أم حبيبة البريكى
03-06-2004, 11:16 AM
فتنة مسايرة الواقع
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد،،،
فإن من علامة توفيق الله لعبده المؤمن أن يرزقه اليقظة؛ فلا تراه إلا حذراً محاسباً لنفسه، خائفاً من أن يزيغ قلبه، وهذا دأبه في ليله ونهاره يفر بدينه من الفتن، ويجأر إلى ربه في دعائه يسأله الثبات، والوفاة على الإسلام والسُّنَّة، غير مبدل ولا مغير.
وإن خوف المؤمن ليشتد في أزمنة الفتن التي تموج موج البحر، والتي يرقق بعضها بعضاً، وما إخال زماننا اليوم إلا من هذه الأزمنة العصيبة التي تراكمت فيها الفتن، وتزينت للناس بلبوسها المزخرف الفاتن، ولم ينج منها إلا من ثبته الله .
وأجدها فرصة أن أتحدث عن فتنة شديدة تضغط على كثير من الناس فيضعفون أمامها، ألا وهي فتنة مسايرة الواقع، وضغط الفساد، ومسايرة العادات، ومراعاة رضا الناس وسخطهم، وهي فتنة لا يستهان بها؛ فلقد سقط فيها كثير من الناس، وضعفوا عن مقاومتها، والموفق من ثبته الله كما قال:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وفِي الآخِرَةِ...[27] }[سورة إبراهيم] . يقول ابن القيم رحمه الله: 'تحت هذه الآية كنز عظيم، من وفق لمظنته وأحسن استخراجه واقتناءه وأنفق منه فقد غنم، ومن حرمه فقد حرم'[ بدائع التفسير، 3/17].
وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد قال له ربه :{ولَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً[74]}[سورة الإسراء] . فسواه من الناس أحوج إلى التثبيت من ربه، وفي هذا تأكيد على أهمية الدعاء، وسؤال من بيده التثبيت وهو الله سبحانه.
ذكر بعض الصور لفتنة مسايرة الواقع والتقليد الأعمى:
إن فتنة مسايرة الواقع والتأثر بما عليه الناس لتشتد حتى تكون سبباً في الوقوع في الشرك الموجب للخلود في النار؛ وذلك كما هو الحال في شرك المشركين الأولين من قوم نوح، وعاد، وثمود، والذين جاءوا من بعدهم من مشركي العرب، فلقد ذكر لنا أنهم كانوا يحتجون على أنبيائهم عليهم السلام عندما دعوهم إلى التوحيد وترك الشرك بأنهم لم يسمعوا بهذا في آبائهم الأولين، وكانوا يتواصون باتباع ما وجدوا عليه آباءهم، ويحرض بعضهم بعضاً بذلك، ويثيرون نعرة الآباء والأجداد بينهم، وسجل الله عن قوم نوح عليه السلام قولهم:{مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ[24]}[سورة المؤمنون] . وقال عن قوم هود:{قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وحْدَهُ ونَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا...[70] }[سورة الأعراف] . وقال عن قوم صالح:{قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُواً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا...[62]}[سورة هود] . وقال سبحانه عن قوم فرعون:{قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا...[78]}[سورة يونس] . وقال عن مشركي قريش:{وإذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا...[170]}[سورة البقرة] . والآيات في ذلك كثيرة، والمقصود التنبيه إلى أن تقليد الآباء، ومسايرة ما عليه الناس وألفوه لهو من أشد أسباب الوقوع في الكفر والشرك، وقد بين الحق للناس؛ ولكن لوجود الهوى، وشدة ضغط الواقع، وضعف المقاومة يُؤْثِرُ المخذول أن يبقى مع الناس، ولو كان يعتقد أنهم على باطل، وأن ما تركه هو الحق المبين، وإلا فما معنى إصرار أبي طالب عم الرسول صلى الله عليه وسلم على أن يموت على عقيدة عبد المطلب الشركية مع قناعته بأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله والحق معه لولا الهوى، ومسايرة ما عليه الآباء، وخوفه من مصادمتهم وتضليلهم؟! نعوذ بالله تعالى من الخذلان.
وإذا جئنا لعصرنا الحاضر، وبحثنا عن أسباب ضلال علماء الضلال، الذين زينوا للناس الشرك والخرافة، والبدع الكفرية؛ رأينا أن من أهم الأسباب: مسايرتهم للناس، وميلهم مع الدنيا ومناصبها، وظنهم أنهم بمصادمة الناس سيخسرون دنياهم وجاههم بين الناس، فآثروا الحياة الدنيا على الآخرة، وسايروا الناس مع اعتقادهم ببطلان ما هم عليه.
وكذلك الحال في سائر المقلدين لهم لو بان لأحدهم الحق؛ فإنه يحتج بما عليه أغلب الناس، فيسير معهم، ويضعف عن الصمود أمام باطلهم إلا من رحم الله من عباده، الذين لا يقدِّمون على مرضاة الله شيئاً، ولا يتركون الحق لأجل الناس، ولا يسايرونهم على ما هم عليه من ضلال وفساد؛ بل يتذكرون قول الرسول صلى الله عليه وسلم: [مَنْ الْتَمَسَ رِضَا اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللَّهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ وَمَنْ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ] رواه الترمذي .
والأصل في مسايرة الناس على ضلالهم وتنكبهم الحق هو الهوى المتغلب على النفوس، بحيث يطمس البصيرة، حتى ترى المتبع لهواه يضحي بروحه في سبيل هواه وباطله وهو يعلم نهايته البائسة، ومن كانت هذه حاله، فلا تنفعه المواعظ، ولا الزواجر كما قال الشاطبي رحمه الله: 'فكذلك صاحب الهوى إذا ضل قلبه، وأُشرب حبه لا تعمل فيه الموعظة، ولا يقبل البرهان، ولا يكترث بمن خالفه'[ الموافقات للشاطبي، 2/ 268].
أما ما يتعلق بما دون الكفر من فتنة مسايرة الواقع فهي كثيرة ومتنوعة اليوم بين المسلمين، وهي تترواح بين الفتنة، وارتكاب الكبائر، أو الصغائر، أو الترخص في الدين، وتتبع زلات العلماء لتسويغ المخالفات الشرعية الناجمة عن مسايرة الركب، وصعوبة الخروج عن المألوف، واتباع الناس إن أحسنوا أو أساءوا. ومَنْ هذه حاله ينطبق عليه وصف الإمَّعة الذي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه وحذَّر منه؛ حيث قال: [لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً تَقُولُونَ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا] رواه الترمذي. و'الإمعة هو الذي يتابع كل ناعق، ويقول لكل أحد أنا معك؛ لأنه لا رأي له يرجع إليه، تابعاً لدين غيره بلا رؤية، ولا تحصيل برهان'[ تحفة الأحوذي].
والفتنة بمسايرة الواقع وما اعتاده الناس كثيرة في زماننا اليوم لا يسلم منها إلا من رحم الله، وجاهد نفسه مجاهدة كبيرة؛ لأن ضغط الفساد، ومكر المفسدين، وترويض الناس عليه ردحاً من الزمان؛ جعل القابض على دينه اليوم المستعصي على مسايرة الواقع في جهاد مرير مع نفسه ومع الناس كالقابض على الجمر، ولعل هذا الزمان هو تأويل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: [يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ] رواه الترمذي.
وإن مما يعين العبد على هذه المشقة، والصبر العظيم: هو عظم الأجر الذي يناله هذا القابض على دينه، المستعصي على مسايرة الناس، وضغط الواقع، وما ألفه الناس، ويكفي في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: [ فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ الصَّبْرُ فِيهِ مِثْلُ قَبْضٍ عَلَى الْجَمْرِ لِلْعَامِلِ فِيهِمْ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ] قَالَ-أي الراوي- يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْهُمْ قَالَ: [أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ] رواه أبوداود والترمذي وابن ماجة.
وفيما يلي ذكر بعض الصور لفتنة مسايرة الواقع في زماننا اليوم، وأخص بها فئة الدعاة، وأهل العلم، وما يجب أن يحذروه من هذه الفتنة:
إن أهل العلم والدعاة إلى الله لمن أشد الناس تعرضاً لفتنة المسايرة؛ وذلك لكثرة الفساد وتنوعه، وتسلط شياطين الإنس والجن على أهل الخير بالإيذاء والوسوسة وتأويل الأمور.. إلخ مما قد يعرض العالم أو الداعية إلى التنازلات والمداهنات؛ إرضاءًا للناس، أو اتقاءاً لسخطهم، أو رضىً بالأمر الواقع سواء ذلك بتأويل، أو بغير تأويل.وإن سقوط العالِم، أو الداعية في هذه الفتنة ليس كسقوط غيره؛ ذلك أن فتنته تتعدى إلى غيره؛ لأن الناس يرون فيه القدوة والشرعية.
