طارق أحمد
03-23-2004, 03:54 PM
إنهم قوم اجتمعت فيهم خصال الخير:
أخرج مسلم(1) في ((صحيحه)) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أصبح منكم اليوم صائمًا؟)) قال أبو بكر: أنا. قال: ((فمن تبع منكم اليوم جنازة؟)) قال أبو بكر: أنا. قال: ((فمن أطعم منكم اليوم مسكينًا؟)) قال أبو بكر: أنا. قال: ((فمن عاد منكم اليوم مريضًا؟)) قال أبو بكر: أنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما اجتمعن في امريء إلا دخل الجنة)).
وفي ((الصحيحين)) (2) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من أنفق زوجين من شيء من الأشياء في سبيل الله دعي من أبواب -يعني الجنة- يا عبد الله هذا خير؛ فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الصيام وباب الريان)). فقال أبو بكر: مَا عَلَى هذا الذي يدعى من تلك الأبواب من ضرورة، وقال: وهل يدعى منها كلها أحد يا رسول الله؟ قال: ((نعم، وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر)).
قوم بذلوا الغالي والنفيس لنصرة هذا الدين، وأنفقوا في سبيله مَا يملكون:
أخرج أبو داود في ((سننه)) (3) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا أن نتصدق فوافق ذلك مالاً عندي فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يومًا فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أبقيت لأهلك؟)) فقلت: مثله. قال: وأتى أبو بكر بكل مَا عنده، فقال له رسول لله صلى الله عليه وسلم: ((ما أبقيت لأهلك؟)) قال: أبقيت لهم الله ورسوله. قلت: لا أسابقك إلى شيء أبدًا.
وفي مسند الإمام أحمد (4) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أنفق زوجًا-أو قال: زوجين- من ماله -أراه قال: في سبيل الله- دعته خزنة الجنة: يا مسلم هذا خير هلم إليه)). فقال أبو بكر: هذا رجل لا تودي(5) عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما نفعني مال قط إلا مال أبي بكر)). قال: فبكى أبو بكر، وقال: وهل نفعني الله إلا بك، وهل نفعني الله إلا بك، وهل نفعني الله إلا بك.
تعلَّموا التوحيد فأتقَنوه وعَلِموا أن المعبود هُوَ الله وحده سبحانه وأنه حي لا يموت:
أخرج البخاري(6) من حديث عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وأبو بكر بالسنح -قال إسماعيل: يعني بالعالية- فقام عمر يقول: والله مَا مات رسول الله صلى الله عليه وسلم, قالت: وقال عمر: والله مَا كان يقعُ في نفسي إلا ذاك، وليبعثنه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم، فجاء أبو بكر فكشف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبَّله فقال: بأبي أنت وأمي طبت حيًّا وميتًا، والذي نفسي بيده لا يُذيقك الله الموتتين أبدًا، ثم خرج فقال: أيها الحالف عَلَى رسلك، فلما تكلم أبو بكر جلس عمر فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه، وقال: ألا من كان يعبد محمدًا صلى الله عليه وسلم فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت، وقال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيّتُونَ} [الزمر: 30]. وقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّات أَوْ قُتِلَ انقلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ الله شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144]. قال: فنشج الناس يبكون.
قوم علموا أنهم لن يصيبهم إلا مَا كتبه الله لهم، وأنه سبحانه هُوَ حسبهم وكافيهم وأنه سبحانه معهم أينما كانوا:
قال الله تعالى: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 51].
وقال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 173، 174].
علَّمهم نبيهم أن الله معهم وأنه لن يخذلهم.
ففي ((الصحيحين)) (7) أن أبا بكر رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم وهما في الغار: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال: ((ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما)).
فهكذا تعلموا، وبهذا أيقنوا، ومن ثمَّ هدأت قلوبهم، واستراحت ضمائرهم، وذهب الخوف عنهم.
استجابوا لله وللرسول من بعد مَا أصابهم القرح، وما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما مَا استكانوا.
أخرج البخاري ومسلم (8)من حديث عائشة رضي الله عنها: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا للهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 172]. قالت لعروة: يا ابن أختي كان أبواك منهم: الزبير وأبو بكر، لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مَا أصاب يوم أحد وانصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا، قال: ((من يذهب في أثرهم؟)) فانتدب منهم سبعون رجلاً، كان فيهم أبو بكر والزبير.
قوم وقفوا مع كتاب الله لم يتجاوزوه ولم يقدموا رأيهم عليه ولم يقدموا حظوظ أنفسهم بين يديه:
أخرج البخاري(9) حديث الإفك، وفيه من حديث عائشة رضي الله عنها فلما أنزلَ الله في براءتي قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه -وكان ينفق عَلَى مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره-: والله لا أنفق عَلَى مسطح شيئًا أبدًا بعد الذي قال لعائشة، مَا قال؛ فأنزل الله: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضَلْ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ألا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النور: 22]. قال أبو بكر: بلى والله إني أحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبدًا.
قوم مَا أكلوا الحرام ولا رضوا بالغش وبالخداع ولا بالحيل:
أخرج البخاري(10) من حديث عائشة رضي لله عنها، قالت: كان لأبي بكر غلام يخرج له الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء يومًا بشيء فأكل منه أبو بكر فقال له الغلام: أتدري مَا هذا؟ فقال أبو بكر: وما هُوَ؟ قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية، وما أحسن الكهانة إلا أني خدعته فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلت منه، فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه.
إنهم قوم آمنوا بالله ولزموا الجد والجود ففرَّت منهم الشياطين:
أخرج البخاري(11) من طريق زيد بن أسلم عن أبيه، قال: سألني ابن عمر عن بعض شأنه -يعني عمر- فأخبرته فقال: مَا رأيت أحد قط بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من حين قبض كان أجدَّ وأجود حتى انتهى من عمر بن الخطاب.
وأخرج البخاري ومسلم من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: استأذن عمر بن الخطاب عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده نسوة من قريش يكلمنه ويستكثرنه, عالية أصواتهن عَلَى صوته, فلما استأذن عمر بن الخطاب قمن فبادرن الحجاب فأذن له رسول الله، فدخل عمر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك، فقال: أضحك الله سنك يا رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((عجبت من هؤلاء اللاتي كُنَّ عندي فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب)). قال: عمر فأنت أحق أن يهبن يا رسول الله، ثم قال عمر: يا عدوات أنفسهن أتهبنني ولا تهبن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقلن: نعم أنت أفظ وأغلظ من رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إيهًا يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده مَا لقيك الشيطان سالكًا فجًا قط إلا سلك فجًّا غير فجك)) (12).
وأخرج الإمام أحمد(13) بسند حسن عن بريدة رضي الله عنه: أن أمة سوداء أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رجع من بعض مغازيه، فقالت: إني نذرت إن ردك الله صالحًا أن أضرب عندك بالدف قال: ((إن كنت فعلت فافعلي، وإن كنت لم تفعلي فلا تفعلي)). فضربت فدخل أبو بكر وهي تضربن ودخل غيره وهي تضربن, ثم دخل عمر قال: فجعلت دفها خلفها وهي مقنعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الشيطان ليفرق منك يا عمر)). أنا جالس هاهنا ودخل هؤلاء فلما أن دخلت فعلت مَا فعلت.
قوم لم يغتروا بصالح أعمالهم:
أخرج البخاري(14) من حديث المسور بن مخرمة رضي الله عنه قال: لما طعن عمر جعل يألم، فقال له ابن عباس -وكأنه يجزعه-: يا أمير المؤمنين، ولئن كان ذاك، لقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك راضٍ، ثم صحبت أبا بكر فأحسنت صحبته ثم فارقته وهو عنك راضٍ، ثم صحبت صحبتهم فأحسنت صحبتهم، ولئن فارقتهم لتفارقنهم وهم عنك راضون، قال: أما مَا ذكرت من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضاه؛ فإنما ذاك منٌّ من الله تعالى مَنَّ به عليَّ، وأما مَا ذكرت من صحبة أبي بكر ورضاه؛ فإنما ذاك منٌّ من الله جل ذكره مَنَّ به علي، وأما مَا ترى من جزعي؛ فهو من أجلك وأجل أصحابك، والله لو أن لي طلاع الأرض ذهبًا لافتديت به من عذاب الله عَزَّ وَجَلَّ قبل أن أراه.
إنهم قوم استحيوا من الله وراقبوه في السر والعلن فاستحيت منهم الملائكة:
أخرج الإمام(15)مسلم -رحمه الله- من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعًا في بيتي كاشفًا عن فخذيه أو ساقيه، فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو عَلَى تلك الحال فتحدث، ثم استأذن عمر فأذن له وهو كذلك فتحدث، ثم استأذن عثمان فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وسوى ثيابه - قال محمد: ولا أقول ذلك في يوم واحد- فدخل فتحدث فلما خرج قالت عائشة: دخل أبو بكر فلم تهتش له ولم تبله، ثم دخل عمر فلم تهتش له ولم تباله، ثم دخل عثمان فجلست وسويت ثيابك! فقال: ((ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة)).
إنهم رجال صدقوا مَا عاهدوا الله عليه:
أخرج (16) البخاري من حديث أنس رضي الله عنه قال: غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر، فقال: يا رسول الله غبت عن أول قتال قاتلت المشركين لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرين الله مَا أصنع، فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء يعني أصحابه، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء يعني المشركين، ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ، فقال: يا سعد بن معاذ الجنة ورب النضر إني أجد ريحها من دون أحد، قال سعد: فما استطعت يا رسول الله مَا صنع. قال أنس: فوجدنا به بضعًا وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، ووجدناه قد قتل وقد مثل به المشركون فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه، قال أنس: كنا نرى -أو نظن- أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23] إلى آخر الآية.
وقال: إن أخته -وهي تسمى الربيع- كسرت ثنية امرأة فأمر رسول الله بالقصاص، فقال أنس: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها فرضوا بالأرش وتركوا القصاص، فقال رسول الله: ((إن من عباد الله من لو أقسم عَلَى الله لأبره)).
