعليم في بلادنا، فلا أعتقد ان وزارة التعليم العالي ولا إدارات الجامعات السعودية اكترثت بهذه المشكلة بل جل ما فكرت فيه خلال السنوات الماضية هو "تسيير العمل" دون البحث عن الإنجاز. أكثر ما يمكن أن أشبه جامعاتنا به هو تلك المصانع الرديئة الانتاج التي همها فقط البقاء في السوق لأطول فترة ممكنة، فهي لا تبحث عن التطوير بقدر ما تبحث عن إنتاج منتجات وبيعها، وهي تعلم علم اليقين أن منتجاتها لن تبقى طويلاً في أيدي المستهلكين.
خلال سنوات العمل في الجامعة شعرت بما يشبه الجمود، فلا برامج للتطوير ولا دورات للتعلم، وكأن الجامعة تقول "أحمد ربك أن حنا صرفنا عليك لحد ما خلصت الدكتوراه"، أي أن مجرد التفكير في طلب دورة تدريبية يعتبر تعدياً ومحاولة أخذ ما ليس لك بحق، وإذا كان عندك إصرار على حضورك الدورة التدريبية وقررت أن تغامر فإن هذا الأمر يتطلب أخذ موافقة جهات عدة تبدأ من القسم وتنتهي بلجان سرية تلعب فيها المصالح الشخصية (القرب والبعد من أعضاء اللجنة) في الموافقة من عدمها، مع أنه يفترض أن تكون هناك دورات تدريبية إجبارية تطور الأستاذ حتى أولئك غير الراغبين في التطوير. وأنا هنا أتساءل هل تعتقد ادارة الجامعة أن العلم توقف مع الحصول على شهادة الدكتوراه أو أنها تتوقع أن عضو هيئة التدريس يجب عليه أن ينفق دخله على التطوير الذاتي (مع أن دخله لا يكفيه حتى الثلث الأخير من الشهر).
عندما أسمع من بعض زملائي الذين يعملون في الشركات الخاصة وأشاهد حضورهم المتكرر لدورات تدريبية عالية المستوى مع مخصصات مالية كبيرة تشجعهم على حضور هذه الدورات (لأنها تصب في صالح العمل) أشعر بالغبن الذي يعيشه عضو هيئة التدريس السعودي الذي تمن الجامعة عليه بأنها أتاحت له الفرصة لإنهاء دراسته العليا وأن عليه أن يرد الجميل وأن يكون منتميا ومواليا للجامعة. فالجامعة هنا ترى أنها أدت ما عليها وأن على الأستاذ أن يقدم كل ما عنده، حتى الذي يتعيش به هو أسرته، حتى يكون أداؤه متميزاً. والنتيجة طبعاً أن أعضاء هيئة التدريس لا يشعرون بالرضى وأن التعليم العالي في تدهور مستمر. هذا التدهور لن يحل بمجرد العواطف بل يتطلب مناقشة شفافة لكل المشاكل التي نعاني منها وأن يكون هناك رغبة حقيقية في التغيير لا "التسكين".
المشكلة الإدارية تكمن هنا في الهدف من التعليم العالي عندنا، والذي أراه هو أن وزارة التعليم العالي لا يوجد لديها أهداف واضحة ولا يوجد عندها برامج لتطوير الأستاذ الجامعي بل هي وزارة "قيود" أكثر منها وزارة تطوير وتخطيط. والحقيقة أن أعضاء هيئة التدريس السعوديين لا يرون أي أهمية لوزارة التعليم ولا يشعرون بها إلا في حالة أخذ الموافقات (فك بعض القيود) لحضور المؤتمرات أو الأعمال الاستشارية. فأنا على سبيل المثال لا أعلم أين تقع الوزارة في مدينة الرياض وأعتقد أن مثلي الكثير الذين لا يعلمون، وهذا بالطبع ليس دليلاً على عدم تواجد الوزارة في حياتنا العملية، فقد أكون استثناء كما أن معرفة موقع الوزارة من عدمها لا يدل على دورها ولكن هي خاطرة خطرت لي، فأنا فعلاً لم أشعر قط أني بحاجة أن أزور الوزارة. ولكنني لم أسمع أن وزارة التعليم العالي قررت مناقشة القضايا الجوهرية التي يعاني منها التعليم على مستوى الجامعات بل كل ما تقوم بها إرسال أكداس من التعاميم والاتفاقيات مع جهات كثيرة في العالم لا نعلم حقيقة كيف نستفيد منها، ولن أقول إنه حتى لو أردنا أن نستفيد منها فلن نستطيع مع العراقيل التي ابتكرتها الوزارة للحد من حرية عضو هيئة التدريس.