إن الدعاة إلى الله وأهل العلم هم نور المجتمعات وصمام الأمان، فإذا وقع منهم من وقع في مسايرة الواقع، والرضا بالأمر الواقع؛ فمَنْ للأمة ينقذها ويرفع الذل عنها؟! هذا أمر يجب أن يتفطن له كل منتسب إلى الدعوة والعلم، ويتفقد نفسه ويحاسبها، ويسعى لإنجاء نفسه وأهله بادئ ذي بدء حتى يكون لدعوته بعد ذلك أثر على الناس، وقبول لها عندهم، أما إذا أهمل الداعية نفسه، وسار مع ما ألفه الناس، وصعب عليه الصمود والصبر؛ فإن الخطر كبير على النفس، والأهل، والناس من حوله.
إن المطلوب من الداعية والعالِم في مجتمعات المسلمين هو تغيير المجتمعات وتسييرها إلى ما هو أحسن لا مسايرتها ومداهنتها، فهذه والله هي مهمة الأنبياء والمصلحين من بعدهم، وهذه هي الحياة السعيدة للعالِم والداعية، وإلا فلا معنى لحياة الداعية والعالم، ولا قيمة لها إذا هو ساير الناس، واستسلم لضغوط الواقع، وأهواء الناس.
إن العالم والداعية لا قيمة لحياتهما إلا بالدعوة والتغيير للأحسن، ولا شك أن في ذلك مشقة عظيمة؛ ولكن العاقبة حميدة في الدارين لمن صبر وصابر واستعان بالله . وفي ذلك يتحدث أحد الدعاة المخلصين عن رجل العقيدة الذي يسعى لتغيير الواقع وتسييره في مرضاة الله عز وجل وليس مسايرته في مرضاة النفس والناس فيقول: 'وأهم شيء في الموضوع تكوين رجل العقيدة؛ ذلك الإنسان الذي تصبح الفكرة همه: تقيمه وتقعده، ويحلم بها في منامه، وينطلق في سبيلها في يقظته، وليس لدينا بكل أسف من هذا النوع القوي والعبقري؛ ولكن لدينا نفوس متألمة متحمسة مستعدة بعض الاستعداد، ولا بد للنجاح من أن ينقلب هؤلاء إلى مُثُلٍ قوية تعي أمرها، وتكمل نقصها ليتم تحفزها الذي ينطلق من عدم الرضا بالواقع، والشعور بالأخطار التي تتعاقب، وينتهي باستجابة لأمر الله، ونداءات الكتاب الحكيم، ومراقبة وعد الله ووعيده، والتأسي بسيرة الرسول الكريم عليه صلوات الله وسلامه، ولا بد لنا من وصف عاجل، وتحديد مجمل لرجل العقيدة.
إن السلوك الأول الفطري الذي يأتي به المخلوق إلى هذه الدنيا هو السلوك الغريزي، وهذا السلوك يظل لدى الإنسان فعالاً مؤثراً حياة المرء كلها. وفي مجتمع كمجتمعنا لا يليق بشخص محترم أن يحمل حاجاته إلى منزله مع أن ذلك مما يثاب المرء عليه، وفي مجتمع كمجتمعنا لا بد من التبذير ولا بد من الترف؛ فالأرائك في المنزل لا يحسن أن تكون من خشب رخيص وفراش بسيط؛ بل لا بد من المغالاة بأثمانها، فهذا تبذير للأموال، ووضعها في غير موضعها، والتبذير محرم في عرف الشرع، ولكن سخط المجتمع أكبر عند بعض الناس من الحلال والحرام وقد قال عليه الصلاة والسلام: [مَنْ أَرْضَى النَّاسَ بِسَخَطِ اللَّهِ سَخِطَ الله عَلْيهَ وَأَسْخَطَ عَلْيهَ النَّاسَ] سبق تخريجه. ويتحكم المجتمع في الأزياء تحكُّماً يقارب عبادة الوثن.
كثيرون أولئك الذين يعيشون من أجل رضا الناس والخوف من سخطهم، لا يستطيعون التفلت من هذه القيود حياتهم كلها، وهذا المستوى يرتبط بالمستوى الغريزي الأول؛ ذلك أن الإنسان اجتماعي بفطرته يعيش مع الناس ويحرص على رضاهم. وقليلٌ أولئك الذين يستطيعون أن يتجاوزوا هذا المستوى، يتخطونه إلى مستوى أعلى هو مستوى العقيدة، فيعيشون لعقيدة، ويمضون في سلوكهم بما تملي به عليهم عقيدتهم سواء سخط الناس أم رضوا، وليس فوق هذا المستوى حين يندفع المرء بوحي عقيدته وإيمانه غير مبالٍ برضا راضٍ أو سخط ساخط، ليس فوق هذا المستوى مستوى أرفع منه'[ في سبيل الدعوة الإسلامية، للعلامة محمد أمين المصري- باختصار].
من خلال ما سبق بيانه عن رجل العقيدة ندرك أن أبرز صفاته أنه يعيش لعقيدته، ويمضي في سلوكه بما تملي عليه هذه العقيدة غير مبالٍ بسخط الناس ولا رضاهم، ولا بعاداتهم وتقاليدهم المحرمة، يغير واقع الناس ولا يسايره، يؤثر فيه ولا يتأثر، هذا ما ينبغي أن يكون عليه رجال العقيدة والدعوة والعلم،
ولكن الناظر اليوم في واقع الأمة، وما تعرضت له من التبعية والمسايرة؛ يجد أن الصفات المذكورة في رجل العقيدة، والمشار إليها سابقاً لا تكاد توجد اليوم إلا في فئة قليلة من الداعين إلى الله ، نسأل الله أن يبارك في أعمالهم وأوقاتهم، أما السواد الأعظم فقد تأثر بشكل، أو بآخر بفتنة مسايرة الواقع، ما بين مقل ومكثر .
ومن صور هذه الفتنة التي يجب أن يحذرها المسلمون عامة والمصلحون وأهل العلم خاصة ما يلي:
1- مسايرة الواقع وما ألفه الناس من عادات اجتماعية وأسرية مخالفة للشريعة والمروءة، كانت في أول الأمر غريبة ومستنكرة، ولكن النفوس ألفتها،ومن أبرز هذه العادات والممارسات:
ما انتشر في بيوت كثير من المسلمين من أدوات اللهو والأجهزة الجالبة للفساد كالتلفاز وغيره، وكذلك ما امتلأت به البيوت من صور ذوات الأرواح من غير ضرورة حتى أصبحت هذه المقتنيات أمراً مألوفاً لا يمكن الانفكاك عنه، ومن ينكره من أولياء الأمور يعترف بضعفه أمام رغبات الزوجة والأولاد وسخط المجتمع من حوله، فيستسلم لمثل هذه المنكرات مسايرة للواقع، وإرضاءاً للناس الذين لن يُغْنوا عنه من الله شيئاً، وكفى بذلك فتنة.
ما ظهر في السنوات الأخيرة في بعض الدول من انتشار قصور الأفراح والفنادق وما يحصل فيها من منكرات، وبخاصة في أوساط النساء كالتبرج الفاضح، والغناء المحرم المصحوب بأصوات النساء المرتفعة، ناهيك عن المفاخرة والمباهاة في الملابس والمآكل... إلخ. ومع ذلك فلقد أصبحت أمراً مألوفاً يُشَنَّع على من يخرج عليه، أو يرفضه ويقاطعه، حتى أصبح كثير من الناس أسيراً لهذه العادات مسايراً للناس في ذلك إرضاءاً لهم، أو اتقاءاً لسخطهم.
مسايرة النساء في لباسهن وتقليدهن لعادات الغرب الكافر في اللباس والأزياء وصرعات الموضات، وأدوات التجميل حتى أصبح أمراً مألوفاً لم ينج منه إلا أقل القليل من النساء الصالحات المتربيات في منابت صالحة تجعل رضا الله فوق رضا المخلوق، أما أكثر الناس فقد سقط في هذه الفتنة فانهزمت المرأة أمام ضغط الواقع الشديد، وتلا ذلك انهزام وليها أمام رغبة موليته، واستسلم هو الآخر، وساير في ذلك مع من ساير حتى صرنا نرى أكثر نساء المسلمين على هيئة في اللباس والموضات ينكرها الشرع والعقل، وتنكرها المروءة والغيرة، وكأن الأمر تحول إلى شبه عبودية لبيوت الأزياء، يصعب الانفكاك عنها.
مسايرة الناس في ما اعتادوه اليوم في التوسع في المساكن والمراكب والمآكل بشكل يتسم بالترف الزائد بل بالمباهاة والمفاخرة: حتى ضعف كثير من الناس عن مقاومة هذا الواقع؛ فراح الكثير منهم يرهق جسده وماله، ويحمِّل نفسه الديون الكبيرة، وذلك حتى يساير الناس، ويكون مثل فلان وفلان، والمشكل هنا ليس التوسع في المباحات وترفيه النفس؛ فقد لا يكون بذلك بأس إذا لم يوقع في الحرام، لكن ضغط الواقع، وإرضاء الناس، ومسايرة عقول النساء والأطفال يدفع بعض الطيبين إلى تحميل نفسه من الديون الباهظة، وذلك ليكون مثل غيره في المركب أو المسكن، ولن ينفعه مسايرة الناس من الأقارب والأباعد شيئاً إذا حضره الموت وديون الناس على كاهله لم يستطع لها دفعاً.
