أم حبيبة البريكى
03-22-2004, 09:02 AM
الترف .. مظاهره وأسبابه وعلاجه
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد،،،
قال تعالى:{ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ[15]أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[16]}[سورة هود] . وقال:{ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ...[18]}[سورة الإسراء].
قال سعيد بن جبير:' يؤتون ثواب ما عملوا في الدنيا وليس لهم في الآخرة من شيء' . وقال قتادة:' من كانت الدنيا همه وسدمه، وطلبته ونيته وحاجته؛ جازاه الله بحسناته في الدنيا، ثم يفضي إلى الآخرة ليس له فيها حسنة، وأما المؤمن فيجازى بحسناته في الدنيا، ويثاب عليها في الآخرة' .
وقال ابن جريج:' يعجل لهم فيها كل طيبة، فلم يظلمهم لأنهم لم يعلموا إلا الدنيا.
وههنا خطورة قضية ' النِّعَم ' فإنَّ المرء قد يعطيه الله، ويسبغ عليه من النعم ما يكون سبب هلاكه، فهي عوض عن أعماله الصالحة في الدنيا حتى يأتي الله ولا حسنة له، فأي مصيبة تعدل ذلك !!
ويرى الناس ذاك المترف، فيتمنون ما عنده ليتمتعوا بهذه النعم كما يتمتع ويتنعم هو بها، ولا يدرون حقيقتها، فإذا تبين لهم قالوا كما قال قوم قارون:{ وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ[82]}[سورة القصص] .
ومن هنا دعونا نتأمل هذه الظاهرة الخطيرة في مجتمعاتنا والتي أودت بكثير من شبابنا، ألا وهي:' الترف' وفق منظور إسلامي صحيح؛ لنبصر خطورة جعل ' الرخاء والرفاهية ' مقصدًا للشعوب كما يدندن من لا يؤمن بالله، ولا باليوم الآخر، وكيف ضاع كثير من شباب الأمة ورجالها تحت بريق هذا الهدف المنشود، ودعونا نفهم عن الله قضية ' الفقر والغنى '، ونتعلم كيف نعيش كما يريد الله لا كما نريد نحن، أو يُراد لنا، ونتعلم كيف نستثمر أموالنا، وكيف ننفقها .
ما المقصود بالترف وما حده؟
الترَفُ: هو التَّنَعُّمُ، و المُتْرَفٌ من كان مُنَعَّمَ البدنِ مُدَلَّلاً، وهو: الذي قد أَبْطَرَتْه النعمةُ وسَعة العيْشِ. وأَتْرَفَتْه النَّعْمةُ أَي أَطْغَتْه، وهو: الـمُتَنَعِّمُ الـمُتَوَسِّعُ في مَلاذِّ الدنيا وشَهواتِها. وهم الموصوفون بقوله سبحانه:{ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِي[15]وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِي[16]كَلَّا...[17]}[سورة الفجر].
فالمترف من توسع في التنعم بشهوات الدنيا وملذاتها، ومن شأن ذلك أن يؤثر في شخصيته، فتراه مدللًا، يفارق الرجال في القوة والاحتمال، مخنث العزم، مائع الإرادة، نهم في طلب شهوات الدنيا، يعيش لنفسه، شعاره:'عش الحياة اليوم فتمتع بكل ما فيها، ووقت الله يدبرها الله' .
وهذا الوصف تراه يغلب على شباب الأمة اليوم، الذين ضاعوا أمام تيارات التغريب والغزو الثقافي، الذين نشأوا وسط عالم مادي بحت، فالدين مغيَّب، والدين أفيون الشعوب، والدين مجموعة من الشعائر يؤديها المرء ـ إن شاء ـ في بيت العبادة، فلا علاقة للدين بالحياة، والإنسان مخلوق حر، والحرية مكفولة لكل أحد، فلا غضاضة ولا حرج إنْ سارت النساء كاسيات عاريات، ولا شيء في أن يتشبه الرجال بالنساء، ولا مانع من الاختلاط، والزنا بالتراضي لا يدخل في حكم القاضي، ومقصود الإنسان في هذه الحياة هو ' الرخاء والرفاهية ' ومن أجلها توضع الخطط الحكومية، فهي ضمان السعادة، والمال هو السلاح الأقوى، وقيمة المرء بما في جيبه لا ما يتقنه .
ولعلك تسمع كل يوم هذه الشعارات، ويدندون حولها في جميع وسائل الإعلام، حتى صدقها الناس وصارت كالحقائق التي لا تقبل النقاش، وكل من يخرج عن هذا الإطار فهو متخلف، رجعي، أصولي، متطرف، إرهابي، يريد لنا أن نعيش بالطريقة التي لم نخترها، يريد لنا أن نعيش في الكهوف، ونعود للعصور الوسطى … إلخ هذه الطنطنات التي يرددها من لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، من صارت الحياة همَّه وشغله، ونسي أنَّ الحياة دار ابتلاء لا دار إخلاد.