إنهم قوم جاهدوا فصبروا، وثبتوا وما فروا:
أخرج أبو داود(17) وأحمد بإسناد صحيح عن علي رضي الله عنه قال:تقدم -يعني عتبة بن ربيعة- وتبعه ابنه وأخوه فنادى من يُبارز؟ فانتدب له شباب من الأنصار فقال: من أنتم؟ فأخبروه فقال: لا حاجة لنا فيكم إنما أردنا بني عمنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قم يا حمزة, قم يا علي, قم يا عبيدة بن الحارث)). فأقبل حمزة إلى عتبة وأقبلت إلى شيبة واختلفت بين عبيدة والوليد ضربتان فأثخن كل واحد منهما صاحبه, ثم ملنا عَلَى الوليد فقتلناه واحتملنا عبيدة.
وأخرج البخاري(18) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أَمَّرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة مؤتة زيد بن حارثة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن قُتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة)). قال عبد الله: كنت فيهم في تلك الغزوة، فالتمسنا جعفر بن أبي طالب فوجدناه في القتلى، ووجدنا مَا في جسده بعضًا وتسعين من طعنة ورمية.
وفي بعض الروايات: ليس منها في بره يعني في ظهره (19).
وأخرج ابن سعد في ((الطبقات)) (20) بإسناد حسن لغيره:
عن ابن عباس قال: لما قتل حمزة يوم أحد أقبلت صفية تطلبه لا تدري مَا صنع، قال: فلقيت عليًّا والزبير فقال علي للزبير: اذكر لأمك، قال الزبير: لا, بل اذكر أنت لعمتك، قالت: مَا فعل حمزة؟ قال فأريها أنهما لا يدريان، قال: فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((إني أخاف عَلَى عقلها)). قال: فوضع يده عَلَى صدرها ودعا لها فاسترجعت وبكت، ثم جاء وقام عليه وقد مثل به فقال: ((لولا جزع النساء لتركته حتى يحشر من حواصل الطير وبطون السباع)). قال: ثم أمر بالقتلى فجعل يصلي عليهم فيضع تسعة وحمزة فيكبر عليهم سبعًا, ثم يرفعون ويترك حمزة ثم يجاء بتسعة فيكبر عليهم حتى فرغ منهم.
وأخرج أبو يعلى (21) الموضع من حديث أنس رضي الله عنه أن أبا طلحة قرأ سورة (براءة) فأتى عَلَى هذه الآية: {انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً} [التوبة: 41]. فقال: ألا أرى ربي يستنفرني شابًّا وشيخًا؟ جهزوني، فقال له بنوه: قد غزوت مع رسول الله حتى قبض، وغزوت مع أبي بكر حتى مات، وغزوت مع عمر، فنحن نغزوه عنك، فقال: جهزوني فجهزوه، فركب البحر فمات فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام فلم يتغير.
إنهم قوم ملأ الإيمان قلوهم فلم يخشوا في الله لومة لائم:
أخرج الإمام أحمد(22) بإسناد حسن من حديث أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي، أمِنَّا عَلَى ديننا وعبدنا الله تعالى لا نؤذى ولا نسمع شيئًا نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشًا ائتمروا أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين جلدين، وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة، وكان من أعجب مَا يأتيه منها إليه الأدم فجمعوا له أدمًا كثيرًا، ولم يتركوا من بطارقته بطريقًا إلا أهدوا له هدية، ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي وعمرو بن العاص بن وائل السهمي وأمروهما أمرهم، وقالوا لهما: ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلموا النجاشي فيهم، ثم قدما للنجاشي هداياه، ثم سلوه أن يسلمهم إليكم قبل أن يكلمهم. قالت: فخرجا فقدما عَلَى النجاشي ونحن عنده بخير دار وخير جار, فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي، ثم قالا: لكل بطريق منهم إنه قد صبأ إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء, فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينكم وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم لنردهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم؛ فإن قومهم أعلى بهم عينًا وأعلم بما عابوا عليهم فقالوا: نعم، ثم إنهما قربا هداياهم إلى النجاشي فقبلها منهما ثم كلماه فقال له: أيها الملك إنه قد صبأ إلى بلدك منا غلمان سفهاء, فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عينًا وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه. قالت: ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع النجاشي كلامهم، فقالت بطارقته حوله: صدقوا أيها الملك، قومهم أعلى بهم عينًا وأعلم بما عابوا عليهم، فأسلمهم إليهما فليردانهم إلى بلادهم وقومهم. قالت: فغضب النجاشي، ثم قال: لا وأيم الله, إذًا لا أسلمهم إليهما, ولا أكاد، قومًا جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني عَلَى من سواي حتى أدعوهم فأسألهم مَا يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما يقولون أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا عَلَى غير ذلك منعتهم منهما وأحسنت جوارهم مَا جاوروني. قالت: ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا ثم قال بعضهم لبعض: مَا تقولون للرجل إذا جئتموه قالوا: نقول والله ما علمنا وما أمرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم كائن في ذلك مَا هُوَ كائن. فلما جاءوه وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله ليسألهم فقال: مَا هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه الأمم؟ قالت: فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب فقال له: أيها الملك كنا قومًا أهل جاهلية: نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، يأكل القوي منا الضعيف، فكنا عَلَى ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله تعالى لنوحده ونعبده, ونخلع مَا كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدم، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئًا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام قال: فعدد عليه أمور الإسلام، فصدقناه وآمنا به واتبعناه عَلَى مَا جاء به، فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئًا، وحرمنا مَا حرم علينا، وأحللنا مَا أحل لنا، فعدا علينا قومنا فعذبونا ففتنونا عن ديننا؛ ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله، وأن نستحل مَا كنا نستحل من الخبائث، ولما قهرونا وظلمونا وشقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلدك، واخترناك عَلَى من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نُظلم عندك أيها الملك. قالت: فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ قالت: فقال له جعفر: نعم. فقال له النجاشي: فاقرأه عليَّ. فقرأ عليه صدرًا من {كهيعص} [مريم]. قالت: فبكى والله النجاشي حتى أخضل لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا مَا تلا عليهم، ثم قال النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا فوالله لا أسلمهم إليكم أبدًا ولا أكاد. قالت أم سلمة رضي الله عنها: فلما خرجا من عنده قال عمرو بن العاص: والله لآتينه غدًا أعيبهم عنده ثم أستأصل به خضراءهم. قالت فقال له عبد الله بن أبي ربيعة -وكان أتقى الرجلين فينا-: لا تفعل فإن لهم أرحامًا وإن كانوا قد خالفونا. قال: والله لأخبرنه: أنهم يزعمون: أن عيسى ابن مريم عليهما السلام عبد. قالت: ثم غدا عليه الغد، فقال له: أيها الملك إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيمًا، فأرسل إليهم فسلهم عما يقولون فيه, قالت أم سلمة: فأرسل إليهم يسألهم عنه، قالت: -ولم ينزل بنا مثلها- فاجتمع القوم فقال بعضهم لبعض: ماذا تقولون في عيسى إذا سألكم عنه؟ قالوا: نقول والله فيه ما قال الله سبحانه وتعالى, و مَا جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم كائنًا في ذلك مَا هُوَ كائن، فلما دخلوا عليه، قال لهم: مَا تقولون في عيسى ابن مريم؟ فقال له جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه: نقول فيه الذي جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم، هُوَ عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول، قالت: فضرب النجاشي يده عَلَى الأرض فأخذ منها عودًا، ثم قال: مَا عدا عيسى ابن مريم مَا قلتَ هذا العود، فناخرت بطارقته حوله حين قال مَا قال، فقال: وإن نخرتم والله, اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي -والسيوم: الآمنون- من سبكم غرم، ثم من سبكم غرم، ثم من سبكم غرم، ثم من سبكم غرم، فما أحب أن لي دير ذهب وأني آذيت رجلاً منكم، والدير بلسان الحبشة الجبل، ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة لنا بها فوالله مَا أخذ الله مني الرشوة حين رد عليَّ ملكي فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع فيَّ الناس فأطيعهم فيه، قالت: فخرجا من عنده مقبوحين مردودًا عليهما ما جاءا به، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار، قالت: فوالله إنا عَلَى ذلك إذ نزل به يعني من ينازعه في ملكه، قلت فوالله مَا علمنا حزنًا قط كان أشد من حزنٍ حزناه عند ذلك؛ تخوفًا أن يظهر ذلك عَلَى النجاشي فيأتي رجل لا يعرف من حقنا مَا كان النجاشي يعرف منه، قالت: وسار النجاشي وبينهما عرض النيل قالت: فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من رجل يخرج حتى يحضر وقعة القوم ثم يأتينا بالخبر؟ قالت: فقال الزبير بن العوام رضي الله عنه: أنا. --قالت: وكان من أحدث القوم سنًّا- قالت: فنفخوا له قربة فجعلها في صدره، ثم سبح عليها حتى خرج إلى ناحية النيل التي بها ملتقى القوم، ثم انطلق حتى حضرهم، قالت: ودعونا الله تعالى للنجاشي بالظهور عَلَى عدوه والتمكين له في بلاده، واستوثق عليه أمر الحبشة فكنا عنده في خير منزل حتى قدمنا عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة.