2- مسايرة الناس فيما يطرحونه من استفتاءات حول بعض المخالفات الشرعية المعاصرة وذلك من قِبَلِ بعض أهل العلم الذين قد يرون مسايرة الواقع، ويفتون ببعض الأقوال الشاذة والمهجورة، أو يحتجون بقواعد الضرورة، أو رفع الحرج، أو الأخذ بالرخص... إلخ، ولا يخفى ما في ذلك من السير مع أهواء الناس والرضا بالأمر الواقع، والتحلل من أحكام الشريعة شيئاً فشيئاً، والمطلوب من أهل العلم والفتوى في أزمنة الغربة أن يعظُوا الناس، ويرشدوهم ويأمروهم بالمعروف وينهوهم عن المنكر بدل أن يحسِّنوا لهم الواقع ويسوِّغوا صنيعهم فيه. يقول الشاطبي رحمه الله: 'المقصد الشرعي مِن وضْع الشريعة هو إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبداً لله اختياراً كما هو عبد الله اضطراراً'[ الموافقات، 2/ 128] ويقول أيضاً: 'إن الترخُّص إذا أُخذ به في موارده على الإطلاق كان ذريعة إلى انحلال عزائم المكلفين في التعبد على الإطلاق، فإذا أخذ بالعزيمة كان حرياً بالثبات في التعبد والأخذ بالحزم فيه... فإذا اعتاد الترخص صارت كل عزيمة في يده كالشاقَّة الحرجة، وإذا صارت كذلك لم يقم بها حق قيامها، وطلب الطريق إلى الخروج منها'[ الموافقات، 2/ 247].
وقد لا يكون المفتي قاصداً مسايرة واقع الناس، أو الميل مع أهوائهم؛ لكنه يغفل عن مكر بعض الناس وخداعهم، وذلك في طريقة استفتاءاتهم، وصياغتها صياغة تدفع المفتي من أهل العلم إلى إجابته بما يهوى، وعن هذا يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى : 'يحرم عليه-أي على المفتي- إذا جاءته مسألة فيها تحايل على إسقاط واجب أو تحليل محرم، أو مكر، أو خداع أن يعين المستفتي فيها، ويرشده إلى مطلوبه، أو يفتيه بالظاهر الذي يتوصل به إلى مقصوده؛ بل ينبغي له أن يكون بصيراً بمكر الناس وخداعهم وأحوالهم، ولا ينبغي له أن يحسن الظن بهم، بل يكون حذراً فطناً فقيهاً بأحوال الناس وأمورهم، يؤازره فقهه في الشرع، وإن لم يكن كذلك زاغ و أزاع، وكم من مسألة ظاهرها جميل، وباطنها مكر وخداع وظلم! فالغر ينظر إلى ظاهرها ويقضي بجوازه، وذو البصيرة ينفذ إلى مقصدها وباطنها، فالأول يروج عليه زغل المسائل كما يروج على الجاهل بالنقد زغل الدراهم، والثاني يخرج زيفها كما يخرج الناقد زيف النقوذ، وكم من باطل يخرجه الرجل بحسن لفظه وتنميقه وإبرازه في صورة حق! وكم من حق يخرجه بتهجينه وسوء تعبيره في صورة باطل! ومن له أدنى فطنة وخبرة لا يخفى عليه ذلك'[إعلام الموقعين، 4/ 229].
3- مسايرة واقع الأنظمة ببعض التنازلات التي تضر بالدعوة وأهلها:وهذا من أخطر ما يتعرض له أهل الدعوة والعلم والإصلاح، وبخاصة حينما يكثر الفساد، وتشتد وطأته على الناس، ويبطؤ نصر الله ويتسلط الظالمون على عباد الله المصلحين، حينئذ يجتهد بعض المهتمين بالدعوة والإصلاح، ويظهر لهم أن التقارب مع أرباب الأنظمة والسلطان والالتقاء معهم في منتصف الطريق قد يكون فيه مصلحة للدعوة وتخفيف شر عن المسلمين، وكل ما في الأمر بعض التنازلات القليلة التي يتمخض عنها بزعمهم مصالح كبيرة!!
وليس المقام هنا مقام الرد والمناقشات لهذه الاجتهادات، فيكفي في فشلها وخطورتها نتائجها التي نسمعها ونراها عند من خاضوا هذه التنازلات ورضوا بالأمر الواقع؛ فلا مصلحة ظاهرة حققوها بتنازلاتهم، ولا مفسدة قائمة أزالوها؛ ولقد حذَّر الله نبيه صلى الله عليه وسلم عن الركون للظالمين المفسدين أشد التحذير؛ وذلك في قوله تعالى:{وإن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَذِي أَوْحَينا إلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وإذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً [73] ولَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً [74] إذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحَيَاةِ وضِعْفَ المَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً[75]}[سورة الإسراء] .
يعدد السياق محاولات المشركين مع الرسول صلى الله عليه وسلم وأولها: محاولة فتنته عما أوحى الله إليه، ليفتري عليه غيره، وهو الصادق الأمين،لقد حاولوا هذه المحاولة في صور شتى:
منها:مساومتهم له أن يعبدوا إلهه في مقابل أن يترك التنديد بآلهتهم وما كان عليه آباؤهم، ومنها:
مساومة بعضهم له أن يجعل أرضهم حراماً كالبيت العتيق الذي حرمه الله.
ومنها: طلب بعض الكبراء أن يجعل لهم مجلساً غير مجلس الفقراء.
والنص يشير إلى هذه المحاولات ولا يفصِّلها، ليذكِّر بفضل الله على الرسول صلى الله عليه وسلم في تثبيته على الحق، وعصمته من الفتنة. ولو تخلى عنه تثبيت الله وعصمته لركن إليهم فاتخذوه خليلاً، وللقي عاقبة الركون إلى فتنة المشركين هذه، وهي مضاعفة العذاب في الحياة والممات دون أن يجد له نصيراً منهم يعصمه من الله.
هذه المحاولات التي عصم الله منها رسوله هي محاولات أصحاب السلطان مع أصحاب الدعوات دائماً، محاولة إغرائهم لينحرفوا-ولو قليلاً- عن استقامة الدعوة وصلابتها، ويرضوا بالحلول الوسط التي يغرونهم بها في مقابل مغانم كثيرة، ومن حملة الدعوات من يفتن بهذا عن دعوته؛ لأنه يرى الأمر هيناً؛ فأصحاب السلطان لا يطلبون منه أن يترك دعوته كلية، إنما هم يطلبون تعديلات طفيفة ليلتقي الطرفان في منتصف الطريق.
وقد يدخل الشيطان على حامل الدعوة من هذه الثغرة، فيتصور أن خير الدعوة في كسب أصحاب السلطان إليها، ولو بالتنازل عن جانب منها! ولكن الانحراف الطفيف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية الطريق، وصاحب الدعوة الذي يقبل التسليم في جزء منها ولو يسيراً، وفي إغفال طرف منها-ولو ضئيلاً- لا يملك أن يقف عند الذي سلم به أول مرة؛ لأن استعداده للتسليم يتزايد كلما رجع خطوة إلى الوراء!
4 - مسايرة ركب الغرب في بعض ميادين من قِبَلِ دعاة العصرانية من أبناء المسلمين:
إن الحديث عن العصرانية والعصرانيين يطول، ولكن يكفي أن نذكر هنا ما يتعلق بموضوعنا وهو الحديث عن فتنة المسايرة، ولا أحسب العصرانيين من بني قومنا إلا وقد أركسوا في هذه الفتنة، وظهرت عليهم في أجلى صورها، وهم لا يعترفون بأنها مسايرة؛ ولكنهم يسمونها تجديداً وتطويراً يناسب العصر، وتحت هذا المسمى يقضون على كثير من الثوابت الشرعية، ويتحللون من شرع الله باسم التطوير وهو في الحقيقة مسايرة للواقع الغربي، وتقليد أعمى، وانبهار بإنجازاته المادية، بل الهزيمة النفسية أمامه؛ والغريب في أمر هؤلاء أنهم يرفضون التقليد، ويشنعون على من يقلد سلف الأمة ويتبعهم، وعلى من يبقى على الموروث لا يتجاوزه ولا يطوره، ثم هم في الوقت نفسه يسقطون في تقليد الغرب، ومحاكاته بصورة لا تدع مجالاً للريب والشك؛ وهم الذين يتشدقون بالعقلانية ورفض التقليد!!
ويعرِّف الدكتور الزنيدي العصرانية بقوله:'هي التأقلم مع المعطيات الاجتماعية والعلمية المتجددة في كل عصر، وربط الإنسان في فرديته وجماعيته بها في دائرة التصور البشري'. ويتحدث الأستاذ محمد حامد الناصر عن بعض شذوذات العصرانيين في ميادين الفقه فيقول: 'لقد خرج العصرانيون علينا بفقه غريب شاذ، يريد تسويغ الواقع المعاصر لإدخال كثير من القيم الغربية في دائرة الإسلام؛ ذلك أن موقفهم من النصوص الشرعية عجيب؛ فإذا كانت الآية واضحة الدلالة، والأحاديث النبوية المتواترة قالوا: إن هذه النصوص كانت لمناسبات تاريخية لا تصلح لعصرنا الحاضر، وإذا كانت أحاديث آحاد؛ قالوا: لا يؤخذ من خبر الآحاد تشريع، ولا تبنى عليه عقيدة، أو ألغوا بعض الأحاديث الصحيحة بحجة أنها سُنَّة غير تشريعية، ثم يتهمون الفقهاء بالجمود وضيق الأفق!! إن هذه التجاوزات لو أخذ بها لن تترك من ثوابت الإسلام إلا وحاولت مسخه أو تشويهه. ومن شذوذاتهم:
1- رفضهم تطبيق الحدود التي فيها رجم، أو قتل، أو قطع عضو إلا بعد الإصرار والمعاودة والتكرار، ويأتون بِشُبَهٍ من هنا وهناك.