فهؤلاء هم الذين لم يفكروا فيما بعد الحياة، لم يؤمنوا بالآخرة فلم يعملوا لها، ولسان حالهم:{...رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ[200]}[سورة البقرة] . يريدون عرض الدنيا، والله يريد الآخرة.
من مظاهر الترف في عصرنا الحالي:
إلى هؤلاء المترفين أقول: قال الله:{ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ[32]}[سورة الأنعام]. فالترف مفسد؛ إذ يتعلق قلب صاحبه بالدنيا، وللأسف فإنَّ أكثر الأمة اليوم يعيش ترفًا دخيلاً علينا .
فالفقراء يحاولون أن يفتعلوا الترف، ولو في بعض الأشياء، فتجده لا يجد إلا قوته الضروري، ولكنه يقتطع منه من أجل أن يقتني المحمول، ويشتري أفخر الأثاث، ويشتري أحدث الأجهزة، ليشتري الدش فيدخل الفساد على أهله، ويقره في بيته دياثة، وهذا يقتطع من قوت أطفاله لكي يصيّف هنا أو هناك، والقائمة طويلة.
إنه التنافس على الدنيا، وكأنه لو لم يحصل هذه الأمور سيعيش في الضنك، وسيبلغ به الحرج المدى، ولا والله فما الزيادة في الدنيا إلا زيادة في الخسران .
فالغني البطر ماله نقمة عليه في الآخرة، فيصرخ يوم القيامة:{ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ[28]هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ[29]خُذُوهُ فَغُلُّوهُ[30]ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ[31]ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ[32]إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ[33]وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ[34]فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ[35]وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ[36]لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ[37]}[سورة الحاقة] .
والفقير يحلق دينه بالحقد والحسد، ناهيك عمَّن يتكبر وهو معوز، فيدخل في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم: [ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ شَيْخٌ زَانٍ وَمَلِكٌ كَذَّابٌ وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ] رواه مسلم.
فهذا عائل أي فقير وهو مع هذا مستكبر، فأن يطغى الغني بالمال هذا أمر معروف، لكن فقير يتكبر، فلماذا؟! وكذلك فقير مترف هذا شيء يبغضه الله تعالى .
الترف وإفساد الأبناء
ولا شك أنَّ الترف أفسد أبناءنا، فوجدنا فينا من يتفاخر ويقول: أنا لا أجعل ابني في احتياج إلى شيء أبدًا، فأنا ألبي له جميع طلباته ورغباته . وليس من التربية أن تلبي جميع متطلبات أولادك، فينشأ الواحد منهم عبد شهواته، كلما تاقت نفسه إلى شيء طلبه، فإنَّه إن لم يجده؛ سيسرق، ويزنى، ويخون من أجل أن يحقق ما يشتهي .
إن لابنك حقًا أعظم من الدنيا، وهو أن تعلمه كيف ينجو من النار، قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ[6]}[سورة التحريم].
إن الجيل المنشود نحتاج فيه إلى صفات ' الرجولة ' والرجل الحق لا يعرف الترف، فعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَعَثَ بِهِ إِلَى الْيَمَنِ قَالَ: [إِيَّاكَ وَالتَّنَعُّمَ فَإِنَّ عِبَادَ اللَّهِ لَيْسُوا بِالْمُتَنَعِّمِينَ] رواه أحمد .
وهذا محمول على المبالغة في التنعم، والمداومة على قصده؛ وذلك لأنَّ التنعم بالمباح يُخشى من تجاوزه إلى مكروه، ولأنه يورث المرء ارتياحًا إلى الدنيا، وركونًا إليها، ويبعد عن الخوف الذي هو جناح المؤمن .
وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [الْبَذَاذَةُ مِنْ الْإِيمَانِ] رواه أبوداود وابن ماجة وأحمد . و [الْبَذَاذَةُ] رثاثة الهيئة، وترك الترفه وإدامة التزين والتنعم في البدن والملبس؛ إيثاراً للخمول بين الناس .وقد جعلها النبي صلى الله عليه وسلم من أخلاق أهل الإيمان إن قصد به تواضعاً وزهداً وكفاً للنفس عن الفخر والتكبر، لا إن قصد إظهار الفقر وصيانة المال. وكان عمر بن الخطاب يقول: ' اخشوشنوا' . وإنَّما كان يأمرهم بالتخشن في عيشهم لئلا يتنعموا، فيركنوا إلى خفض العيش، ويميلوا إلى الدعة، فيجبنوا ويحتموا عن أعدائهم .