إنهم رجال تحملوا في سبيل نصرة دينهم غاية التحمل، وجاهدوا حق الجهاد:
أخرج البخاري(23) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة عينًا، وأمر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري جد عاصم بن عمر بن الخطاب، حتى إذا كانوا بالهدة بين عسفان ومكة ذُكِروا لحي من هذيل يقال لهم: بنو لحيان، فنفروا لهم بقريب من مائة رجل رامٍ, فاقتصوا آثارهم حتى وجدوا مأكلهم التمر في منزل نزلوه فقالوا: تمر يثرب، فاتبعوا آثارهم, فلما حس بهم عاصم وأصحابه لجأوا إلى موضع فأحاط بهم القوم فقالوا لهم: انزلوا فأعطوا بأيديكم ولكم العهد والميثاق أن لا نقتل منكم أحدًا. فقال عاصم بن ثابت: أيها القوم, أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر ثم قال: اللهم أخبر عنا نبيك صلى الله عليه وسلم, فرموهم بالنبل فقتلوا عاصمًا, ونزل إليهم ثلاثة نفر عَلَى العهد والميثاق منهم خبيب وزيد بن الدثنة ورجل آخر، فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قُسيهم فربطوهم بها، قال الرجل الثالث: هذا أول الغدر والله لا أصحبكم إن لي بهؤلاء أسوة -يريد القتلى- فجرروه وعالجوه فأبى أن يصحبهم. فانطلقوا بخبيب وزيد بن الدثنة حتى باعوهما بعد وقعة بدر, فابتاع بنو الحارث بن عامر بن نوفل خبيبًا -وكان خبيب هُوَ قتل الحارث بن عامر يوم بدر- فلبث خبيب عندهم أسيرًا حتى أجمعوا قتله، فاستعار من بعض بنات الحارث موسى يستحد بها فأعارته، فدرج بُنيٌّ وهي غافلة حتى أتاه فوجدته مُجْلِسَه عَلَى فخذه والموسى بيده، قالت: ففزعت فزعة عرفها خبيب، فقال: أتخشين أن أقتله؟ مَا كنت لأفعل ذلك. قالت: والله مَا أريت أسيرًا قط خيرًا من خبيب، والله لقد وجدته يومًا يأكل قطفًا من عنب في يده وإنه لموثق بالحديد وما بمكة من ثمرة، وكانت تقول: إنه لرزق رزقه الله خبيبًا. فلما خرجوا به من الحرم ليقتلوه في الحِل قال لهم خبيب: دعوني أصلي ركعتين فتركوه فركع ركعتين، فقال: والله لولا أن تحسبوا أن مَا بي جزع لزدت، ثم قال: اللهم أحصهم عددًا واقتلهم بددًا ولا تبق منهم أحدًا، ثم أنشأ يقول:
فلست أبالي حين أُقْتَلُ مُسلمًا على أي جنبٍ كان لله مَصرعي وذلك في ذات الإلهِ وإن يشأ يُبارك على أوصالِ شلوٍ مُمَزعِ
ثم قام إليه أبو سروعة عُقبة بن الحارث فقتله، وكان خبيب هُو أول من سنَّ لكل مسلم قُتل صبرًا صلاة ركعتين، وأخبر -يعني النبيَّ صلى الله عليه وسلم- أصحابه خبرهم، وبعث ناس من قريش إلى عاصم بن ثابت حين حدثوا أنه قتل أن يؤتوا بشيء منه يعرف -وكان قتل رجلاًً عظيمًا من عظمائهم- فبعث الله لعاصم مثل الظلة من الدبر فحمته من رسلهم فلم يقدروا أن يقطعوا منه شيئًا.
وها هُوَ البطل المقدام عمير بن الحُمام رضي الله عنه:
أخرج الإمام مسلم(24) في ((صحيحه)) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بُسيسة عينًا ينظر مَا صنعت عير أبي سفيان، فجاء وما في البيت أحد غيري وغير رسول الله صلى الله عليه وسلم، -قال: لا أدري مَا استثنى بعض نسائه- قال: فحدثه الحديث، قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فتكلم فقال: ((إن لنا طلبة فمن كان ظهره حاضر فليركب معنا)) فجعل رجال يستأذنونه في ظهرانهم في علو المدينة، فقال: ((لا, إلا من كان ظهره حاضرًا)) فانطلق رسول الله وأصحابه حتى سبقوا المشركين إلى بدر, وجاء المشركون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يقدمن أحد منكم إلى شيء حتى أكون أنا دونه))، فدنا المشركون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض))، قال: يقول عمير بن الحمام الأنصاري: يا رسول الله جنة عرضها السموات والأرض؟ قال: ((نعم))، قال: بخ بخ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما يحملك عَلَى قول بخٍ بخٍ))، قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاءة أن أكون من أهلها. قال: ((فإنك من أهلها))، فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، قال: فرمى بما كان معه من التمر, ثم قاتلهم حتى قُتل.
وها هي قصة قتل عمر فيها معتبرٌ وفيها مُدكر لمن ألقى السمع وهو شهيد:
أخرج البخاري(25) من طريق عمرو بن ميمون قال ميمون، قال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل أن يُصاب بأيام بالمدينة, ووقف عَلَى حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف، قال: كيف فعلتما؟ أتخافان أن تكونا حملتما الأرض مَا لا تطيق؟ قال: حملناها أمرًا هي له مطيقة، مَا فيها كبير فضل. قال: انظرا أن تكونا حملتما الأرض مَا لا تطيق. قال: لا. فقال عمر: لئن سلمني الله لأدعن أرامل أهل العراق لا يحتجن إلى رجل بعدي أبدًا، قال: فما أتت عليه رابعة حتى أصيب، قال: إني لقائم مَا بيني وبينه إلا عبد الله بن عباس -غداة أصيب- وكان إذا مرَّ بين الصفين قال: استووا حتى إذا لم ير فيهم خَللاً تقدم فكبر، وربما قرأ سورة يوسف أو النحل، أو نحو ذلك في الركعة الأولى، حتى يجتمع الناس فما هُوَ إلا أن كبر فسمعته يقول: قتلني -أو أكلني الكلب- حين طعنه فطار العلج بسكين ذات طرفين, لا يمر إلى أحد يمينًا ولا شمالاً إلى طعنه حتى طعن ثلاثة عشرة رجلاً مات منهم سبعة، فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه برنسًا فلما ظن العلج أنه مأخوذ نحرن نفسه، وتناول عمر يد عبد الرحمن بن عوف فقدمه فمن يلي عمر فقد رأى الذي أرى، وأما نواحي المسجد فإنهم لم يردون غير أنهم فقدوا صوت عمر، وهم يقولون: سبحان الله فصلى بهم عبد الرحمن صلاة خفيفة فلما انصرفوا قال: يا ابن عباس انظر من قتلني فجال ساعة ثم جاء فقال: غلام المغيرة، قال: الصنع؟ قال: نعم، قال: قتله الله لقد أمرت به معروفًا، والحمد لله الذي لم يجعل ميتتي بيد رجل يدعي الإسلام، قد كنت أنت وأبوك تحبان أن تكثر العلوج بالمدينة، وكان العباس أكثرهم رقيقًا، فقال: إن شئت فعلت: أي إن شئت قتلنا، قال: كذبت بعد مَا تكلموا بلسانكم وصلوا قبلتكم، وحجوا حجكم؛ فاحتمل إلى بيته، فانطلقنا معه، وكأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذٍ فقائل يقول: لا بأس، وقائل يقول: أخاف عليه، فأتى بنبيذ فشربه فخرج من جوفه، ثم أتي بلين فشربه فخرج من جرحه، فعلموا أنه ميت، فدخلنا عليه وجاء الناس فجعلوا يثنون عليه، وجاء رجل شاب، فقال: أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقدمٍ في الإسلام مَا قد علمت، ثم وليت فعدلت، ثم شهادة، قال: وددت أن ذلك كفاف لا عليَّ ولا ليَّ، فلما أدبر إذا إزاره يمس الأرض، قال: ردوا عليَّ الغلام. قال: يا ابن أخي ارفع ثوبك؛ فإنه أبقى لثوبك وأتقى لربك، يا عبد الله بن عمر انظر مَا علي من الدَّيْن فحسبوه فوجدوه ستة وثمانين ألفًا أو نحوه قال: إن وفى له مال آل عمر فأده من أموالهم، وإلا فسل في بني عدي بن كعب، فإن لم تَفِ أموالهم فسل في قريش، ولا تعدهم إلى غيرهم فأد عني هذا لمال، انطلق إلى عائشة أم المؤمنين فقل: يقرأ عليك عمر السلام، ولا تقل أمير المؤمنين؛ فإني لست اليوم للمؤمنين أميرًا، وقل: يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه، فسلم واستأذن، ثم دخل عليها فوجدها قاعدة تبكي، فقال: يقرأ عليك عمر بن الخطاب السلام, ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه، فقالت: كنت أريده لنفسي، ولأوثرنه به اليوم عَلَى نفسي، فلما أقبل، قيل: هذا عبد الله بن عمر قد جاء، قال: ارفعوني فأسنده رجل إليه، فقال: مَا لديك؟ قال: الذي تحب يا أمير المؤمنين، أذنت، قال: الحمد لله مَا كان من شيء أهم إليَّ من ذلك، فإذا أنا قضيت فاحملوني ثم سلم، فقل: يستأذن عمر بن الخطاب، فإن أذنت لي فأدخلوني، وإن ردتني ردوني إلى مقابر المسلمين، وجاءت أم المؤمنين حفصة والنساء تسير معها، فلما رأيناها قمنا فولجت عليه فبكت عنده ساعة، واستأذن الرجال فولجت داخلاً لهم فسمعنا بكاءها من الداخل فقالوا: أوص يا أمير المؤمنين استخلف، قال: ما أجد أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر -أو الرهط- الذي توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ فسمى عليًّا, وعثمان, والزبير, وطلحة, وسعدًا, وعبد الرحمن، وقال: يشهدكم عبد الله بن عمر، وليس له من الأمر شيء كهيئة التعزية له, فإن أصابت الإمرة سعدًا فهو ذاك، وإلا فليستعن به أيكم مَا أمر، فإني لم أعزله عن عجز ولا خيانة، وقال: أوصي الخليفة من بعدي بالمهاجرين الأولين: أن يعرف لهم حقهم، ويحفظ لهم حرمتهم، وأوصيه بالأنصار خيرًا الَّذِينَ تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم: أن يقبل من محسنهم, وأن يعفي عن مسيئهم، وأوصيه بأهل الأمصار خيرًا؛ فإنهم ردء الإسلام وجباةُ المال وغيظ العدو، وأن لا يؤخذ منهم إلا فضلهم عن رضاهم، وأوصيه بالأعراب خيرًا؛ فإنهم أصل العرب ومادة الإسلام أن يؤخذ من حواشي أموالهم ويرد عَلَى فقرائهم، وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم أن يوفي لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم ولا يكلفوا إلا طاقتهم، فلما قبض خرجنا به فانطلقنا نمشي فسلم عبد الله بن عمر قال: يستأذن عمر بن الخطاب، قالت: أدخلوه فأدخل فوضع هنالك مع صاحبيه، فلما فرغ من دفنه اجتمع هؤلاء الرهط فقال عبد الرحمن: اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم، فقال الزبير: قد جعلت أمري إلى علي، فقال طلحة: قد جعلت أمري إلى عثمان، وقال سعد: قد جعلت أمري إلى عبد الرحمن بن عوف، فقال عبد الرحمن بن عوف: أيكما تبرأ من هذا الأمر فنجعله إليه، والله عليه والإسلام لينظرن أفضلهم في نفسه؟ فأسكت الشيخان فقال عبد الرحمن: أفتجعلونه إليَّ والله علي أن لا آلو عن أفضلكم؟ قالا: نعم, فأخذ بيد أحدهما فقال: لك قرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم والقدم في الإسلام مَا قد علمت، فالله عليك لئن أمرتك لتعدلن، ولئن أمرت عثمان لتسمعن ولتطيعن، ثم خلا بالآخر فقال مثل ذك، فلما أخذ الميثاق قال: ارفع يديك يا عثمان فبايعه فبايع له علي وولج أهل الدار فبايعوه.