2- إباحتهم الربا في البنوك بحجة الحفاظ على اقتصاد البلاد، وأن الربا المحرم عندهم هو الربح المركب.
3 - موقفهم من المرأة، والدعوة إلى تحريرها بزعمهم، ودعوتهم لها إلى محاكاة المرأة الغربية في عاداتها، وإلى الثورة على الحجاب الشرعي وتعدد الزوجات، يقول محمد عمارة: 'إن تعدد الزوجات وتتابع الزواج، واتخاذ السراري والجواري من سمات عصر الإقطاع والدولة الإقطاعية' . والترابي يقصر الحجاب على نساء النبي صلى الله عليه وسلم، ثم راحوا يسوغون الاختلاط بين الرجال والنساء بعد أن زينوا للمرأة الخروج من بيتها.
4- أحكام أهل الذمة: كما يرى العصرانيون أن أحكام أهل الذمة كانت لعصر غير عصرنا وهي الآن لا تناسب عصرنا!!'.
ولكن الأستاذ الناصر يوضح مفهومهم للتجديد والتطوير قائلاً: 'إن مزاعم التجديد التي رفع هؤلاء لواءها كشفت الحقيقة جلية، وهي أن التجديد لديهم يعني تطوير الدين على طريقة عصرنة الدين عند اليهود والنصارى'. ولذلك فإن التجديد عندهم يعني: هدم العلوم المعيارية: أي علوم التفسير المأثور وأصوله، وعلم أصول الفقه، وعلم مصطلح الحديث.
ويعني: رفض الأحاديث الصحيحة جزئياً أو كلياً بحجة ضرورة ملاءمتها لعقولهم ولمصلحة الأمة، وظروف العصر الحاضر.
ويعني: رفض السنة غير التشريعية أي: فيما يخص شؤون الحكم والسياسة، وأمور الحياة والمجتمع عموماً.
التجديد عندهم يعني: الانعتاق من إسار الشريعة إلى بحبوحة القوانين الوضعية، التي تحقق الحرية والتقدم، ولذلك هاجموا الفقه والفقهاء بلا هوادة.
الاجتهاد والتجديد عندهم يعني: تحقيق المصلحة وروح العصر.
مما سبق يتبين خطر هذه البدعة الجديدة، وأن أصلها مسايرة الواقع، والانهزامية أمام ضغطه مصحوباً ذلك بالجهل بالإسلام أحياناً، وبالهوى والشهوة أحياناً كثيرة.
الآثار الخطيرة لمسايرة الواقع وسبل النجاة منها:
1- الآثار الدنيوية: وذلك بما يظهر على المساير من فقدان الهوية، وذوبان الشخصية الإسلامية، وبما يتكبده من معاناة في جسده ونفسه وماله وولده، وهذه كلها مصادر شقاء بخلاف المستسلم لشرع الله، الرافض لما سواه، المنجذب إلى الآخرة فلا تجده إلا مطمئناً ينظر: ماذا يرضي ربه فيفعله، وماذا يسخطه فيتركه، غير مبالٍ برضى الناس، أو سخطهم.
2 - الآثار الدينية: وهذه أخطر من سابقتها؛ وذلك أن المساير لواقع الناس، المخالف لشرع الله يتحول بمضيِّ الوقت، واستمراء المعصية إلى أن يألفها، ويرضى بها، ويختفي من القلب إنكارها، وما وراء ذلك من الإيمان حبة خردل.
كما أن المساير لركب المخالفين لأمر الله لا تقف به الحال عند حد معين من المسايرة والتنازل والتسليم للواقع، بل إنه ينزل في مسايرته خطوة خطوة؛ وكل معصية تساير فيها الناس تقود إلى معصية أخرى؛ وهكذا حتى يظلم القلب ويصيبه الران؛ ذلك أن من عقوبة المعصية معصية بعدها، ومن ثواب الحسنة حسنة بعدها؛ وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله [الفتاوى، 14/245]:'وقد ذكر في غير موضع من القرآن ما يبين أن الحسنة الثانية قد تكون من ثواب الأولى، وكذلك السيئة الثانية قد تكون من عقوبة الأولى، قال تعالى:{ولَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وأَشَدَّ تَثْبِيتاً [66] وإذاً لآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيماً [67] ولَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً[68]}[سورة النساء] . وقال تعالى:{والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا...[69]}[سورة العنكبوت] .
وقال تعالى:{والَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ [4] سَيَهْدِيهِمْ ويُصْلِحُ بَالَهُمْ [5] ويُدْخِلُهُمُ الجنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ[5]}[سورة محمد] . وقال تعالى:{ ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى...[10]}[سورة الروم] '.
وما أجمل ما قاله سيد قطب رحمه الله : 'ولكن الانحراف الطفيف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية الطريق، وصاحب الدعوة الذي يقبل التسليم في جزء منها-ولو يسيراً- لا يملك أن يقف عند ما سلَّم به أول مرة؛ لأن استعداده للتسليم يتزايد كلما رجع خطوة إلى الوراء'.
3- الآثار الدعوية:إن الداعية الذي تظهر عليه مظاهر مسايرة الواقع يفقد مصداقيته عند نفسه وعند الناس، وإن لم يتدارك نفسه، فقد ييأس ويخسر، ويترك الدعوة وأهلها؛ إذ كيف يساير الواقع من هو مطالب بتغيير الواقع وتسييره؟! وكلما كثر المسايرون؛ كثر اليائسون والمتساقطون؛ وهذا بدوره يؤدي إلى ضعف الدعوة، وضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
سبل النجاة أو الوقاية من هذه الفتنة: قد قال لنبيه:{ولَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً[74]}[سورة الإسراء] . فأول سبيل من سبل النجاة هو سؤال الله، وصدق العزيمة، والأخذ بأسباب الثبات ومنها:
1- فعل الطاعات، وامتثال الأوامر واجتناب النواهي: كما قال عز وجل:{ولَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وأَشَدَّ تَثْبِيتاً [66]}[سورة النساء] . فذكر سبحانه في هذه الآية أن شدة التثبيت تكون لمن قام بفعل ما يوعظ به من فعل الأوامر، وترك النواهي، ويشير الإمام ابن القيم رحمه الله إلى أثر الطاعة في الثبات فيقول: 'فالخلق كلهم قسمان: موفق بالتثبيت، ومخذول بترك التثبيت. ومادة التثبيت وأصله ومنشؤه من القول الثابت، وفعل ما أُمِر به العبد، فبهما يثبِّت الله عبده؛ فكل ما كان أثبت قولاً، وأحسن فعلاً؛ كان أعظم تثبيتاً قال تعالى:{ولَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وأَشَدَّ تَثْبِيتاً [66]}[سورة النساء] .فأثبت الناس قلباً أثبتهم قولاً، والقول الثابت هو القول الحق والصدق'[بدائع التفسير، 1/17].
2- مصاحبة الدعاة الصادقين، الرافضين للواقع السيئ: والسعي معهم في الدعوة إلى الله، وتغيير الواقع السيئ في نفوسهم وأسرهم ومجتمعاتهم، واعتزال أهل الدنيا الراكنين إليها، والمسارعين فيها، والمتبعين لكل ناعق، وترك مخالطتهم إلا لدعوتهم، أو ما تدعو الحاجة إليه؛ لأن المجالسة تؤول إلى المؤانسة والمجانسة.
3 - التفقه في الدين، والبصيرة في شرع الله: لأن المسايرة عند بعض الناس تنبع من جهل بالشريعة وأحكامها ومقاصدها، مع أن أكثر المسايرين المخالفين للشريعة إنما يدفعهم إلى المسايرة الهوى والضعف.
والمقصود: أن من كانت مسايرته بسبب جهله بالشرع، فإن في العلم الشرعي دواءه، ومنعه من المسايرة بإذن الله . وينبغي على طالب العلم الشرعي، والمستفتي في دينه أن يسأل أهل العلم الراسخين فيه، الذين يجمعون بين العلم والورع ومعرفة الواقع، وأن يحذر من أهل العلم الذين يسيرون على أهواء الناس، وتلمس الرخص، والآراء الشاذة لهم.
4 - إفشاء المناصحة وإشاعتها بين المسلمين وبخاصة بين أهل الخير: لأن السكوت على المخالفات، وضعف المناصحة بين المسلمين من أسباب التلبس بالمنكرات، ومسايرة الناس فيها.