ولعل هذا هو حال الأمة وهي تواجه أعداءها المتربصين بها، فكثير يؤثر الذل باسم ' السلام ' لأنَّه ألف حياة الترف والرفاهية، وعاد من اليسير على أمثال هؤلاء التفريط في كل شيء من أجل ضمان أن يعيش كما هو .
والشدة هي التي تصنع الرجال، وترويض النفوس يحتاج إلى زجرها وترغيبها على حد سواء، أمَّا أن تعطيها كل شيء، أو تلبي لولدك جميع طلباته، فقد وكلته لنفسه. وإنَّه من المهم أن تتربى أجيالنا على تحمل المشاق، وبذل الوسع في طلب الآخرة، وقد قالت العرب قديما:'وعند الصباح يحمد القوم السُّري'.
ومما تقدم نخلص إلى أنَّ ترك الترفه مأمور به شرعًا، وذلك لأنه أنفى للكبر، وأبعد من العجب والخيلاء وهي أمور ذمها الشرع.
قضية الغنى والفقر من منظور سلفي
في هذا الصدد يحسن بنا أن نفقه عن الله تعالى قضية ' الفقر والغنى ' ونتساءل عن المطلوب من أهل الإيمان في عصرنا، فهل معنى ما ذكرنا أنَّ الغنى شر كله، وأن الفقر أصلح، وعليه فالمقصود أن يكون المؤمن فقيرًا !
بطبيعة الحال ليس الأمر كذلك، بل قد يكون الغني الشاكر أفضل عند الله من الفقير الصابر ؛ وقد أعطى الله نبييه داود وسليمان الملك والغنى، وكان عبد الرحمن بن عوف من أغنى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من المبشرين العشرة بالجنة، ناهيك عن ابن المبارك، وغيره من سلفنا الصالح .
وقد كتب ابن القيم جزءًا كبيراً في كتابه:'عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين' ناقش فيه هذه المسألة باستفاضة، وفصل الخطاب ما حكاه عن شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه المسألة، بأنَّه ليس لأحدهما على الأخرى فضيلة إلا بالتقوى، فأيهما أعظم إيمانًا وتقوى كان أفضل، فإن استويا فى ذلك؛ استويا فى الفضيلة؛ لأن نصوص الكتاب والسنة إنما تفضل بالإيمان والتقوى، وقد قال تعالى:{...إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا...[135]}[سورة النساء] . وقد كان في الأنبياء والسابقين الأولين من الأغنياء من هو أفضل من أكثر الفقراء، وكان فيهم من الفقراء من هو أفضل من أكثر الأغنياء، والكاملون يقومون بالمقامين، فيقومون بالشكر والصبر على التمام كحال نبينا، وحال أبى بكر وعمر رضى الله عنهما.
ولكن قد يكون الفقر لبعض الناس أنفع، والغنى لآخرين أنفع، كما تكون الصحة لبعضهم أنفع والمرض لبعضهم أنفع .
وقد صح أن الفقراء يتقدمون في دخول الجنة لخفة الحساب عليهم، والأغنياء يؤخرون لأجل الحساب عليهم، ثم إذا حوسب أحدهم فإن كانت حسناته أعظم من حسنات الفقير؛ كانت درجته في الجنة فوقه- وإن تأخر في الدخول .
نخلص من هذا أنَّ العبرة ليست بالفقر ولا بالغنى، فهذا أو ذاك لا يغني عنك من الله شيئًا إلا إذا كان سببًا في زيادة الإيمان والتقوى، فهذا هو المقياس والمعيار المعتبر عند رب العالمين، فالمهم هو ' الرضا ' عن الله، وعدم التسخط عند المنع، وعدم البطر عند العطية .
وإذا وجدت الله يرزق هذا، ويمنع عن ذلك؛ فتذكر قول الله:{...أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ[53]}[سورة الأنعام] . وتذكر قوله تعالى:{...وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ[35]}[سورة الأنبياء] . واعلم أن خزائن الله لا تنفد، وهو المعطي المانع، فليتعلق قلبك به، ودع عنك زخرف الحياة الدنيا، فإنما هي أوهام، والدنيا كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا ووجد الله عنده فوفاه حسابه .
فإذا كان الأمر كذلك: فعليك بالرضا، فإنه ملاك الأمر، وعليك أن تحسن النظر إلى الأمور فتقيسها بمقياس أهل الإيمان، ولا تعر اهتمامًا لما دون ذلك:
فالفقير يفرح بأنَّه أخف الناس حسابًا، وأنَّ الله اختار ذلك الحال لنبيه صلى الله عليه وسلم، ويأخذ من حياة النبي صلى الله عليه وسلم العبرة والأسوة، فلا يقنط ولا ييأس، ويعلم أنَّ الأمر صبر ساعة، ولا ينظر بعين الحسد إلى من يعلوه في أمور الدنيا؛ لأنه فهم عن الله أنَّ العلو ليس بكثرة المال ورفاهية العيش.. لا بل العلو بالتقوى، وكثرة الطاعات، والقرب من الله، فهؤلاء هم أهل غبطته .