كانوا أوفياء لإخوانهم بعد موت الإخوان:
أخرج البخاري(26) في ((صحيحه)) من طريق زيد بن أسلم عن أبيه قال: خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى السوق فلحقت عمر امرأة شابة، فقالت: يا أمير المؤمنين هلك زوجي وترك صبية صغارًا، والله مَا ينضجون كراعًا ولا لهم زرع ولا ضرع، وخشيت أن تأكلهم الضبع، وأنا بنت خفاف بن إيماء الغفاري، وقد شهد أبي الحديبية مع النبي صلى الله عليه وسلم، فوقف معها عمر ولم يمضِ ثم قال: مرحبًا بنسب ثريب، ثم انصرف إلى بعير ظهير كان مربوطًا في الدار فحمل عليه غرارتين ملأهما طعامًا، وحمل بينهما نفقة وثيابًا ثم ناولها بخطامه، ثم قال: اقتاديه فلن يفنى حتى يأتيكم اللهُ بخير، فقال رجل: يا أمير المؤمنين أكثرت لها. قال عمر: ثكلتك أمك، والله إني لأرى أبا هذه وأخاها قد حاصرا حصنًا زمانًا فافتتحاه، ثم أصبحنا نستفيء سهماننا فيه.
هذه هي أمنياتهم:
أخرج الحاكم في ((مستدركه)) (27) بسند حسن عن عمر رضي الله عنه أنه قال لأصحابه: تمنوا فقال بعضهم: أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة ذهبًا أنفقه في سبيل الله وأتصدق، وقال رجل: أتمنى لو أنها مملوءة زبرجدًا وجوهرًا فأنفقه في سبيل الله وأتصدق، ثم قال عمر: تمنوا، فقالوا: مَا ندري يا أمير المؤمنين فقال عمر: أتمنى لو أنها مملوءة رجالاً مثل أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حذيفة وحذيفة بن اليمان.
حرصوا عَلَى العلم فآتاهم الله إياه:
أخرج الدارمي(28) بإسناد صحيح عن ابن عباس قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لرجل من الأنصار: يا فلان هلم فلنسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأنهم اليوم كثير، فقال: واعجبًا لك يا ابن عباس! أترى الناس يحتاجون إليك، وفي الناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من ترى؟ فترك ذلك وأقبلت عَلَى المسألة، فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتيه وهو قائل، فأتوسد ردائي عَلَى بابه فتسفي الريح عَلَى وجهي التراب، فيخرج فيراني فيقول: يا ابن عم رسول الله مَا جاء بك؟ ألا أرسلت إلي فآتيك؟ فأقول: أنا أحق أن آتيك، فأسأله عن الحديث، قال:فبقي الرجل حتى رآني وقد اجتمع الناس عليَّ، فقال: كان هذا الفتى أعقل مني.
وحرصوا عَلَى الإيمان فوفقهم الله إليه:
أخرج البخاري ومسلم(29) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنا جلوسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأُنْزِل عليه سورة الجمعة: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة: 3]. قال: قلت: من هم يا رسول الله؟ فلم يراجعه حتى سأل ثلاثًا، وفينا سلمان الفارسي وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده عَلَى سلمان، ثم قال: ((لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال -أو رجل- من هؤلاء)).
وها هُوَ سلمان وبحثه عن الحقيقة:
أخرج الإمام أحمد (30) -رحمه الله- من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: حدثني سلمان الفارسي حديثه من فيه، قال: كنت رجلاً فارسيًّا من أهل أصبهان من أهل قرية يقال لها: جى، وكان أبي دهقان قريته، وكنت أحب خلق الله إليه، فلم يزل به حبه إياي حتى حبسني في بيته -أي ملازم النار- كما تحبس الجارية، وأجهدت في المجوسية حتى كنت قطن النار الذي يوقدها لا يتركها تخبو ساعة، قال: وكانت لأبي ضيعة عظيمة، قال: فشغل في بنيان له يومًا، فقال لي: يا بني إني قد شغلت في بنيان هذا اليوم عن ضيعتي فاذهب فاطلعها، وأمرني فيها ببعض مَا يريد ،فخرجت أريد ضيعته فمررت بكنيسة من كنائس النصارى، فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون، وكنت لا أدري مَا أمر الناس لحبس أبي إياي في بيته، فلما مررت بهم وسمعت أصواتهم دخلت عليهم أنظر مَا يصنعون. قال: فلما رأيتهم أعجبني صلاتهم، ورغبت في أمرهم، وقلت: هذا والله خير من الدين الذي نحن عليه، فوالله مَا تركتهم حتى غربت الشمس، وتركت ضيعة أبي ولم آتها، فقلت لهم: أين أصل هذا الدين؟ قالوا: بالشام، قال: ثم رجعت إلى أبي وقد بعث في طلبي وشغلته عن عمله كله، قال فلما جئته، قال: أي بني أين كنت؟ ألم أكن عهدت إليك مَا عهدت، قال: قلت: يا أبت مررت بناس يصلون في كنيسة لهم فأعجبني مَا رأيت من دينهم، فوالله مَا زلت عندهم حتى غربت الشمس، قال: أي بني ليس في ذلك الدين خير، دينك ودين آبائك خير منه، قال: قلت: كلا والله إنه خير من ديننا، قال: فخافني، فجعل في رجلي قيدًا، ثم حبسني في بيته، قال: وبعثت إلى النصارى، فقلت لهم: إذا قدم عليكم ركب من الشام تجار من النصارى فأخبروني بهم، قال: فقدم عليهم ركب من الشام تجار من النصارى، قال: فأخبروني بهم، قال: فقلت لهم: إذا قضوا حوائجهم وأردوا الرجعة إلى بلادهم فآذنوني بهم، قال:فلما أرادوا الرجعة إلى بلادهم أخبروني بهم، فألقيت الحديد من رجلي، ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام، فلما قدمتها قلت: من أفضل أهل هذا الدين؟ قالوا: الأسقف في الكنيسة، قال: فجئته فقلت: إني قد رغبت في هذا الدين وأحببت أن أكون معك أخدمك في كنيستك، وأتعلم منك وأصلي معك، قال: فادخل فدخلت معه، قال: فكان رجل سوء يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها، فإذا جمعوا إليه منها أشياء اكتنزه لنفسه، ولم يعطه المساكين حتى جمع سبع قلال من ذهب وورق، قال: وأبغضته بغضًا شديدًا لما رأيته يصنع، ثم مات فاجتمعت إليه النصارى ليدفنوه فقلت لهم: إن هذا كان رجل سوء؛ يأمركم بالصدقة ويرغبكم فيها فإذا جئتموه بها اكتنزها لنفسه ولم يعط المساكين منها شيئًا، قالوا: وما علمك بذلك؟ قال قلت: أنا أدلكم عَلَى كنزه، قالوا: فدلنا عليه، قال: فأريتهم موضعه، قال: فاستخرجوا منه سبع قلال مملوءة ذهبًا وورقًا، قال: فلما رأوها قالوا: والله لا ندفنه أبدًا، فصلبوه ثم رجموه بالحجارة، ثم جاءوا برجل آخر فجعلوه بمكانه قال: يقول سلمان: فما رأيت رجلاً لا يصلي الخمس أرى أنه أفضل منه, أزهد في الدنيا ولا أرغب في الآخرة ولا أدأب ليلاً ونهارًا منه قال: فأحببته حبًّا لم أحبه من قبله، وأقمت معه زمانًا ثم حضرته الوفاة، فقلت له: يا فلان إني كنت معك وأحببتك حبًّا لم أحبه من قبلك، وقد حضرك مَا ترى من أمر الله، فإلى من توصي بي وما تأمرني؟ قال: أي بني، والله مَا أعلم أحدًا اليوم عَلَى مَا كنتُ عليه، لقد هلك الناس وبدلوا وتركوا أكثر مَا كانوا عليه، إلا رجلاً بالموصل، وهو فلان فهو عَلَى مَا كنت عليه فالحق به، قال: فلما مات وغيب لحقت بصاحب الموصل فقلت له: يا فلان إن فلانًا أوصاني عند موته أن ألحق بك، وأخبرني أنك عَلَى أمره, قال فقال لي: أقم عندي فأقمت عنده فوجدته خير رجل عَلَى أمر صاحبه، فلم يلبث أن مات فلما حضرته الوفاة قلت له: يا فلان إن فلانًا أوصى بي إليك وأمرني باللحوق بك، وقد حضرك من الله عَزَّ وَجَلَّ مَا ترى، فإلى من توصي بي، وما تأمرني؟ قال: أي بني، والله مَا أعلم رجلاً عَلَى مثل مَا كانا عليه إلا رجلاً بنصيبين وهو فلان فالحق به، قال: فلما مات وغيب لحقت بصاحب نصيبين فجئته فأخبرته بخبري وما أمرني به صاحبي، قال: فأقم عندي، فأقمت عنده فوجدته عَلَى أمر صاحبيه، فأقمت مع خير رجل فوالله مَا لبثت أن نزل به الموت، فلما حضر قلت له: يا فلان إن فلانًا كان أوصى بي إلى فلان, ثم أوصى بي فلان إليك، فإلى من توصي بي وما تأمرني؟ قال: أي بني، والله مَا نعلم أحدًا بقي عَلَى أمرنا آمرك أن تأتيه إلا رجلاً بعمورية؛ فإنه بمثل مَا نحن عليه فإن أحببت فأته، قال: فإنه عَلَى أمرنا، قال: فلما مات وغيب لحقت بصاحب عمورية وأخبرته خبري فقال: أقم عندي فأقمت مع رجل عَلَى هدي أصحابه وأمرهم، قال: واكتسبت حتى كان لي بقرات وغنيمة، قال: ثم نزل به أمر الله، فلما حضر قلت له: يا فلان إني كنت مع فلان فأوصى بي فلان إلى فلان، وأوصى بي فلان إلى فلان، ثم أوصى به فلان إليك، فإلى من توصي بي وما تأمرني؟ قال: أي بني، والله مَا أعلمه أصبح عَلَى مَا كنا عليه أحد من الناس آمرك أن تأتيه، ولكنه قد أظلك زمان نبي هُوَ مبعوث بدين إبراهيم، يخرج بأرض العرب مهاجرًا إلى أرض بين حرتين بينهما نخل، به علامات لا تخفى، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل، قال: ثم مات وغيب فمكثت بعمورية مَا شاء الله أن أمكث، ثم مر بي نفر من كلب تجارًا، فقلت لهم: تحملوني إلى أرض العرب وأعطيكم بقراتي هذه وغنيمتي هذه؟ قالوا: نعم: فأعطيتهموها وحملوني، حتى إذا قدموا بي وادي القرى ظلموني فباعوني من رجل يهودي عبدًا، فكنت عنده، ورأيت النخل، ورجوت أن تكون البلد الذي وصف لي صاحبي، ولم يحق لي في نفسي، فبينما أنا عنده قدم عليه ابن عم له من المدينة من بني قريظة فابتاعني منه فاحتملني إلى المدينة، فوالله مَا هُوَ إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبي، فأقمت بها، وبعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم فأقام بمكة مَا أقام لا أسمع له بذكر مع ما أنا فيه من شغل الرق. ثم هاجر إلى المدينة فوالله إني لفي رأس عذق لسيدي أعمل فيه بعض العمل، وسيدي جالس إذ أقبل ابن عم له حتى وقف عليه فقال: فلان قاتل الله بني قيلة، والله إنهم الآن لمجتمعون بقباء عَلَى رجل قدم عليهم من مكة اليوم يزعمون أنه: نبي قال: فلما سمعتها أخذتني العرواء حتى ظننت سأسقط عَلَى سيدي، قال: ونزلت عن النخلة فجعلت أقول لابن عمه ذلك: ماذا تقول؟ ماذا تقول؟ قال: فغضب سيدي فلكمني لكمة شديدة، ثم قال: مالك ولهذا؟ أقبل عَلَى عملك، قال: قلت: لا شيء، إنما أردت أن أستثبت عما قال، وقد كان عندي شيء قد جمعته فلما أمسيت أخذته ثم ذهبت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بقباء، فدخلت عليه، فقلت له: إنه قد بلغني أنك رجل صالح، معك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة، وهذا شيء كان عندي للصدقة فرأيتكم أحق به من غيركم، قال: فقربته إليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ((كلوا)). وأمسك يده فلم يأكل شيئًا، فقلت في نفسي: هذه واحدة، ثم انصرفت عنه فجمعت شيئًا، وتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ثم جئت به فقلت: إني رأيتك لا تأكل الصدقة، وهذه هدية أكرمتك بها، قال: فأكل رسول الله منها وأمر أصحابه فأكلوا معه، قال: فقلت في نفسي: هاتان اثنتان، ثم جئت رسول الله صلى وهو في الغرقد، قال: وقد تبع جنازة من أصحابه عليه شملتان له وهو جالس في أصحابه فسلمت عليه، ثم استدرت أنظر إلى ظهره، هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي؟ فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم استدرته عرف أني أستثبت في شيء وُصف لي، قال: فألقى ردائه عن ظهره، فنظرت إلى الخاتم فعرفته، فانكببت عليه أقبله وأبكي فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تحول)). فتحولت فقصصت عليه حديثي كما حدثتك يا ابن عباس قال: فأعجب رسول الله، أن يسمع ذلك أصحابه. ثم شغل سلمان الرق حتى فاته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرًا وأحدًا، قال: ثم قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كاتب يا سلمان)). فكاتبت صاحبي عَلَى ثلاثمائة نخلة أجبيها له بالفقير وبأربعين أوقية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ((أعينوا أخاكم)). فأعانوني بالنخل الرجل بثلاثين ودية، والرجل بعشرين، والرجل بخمس عشرة، والرجل بعشر -يعني الرجل بقدر مَا عنده- حتى اجتمعت لي ثلاثمائة ودية فقال لي رسول الله: ((اذهب يا سلمان ففقر لها فإذا فرغت فائتني أكون أنا أضعها بيدي)). ففقرت لها وأعانني أصحابي حتى إذا فرغت منها جئته فأخبرته، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم معي إليها, فجعلنا نقرب له الودي ويضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فوالذي نفس سلمان بيده مَا ماتت منها ودية واحدة، فأديت النخل وبقي علي المال. فأتى رسول الله بمثل بيضة الدجاجة من ذهب من بعض المغازي، فقال: ((ما فعل الفارسي المكاتب؟)) قال:فدعيت له، فقال: (( خذ هذه فأد بها مَا عليك يا سلمان)) فقلت: وأين تقع هذه يا رسول الله مما علي؟ قال: ((خذها فإن الله عَزَّ وَجَلَّ سيؤدي بها عنك)). قال:فأخذتها فوزنت لهم منها، والذي نفس سلمان بيده أربعين أوقية فأوفيتهم حقهم، وعتقت فشهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق ،ثم لم يفتني معه مشهد.
قوم آثروا إخوانهم عَلَى أنفسهم:
أخرج البخاري(31) من حديث أنس رضي الله عنه أنه قال: قدم علينا عبد الرحمن بن عوف وآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع -وكان كثير المال- فقال سعد: قد علمت الأنصار أني من أكثرها مالاً سأقسم مالي بيني وبينك شطرين، ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك فأطلقها حتى إذا حلَّت تزوجتها، فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في هلك، فلم يرجع يومئذ حتى أفضل شيئًا من سمن وأقط، فلم يلبث إلا يسيرًا حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه وضرٌ من صفرة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مهيم؟)) قال: تزوجت امرأة من الأنصار، قال: ((ما سقت فيها؟)) قال: وزن نواة من ذهب -أو نواة منِ ذهب- فقال: ((أولم ولو بشاة)).
وهذه نماذج من أوجه الإنفاق والإيثار:
أخرج البخاري ومسلم(32) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب. قال أنس: فلما أنزلت هذه الأية: {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]. قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن الله تبارك وتعالى يقول: {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}[آل عمران:92]. وإن أحب أموالي إليَّ بيرحاء، وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بخ، ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، وقد سمعتُ مَا قلتَ، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين)). فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه.
وأخرج عبدُ بن حميد في ((المنتخب)) (33) من حديث أنس أن رجلاً قال: يا رسول الله إن لفلان نخلة وإنما أقيم حائطي بها، فأمره أن يعطني إياها حتى أقيم حائطي بها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((أعطها إياه بنخلة في الجنة)). فأبى فأتاه أبو الدحداح فقال: بعني نخلتك بحائطي قال: ففعل قال: فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إني قد ابتعت النخلة بحائطي، فاجعلها له وقد أعطيتكها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كم من عذق رواح لأبي الدحداح في الجنة)). قالها مرارًا، قال: فأتى امرأته فقال: يا أم الدحداح أخرجي من الحائط فإني قد بعته بنخلة في الجنة فقالت: ربح البيع، أو كلمة تشبهها.
قوم، وإن اعترت وجوه بعضهم دمامةٌ لكن قلوبهم بيضاء:
أخرج أبو يعلى(34) بإسناد حسن من حديث أنس رضي الله عنه قال: كان رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقال له: جليبيب في وجهه دمامة فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم التزويج فقال: إذًا تجدني كاسدًا، فقال: ((غير أنك عند الله لست بكاسد)).
وأخرج مسلم(35) من حديث أبي برزة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في مغزى له فأفاء الله عليه فقال لأصحابه: ((هل تفقدون من أحد؟)) قالوا: نعم فلانًا وفلانًا وفلانًا ثم قال: ((هل تفقدون من أحد؟)), قالوا: نعم فلانًا وفلانًا وفلانًا، ثم قال: ((هل تفقدون من أحد؟)), قالوا: لا. قال: ((لكني أفقد جليبيبًا فاطلبوه)), فطلب في القتلى فوجد إلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه، فأتى النبيُّ صلى الله عليه وسلم فوقف عليه فقال: ((قتل سبعة ثم قتلوه، هذا مني وأنا منه، هذا مني وأنا منه)). قال: فوضعه عَلَى ساعديه ليس له إلا ساعد النبي صلى الله عليه وسلم قال: فحفر له ووضع في قبره، ولم يذكر غسلاً.
فلهذا استجيبت دعواتهم، ها هُوَ سعد:
أخرج البخاري(36)من حديث جابر بن سمرة، قال: شكا أهل الكوفة سعدًا إلى عمر رضي الله عنه فعزله واستعمل عليه عمارًا فشكوا حتى ذكروا: أنه لا يُحسن يُصلي، فأرسل إليه، فقال: يا أبا إسحاق إن هؤلاء يزعمون: أنك لا تحسن تصلي، قال أبو إسحاق: أما أنا والله فإني كنت أصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم مَا أخرم عنها، أصلي صلاة العشاء فأركد في الأوليين وأخف في الأخريين، قال: ذاك الظن بك يا أبا إسحاق، فأرسل معه رجلاً -أو رجالاً- إلى الكوفة، فسأل عنه أهل الكوفة ولم يدع مسجدًا إلا سأل عنه ويثنون معروفًا حتى دخل مسجدًا لبني عبس، فقام رجل منهم يقال له أسامة بن قتادة يكنى أبا سعدة، قال: أما إذ نشدتنا فإن سعدًا كان لا يسير بالسرية ولا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية. قال سعد: أما والله لأدعون بثلاث: اللهم إن كان عبدك هذا كاذبًا قام رياء وسمعة؛ فأطل عمره، وأطل فقره، وعرضه بالفتن، وكان بعد إذا سئل يقول: شيخ كبير مفتون أصابتني دعوة سعد، قال عبد الملك: فأنا رأيته بعد قد سقط حاجباه عَلَى عينيه من الكبر وإنه ليتعرض للجواري في الطرق يغمزهن.