من :'فتنة مسايرة الواقع' للشيخ/ عبد العزيز بن ناصر الجليل
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد،،،
فإن من علامة توفيق الله لعبده المؤمن أن يرزقه اليقظة؛ فلا تراه إلا حذراً محاسباً لنفسه، خائفاً من أن يزيغ قلبه، وهذا دأبه في ليله ونهاره يفر بدينه من الفتن، ويجأر إلى ربه في دعائه يسأله الثبات، والوفاة على الإسلام والسُّنَّة، غير مبدل ولا مغير.
وإن خوف المؤمن ليشتد في أزمنة الفتن التي تموج موج البحر، والتي يرقق بعضها بعضاً، وما إخال زماننا اليوم إلا من هذه الأزمنة العصيبة التي تراكمت فيها الفتن، وتزينت للناس بلبوسها المزخرف الفاتن، ولم ينج منها إلا من ثبته الله .
وأجدها فرصة أن أتحدث عن فتنة شديدة تضغط على كثير من الناس فيضعفون أمامها، ألا وهي فتنة مسايرة الواقع، وضغط الفساد، ومسايرة العادات، ومراعاة رضا الناس وسخطهم، وهي فتنة لا يستهان بها؛ فلقد سقط فيها كثير من الناس، وضعفوا عن مقاومتها، والموفق من ثبته الله كما قال:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وفِي الآخِرَةِ...[27] }[سورة إبراهيم] . يقول ابن القيم رحمه الله: 'تحت هذه الآية كنز عظيم، من وفق لمظنته وأحسن استخراجه واقتناءه وأنفق منه فقد غنم، ومن حرمه فقد حرم'[ بدائع التفسير، 3/17].
وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد قال له ربه :{ولَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً[74]}[سورة الإسراء] . فسواه من الناس أحوج إلى التثبيت من ربه، وفي هذا تأكيد على أهمية الدعاء، وسؤال من بيده التثبيت وهو الله سبحانه.
ذكر بعض الصور لفتنة مسايرة الواقع والتقليد الأعمى:
إن فتنة مسايرة الواقع والتأثر بما عليه الناس لتشتد حتى تكون سبباً في الوقوع في الشرك الموجب للخلود في النار؛ وذلك كما هو الحال في شرك المشركين الأولين من قوم نوح، وعاد، وثمود، والذين جاءوا من بعدهم من مشركي العرب، فلقد ذكر لنا أنهم كانوا يحتجون على أنبيائهم عليهم السلام عندما دعوهم إلى التوحيد وترك الشرك بأنهم لم يسمعوا بهذا في آبائهم الأولين، وكانوا يتواصون باتباع ما وجدوا عليه آباءهم، ويحرض بعضهم بعضاً بذلك، ويثيرون نعرة الآباء والأجداد بينهم، وسجل الله عن قوم نوح عليه السلام قولهم:{مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ[24]}[سورة المؤمنون] . وقال عن قوم هود:{قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وحْدَهُ ونَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا...[70] }[سورة الأعراف] . وقال عن قوم صالح:{قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُواً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا...[62]}[سورة هود] . وقال سبحانه عن قوم فرعون:{قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا...[78]}[سورة يونس] . وقال عن مشركي قريش:{وإذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا...[170]}[سورة البقرة] . والآيات في ذلك كثيرة، والمقصود التنبيه إلى أن تقليد الآباء، ومسايرة ما عليه الناس وألفوه لهو من أشد أسباب الوقوع في الكفر والشرك، وقد بين الحق للناس؛ ولكن لوجود الهوى، وشدة ضغط الواقع، وضعف المقاومة يُؤْثِرُ المخذول أن يبقى مع الناس، ولو كان يعتقد أنهم على باطل، وأن ما تركه هو الحق المبين، وإلا فما معنى إصرار أبي طالب عم الرسول صلى الله عليه وسلم على أن يموت على عقيدة عبد المطلب الشركية مع قناعته بأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله والحق معه لولا الهوى، ومسايرة ما عليه الآباء، وخوفه من مصادمتهم وتضليلهم؟! نعوذ بالله تعالى من الخذلان.
وإذا جئنا لعصرنا الحاضر، وبحثنا عن أسباب ضلال علماء الضلال، الذين زينوا للناس الشرك والخرافة، والبدع الكفرية؛ رأينا أن من أهم الأسباب: مسايرتهم للناس، وميلهم مع الدنيا ومناصبها، وظنهم أنهم بمصادمة الناس سيخسرون دنياهم وجاههم بين الناس، فآثروا الحياة الدنيا على الآخرة، وسايروا الناس مع اعتقادهم ببطلان ما هم عليه.
وكذلك الحال في سائر المقلدين لهم لو بان لأحدهم الحق؛ فإنه يحتج بما عليه أغلب الناس، فيسير معهم، ويضعف عن الصمود أمام باطلهم إلا من رحم الله من عباده، الذين لا يقدِّمون على مرضاة الله شيئاً، ولا يتركون الحق لأجل الناس، ولا يسايرونهم على ما هم عليه من ضلال وفساد؛ بل يتذكرون قول الرسول صلى الله عليه وسلم: [مَنْ الْتَمَسَ رِضَا اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللَّهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ وَمَنْ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ] رواه الترمذي .
والأصل في مسايرة الناس على ضلالهم وتنكبهم الحق هو الهوى المتغلب على النفوس، بحيث يطمس البصيرة، حتى ترى المتبع لهواه يضحي بروحه في سبيل هواه وباطله وهو يعلم نهايته البائسة، ومن كانت هذه حاله، فلا تنفعه المواعظ، ولا الزواجر كما قال الشاطبي رحمه الله: 'فكذلك صاحب الهوى إذا ضل قلبه، وأُشرب حبه لا تعمل فيه الموعظة، ولا يقبل البرهان، ولا يكترث بمن خالفه'[ الموافقات للشاطبي، 2/ 268].
أما ما يتعلق بما دون الكفر من فتنة مسايرة الواقع فهي كثيرة ومتنوعة اليوم بين المسلمين، وهي تترواح بين الفتنة، وارتكاب الكبائر، أو الصغائر، أو الترخص في الدين، وتتبع زلات العلماء لتسويغ المخالفات الشرعية الناجمة عن مسايرة الركب، وصعوبة الخروج عن المألوف، واتباع الناس إن أحسنوا أو أساءوا. ومَنْ هذه حاله ينطبق عليه وصف الإمَّعة الذي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه وحذَّر منه؛ حيث قال: [لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً تَقُولُونَ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا] رواه الترمذي. و'الإمعة هو الذي يتابع كل ناعق، ويقول لكل أحد أنا معك؛ لأنه لا رأي له يرجع إليه، تابعاً لدين غيره بلا رؤية، ولا تحصيل برهان'[ تحفة الأحوذي].
والفتنة بمسايرة الواقع وما اعتاده الناس كثيرة في زماننا اليوم لا يسلم منها إلا من رحم الله، وجاهد نفسه مجاهدة كبيرة؛ لأن ضغط الفساد، ومكر المفسدين، وترويض الناس عليه ردحاً من الزمان؛ جعل القابض على دينه اليوم المستعصي على مسايرة الواقع في جهاد مرير مع نفسه ومع الناس كالقابض على الجمر، ولعل هذا الزمان هو تأويل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: [يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ] رواه الترمذي.
وإن مما يعين العبد على هذه المشقة، والصبر العظيم: هو عظم الأجر الذي يناله هذا القابض على دينه، المستعصي على مسايرة الناس، وضغط الواقع، وما ألفه الناس، ويكفي في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: [ فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ الصَّبْرُ فِيهِ مِثْلُ قَبْضٍ عَلَى الْجَمْرِ لِلْعَامِلِ فِيهِمْ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ] قَالَ-أي الراوي- يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْهُمْ قَالَ: [أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ] رواه أبوداود والترمذي وابن ماجة.
وفيما يلي ذكر بعض الصور لفتنة مسايرة الواقع في زماننا اليوم، وأخص بها فئة الدعاة، وأهل العلم، وما يجب أن يحذروه من هذه الفتنة:
إن أهل العلم والدعاة إلى الله لمن أشد الناس تعرضاً لفتنة المسايرة؛ وذلك لكثرة الفساد وتنوعه، وتسلط شياطين الإنس والجن على أهل الخير بالإيذاء والوسوسة وتأويل الأمور.. إلخ مما قد يعرض العالم أو الداعية إلى التنازلات والمداهنات؛ إرضاءًا للناس، أو اتقاءاً لسخطهم، أو رضىً بالأمر الواقع سواء ذلك بتأويل، أو بغير تأويل.وإن سقوط العالِم، أو الداعية في هذه الفتنة ليس كسقوط غيره؛ ذلك أن فتنته تتعدى إلى غيره؛ لأن الناس يرون فيه القدوة والشرعية.