أمَّا الغني فيخشى أنْ تكون زيادة النعم استدراجًا، فَعَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنْ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ] ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ[44]}[سورة الأنعام] . رواه أحمد .
ويخاف شدة العذاب إنْ لم يوفِّ شكر النعم التي بمحض فضل الله تعالى رزقها:{...لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ[7]}[سورة إبراهيم] . فهو مشغول بشكر نعمة الله عليه، فيعطي حق المال من زكاة، وصدقة، ونفقة في سبيل الله، فلا يعرف الترف بابه، وإن ملك الملايين؛ لأنَّه يعلم أنَّ الله سائله عن ماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه ؟!!
ولعل كثيرًا منكم يقول: إنَّ هذا لا يدري عن واقع الناس اليوم شيئًا، وإنَّه يحدثنا بما يصلح لعصور السلف، فكيف بالله في ظل كل هذه المغريات، والفتن المتلاحقات أن يسير الأمر هكذا .
وإني ناصحك نصيحة حريص مشفق عليك، فإنَّي لأعلم مدى الخطر الذي يداهم المسلمين الآن، ومدى الفتن التي يواجهونها، وحجم المغريات التي توضع في طريقهم، فتتخطف السواد الأعظم منهم ولكن ..
القضية أولاً قضية يقين بالله تعالى، قضية إيمان واعتقاد، فأي محك آخر نحتكم إليه فهو خداع، وأنت حين تنظر إلى الأمور بهذه الطريقة لن تقول مثلما تقول الآن، حين تفرغ قلبك من حب الدنيا، وتخرج قليلًا خارج أسوارها، فترى بعين الإيمان الأمور؛ فستذكر ما أقول لك، ومن هنا يبدأ العلاج.
العلاج
أولاً: التوحيد، وصحة الاعتقاد؛ ليصح اليقين والإيمان .
ثانيًا: إشغال القلب بالآخرة: بكثرة سماع المحاضرات العلمية التي تحض على ذلك، وقراءة الكتب، والاتعاظ بحال من كنت تعرف وداهمهم الموت، وعيادة المرضى والمحتضرين، وزيارة القبور والنظر لمآلك بعد هذه الحياة .
ثالثًا: تخليص القلب من حب الدنيا: الذي هو سبب للعجز والوهن الذي أصاب المسلمون هذه الأيام، وهذا يحصل عندما تعاين حقارتها، وقد ضرب الله الأمثلة الكثيرة للدنيا ومدى خستها، وبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تعدل عند الله جناح بعوضة، وارجع إن شئت لكتاب ' عدة الصابرين ' في الباب الثالث والعشرين فقد كتب في آخره فصلاً تحت اسم: في ذكر أمثلة تبين حقيقة الدنيا وتحته اثنان وعشرون مثلاً فبها اعتبر .
رابعًا: عدم الاختلاط بأهل الدنيا فإنَّ خلطتهم كالداء العضال: قال تعالى:{ وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى[131]}[سورة طه] .
خامسًا: الأخوة الإيمانية: فإنَّها نعم المعين، فعليك برفقة الصالحين ومخالطتهم، وحبهم ومنافستهم في الطاعة {... وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ[26]}[سورة المطففين] .
سادسًا: التقيد بمنهج تربوي:فلابد لك من مربٍ يتابعك، ويكشف لك عيوبك، ويبصرك بالطريق، وإن كانت الساحة تفتقد لهؤلاء، ولكن اجتهد، وأخلص النية، ولسوف يعطيك ربك فترضى .
أخيرًا.. كيف تنفق مالك؟
وقد أرشدنا الله تبارك وتعالى لكيفية انفاق المال قال تعالى:{...وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ[219]}[سورة البقرة] . قال ابن عباس:' ما يفضل عن أهلك' .
فابذل الفضل من مالك ولا تمسكه، ففي صحيح مسلم من حديث أبي أمامة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : [يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ أَنْ تَبْذُلَ الْفَضْلَ خَيْرٌ لَكَ وَأَنْ تُمْسِكَهُ شَرٌّ لَكَ وَلَا تُلَامُ عَلَى كَفَافٍ وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى] . هذه هي القضية أن الترف مفسد، وكثرة المال تلهى، فاللهم أعطنا ما يكفينا، وعافنا مما يطغينا .