إنني على قناعة أن ميزانيات الجامعات لدينا كبيرة ويمكن لو أحسن التصرف فيها تحقيق التطوير والرضى المطلوب، على أن ذلك لا يحدث لأن هناك الكثير من العوائق التي تمنع ذلك أهمها الأنظمة المالية والإدارية البالية وانتظارنا للتغير من الخارج دون البحث عن الإمكانات الموجودة داخل الجامعة نفسها. لعل الحل الأنسب في الوقت الراهن هو تحرير الجامعة من قيود وزارة التعليم العالي وحثها على التطوير الذاتي وإيجاد قواعد للمنافسة بين الجامعات (يمكن أن يكون هناك تصنيف سنوي للجامعات والكليات والأقسام تجعل من المنافسة أمراً ذا قيمة)، على أنه يجب أن يسبق ذلك إصلاح حال عضو هيئة التدريس من الناحية المالية ومن الناحية التطويرية. فإذا كنا نتوقع من عضو هيئة التدريس أن يكون مؤثراً ثقافياً ومهنياً في المجتمع وأن تصبح جامعاتنا معاقل للعلم فإننا لابد أن نهيئ المناخ المناسب لذلك لا أن نطالب بكل شيء ولا نقدم أي شيء.
إحدى القضايا التي نتحدث عنها دائما ونراها مؤثرة جداً في عملية تطوير التعليم العالي هي انتخابات رؤساء الأقسام وعمداء الكليات، وبما أننا نعيش عصر الانتخابات البلدية فإن أعضاء هيئة التدريس أولى ان يستردوا حقهم في أن ينتخبوا من بينهم من يرون أنه مناسباً كي يقود المسيرة التعليمية، وإذا كانت الانتخابات قبل عقد من الزمن كانت تقتصر على العمداء ورؤساء الأقسام فإننا نتمنى أن يصدر تنظيم لانتخابات يشمل حتى مديري الجامعات ووكلائها، وهو حق لكل عضو هيئة تدريس تنطبق عليه الشروط ليتحقق التطوير الذي نتمناه. الانتماء الذي تتمناه الجامعة من عضو هيئة التدريس لن يتحقق دون أن يشعر كل عضو أنه مقدر وأنه جزء من الجامعة لا موظف فيها، فواقع الحال يقول إن ادارات الجامعات ترى أن حقها مطلق في تسيير شؤون الجامعة وأن عضو هيئة التدريس يجب عليه فقط الاستجابة لما تمليه الإدارة، وهذا لب الخلاف الذي يجعل الأساتذة يشعرون بانفصال عن الجامعة ودورها في المجتمع لا كما يعتقد البعض أن الأساتذة يعيشون في أبراج عاجية.
جريدة الرياض
يبدو أننا، معشر أساتذة الجامعات في المملكة، نعيش واقعاً غير مرض يتعدى مجرد التذمر من الكادر وسلم الرواتب، فمسألة الراتب الذي لا يكفي لنهاية الشهر وصورة الأستاذ الجامعي الذي "من بره الله الله ومن جوه يعلم الله" أصبحت قصة متكررة ومملة تصيب الجميع بالإحباط دون أمل في التغيير. الأستاذ السعودي في الآونة الأخيرة، رغم كل الإشاعات أن هناك تغيراً قادماً بعد زيارة سمو ولي العهد إلى جامعة الملك سعود وأمره بتشكيل لجنة لدراسة وضع الأستاذ السعودي (وهي اللجنة التي كنا نتوقعها أن تكون لجنة تحسين أو إسعاف حال الأستاذ السعودي الذي لم يتغير كادره منذ أكثر من خمسة وعشرين عاما)، أقول أن الأساتذة السعوديين عندما يسمعون عن التغيير يهزون أكتافهم دون اكتراث يصاحب ذلك ابتسامة مليئة بالمرارة. والذي يبدو من الوضع، والله أعلم، أن ثقتهم باللجان "السلحفائية" التي تخصهم وخصوصاً تلك التي تخص كادرهم معدومة بعد أن تلقوا الضربات تلو الضربات. فخلال السنوات الماضية كانت هناك محاولات للتغيير انتهت إلى تعقيد في نظام الترقية وزيادة في العبء التدريسي مع ثبات للكادر المالي وانعدام تام لأي حوافز أخرى ممكن أن تحسن وضع الأستاذ السعودي.