وذاك سعيد:
أخرج الإمام مسلم (1) -رحمه الله- من طريق هشام بن عروة عن أبيه أن أروى بنت أويس ادعت عَلَى سعيد بن زيد: أنه أخذ شيئًا من أرضها؛ فخاصمته إلى مروان بن الحكم، فقال سعيد: أنا كنت آخذ من أرضها شيئًا بعد الذي سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: وما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: سمعت رسول الله يقول: ( (من أخذ شبرًا من الأرض ظلمًا طوقه إلى سبع أرضين)). فقال له مروان: لا أسألك بينة بعد هذا، فقال: اللهم إن كانت كاذبة فعم بصرها واقتلها في أرضها قال: فما ماتت حتى ذهب بصرها، ثم بينما هي تمشي في أرضها إذ وقعت في حفرة فماتت.
* * *
أدوية ومقويات عامة ومنظفات للقلب
وها هي جرعات من الدواء، من الدواء المركز الشافي بإذن الله ولا شافي إلا الله.
إنها أدوية مضمونة بإذن الله.
إنه علاج أكيد النفع بمشيئة الله.
هاهي جرعات من الدواء فتناولها وسم الله.
{وَتَوَكَّلَ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِين تَقُومُ* وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الشعراء: 217 - 220].
______________________________
(1) أخرجه مسلم حديث (1028).
(2) البخاري، حديث (3266)، ومسلم (1027).
(3) أبو داود، حديث (1662)، والترمذي (3675) وإسناده حسن.
(4) أحمد (2 / 366).
(5) كذا في ((المسند)) المطبوع، وصوابه: ((لا توى)) - بدون الدال- أي: لا هلاك لمائه، وليس بخاسرٍ مَا أنفقه في سبيل الله، ولم يذهب سُدًى، والله أعلم.
(6) البخاري حديث (3667).
(7) البخاري (3653)، ومسلم (2381) من حديث أبي بكر رضي الله عنه.
(8) البخاري (4077)، ومسلم (2418).
(9) البخاري حديث (4750).
(10) البخاري حديث (3842).
(11) البخاري حديث (3687)، ومسلم حديث (2396).
(12) قال النووي في شرح مسلم (5 / 258): هذا الحديث محمول عَلَى ظاهره أن الشيطان متى رأى عمر سالكًا فجًّا هرب هيبةً من عمر، وفارق ذلك الفجر، وذهب في فج آخر لشدة خوفه من بأس عمر أن يفعل فيه شيئًا، قال القاضي: يحتمل أنه ضرب مثلاً لبعد الشيطان وإغوائه منه، وأن عمر في جميع أموره سالك طريق السداد خلاف مَا يأمر به الشيطان، والصحيح الأول.
وذكر الحافظ ابن حجر أقوالاً، ثم قال: ولا يلزم من ذلك ثبوت العصمة له؛ لأنها في حق النبي صلى الله عليه وسلم واجبة، وفي حق غير ممكنة.
(13) أحمد (5 / 353).
(14) البخاري حديث: 3692).
(15) مسلم حديث (2401).
(16) البخاري حديث (2805).
(17) أبو داود حديث (2665) وأحمد (1 / 117).
(18) أخرجه البخاري (4261).
(19) عند البخاري (4260).
(20) ((الطبقات)) (3 / 1 / 7).
(21) أبو يعلى (6 / 138).
(22)
(23) البخاري حديث (3989).
(24) مسلم حديث ( 190).
(25) أخرجه البخاري (3700) .
(26) الحاكم ((المستدرك)) (3 / 226).
(27) الحاكم (المستدرك) (3/226).
(28) الدارمي (1 / 141 - 142).
(29) البخاري (4897)، ومسلم (2546).
(30) أحمد (5 / 441)، وإسناده حسن.
(31) البخاري حديث (3781).
(32) البخاري (1461)، ومسلم ( 998).
(33) ((المنتخب)) بتحقيقي، حديث (1332)، وإسناده صحيح.
(34) أبو يعلى (6 / 89).
(35) مسلم (2472).
وعند أحمد (4 / 425) في أول هذا الحديث: أن جليبيبًا كان من الأنصار، وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان لأحدهم أيم لم يزوجها حتى يعلم أللنبي صلى الله عليه وسلم فيها حاجة أم لا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم لرجل من الأنصار: ((زوجني ابنتك)) فقال: نعم ونعمة عين فقال له: ((إني لست لنفسي أريدها)) قال: فلمن؟ قال: ((لجليبيب)). قال: حتى أستأمر أمها، فأتاها فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ابنتك، قالت: نعم ونعمة عين زوج رسول الله. قال: إنه ليس يريدها لنفسه، قالت: فلمن؟ قال: لجليبيب، قالت: حلقى أجليبيب أنيه؟ مرتين، لا لعمر الله، لا أزوج جليبيبًا، قال: فلما قام أبوها ليأتي النبي صلى الله عليه وسلم، قالت الفتاة لأمها من خدرها: من خطبني إليكما؟ قالت: النبي صلى الله عليه وسلم. قالت: فتردون عَلَى النبي صلى الله عليه وسلم أمره؟ ادفعوني إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لا يضيعني. فأتى أبوها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: شأنك بها، فزوجها جليبيبًا. ثم ذكر حديث الباب، وأخرجه أيضًا ابن حبان (موارد 2269).
(36) البخاري حديث (755).
أخرج مسلم(1) في ((صحيحه)) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أصبح منكم اليوم صائمًا؟)) قال أبو بكر: أنا. قال: ((فمن تبع منكم اليوم جنازة؟)) قال أبو بكر: أنا. قال: ((فمن أطعم منكم اليوم مسكينًا؟)) قال أبو بكر: أنا. قال: ((فمن عاد منكم اليوم مريضًا؟)) قال أبو بكر: أنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما اجتمعن في امريء إلا دخل الجنة)).
وفي ((الصحيحين)) (2) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من أنفق زوجين من شيء من الأشياء في سبيل الله دعي من أبواب -يعني الجنة- يا عبد الله هذا خير؛ فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الصيام وباب الريان)). فقال أبو بكر: مَا عَلَى هذا الذي يدعى من تلك الأبواب من ضرورة، وقال: وهل يدعى منها كلها أحد يا رسول الله؟ قال: ((نعم، وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر)).
قوم بذلوا الغالي والنفيس لنصرة هذا الدين، وأنفقوا في سبيله مَا يملكون:
أخرج أبو داود في ((سننه)) (3) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا أن نتصدق فوافق ذلك مالاً عندي فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يومًا فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أبقيت لأهلك؟)) فقلت: مثله. قال: وأتى أبو بكر بكل مَا عنده، فقال له رسول لله صلى الله عليه وسلم: ((ما أبقيت لأهلك؟)) قال: أبقيت لهم الله ورسوله. قلت: لا أسابقك إلى شيء أبدًا.
وفي مسند الإمام أحمد (4) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أنفق زوجًا-أو قال: زوجين- من ماله -أراه قال: في سبيل الله- دعته خزنة الجنة: يا مسلم هذا خير هلم إليه)). فقال أبو بكر: هذا رجل لا تودي(5) عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما نفعني مال قط إلا مال أبي بكر)). قال: فبكى أبو بكر، وقال: وهل نفعني الله إلا بك، وهل نفعني الله إلا بك، وهل نفعني الله إلا بك.
تعلَّموا التوحيد فأتقَنوه وعَلِموا أن المعبود هُوَ الله وحده سبحانه وأنه حي لا يموت:
أخرج البخاري(6) من حديث عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وأبو بكر بالسنح -قال إسماعيل: يعني بالعالية- فقام عمر يقول: والله مَا مات رسول الله صلى الله عليه وسلم, قالت: وقال عمر: والله مَا كان يقعُ في نفسي إلا ذاك، وليبعثنه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم، فجاء أبو بكر فكشف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبَّله فقال: بأبي أنت وأمي طبت حيًّا وميتًا، والذي نفسي بيده لا يُذيقك الله الموتتين أبدًا، ثم خرج فقال: أيها الحالف عَلَى رسلك، فلما تكلم أبو بكر جلس عمر فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه، وقال: ألا من كان يعبد محمدًا صلى الله عليه وسلم فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت، وقال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيّتُونَ} [الزمر: 30]. وقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّات أَوْ قُتِلَ انقلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ الله شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144]. قال: فنشج الناس يبكون.
قوم علموا أنهم لن يصيبهم إلا مَا كتبه الله لهم، وأنه سبحانه هُوَ حسبهم وكافيهم وأنه سبحانه معهم أينما كانوا:
قال الله تعالى: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 51].
وقال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 173، 174].
علَّمهم نبيهم أن الله معهم وأنه لن يخذلهم.
ففي ((الصحيحين)) (7) أن أبا بكر رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم وهما في الغار: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال: ((ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما)).
فهكذا تعلموا، وبهذا أيقنوا، ومن ثمَّ هدأت قلوبهم، واستراحت ضمائرهم، وذهب الخوف عنهم.
استجابوا لله وللرسول من بعد مَا أصابهم القرح، وما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما مَا استكانوا.
أخرج البخاري ومسلم (8)من حديث عائشة رضي الله عنها: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا للهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 172]. قالت لعروة: يا ابن أختي كان أبواك منهم: الزبير وأبو بكر، لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مَا أصاب يوم أحد وانصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا، قال: ((من يذهب في أثرهم؟)) فانتدب منهم سبعون رجلاً، كان فيهم أبو بكر والزبير.
قوم وقفوا مع كتاب الله لم يتجاوزوه ولم يقدموا رأيهم عليه ولم يقدموا حظوظ أنفسهم بين يديه:
أخرج البخاري(9) حديث الإفك، وفيه من حديث عائشة رضي الله عنها فلما أنزلَ الله في براءتي قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه -وكان ينفق عَلَى مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره-: والله لا أنفق عَلَى مسطح شيئًا أبدًا بعد الذي قال لعائشة، مَا قال؛ فأنزل الله: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضَلْ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ألا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النور: 22]. قال أبو بكر: بلى والله إني أحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبدًا.
قوم مَا أكلوا الحرام ولا رضوا بالغش وبالخداع ولا بالحيل:
أخرج البخاري(10) من حديث عائشة رضي لله عنها، قالت: كان لأبي بكر غلام يخرج له الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء يومًا بشيء فأكل منه أبو بكر فقال له الغلام: أتدري مَا هذا؟ فقال أبو بكر: وما هُوَ؟ قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية، وما أحسن الكهانة إلا أني خدعته فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلت منه، فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه.