من محاضرة:' الترف .. مظاهره وأسبابه وعلاجه' للشيخ / محمد بن حسين يعقوب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد،،،
قال تعالى:{ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ[15]أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[16]}[سورة هود] . وقال:{ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ...[18]}[سورة الإسراء].
قال سعيد بن جبير:' يؤتون ثواب ما عملوا في الدنيا وليس لهم في الآخرة من شيء' . وقال قتادة:' من كانت الدنيا همه وسدمه، وطلبته ونيته وحاجته؛ جازاه الله بحسناته في الدنيا، ثم يفضي إلى الآخرة ليس له فيها حسنة، وأما المؤمن فيجازى بحسناته في الدنيا، ويثاب عليها في الآخرة' .
وقال ابن جريج:' يعجل لهم فيها كل طيبة، فلم يظلمهم لأنهم لم يعلموا إلا الدنيا.
وههنا خطورة قضية ' النِّعَم ' فإنَّ المرء قد يعطيه الله، ويسبغ عليه من النعم ما يكون سبب هلاكه، فهي عوض عن أعماله الصالحة في الدنيا حتى يأتي الله ولا حسنة له، فأي مصيبة تعدل ذلك !!
ويرى الناس ذاك المترف، فيتمنون ما عنده ليتمتعوا بهذه النعم كما يتمتع ويتنعم هو بها، ولا يدرون حقيقتها، فإذا تبين لهم قالوا كما قال قوم قارون:{ وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ[82]}[سورة القصص] .
ومن هنا دعونا نتأمل هذه الظاهرة الخطيرة في مجتمعاتنا والتي أودت بكثير من شبابنا، ألا وهي:' الترف' وفق منظور إسلامي صحيح؛ لنبصر خطورة جعل ' الرخاء والرفاهية ' مقصدًا للشعوب كما يدندن من لا يؤمن بالله، ولا باليوم الآخر، وكيف ضاع كثير من شباب الأمة ورجالها تحت بريق هذا الهدف المنشود، ودعونا نفهم عن الله قضية ' الفقر والغنى '، ونتعلم كيف نعيش كما يريد الله لا كما نريد نحن، أو يُراد لنا، ونتعلم كيف نستثمر أموالنا، وكيف ننفقها .
ما المقصود بالترف وما حده؟
الترَفُ: هو التَّنَعُّمُ، و المُتْرَفٌ من كان مُنَعَّمَ البدنِ مُدَلَّلاً، وهو: الذي قد أَبْطَرَتْه النعمةُ وسَعة العيْشِ. وأَتْرَفَتْه النَّعْمةُ أَي أَطْغَتْه، وهو: الـمُتَنَعِّمُ الـمُتَوَسِّعُ في مَلاذِّ الدنيا وشَهواتِها. وهم الموصوفون بقوله سبحانه:{ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِي[15]وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِي[16]كَلَّا...[17]}[سورة الفجر].
فالمترف من توسع في التنعم بشهوات الدنيا وملذاتها، ومن شأن ذلك أن يؤثر في شخصيته، فتراه مدللًا، يفارق الرجال في القوة والاحتمال، مخنث العزم، مائع الإرادة، نهم في طلب شهوات الدنيا، يعيش لنفسه، شعاره:'عش الحياة اليوم فتمتع بكل ما فيها، ووقت الله يدبرها الله' .
وهذا الوصف تراه يغلب على شباب الأمة اليوم، الذين ضاعوا أمام تيارات التغريب والغزو الثقافي، الذين نشأوا وسط عالم مادي بحت، فالدين مغيَّب، والدين أفيون الشعوب، والدين مجموعة من الشعائر يؤديها المرء ـ إن شاء ـ في بيت العبادة، فلا علاقة للدين بالحياة، والإنسان مخلوق حر، والحرية مكفولة لكل أحد، فلا غضاضة ولا حرج إنْ سارت النساء كاسيات عاريات، ولا شيء في أن يتشبه الرجال بالنساء، ولا مانع من الاختلاط، والزنا بالتراضي لا يدخل في حكم القاضي، ومقصود الإنسان في هذه الحياة هو ' الرخاء والرفاهية ' ومن أجلها توضع الخطط الحكومية، فهي ضمان السعادة، والمال هو السلاح الأقوى، وقيمة المرء بما في جيبه لا ما يتقنه .
ولعلك تسمع كل يوم هذه الشعارات، ويدندون حولها في جميع وسائل الإعلام، حتى صدقها الناس وصارت كالحقائق التي لا تقبل النقاش، وكل من يخرج عن هذا الإطار فهو متخلف، رجعي، أصولي، متطرف، إرهابي، يريد لنا أن نعيش بالطريقة التي لم نخترها، يريد لنا أن نعيش في الكهوف، ونعود للعصور الوسطى … إلخ هذه الطنطنات التي يرددها من لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، من صارت الحياة همَّه وشغله، ونسي أنَّ الحياة دار ابتلاء لا دار إخلاد.