وبما أن الوضع يتجه دائماً للأسوأ فإننا "معشر الدكاترة"، نضع يدنا على قلوبنا مع كل لجنة جديدة تحاول أن تدرس أوضاعنا، فنحن نعتقد أنها ستنتهي إلى أننا نعيش وضعاً أفضل مما نستحق وستكون توجيهاتها بأنه يجب أن يضيق علينا أكثر حتى نكون أكثر تواضعاً والتصاقاً بطبقات المجتمع و"يكفي علينا الوجاهة" التي لا تؤكل خبزا، بل تزيد من أعبائنا، تلك اللجان التي خذلتنا على مر السنين الماضية لا نستبشر بها خيرا، فهي لجان "مستترة" ولا نعلم من هم أعضاؤها، وما هي القضايا التي يناقشونها، وكل ما نسمع به و نراه "أن هناك مشروعاً لتحسين الوضع معروضاً على المسؤولين"، والنتيجة سنوات من الانتظار دون أن نعرف لماذا كل هذا الانتظار وهل الموضوع فعلاً يحتاج كل هذا الوقت حتى يبت فيه. ومع أن هناك عدم اكتراث حقيقي بنتيجة هذه اللجنة أو تلك لأن المحصلة المرتسمة في أذهان أعضاء هيئة التدريس واحدة وهي أن كل ما يقال مجرد كلام وأن لا قرار فعلي سيتم اتخاذه، إلا أن هناك من يبحث عن أمل يجعله يشعر أن البقاء في الجامعة والعمل فيها أمر يستحق الحرص عليه.
لقد بدأنا بالمشكلة الأهم (على المستوى الشخصي لكل أستاذ سعودي) وهي الوضع المالي المزري الذي يعيشه الأستاذ الجامعي، إلا أننا يجب أن نذكر أن هذه المشكلة هي مشكلة خاصة جداً قد يراها البعض أنها مفصولة عن قضية التعليم ذاتها والتي هي تعاني من مشاكل مستفحلة، والحق نقول إنه لا يمكن أن نفصل الأستاذ ومشاكله الشخصية عن العملية التعليمية، فهو الناقل الرئيسي للمعرفة والاهتمام به كوسط مؤثر ومشكل لشخصية الأجيال التي يقوم بتعليمها مسألة تحتاج الى البحث في اسباب تردي التعليم العالي في بلادنا، وهي كثيرة منها مشكلة الكادر المالي.
لا أخفيكم القول إنني أتألم كثيرا عندما أقرأ في بعض صحفنا المحلية حول أساتذة الجامعة وأنهم أصبحوا "شحاتين" حول أبواب الدوائر الحكومية والشركات الخاصة يبحثون عن استشارة من هنا وهناك يدعمون بها دخلهم. والغريب أنهم محسودون من أفراد المجتمع، فهم إن كتبوا في الصحف انتقدوا وقيل عنهم إنهم يكتبون لأنفسهم وأنهم متعالون، وان بحثوا عن استشارة قيل عنهم إنهم شحاتون وطماعون. كما أنهم محاربون داخل الجامعة، فلا حوافز ولا انتدابات وإن فكروا في تطوير أنفسهم وحضور بعض المؤتمرات في التخصص قيل لهم لا يحق لكم إلا الحضور مرة "وبالواسطة مرتين" كل عام ويصرف لم تذاكر السفر فقط وباقي تكاليف السفر والإقامة ورسوم المؤتمر عليهم. ومع ذلك فإن الجامعة تتوقع من الأستاذ أن يقوم بنشر أربعة أبحاث حتى يترقى الى مرتبة أستاذ مشارك وستة بعد ذلك ليترقى لمرتبة أستاذ.