إن الدعاة إلى الله وأهل العلم هم نور المجتمعات وصمام الأمان، فإذا وقع منهم من وقع في مسايرة الواقع، والرضا بالأمر الواقع؛ فمَنْ للأمة ينقذها ويرفع الذل عنها؟! هذا أمر يجب أن يتفطن له كل منتسب إلى الدعوة والعلم، ويتفقد نفسه ويحاسبها، ويسعى لإنجاء نفسه وأهله بادئ ذي بدء حتى يكون لدعوته بعد ذلك أثر على الناس، وقبول لها عندهم، أما إذا أهمل الداعية نفسه، وسار مع ما ألفه الناس، وصعب عليه الصمود والصبر؛ فإن الخطر كبير على النفس، والأهل، والناس من حوله.
إن المطلوب من الداعية والعالِم في مجتمعات المسلمين هو تغيير المجتمعات وتسييرها إلى ما هو أحسن لا مسايرتها ومداهنتها، فهذه والله هي مهمة الأنبياء والمصلحين من بعدهم، وهذه هي الحياة السعيدة للعالِم والداعية، وإلا فلا معنى لحياة الداعية والعالم، ولا قيمة لها إذا هو ساير الناس، واستسلم لضغوط الواقع، وأهواء الناس.
إن العالم والداعية لا قيمة لحياتهما إلا بالدعوة والتغيير للأحسن، ولا شك أن في ذلك مشقة عظيمة؛ ولكن العاقبة حميدة في الدارين لمن صبر وصابر واستعان بالله . وفي ذلك يتحدث أحد الدعاة المخلصين عن رجل العقيدة الذي يسعى لتغيير الواقع وتسييره في مرضاة الله عز وجل وليس مسايرته في مرضاة النفس والناس فيقول: 'وأهم شيء في الموضوع تكوين رجل العقيدة؛ ذلك الإنسان الذي تصبح الفكرة همه: تقيمه وتقعده، ويحلم بها في منامه، وينطلق في سبيلها في يقظته، وليس لدينا بكل أسف من هذا النوع القوي والعبقري؛ ولكن لدينا نفوس متألمة متحمسة مستعدة بعض الاستعداد، ولا بد للنجاح من أن ينقلب هؤلاء إلى مُثُلٍ قوية تعي أمرها، وتكمل نقصها ليتم تحفزها الذي ينطلق من عدم الرضا بالواقع، والشعور بالأخطار التي تتعاقب، وينتهي باستجابة لأمر الله، ونداءات الكتاب الحكيم، ومراقبة وعد الله ووعيده، والتأسي بسيرة الرسول الكريم عليه صلوات الله وسلامه، ولا بد لنا من وصف عاجل، وتحديد مجمل لرجل العقيدة.
إن السلوك الأول الفطري الذي يأتي به المخلوق إلى هذه الدنيا هو السلوك الغريزي، وهذا السلوك يظل لدى الإنسان فعالاً مؤثراً حياة المرء كلها. وفي مجتمع كمجتمعنا لا يليق بشخص محترم أن يحمل حاجاته إلى منزله مع أن ذلك مما يثاب المرء عليه، وفي مجتمع كمجتمعنا لا بد من التبذير ولا بد من الترف؛ فالأرائك في المنزل لا يحسن أن تكون من خشب رخيص وفراش بسيط؛ بل لا بد من المغالاة بأثمانها، فهذا تبذير للأموال، ووضعها في غير موضعها، والتبذير محرم في عرف الشرع، ولكن سخط المجتمع أكبر عند بعض الناس من الحلال والحرام وقد قال عليه الصلاة والسلام: [مَنْ أَرْضَى النَّاسَ بِسَخَطِ اللَّهِ سَخِطَ الله عَلْيهَ وَأَسْخَطَ عَلْيهَ النَّاسَ] سبق تخريجه. ويتحكم المجتمع في الأزياء تحكُّماً يقارب عبادة الوثن.
كثيرون أولئك الذين يعيشون من أجل رضا الناس والخوف من سخطهم، لا يستطيعون التفلت من هذه القيود حياتهم كلها، وهذا المستوى يرتبط بالمستوى الغريزي الأول؛ ذلك أن الإنسان اجتماعي بفطرته يعيش مع الناس ويحرص على رضاهم. وقليلٌ أولئك الذين يستطيعون أن يتجاوزوا هذا المستوى، يتخطونه إلى مستوى أعلى هو مستوى العقيدة، فيعيشون لعقيدة، ويمضون في سلوكهم بما تملي به عليهم عقيدتهم سواء سخط الناس أم رضوا، وليس فوق هذا المستوى حين يندفع المرء بوحي عقيدته وإيمانه غير مبالٍ برضا راضٍ أو سخط ساخط، ليس فوق هذا المستوى مستوى أرفع منه'[ في سبيل الدعوة الإسلامية، للعلامة محمد أمين المصري- باختصار].
من خلال ما سبق بيانه عن رجل العقيدة ندرك أن أبرز صفاته أنه يعيش لعقيدته، ويمضي في سلوكه بما تملي عليه هذه العقيدة غير مبالٍ بسخط الناس ولا رضاهم، ولا بعاداتهم وتقاليدهم المحرمة، يغير واقع الناس ولا يسايره، يؤثر فيه ولا يتأثر، هذا ما ينبغي أن يكون عليه رجال العقيدة والدعوة والعلم،
ولكن الناظر اليوم في واقع الأمة، وما تعرضت له من التبعية والمسايرة؛ يجد أن الصفات المذكورة في رجل العقيدة، والمشار إليها سابقاً لا تكاد توجد اليوم إلا في فئة قليلة من الداعين إلى الله ، نسأل الله أن يبارك في أعمالهم وأوقاتهم، أما السواد الأعظم فقد تأثر بشكل، أو بآخر بفتنة مسايرة الواقع، ما بين مقل ومكثر .
ومن صور هذه الفتنة التي يجب أن يحذرها المسلمون عامة والمصلحون وأهل العلم خاصة ما يلي:
1- مسايرة الواقع وما ألفه الناس من عادات اجتماعية وأسرية مخالفة للشريعة والمروءة، كانت في أول الأمر غريبة ومستنكرة، ولكن النفوس ألفتها،ومن أبرز هذه العادات والممارسات:
ما انتشر في بيوت كثير من المسلمين من أدوات اللهو والأجهزة الجالبة للفساد كالتلفاز وغيره، وكذلك ما امتلأت به البيوت من صور ذوات الأرواح من غير ضرورة حتى أصبحت هذه المقتنيات أمراً مألوفاً لا يمكن الانفكاك عنه، ومن ينكره من أولياء الأمور يعترف بضعفه أمام رغبات الزوجة والأولاد وسخط المجتمع من حوله، فيستسلم لمثل هذه المنكرات مسايرة للواقع، وإرضاءاً للناس الذين لن يُغْنوا عنه من الله شيئاً، وكفى بذلك فتنة.
ما ظهر في السنوات الأخيرة في بعض الدول من انتشار قصور الأفراح والفنادق وما يحصل فيها من منكرات، وبخاصة في أوساط النساء كالتبرج الفاضح، والغناء المحرم المصحوب بأصوات النساء المرتفعة، ناهيك عن المفاخرة والمباهاة في الملابس والمآكل... إلخ. ومع ذلك فلقد أصبحت أمراً مألوفاً يُشَنَّع على من يخرج عليه، أو يرفضه ويقاطعه، حتى أصبح كثير من الناس أسيراً لهذه العادات مسايراً للناس في ذلك إرضاءاً لهم، أو اتقاءاً لسخطهم.
مسايرة النساء في لباسهن وتقليدهن لعادات الغرب الكافر في اللباس والأزياء وصرعات الموضات، وأدوات التجميل حتى أصبح أمراً مألوفاً لم ينج منه إلا أقل القليل من النساء الصالحات المتربيات في منابت صالحة تجعل رضا الله فوق رضا المخلوق، أما أكثر الناس فقد سقط في هذه الفتنة فانهزمت المرأة أمام ضغط الواقع الشديد، وتلا ذلك انهزام وليها أمام رغبة موليته، واستسلم هو الآخر، وساير في ذلك مع من ساير حتى صرنا نرى أكثر نساء المسلمين على هيئة في اللباس والموضات ينكرها الشرع والعقل، وتنكرها المروءة والغيرة، وكأن الأمر تحول إلى شبه عبودية لبيوت الأزياء، يصعب الانفكاك عنها.
مسايرة الناس في ما اعتادوه اليوم في التوسع في المساكن والمراكب والمآكل بشكل يتسم بالترف الزائد بل بالمباهاة والمفاخرة: حتى ضعف كثير من الناس عن مقاومة هذا الواقع؛ فراح الكثير منهم يرهق جسده وماله، ويحمِّل نفسه الديون الكبيرة، وذلك حتى يساير الناس، ويكون مثل فلان وفلان، والمشكل هنا ليس التوسع في المباحات وترفيه النفس؛ فقد لا يكون بذلك بأس إذا لم يوقع في الحرام، لكن ضغط الواقع، وإرضاء الناس، ومسايرة عقول النساء والأطفال يدفع بعض الطيبين إلى تحميل نفسه من الديون الباهظة، وذلك ليكون مثل غيره في المركب أو المسكن، ولن ينفعه مسايرة الناس من الأقارب والأباعد شيئاً إذا حضره الموت وديون الناس على كاهله لم يستطع لها دفعاً.