فهؤلاء هم الذين لم يفكروا فيما بعد الحياة، لم يؤمنوا بالآخرة فلم يعملوا لها، ولسان حالهم:{...رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ[200]}[سورة البقرة] . يريدون عرض الدنيا، والله يريد الآخرة.
من مظاهر الترف في عصرنا الحالي:
إلى هؤلاء المترفين أقول: قال الله:{ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ[32]}[سورة الأنعام]. فالترف مفسد؛ إذ يتعلق قلب صاحبه بالدنيا، وللأسف فإنَّ أكثر الأمة اليوم يعيش ترفًا دخيلاً علينا .
فالفقراء يحاولون أن يفتعلوا الترف، ولو في بعض الأشياء، فتجده لا يجد إلا قوته الضروري، ولكنه يقتطع منه من أجل أن يقتني المحمول، ويشتري أفخر الأثاث، ويشتري أحدث الأجهزة، ليشتري الدش فيدخل الفساد على أهله، ويقره في بيته دياثة، وهذا يقتطع من قوت أطفاله لكي يصيّف هنا أو هناك، والقائمة طويلة.
إنه التنافس على الدنيا، وكأنه لو لم يحصل هذه الأمور سيعيش في الضنك، وسيبلغ به الحرج المدى، ولا والله فما الزيادة في الدنيا إلا زيادة في الخسران .
فالغني البطر ماله نقمة عليه في الآخرة، فيصرخ يوم القيامة:{ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ[28]هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ[29]خُذُوهُ فَغُلُّوهُ[30]ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ[31]ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ[32]إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ[33]وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ[34]فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ[35]وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ[36]لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ[37]}[سورة الحاقة] .
والفقير يحلق دينه بالحقد والحسد، ناهيك عمَّن يتكبر وهو معوز، فيدخل في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم: [ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ شَيْخٌ زَانٍ وَمَلِكٌ كَذَّابٌ وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ] رواه مسلم.
فهذا عائل أي فقير وهو مع هذا مستكبر، فأن يطغى الغني بالمال هذا أمر معروف، لكن فقير يتكبر، فلماذا؟! وكذلك فقير مترف هذا شيء يبغضه الله تعالى .
الترف وإفساد الأبناء
ولا شك أنَّ الترف أفسد أبناءنا، فوجدنا فينا من يتفاخر ويقول: أنا لا أجعل ابني في احتياج إلى شيء أبدًا، فأنا ألبي له جميع طلباته ورغباته . وليس من التربية أن تلبي جميع متطلبات أولادك، فينشأ الواحد منهم عبد شهواته، كلما تاقت نفسه إلى شيء طلبه، فإنَّه إن لم يجده؛ سيسرق، ويزنى، ويخون من أجل أن يحقق ما يشتهي .
إن لابنك حقًا أعظم من الدنيا، وهو أن تعلمه كيف ينجو من النار، قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ[6]}[سورة التحريم].
إن الجيل المنشود نحتاج فيه إلى صفات ' الرجولة ' والرجل الحق لا يعرف الترف، فعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَعَثَ بِهِ إِلَى الْيَمَنِ قَالَ: [إِيَّاكَ وَالتَّنَعُّمَ فَإِنَّ عِبَادَ اللَّهِ لَيْسُوا بِالْمُتَنَعِّمِينَ] رواه أحمد .
وهذا محمول على المبالغة في التنعم، والمداومة على قصده؛ وذلك لأنَّ التنعم بالمباح يُخشى من تجاوزه إلى مكروه، ولأنه يورث المرء ارتياحًا إلى الدنيا، وركونًا إليها، ويبعد عن الخوف الذي هو جناح المؤمن .
وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [الْبَذَاذَةُ مِنْ الْإِيمَانِ] رواه أبوداود وابن ماجة وأحمد . و [الْبَذَاذَةُ] رثاثة الهيئة، وترك الترفه وإدامة التزين والتنعم في البدن والملبس؛ إيثاراً للخمول بين الناس .وقد جعلها النبي صلى الله عليه وسلم من أخلاق أهل الإيمان إن قصد به تواضعاً وزهداً وكفاً للنفس عن الفخر والتكبر، لا إن قصد إظهار الفقر وصيانة المال. وكان عمر بن الخطاب يقول: ' اخشوشنوا' . وإنَّما كان يأمرهم بالتخشن في عيشهم لئلا يتنعموا، فيركنوا إلى خفض العيش، ويميلوا إلى الدعة، فيجبنوا ويحتموا عن أعدائهم .