نحن بحاجة الى مصنع من العصي السحرية حتى تنقذنا من هذا الواقع المتردي الذي يجر الجامعات السعودية الى ان تصبح "مدارس" وليست معاقل للفكر والتطوير. لا أعتقد أن مهمة الجامعة مجرد تخريج الطلاب دون أي قياس جودتهم. ولا أعتقد ان مهمة الجامعة تقتصر على قاعات الدرس. إنني، وكثير من زملائي، أتساءل دائماً لماذا لا يوجد بيننا مبدعون كثر في المجال الأكاديمي؟ هذا التساؤل المشروع يقودنا الى حقيقة أن هناك مشكلة إدارية عميقة يعاني منها التعليم في بلادنا، فلا أعتقد ان وزارة التعليم العالي ولا إدارات الجامعات السعودية اكترثت بهذه المشكلة بل جل ما فكرت فيه خلال السنوات الماضية هو "تسيير العمل" دون البحث عن الإنجاز. أكثر ما يمكن أن أشبه جامعاتنا به هو تلك المصانع الرديئة الانتاج التي همها فقط البقاء في السوق لأطول فترة ممكنة، فهي لا تبحث عن التطوير بقدر ما تبحث عن إنتاج منتجات وبيعها، وهي تعلم علم اليقين أن منتجاتها لن تبقى طويلاً في أيدي المستهلكين.
خلال سنوات العمل في الجامعة شعرت بما يشبه الجمود، فلا برامج للتطوير ولا دورات للتعلم، وكأن الجامعة تقول "أحمد ربك أن حنا صرفنا عليك لحد ما خلصت الدكتوراه"، أي أن مجرد التفكير في طلب دورة تدريبية يعتبر تعدياً ومحاولة أخذ ما ليس لك بحق، وإذا كان عندك إصرار على حضورك الدورة التدريبية وقررت أن تغامر فإن هذا الأمر يتطلب أخذ موافقة جهات عدة تبدأ من القسم وتنتهي بلجان سرية تلعب فيها المصالح الشخصية (القرب والبعد من أعضاء اللجنة) في الموافقة من عدمها، مع أنه يفترض أن تكون هناك دورات تدريبية إجبارية تطور الأستاذ حتى أولئك غير الراغبين في التطوير. وأنا هنا أتساءل هل تعتقد ادارة الجامعة أن العلم توقف مع الحصول على شهادة الدكتوراه أو أنها تتوقع أن عضو هيئة التدريس يجب عليه أن ينفق دخله على التطوير الذاتي (مع أن دخله لا يكفيه حتى الثلث الأخير من الشهر).
عندما أسمع من بعض زملائي الذين يعملون في الشركات الخاصة وأشاهد حضورهم المتكرر لدورات تدريبية عالية المستوى مع مخصصات مالية كبيرة تشجعهم على حضور هذه الدورات (لأنها تصب في صالح العمل) أشعر بالغبن الذي يعيشه عضو هيئة التدريس السعودي الذي تمن الجامعة عليه بأنها أتاحت له الفرصة لإنهاء دراسته العليا وأن عليه أن يرد الجميل وأن يكون منتميا ومواليا للجامعة. فالجامعة هنا ترى أنها أدت ما عليها وأن على الأستاذ أن يقدم كل ما عنده، حتى الذي يتعيش به هو أسرته، حتى يكون أداؤه متميزاً. والنتيجة طبعاً أن أعضاء هيئة التدريس لا يشعرون بالرضى وأن التعليم العالي في تدهور مستمر. هذا التدهور لن يحل بمجرد العواطف بل يتطلب مناقشة شفافة لكل المشاكل التي نعاني منها وأن يكون هناك رغبة حقيقية في التغيير لا "التسكين".