إنهم قوم آمنوا بالله ولزموا الجد والجود ففرَّت منهم الشياطين:
أخرج البخاري(11) من طريق زيد بن أسلم عن أبيه، قال: سألني ابن عمر عن بعض شأنه -يعني عمر- فأخبرته فقال: مَا رأيت أحد قط بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من حين قبض كان أجدَّ وأجود حتى انتهى من عمر بن الخطاب.
وأخرج البخاري ومسلم من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: استأذن عمر بن الخطاب عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده نسوة من قريش يكلمنه ويستكثرنه, عالية أصواتهن عَلَى صوته, فلما استأذن عمر بن الخطاب قمن فبادرن الحجاب فأذن له رسول الله، فدخل عمر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك، فقال: أضحك الله سنك يا رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((عجبت من هؤلاء اللاتي كُنَّ عندي فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب)). قال: عمر فأنت أحق أن يهبن يا رسول الله، ثم قال عمر: يا عدوات أنفسهن أتهبنني ولا تهبن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقلن: نعم أنت أفظ وأغلظ من رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إيهًا يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده مَا لقيك الشيطان سالكًا فجًا قط إلا سلك فجًّا غير فجك)) (12).
وأخرج الإمام أحمد(13) بسند حسن عن بريدة رضي الله عنه: أن أمة سوداء أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رجع من بعض مغازيه، فقالت: إني نذرت إن ردك الله صالحًا أن أضرب عندك بالدف قال: ((إن كنت فعلت فافعلي، وإن كنت لم تفعلي فلا تفعلي)). فضربت فدخل أبو بكر وهي تضربن ودخل غيره وهي تضربن, ثم دخل عمر قال: فجعلت دفها خلفها وهي مقنعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الشيطان ليفرق منك يا عمر)). أنا جالس هاهنا ودخل هؤلاء فلما أن دخلت فعلت مَا فعلت.
قوم لم يغتروا بصالح أعمالهم:
أخرج البخاري(14) من حديث المسور بن مخرمة رضي الله عنه قال: لما طعن عمر جعل يألم، فقال له ابن عباس -وكأنه يجزعه-: يا أمير المؤمنين، ولئن كان ذاك، لقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك راضٍ، ثم صحبت أبا بكر فأحسنت صحبته ثم فارقته وهو عنك راضٍ، ثم صحبت صحبتهم فأحسنت صحبتهم، ولئن فارقتهم لتفارقنهم وهم عنك راضون، قال: أما مَا ذكرت من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضاه؛ فإنما ذاك منٌّ من الله تعالى مَنَّ به عليَّ، وأما مَا ذكرت من صحبة أبي بكر ورضاه؛ فإنما ذاك منٌّ من الله جل ذكره مَنَّ به علي، وأما مَا ترى من جزعي؛ فهو من أجلك وأجل أصحابك، والله لو أن لي طلاع الأرض ذهبًا لافتديت به من عذاب الله عَزَّ وَجَلَّ قبل أن أراه.
إنهم قوم استحيوا من الله وراقبوه في السر والعلن فاستحيت منهم الملائكة:
أخرج الإمام(15)مسلم -رحمه الله- من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعًا في بيتي كاشفًا عن فخذيه أو ساقيه، فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو عَلَى تلك الحال فتحدث، ثم استأذن عمر فأذن له وهو كذلك فتحدث، ثم استأذن عثمان فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وسوى ثيابه - قال محمد: ولا أقول ذلك في يوم واحد- فدخل فتحدث فلما خرج قالت عائشة: دخل أبو بكر فلم تهتش له ولم تبله، ثم دخل عمر فلم تهتش له ولم تباله، ثم دخل عثمان فجلست وسويت ثيابك! فقال: ((ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة)).
إنهم رجال صدقوا مَا عاهدوا الله عليه:
أخرج (16) البخاري من حديث أنس رضي الله عنه قال: غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر، فقال: يا رسول الله غبت عن أول قتال قاتلت المشركين لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرين الله مَا أصنع، فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء يعني أصحابه، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء يعني المشركين، ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ، فقال: يا سعد بن معاذ الجنة ورب النضر إني أجد ريحها من دون أحد، قال سعد: فما استطعت يا رسول الله مَا صنع. قال أنس: فوجدنا به بضعًا وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، ووجدناه قد قتل وقد مثل به المشركون فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه، قال أنس: كنا نرى -أو نظن- أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23] إلى آخر الآية.
وقال: إن أخته -وهي تسمى الربيع- كسرت ثنية امرأة فأمر رسول الله بالقصاص، فقال أنس: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها فرضوا بالأرش وتركوا القصاص، فقال رسول الله: ((إن من عباد الله من لو أقسم عَلَى الله لأبره)).
إنهم قوم جاهدوا فصبروا، وثبتوا وما فروا:
أخرج أبو داود(17) وأحمد بإسناد صحيح عن علي رضي الله عنه قال:تقدم -يعني عتبة بن ربيعة- وتبعه ابنه وأخوه فنادى من يُبارز؟ فانتدب له شباب من الأنصار فقال: من أنتم؟ فأخبروه فقال: لا حاجة لنا فيكم إنما أردنا بني عمنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قم يا حمزة, قم يا علي, قم يا عبيدة بن الحارث)). فأقبل حمزة إلى عتبة وأقبلت إلى شيبة واختلفت بين عبيدة والوليد ضربتان فأثخن كل واحد منهما صاحبه, ثم ملنا عَلَى الوليد فقتلناه واحتملنا عبيدة.
وأخرج البخاري(18) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أَمَّرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة مؤتة زيد بن حارثة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن قُتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة)). قال عبد الله: كنت فيهم في تلك الغزوة، فالتمسنا جعفر بن أبي طالب فوجدناه في القتلى، ووجدنا مَا في جسده بعضًا وتسعين من طعنة ورمية.
وفي بعض الروايات: ليس منها في بره يعني في ظهره (19).
وأخرج ابن سعد في ((الطبقات)) (20) بإسناد حسن لغيره:
عن ابن عباس قال: لما قتل حمزة يوم أحد أقبلت صفية تطلبه لا تدري مَا صنع، قال: فلقيت عليًّا والزبير فقال علي للزبير: اذكر لأمك، قال الزبير: لا, بل اذكر أنت لعمتك، قالت: مَا فعل حمزة؟ قال فأريها أنهما لا يدريان، قال: فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((إني أخاف عَلَى عقلها)). قال: فوضع يده عَلَى صدرها ودعا لها فاسترجعت وبكت، ثم جاء وقام عليه وقد مثل به فقال: ((لولا جزع النساء لتركته حتى يحشر من حواصل الطير وبطون السباع)). قال: ثم أمر بالقتلى فجعل يصلي عليهم فيضع تسعة وحمزة فيكبر عليهم سبعًا, ثم يرفعون ويترك حمزة ثم يجاء بتسعة فيكبر عليهم حتى فرغ منهم.
وأخرج أبو يعلى (21) الموضع من حديث أنس رضي الله عنه أن أبا طلحة قرأ سورة (براءة) فأتى عَلَى هذه الآية: {انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً} [التوبة: 41]. فقال: ألا أرى ربي يستنفرني شابًّا وشيخًا؟ جهزوني، فقال له بنوه: قد غزوت مع رسول الله حتى قبض، وغزوت مع أبي بكر حتى مات، وغزوت مع عمر، فنحن نغزوه عنك، فقال: جهزوني فجهزوه، فركب البحر فمات فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام فلم يتغير.