ولعل هذا هو حال الأمة وهي تواجه أعداءها المتربصين بها، فكثير يؤثر الذل باسم ' السلام ' لأنَّه ألف حياة الترف والرفاهية، وعاد من اليسير على أمثال هؤلاء التفريط في كل شيء من أجل ضمان أن يعيش كما هو .
والشدة هي التي تصنع الرجال، وترويض النفوس يحتاج إلى زجرها وترغيبها على حد سواء، أمَّا أن تعطيها كل شيء، أو تلبي لولدك جميع طلباته، فقد وكلته لنفسه. وإنَّه من المهم أن تتربى أجيالنا على تحمل المشاق، وبذل الوسع في طلب الآخرة، وقد قالت العرب قديما:'وعند الصباح يحمد القوم السُّري'.
ومما تقدم نخلص إلى أنَّ ترك الترفه مأمور به شرعًا، وذلك لأنه أنفى للكبر، وأبعد من العجب والخيلاء وهي أمور ذمها الشرع.
قضية الغنى والفقر من منظور سلفي
في هذا الصدد يحسن بنا أن نفقه عن الله تعالى قضية ' الفقر والغنى ' ونتساءل عن المطلوب من أهل الإيمان في عصرنا، فهل معنى ما ذكرنا أنَّ الغنى شر كله، وأن الفقر أصلح، وعليه فالمقصود أن يكون المؤمن فقيرًا !
بطبيعة الحال ليس الأمر كذلك، بل قد يكون الغني الشاكر أفضل عند الله من الفقير الصابر ؛ وقد أعطى الله نبييه داود وسليمان الملك والغنى، وكان عبد الرحمن بن عوف من أغنى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من المبشرين العشرة بالجنة، ناهيك عن ابن المبارك، وغيره من سلفنا الصالح .
وقد كتب ابن القيم جزءًا كبيراً في كتابه:'عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين' ناقش فيه هذه المسألة باستفاضة، وفصل الخطاب ما حكاه عن شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه المسألة، بأنَّه ليس لأحدهما على الأخرى فضيلة إلا بالتقوى، فأيهما أعظم إيمانًا وتقوى كان أفضل، فإن استويا فى ذلك؛ استويا فى الفضيلة؛ لأن نصوص الكتاب والسنة إنما تفضل بالإيمان والتقوى، وقد قال تعالى:{...إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا...[135]}[سورة النساء] . وقد كان في الأنبياء والسابقين الأولين من الأغنياء من هو أفضل من أكثر الفقراء، وكان فيهم من الفقراء من هو أفضل من أكثر الأغنياء، والكاملون يقومون بالمقامين، فيقومون بالشكر والصبر على التمام كحال نبينا، وحال أبى بكر وعمر رضى الله عنهما.
ولكن قد يكون الفقر لبعض الناس أنفع، والغنى لآخرين أنفع، كما تكون الصحة لبعضهم أنفع والمرض لبعضهم أنفع .
وقد صح أن الفقراء يتقدمون في دخول الجنة لخفة الحساب عليهم، والأغنياء يؤخرون لأجل الحساب عليهم، ثم إذا حوسب أحدهم فإن كانت حسناته أعظم من حسنات الفقير؛ كانت درجته في الجنة فوقه- وإن تأخر في الدخول .
نخلص من هذا أنَّ العبرة ليست بالفقر ولا بالغنى، فهذا أو ذاك لا يغني عنك من الله شيئًا إلا إذا كان سببًا في زيادة الإيمان والتقوى، فهذا هو المقياس والمعيار المعتبر عند رب العالمين، فالمهم هو ' الرضا ' عن الله، وعدم التسخط عند المنع، وعدم البطر عند العطية .
وإذا وجدت الله يرزق هذا، ويمنع عن ذلك؛ فتذكر قول الله:{...أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ[53]}[سورة الأنعام] . وتذكر قوله تعالى:{...وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ[35]}[سورة الأنبياء] . واعلم أن خزائن الله لا تنفد، وهو المعطي المانع، فليتعلق قلبك به، ودع عنك زخرف الحياة الدنيا، فإنما هي أوهام، والدنيا كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا ووجد الله عنده فوفاه حسابه .
فإذا كان الأمر كذلك: فعليك بالرضا، فإنه ملاك الأمر، وعليك أن تحسن النظر إلى الأمور فتقيسها بمقياس أهل الإيمان، ولا تعر اهتمامًا لما دون ذلك:
فالفقير يفرح بأنَّه أخف الناس حسابًا، وأنَّ الله اختار ذلك الحال لنبيه صلى الله عليه وسلم، ويأخذ من حياة النبي صلى الله عليه وسلم العبرة والأسوة، فلا يقنط ولا ييأس، ويعلم أنَّ الأمر صبر ساعة، ولا ينظر بعين الحسد إلى من يعلوه في أمور الدنيا؛ لأنه فهم عن الله أنَّ العلو ليس بكثرة المال ورفاهية العيش.. لا بل العلو بالتقوى، وكثرة الطاعات، والقرب من الله، فهؤلاء هم أهل غبطته .