2- مسايرة الناس فيما يطرحونه من استفتاءات حول بعض المخالفات الشرعية المعاصرة وذلك من قِبَلِ بعض أهل العلم الذين قد يرون مسايرة الواقع، ويفتون ببعض الأقوال الشاذة والمهجورة، أو يحتجون بقواعد الضرورة، أو رفع الحرج، أو الأخذ بالرخص... إلخ، ولا يخفى ما في ذلك من السير مع أهواء الناس والرضا بالأمر الواقع، والتحلل من أحكام الشريعة شيئاً فشيئاً، والمطلوب من أهل العلم والفتوى في أزمنة الغربة أن يعظُوا الناس، ويرشدوهم ويأمروهم بالمعروف وينهوهم عن المنكر بدل أن يحسِّنوا لهم الواقع ويسوِّغوا صنيعهم فيه. يقول الشاطبي رحمه الله: 'المقصد الشرعي مِن وضْع الشريعة هو إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبداً لله اختياراً كما هو عبد الله اضطراراً'[ الموافقات، 2/ 128] ويقول أيضاً: 'إن الترخُّص إذا أُخذ به في موارده على الإطلاق كان ذريعة إلى انحلال عزائم المكلفين في التعبد على الإطلاق، فإذا أخذ بالعزيمة كان حرياً بالثبات في التعبد والأخذ بالحزم فيه... فإذا اعتاد الترخص صارت كل عزيمة في يده كالشاقَّة الحرجة، وإذا صارت كذلك لم يقم بها حق قيامها، وطلب الطريق إلى الخروج منها'[ الموافقات، 2/ 247].
وقد لا يكون المفتي قاصداً مسايرة واقع الناس، أو الميل مع أهوائهم؛ لكنه يغفل عن مكر بعض الناس وخداعهم، وذلك في طريقة استفتاءاتهم، وصياغتها صياغة تدفع المفتي من أهل العلم إلى إجابته بما يهوى، وعن هذا يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى : 'يحرم عليه-أي على المفتي- إذا جاءته مسألة فيها تحايل على إسقاط واجب أو تحليل محرم، أو مكر، أو خداع أن يعين المستفتي فيها، ويرشده إلى مطلوبه، أو يفتيه بالظاهر الذي يتوصل به إلى مقصوده؛ بل ينبغي له أن يكون بصيراً بمكر الناس وخداعهم وأحوالهم، ولا ينبغي له أن يحسن الظن بهم، بل يكون حذراً فطناً فقيهاً بأحوال الناس وأمورهم، يؤازره فقهه في الشرع، وإن لم يكن كذلك زاغ و أزاع، وكم من مسألة ظاهرها جميل، وباطنها مكر وخداع وظلم! فالغر ينظر إلى ظاهرها ويقضي بجوازه، وذو البصيرة ينفذ إلى مقصدها وباطنها، فالأول يروج عليه زغل المسائل كما يروج على الجاهل بالنقد زغل الدراهم، والثاني يخرج زيفها كما يخرج الناقد زيف النقوذ، وكم من باطل يخرجه الرجل بحسن لفظه وتنميقه وإبرازه في صورة حق! وكم من حق يخرجه بتهجينه وسوء تعبيره في صورة باطل! ومن له أدنى فطنة وخبرة لا يخفى عليه ذلك'[إعلام الموقعين، 4/ 229].
3- مسايرة واقع الأنظمة ببعض التنازلات التي تضر بالدعوة وأهلها:وهذا من أخطر ما يتعرض له أهل الدعوة والعلم والإصلاح، وبخاصة حينما يكثر الفساد، وتشتد وطأته على الناس، ويبطؤ نصر الله ويتسلط الظالمون على عباد الله المصلحين، حينئذ يجتهد بعض المهتمين بالدعوة والإصلاح، ويظهر لهم أن التقارب مع أرباب الأنظمة والسلطان والالتقاء معهم في منتصف الطريق قد يكون فيه مصلحة للدعوة وتخفيف شر عن المسلمين، وكل ما في الأمر بعض التنازلات القليلة التي يتمخض عنها بزعمهم مصالح كبيرة!!
وليس المقام هنا مقام الرد والمناقشات لهذه الاجتهادات، فيكفي في فشلها وخطورتها نتائجها التي نسمعها ونراها عند من خاضوا هذه التنازلات ورضوا بالأمر الواقع؛ فلا مصلحة ظاهرة حققوها بتنازلاتهم، ولا مفسدة قائمة أزالوها؛ ولقد حذَّر الله نبيه صلى الله عليه وسلم عن الركون للظالمين المفسدين أشد التحذير؛ وذلك في قوله تعالى:{وإن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَذِي أَوْحَينا إلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وإذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً [73] ولَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً [74] إذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحَيَاةِ وضِعْفَ المَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً[75]}[سورة الإسراء] .
يعدد السياق محاولات المشركين مع الرسول صلى الله عليه وسلم وأولها: محاولة فتنته عما أوحى الله إليه، ليفتري عليه غيره، وهو الصادق الأمين،لقد حاولوا هذه المحاولة في صور شتى:
منها:مساومتهم له أن يعبدوا إلهه في مقابل أن يترك التنديد بآلهتهم وما كان عليه آباؤهم، ومنها:
مساومة بعضهم له أن يجعل أرضهم حراماً كالبيت العتيق الذي حرمه الله.
ومنها: طلب بعض الكبراء أن يجعل لهم مجلساً غير مجلس الفقراء.
والنص يشير إلى هذه المحاولات ولا يفصِّلها، ليذكِّر بفضل الله على الرسول صلى الله عليه وسلم في تثبيته على الحق، وعصمته من الفتنة. ولو تخلى عنه تثبيت الله وعصمته لركن إليهم فاتخذوه خليلاً، وللقي عاقبة الركون إلى فتنة المشركين هذه، وهي مضاعفة العذاب في الحياة والممات دون أن يجد له نصيراً منهم يعصمه من الله.
هذه المحاولات التي عصم الله منها رسوله هي محاولات أصحاب السلطان مع أصحاب الدعوات دائماً، محاولة إغرائهم لينحرفوا-ولو قليلاً- عن استقامة الدعوة وصلابتها، ويرضوا بالحلول الوسط التي يغرونهم بها في مقابل مغانم كثيرة، ومن حملة الدعوات من يفتن بهذا عن دعوته؛ لأنه يرى الأمر هيناً؛ فأصحاب السلطان لا يطلبون منه أن يترك دعوته كلية، إنما هم يطلبون تعديلات طفيفة ليلتقي الطرفان في منتصف الطريق.
وقد يدخل الشيطان على حامل الدعوة من هذه الثغرة، فيتصور أن خير الدعوة في كسب أصحاب السلطان إليها، ولو بالتنازل عن جانب منها! ولكن الانحراف الطفيف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية الطريق، وصاحب الدعوة الذي يقبل التسليم في جزء منها ولو يسيراً، وفي إغفال طرف منها-ولو ضئيلاً- لا يملك أن يقف عند الذي سلم به أول مرة؛ لأن استعداده للتسليم يتزايد كلما رجع خطوة إلى الوراء!
4 - مسايرة ركب الغرب في بعض ميادين من قِبَلِ دعاة العصرانية من أبناء المسلمين:
إن الحديث عن العصرانية والعصرانيين يطول، ولكن يكفي أن نذكر هنا ما يتعلق بموضوعنا وهو الحديث عن فتنة المسايرة، ولا أحسب العصرانيين من بني قومنا إلا وقد أركسوا في هذه الفتنة، وظهرت عليهم في أجلى صورها، وهم لا يعترفون بأنها مسايرة؛ ولكنهم يسمونها تجديداً وتطويراً يناسب العصر، وتحت هذا المسمى يقضون على كثير من الثوابت الشرعية، ويتحللون من شرع الله باسم التطوير وهو في الحقيقة مسايرة للواقع الغربي، وتقليد أعمى، وانبهار بإنجازاته المادية، بل الهزيمة النفسية أمامه؛ والغريب في أمر هؤلاء أنهم يرفضون التقليد، ويشنعون على من يقلد سلف الأمة ويتبعهم، وعلى من يبقى على الموروث لا يتجاوزه ولا يطوره، ثم هم في الوقت نفسه يسقطون في تقليد الغرب، ومحاكاته بصورة لا تدع مجالاً للريب والشك؛ وهم الذين يتشدقون بالعقلانية ورفض التقليد!!
ويعرِّف الدكتور الزنيدي العصرانية بقوله:'هي التأقلم مع المعطيات الاجتماعية والعلمية المتجددة في كل عصر، وربط الإنسان في فرديته وجماعيته بها في دائرة التصور البشري'. ويتحدث الأستاذ محمد حامد الناصر عن بعض شذوذات العصرانيين في ميادين الفقه فيقول: 'لقد خرج العصرانيون علينا بفقه غريب شاذ، يريد تسويغ الواقع المعاصر لإدخال كثير من القيم الغربية في دائرة الإسلام؛ ذلك أن موقفهم من النصوص الشرعية عجيب؛ فإذا كانت الآية واضحة الدلالة، والأحاديث النبوية المتواترة قالوا: إن هذه النصوص كانت لمناسبات تاريخية لا تصلح لعصرنا الحاضر، وإذا كانت أحاديث آحاد؛ قالوا: لا يؤخذ من خبر الآحاد تشريع، ولا تبنى عليه عقيدة، أو ألغوا بعض الأحاديث الصحيحة بحجة أنها سُنَّة غير تشريعية، ثم يتهمون الفقهاء بالجمود وضيق الأفق!! إن هذه التجاوزات لو أخذ بها لن تترك من ثوابت الإسلام إلا وحاولت مسخه أو تشويهه. ومن شذوذاتهم:
1- رفضهم تطبيق الحدود التي فيها رجم، أو قتل، أو قطع عضو إلا بعد الإصرار والمعاودة والتكرار، ويأتون بِشُبَهٍ من هنا وهناك.