المشكلة الإدارية تكمن هنا في الهدف من التعليم العالي عندنا، والذي أراه هو أن وزارة التعليم العالي لا يوجد لديها أهداف واضحة ولا يوجد عندها برامج لتطوير الأستاذ الجامعي بل هي وزارة "قيود" أكثر منها وزارة تطوير وتخطيط. والحقيقة أن أعضاء هيئة التدريس السعوديين لا يرون أي أهمية لوزارة التعليم ولا يشعرون بها إلا في حالة أخذ الموافقات (فك بعض القيود) لحضور المؤتمرات أو الأعمال الاستشارية. فأنا على سبيل المثال لا أعلم أين تقع الوزارة في مدينة الرياض وأعتقد أن مثلي الكثير الذين لا يعلمون، وهذا بالطبع ليس دليلاً على عدم تواجد الوزارة في حياتنا العملية، فقد أكون استثناء كما أن معرفة موقع الوزارة من عدمها لا يدل على دورها ولكن هي خاطرة خطرت لي، فأنا فعلاً لم أشعر قط أني بحاجة أن أزور الوزارة. ولكنني لم أسمع أن وزارة التعليم العالي قررت مناقشة القضايا الجوهرية التي يعاني منها التعليم على مستوى الجامعات بل كل ما تقوم بها إرسال أكداس من التعاميم والاتفاقيات مع جهات كثيرة في العالم لا نعلم حقيقة كيف نستفيد منها، ولن أقول إنه حتى لو أردنا أن نستفيد منها فلن نستطيع مع العراقيل التي ابتكرتها الوزارة للحد من حرية عضو هيئة التدريس.
إنني على قناعة أن ميزانيات الجامعات لدينا كبيرة ويمكن لو أحسن التصرف فيها تحقيق التطوير والرضى المطلوب، على أن ذلك لا يحدث لأن هناك الكثير من العوائق التي تمنع ذلك أهمها الأنظمة المالية والإدارية البالية وانتظارنا للتغير من الخارج دون البحث عن الإمكانات الموجودة داخل الجامعة نفسها. لعل الحل الأنسب في الوقت الراهن هو تحرير الجامعة من قيود وزارة التعليم العالي وحثها على التطوير الذاتي وإيجاد قواعد للمنافسة بين الجامعات (يمكن أن يكون هناك تصنيف سنوي للجامعات والكليات والأقسام تجعل من المنافسة أمراً ذا قيمة)، على أنه يجب أن يسبق ذلك إصلاح حال عضو هيئة التدريس من الناحية المالية ومن الناحية التطويرية. فإذا كنا نتوقع من عضو هيئة التدريس أن يكون مؤثراً ثقافياً ومهنياً في المجتمع وأن تصبح جامعاتنا معاقل للعلم فإننا لابد أن نهيئ المناخ المناسب لذلك لا أن نطالب بكل شيء ولا نقدم أي شيء.
إحدى القضايا التي نتحدث عنها دائما ونراها مؤثرة جداً في عملية تطوير التعليم العالي هي انتخابات رؤساء الأقسام وعمداء الكليات، وبما أننا نعيش عصر الانتخابات البلدية فإن أعضاء هيئة التدريس أولى ان يستردوا حقهم في أن ينتخبوا من بينهم من يرون أنه مناسباً كي يقود المسيرة التعليمية، وإذا كانت الانتخابات قبل عقد من الزمن كانت تقتصر على العمداء ورؤساء الأقسام فإننا نتمنى أن يصدر تنظيم لانتخابات يشمل حتى مديري الجامعات ووكلائها، وهو حق لكل عضو هيئة تدريس تنطبق عليه الشروط ليتحقق التطوير الذي نتمناه. الانتماء الذي تتمناه الجامعة من عضو هيئة التدريس لن يتحقق دون أن يشعر كل عضو أنه مقدر وأنه جزء من الجامعة لا موظف فيها، فواقع الحال يقول إن ادارات الجامعات ترى أن حقها مطلق في تسيير شؤون الجامعة وأن عضو هيئة التدريس يجب عليه فقط الاستجابة لما تمليه الإدارة، وهذا لب الخلاف الذي يجعل الأساتذة يشعرون بانفصال عن الجامعة ودورها في المجتمع لا كما يعتقد البعض أن الأساتذة يعيشون في أبراج عاجية.