أمَّا الغني فيخشى أنْ تكون زيادة النعم استدراجًا، فَعَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنْ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ] ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ[44]}[سورة الأنعام] . رواه أحمد .
ويخاف شدة العذاب إنْ لم يوفِّ شكر النعم التي بمحض فضل الله تعالى رزقها:{...لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ[7]}[سورة إبراهيم] . فهو مشغول بشكر نعمة الله عليه، فيعطي حق المال من زكاة، وصدقة، ونفقة في سبيل الله، فلا يعرف الترف بابه، وإن ملك الملايين؛ لأنَّه يعلم أنَّ الله سائله عن ماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه ؟!!
ولعل كثيرًا منكم يقول: إنَّ هذا لا يدري عن واقع الناس اليوم شيئًا، وإنَّه يحدثنا بما يصلح لعصور السلف، فكيف بالله في ظل كل هذه المغريات، والفتن المتلاحقات أن يسير الأمر هكذا .
وإني ناصحك نصيحة حريص مشفق عليك، فإنَّي لأعلم مدى الخطر الذي يداهم المسلمين الآن، ومدى الفتن التي يواجهونها، وحجم المغريات التي توضع في طريقهم، فتتخطف السواد الأعظم منهم ولكن ..
القضية أولاً قضية يقين بالله تعالى، قضية إيمان واعتقاد، فأي محك آخر نحتكم إليه فهو خداع، وأنت حين تنظر إلى الأمور بهذه الطريقة لن تقول مثلما تقول الآن، حين تفرغ قلبك من حب الدنيا، وتخرج قليلًا خارج أسوارها، فترى بعين الإيمان الأمور؛ فستذكر ما أقول لك، ومن هنا يبدأ العلاج.
العلاج
أولاً: التوحيد، وصحة الاعتقاد؛ ليصح اليقين والإيمان .
ثانيًا: إشغال القلب بالآخرة: بكثرة سماع المحاضرات العلمية التي تحض على ذلك، وقراءة الكتب، والاتعاظ بحال من كنت تعرف وداهمهم الموت، وعيادة المرضى والمحتضرين، وزيارة القبور والنظر لمآلك بعد هذه الحياة .
ثالثًا: تخليص القلب من حب الدنيا: الذي هو سبب للعجز والوهن الذي أصاب المسلمون هذه الأيام، وهذا يحصل عندما تعاين حقارتها، وقد ضرب الله الأمثلة الكثيرة للدنيا ومدى خستها، وبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تعدل عند الله جناح بعوضة، وارجع إن شئت لكتاب ' عدة الصابرين ' في الباب الثالث والعشرين فقد كتب في آخره فصلاً تحت اسم: في ذكر أمثلة تبين حقيقة الدنيا وتحته اثنان وعشرون مثلاً فبها اعتبر .
رابعًا: عدم الاختلاط بأهل الدنيا فإنَّ خلطتهم كالداء العضال: قال تعالى:{ وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى[131]}[سورة طه] .
خامسًا: الأخوة الإيمانية: فإنَّها نعم المعين، فعليك برفقة الصالحين ومخالطتهم، وحبهم ومنافستهم في الطاعة {... وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ[26]}[سورة المطففين] .
سادسًا: التقيد بمنهج تربوي:فلابد لك من مربٍ يتابعك، ويكشف لك عيوبك، ويبصرك بالطريق، وإن كانت الساحة تفتقد لهؤلاء، ولكن اجتهد، وأخلص النية، ولسوف يعطيك ربك فترضى .
أخيرًا.. كيف تنفق مالك؟
وقد أرشدنا الله تبارك وتعالى لكيفية انفاق المال قال تعالى:{...وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ[219]}[سورة البقرة] . قال ابن عباس:' ما يفضل عن أهلك' .
فابذل الفضل من مالك ولا تمسكه، ففي صحيح مسلم من حديث أبي أمامة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : [يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ أَنْ تَبْذُلَ الْفَضْلَ خَيْرٌ لَكَ وَأَنْ تُمْسِكَهُ شَرٌّ لَكَ وَلَا تُلَامُ عَلَى كَفَافٍ وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى] . هذه هي القضية أن الترف مفسد، وكثرة المال تلهى، فاللهم أعطنا ما يكفينا، وعافنا مما يطغينا .
من محاضرة:' الترف .. مظاهره وأسبابه وعلاجه' للشيخ / محمد بن حسين يعقوب