2- إباحتهم الربا في البنوك بحجة الحفاظ على اقتصاد البلاد، وأن الربا المحرم عندهم هو الربح المركب.
3 - موقفهم من المرأة، والدعوة إلى تحريرها بزعمهم، ودعوتهم لها إلى محاكاة المرأة الغربية في عاداتها، وإلى الثورة على الحجاب الشرعي وتعدد الزوجات، يقول محمد عمارة: 'إن تعدد الزوجات وتتابع الزواج، واتخاذ السراري والجواري من سمات عصر الإقطاع والدولة الإقطاعية' . والترابي يقصر الحجاب على نساء النبي صلى الله عليه وسلم، ثم راحوا يسوغون الاختلاط بين الرجال والنساء بعد أن زينوا للمرأة الخروج من بيتها.
4- أحكام أهل الذمة: كما يرى العصرانيون أن أحكام أهل الذمة كانت لعصر غير عصرنا وهي الآن لا تناسب عصرنا!!'.
ولكن الأستاذ الناصر يوضح مفهومهم للتجديد والتطوير قائلاً: 'إن مزاعم التجديد التي رفع هؤلاء لواءها كشفت الحقيقة جلية، وهي أن التجديد لديهم يعني تطوير الدين على طريقة عصرنة الدين عند اليهود والنصارى'. ولذلك فإن التجديد عندهم يعني: هدم العلوم المعيارية: أي علوم التفسير المأثور وأصوله، وعلم أصول الفقه، وعلم مصطلح الحديث.
ويعني: رفض الأحاديث الصحيحة جزئياً أو كلياً بحجة ضرورة ملاءمتها لعقولهم ولمصلحة الأمة، وظروف العصر الحاضر.
ويعني: رفض السنة غير التشريعية أي: فيما يخص شؤون الحكم والسياسة، وأمور الحياة والمجتمع عموماً.
التجديد عندهم يعني: الانعتاق من إسار الشريعة إلى بحبوحة القوانين الوضعية، التي تحقق الحرية والتقدم، ولذلك هاجموا الفقه والفقهاء بلا هوادة.
الاجتهاد والتجديد عندهم يعني: تحقيق المصلحة وروح العصر.
مما سبق يتبين خطر هذه البدعة الجديدة، وأن أصلها مسايرة الواقع، والانهزامية أمام ضغطه مصحوباً ذلك بالجهل بالإسلام أحياناً، وبالهوى والشهوة أحياناً كثيرة.
الآثار الخطيرة لمسايرة الواقع وسبل النجاة منها:
1- الآثار الدنيوية: وذلك بما يظهر على المساير من فقدان الهوية، وذوبان الشخصية الإسلامية، وبما يتكبده من معاناة في جسده ونفسه وماله وولده، وهذه كلها مصادر شقاء بخلاف المستسلم لشرع الله، الرافض لما سواه، المنجذب إلى الآخرة فلا تجده إلا مطمئناً ينظر: ماذا يرضي ربه فيفعله، وماذا يسخطه فيتركه، غير مبالٍ برضى الناس، أو سخطهم.
2 - الآثار الدينية: وهذه أخطر من سابقتها؛ وذلك أن المساير لواقع الناس، المخالف لشرع الله يتحول بمضيِّ الوقت، واستمراء المعصية إلى أن يألفها، ويرضى بها، ويختفي من القلب إنكارها، وما وراء ذلك من الإيمان حبة خردل.
كما أن المساير لركب المخالفين لأمر الله لا تقف به الحال عند حد معين من المسايرة والتنازل والتسليم للواقع، بل إنه ينزل في مسايرته خطوة خطوة؛ وكل معصية تساير فيها الناس تقود إلى معصية أخرى؛ وهكذا حتى يظلم القلب ويصيبه الران؛ ذلك أن من عقوبة المعصية معصية بعدها، ومن ثواب الحسنة حسنة بعدها؛ وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله [الفتاوى، 14/245]:'وقد ذكر في غير موضع من القرآن ما يبين أن الحسنة الثانية قد تكون من ثواب الأولى، وكذلك السيئة الثانية قد تكون من عقوبة الأولى، قال تعالى:{ولَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وأَشَدَّ تَثْبِيتاً [66] وإذاً لآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيماً [67] ولَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً[68]}[سورة النساء] . وقال تعالى:{والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا...[69]}[سورة العنكبوت] .
وقال تعالى:{والَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ [4] سَيَهْدِيهِمْ ويُصْلِحُ بَالَهُمْ [5] ويُدْخِلُهُمُ الجنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ[5]}[سورة محمد] . وقال تعالى:{ ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى...[10]}[سورة الروم] '.
وما أجمل ما قاله سيد قطب رحمه الله : 'ولكن الانحراف الطفيف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية الطريق، وصاحب الدعوة الذي يقبل التسليم في جزء منها-ولو يسيراً- لا يملك أن يقف عند ما سلَّم به أول مرة؛ لأن استعداده للتسليم يتزايد كلما رجع خطوة إلى الوراء'.
3- الآثار الدعوية:إن الداعية الذي تظهر عليه مظاهر مسايرة الواقع يفقد مصداقيته عند نفسه وعند الناس، وإن لم يتدارك نفسه، فقد ييأس ويخسر، ويترك الدعوة وأهلها؛ إذ كيف يساير الواقع من هو مطالب بتغيير الواقع وتسييره؟! وكلما كثر المسايرون؛ كثر اليائسون والمتساقطون؛ وهذا بدوره يؤدي إلى ضعف الدعوة، وضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
سبل النجاة أو الوقاية من هذه الفتنة: قد قال لنبيه:{ولَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً[74]}[سورة الإسراء] . فأول سبيل من سبل النجاة هو سؤال الله، وصدق العزيمة، والأخذ بأسباب الثبات ومنها:
1- فعل الطاعات، وامتثال الأوامر واجتناب النواهي: كما قال عز وجل:{ولَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وأَشَدَّ تَثْبِيتاً [66]}[سورة النساء] . فذكر سبحانه في هذه الآية أن شدة التثبيت تكون لمن قام بفعل ما يوعظ به من فعل الأوامر، وترك النواهي، ويشير الإمام ابن القيم رحمه الله إلى أثر الطاعة في الثبات فيقول: 'فالخلق كلهم قسمان: موفق بالتثبيت، ومخذول بترك التثبيت. ومادة التثبيت وأصله ومنشؤه من القول الثابت، وفعل ما أُمِر به العبد، فبهما يثبِّت الله عبده؛ فكل ما كان أثبت قولاً، وأحسن فعلاً؛ كان أعظم تثبيتاً قال تعالى:{ولَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وأَشَدَّ تَثْبِيتاً [66]}[سورة النساء] .فأثبت الناس قلباً أثبتهم قولاً، والقول الثابت هو القول الحق والصدق'[بدائع التفسير، 1/17].
2- مصاحبة الدعاة الصادقين، الرافضين للواقع السيئ: والسعي معهم في الدعوة إلى الله، وتغيير الواقع السيئ في نفوسهم وأسرهم ومجتمعاتهم، واعتزال أهل الدنيا الراكنين إليها، والمسارعين فيها، والمتبعين لكل ناعق، وترك مخالطتهم إلا لدعوتهم، أو ما تدعو الحاجة إليه؛ لأن المجالسة تؤول إلى المؤانسة والمجانسة.
3 - التفقه في الدين، والبصيرة في شرع الله: لأن المسايرة عند بعض الناس تنبع من جهل بالشريعة وأحكامها ومقاصدها، مع أن أكثر المسايرين المخالفين للشريعة إنما يدفعهم إلى المسايرة الهوى والضعف.
والمقصود: أن من كانت مسايرته بسبب جهله بالشرع، فإن في العلم الشرعي دواءه، ومنعه من المسايرة بإذن الله . وينبغي على طالب العلم الشرعي، والمستفتي في دينه أن يسأل أهل العلم الراسخين فيه، الذين يجمعون بين العلم والورع ومعرفة الواقع، وأن يحذر من أهل العلم الذين يسيرون على أهواء الناس، وتلمس الرخص، والآراء الشاذة لهم.
4 - إفشاء المناصحة وإشاعتها بين المسلمين وبخاصة بين أهل الخير: لأن السكوت على المخالفات، وضعف المناصحة بين المسلمين من أسباب التلبس بالمنكرات، ومسايرة الناس فيها.
من :'فتنة مسايرة الواقع' للشيخ/ عبد العزيز بن ناصر الجليل