إنهم قوم ملأ الإيمان قلوهم فلم يخشوا في الله لومة لائم:
أخرج الإمام أحمد(22) بإسناد حسن من حديث أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي، أمِنَّا عَلَى ديننا وعبدنا الله تعالى لا نؤذى ولا نسمع شيئًا نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشًا ائتمروا أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين جلدين، وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة، وكان من أعجب مَا يأتيه منها إليه الأدم فجمعوا له أدمًا كثيرًا، ولم يتركوا من بطارقته بطريقًا إلا أهدوا له هدية، ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي وعمرو بن العاص بن وائل السهمي وأمروهما أمرهم، وقالوا لهما: ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلموا النجاشي فيهم، ثم قدما للنجاشي هداياه، ثم سلوه أن يسلمهم إليكم قبل أن يكلمهم. قالت: فخرجا فقدما عَلَى النجاشي ونحن عنده بخير دار وخير جار, فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي، ثم قالا: لكل بطريق منهم إنه قد صبأ إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء, فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينكم وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم لنردهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم؛ فإن قومهم أعلى بهم عينًا وأعلم بما عابوا عليهم فقالوا: نعم، ثم إنهما قربا هداياهم إلى النجاشي فقبلها منهما ثم كلماه فقال له: أيها الملك إنه قد صبأ إلى بلدك منا غلمان سفهاء, فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عينًا وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه. قالت: ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع النجاشي كلامهم، فقالت بطارقته حوله: صدقوا أيها الملك، قومهم أعلى بهم عينًا وأعلم بما عابوا عليهم، فأسلمهم إليهما فليردانهم إلى بلادهم وقومهم. قالت: فغضب النجاشي، ثم قال: لا وأيم الله, إذًا لا أسلمهم إليهما, ولا أكاد، قومًا جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني عَلَى من سواي حتى أدعوهم فأسألهم مَا يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما يقولون أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا عَلَى غير ذلك منعتهم منهما وأحسنت جوارهم مَا جاوروني. قالت: ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا ثم قال بعضهم لبعض: مَا تقولون للرجل إذا جئتموه قالوا: نقول والله ما علمنا وما أمرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم كائن في ذلك مَا هُوَ كائن. فلما جاءوه وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله ليسألهم فقال: مَا هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه الأمم؟ قالت: فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب فقال له: أيها الملك كنا قومًا أهل جاهلية: نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، يأكل القوي منا الضعيف، فكنا عَلَى ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله تعالى لنوحده ونعبده, ونخلع مَا كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدم، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئًا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام قال: فعدد عليه أمور الإسلام، فصدقناه وآمنا به واتبعناه عَلَى مَا جاء به، فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئًا، وحرمنا مَا حرم علينا، وأحللنا مَا أحل لنا، فعدا علينا قومنا فعذبونا ففتنونا عن ديننا؛ ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله، وأن نستحل مَا كنا نستحل من الخبائث، ولما قهرونا وظلمونا وشقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلدك، واخترناك عَلَى من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نُظلم عندك أيها الملك. قالت: فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ قالت: فقال له جعفر: نعم. فقال له النجاشي: فاقرأه عليَّ. فقرأ عليه صدرًا من {كهيعص} [مريم]. قالت: فبكى والله النجاشي حتى أخضل لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا مَا تلا عليهم، ثم قال النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا فوالله لا أسلمهم إليكم أبدًا ولا أكاد. قالت أم سلمة رضي الله عنها: فلما خرجا من عنده قال عمرو بن العاص: والله لآتينه غدًا أعيبهم عنده ثم أستأصل به خضراءهم. قالت فقال له عبد الله بن أبي ربيعة -وكان أتقى الرجلين فينا-: لا تفعل فإن لهم أرحامًا وإن كانوا قد خالفونا. قال: والله لأخبرنه: أنهم يزعمون: أن عيسى ابن مريم عليهما السلام عبد. قالت: ثم غدا عليه الغد، فقال له: أيها الملك إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيمًا، فأرسل إليهم فسلهم عما يقولون فيه, قالت أم سلمة: فأرسل إليهم يسألهم عنه، قالت: -ولم ينزل بنا مثلها- فاجتمع القوم فقال بعضهم لبعض: ماذا تقولون في عيسى إذا سألكم عنه؟ قالوا: نقول والله فيه ما قال الله سبحانه وتعالى, و مَا جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم كائنًا في ذلك مَا هُوَ كائن، فلما دخلوا عليه، قال لهم: مَا تقولون في عيسى ابن مريم؟ فقال له جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه: نقول فيه الذي جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم، هُوَ عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول، قالت: فضرب النجاشي يده عَلَى الأرض فأخذ منها عودًا، ثم قال: مَا عدا عيسى ابن مريم مَا قلتَ هذا العود، فناخرت بطارقته حوله حين قال مَا قال، فقال: وإن نخرتم والله, اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي -والسيوم: الآمنون- من سبكم غرم، ثم من سبكم غرم، ثم من سبكم غرم، ثم من سبكم غرم، فما أحب أن لي دير ذهب وأني آذيت رجلاً منكم، والدير بلسان الحبشة الجبل، ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة لنا بها فوالله مَا أخذ الله مني الرشوة حين رد عليَّ ملكي فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع فيَّ الناس فأطيعهم فيه، قالت: فخرجا من عنده مقبوحين مردودًا عليهما ما جاءا به، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار، قالت: فوالله إنا عَلَى ذلك إذ نزل به يعني من ينازعه في ملكه، قلت فوالله مَا علمنا حزنًا قط كان أشد من حزنٍ حزناه عند ذلك؛ تخوفًا أن يظهر ذلك عَلَى النجاشي فيأتي رجل لا يعرف من حقنا مَا كان النجاشي يعرف منه، قالت: وسار النجاشي وبينهما عرض النيل قالت: فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من رجل يخرج حتى يحضر وقعة القوم ثم يأتينا بالخبر؟ قالت: فقال الزبير بن العوام رضي الله عنه: أنا. --قالت: وكان من أحدث القوم سنًّا- قالت: فنفخوا له قربة فجعلها في صدره، ثم سبح عليها حتى خرج إلى ناحية النيل التي بها ملتقى القوم، ثم انطلق حتى حضرهم، قالت: ودعونا الله تعالى للنجاشي بالظهور عَلَى عدوه والتمكين له في بلاده، واستوثق عليه أمر الحبشة فكنا عنده في خير منزل حتى قدمنا عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة.
إنهم رجال تحملوا في سبيل نصرة دينهم غاية التحمل، وجاهدوا حق الجهاد:
أخرج البخاري(23) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة عينًا، وأمر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري جد عاصم بن عمر بن الخطاب، حتى إذا كانوا بالهدة بين عسفان ومكة ذُكِروا لحي من هذيل يقال لهم: بنو لحيان، فنفروا لهم بقريب من مائة رجل رامٍ, فاقتصوا آثارهم حتى وجدوا مأكلهم التمر في منزل نزلوه فقالوا: تمر يثرب، فاتبعوا آثارهم, فلما حس بهم عاصم وأصحابه لجأوا إلى موضع فأحاط بهم القوم فقالوا لهم: انزلوا فأعطوا بأيديكم ولكم العهد والميثاق أن لا نقتل منكم أحدًا. فقال عاصم بن ثابت: أيها القوم, أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر ثم قال: اللهم أخبر عنا نبيك صلى الله عليه وسلم, فرموهم بالنبل فقتلوا عاصمًا, ونزل إليهم ثلاثة نفر عَلَى العهد والميثاق منهم خبيب وزيد بن الدثنة ورجل آخر، فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قُسيهم فربطوهم بها، قال الرجل الثالث: هذا أول الغدر والله لا أصحبكم إن لي بهؤلاء أسوة -يريد القتلى- فجرروه وعالجوه فأبى أن يصحبهم. فانطلقوا بخبيب وزيد بن الدثنة حتى باعوهما بعد وقعة بدر, فابتاع بنو الحارث بن عامر بن نوفل خبيبًا -وكان خبيب هُوَ قتل الحارث بن عامر يوم بدر- فلبث خبيب عندهم أسيرًا حتى أجمعوا قتله، فاستعار من بعض بنات الحارث موسى يستحد بها فأعارته، فدرج بُنيٌّ وهي غافلة حتى أتاه فوجدته مُجْلِسَه عَلَى فخذه والموسى بيده، قالت: ففزعت فزعة عرفها خبيب، فقال: أتخشين أن أقتله؟ مَا كنت لأفعل ذلك. قالت: والله مَا أريت أسيرًا قط خيرًا من خبيب، والله لقد وجدته يومًا يأكل قطفًا من عنب في يده وإنه لموثق بالحديد وما بمكة من ثمرة، وكانت تقول: إنه لرزق رزقه الله خبيبًا. فلما خرجوا به من الحرم ليقتلوه في الحِل قال لهم خبيب: دعوني أصلي ركعتين فتركوه فركع ركعتين، فقال: والله لولا أن تحسبوا أن مَا بي جزع لزدت، ثم قال: اللهم أحصهم عددًا واقتلهم بددًا ولا تبق منهم أحدًا، ثم أنشأ يقول:
فلست أبالي حين أُقْتَلُ مُسلمًا على أي جنبٍ كان لله مَصرعي وذلك في ذات الإلهِ وإن يشأ يُبارك على أوصالِ شلوٍ مُمَزعِ
ثم قام إليه أبو سروعة عُقبة بن الحارث فقتله، وكان خبيب هُو أول من سنَّ لكل مسلم قُتل صبرًا صلاة ركعتين، وأخبر -يعني النبيَّ صلى الله عليه وسلم- أصحابه خبرهم، وبعث ناس من قريش إلى عاصم بن ثابت حين حدثوا أنه قتل أن يؤتوا بشيء منه يعرف -وكان قتل رجلاًً عظيمًا من عظمائهم- فبعث الله لعاصم مثل الظلة من الدبر فحمته من رسلهم فلم يقدروا أن يقطعوا منه شيئًا.
وها هُوَ البطل المقدام عمير بن الحُمام رضي الله عنه:
أخرج الإمام مسلم(24) في ((صحيحه)) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بُسيسة عينًا ينظر مَا صنعت عير أبي سفيان، فجاء وما في البيت أحد غيري وغير رسول الله صلى الله عليه وسلم، -قال: لا أدري مَا استثنى بعض نسائه- قال: فحدثه الحديث، قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فتكلم فقال: ((إن لنا طلبة فمن كان ظهره حاضر فليركب معنا)) فجعل رجال يستأذنونه في ظهرانهم في علو المدينة، فقال: ((لا, إلا من كان ظهره حاضرًا)) فانطلق رسول الله وأصحابه حتى سبقوا المشركين إلى بدر, وجاء المشركون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يقدمن أحد منكم إلى شيء حتى أكون أنا دونه))، فدنا المشركون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض))، قال: يقول عمير بن الحمام الأنصاري: يا رسول الله جنة عرضها السموات والأرض؟ قال: ((نعم))، قال: بخ بخ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما يحملك عَلَى قول بخٍ بخٍ))، قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاءة أن أكون من أهلها. قال: ((فإنك من أهلها))، فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، قال: فرمى بما كان معه من التمر, ثم قاتلهم حتى قُتل.
وها هي قصة قتل عمر فيها معتبرٌ وفيها مُدكر لمن ألقى السمع وهو شهيد:
أخرج البخاري(25) من طريق عمرو بن ميمون قال ميمون، قال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل أن يُصاب بأيام بالمدينة, ووقف عَلَى حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف، قال: كيف فعلتما؟ أتخافان أن تكونا حملتما الأرض مَا لا تطيق؟ قال: حملناها أمرًا هي له مطيقة، مَا فيها كبير فضل. قال: انظرا أن تكونا حملتما الأرض مَا لا تطيق. قال: لا. فقال عمر: لئن سلمني الله لأدعن أرامل أهل العراق لا يحتجن إلى رجل بعدي أبدًا، قال: فما أتت عليه رابعة حتى أصيب، قال: إني لقائم مَا بيني وبينه إلا عبد الله بن عباس -غداة أصيب- وكان إذا مرَّ بين الصفين قال: استووا حتى إذا لم ير فيهم خَللاً تقدم فكبر، وربما قرأ سورة يوسف أو النحل، أو نحو ذلك في الركعة الأولى، حتى يجتمع الناس فما هُوَ إلا أن كبر فسمعته يقول: قتلني -أو أكلني الكلب- حين طعنه فطار العلج بسكين ذات طرفين, لا يمر إلى أحد يمينًا ولا شمالاً إلى طعنه حتى طعن ثلاثة عشرة رجلاً مات منهم سبعة، فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه برنسًا فلما ظن العلج أنه مأخوذ نحرن نفسه، وتناول عمر يد عبد الرحمن بن عوف فقدمه فمن يلي عمر فقد رأى الذي أرى، وأما نواحي المسجد فإنهم لم يردون غير أنهم فقدوا صوت عمر، وهم يقولون: سبحان الله فصلى بهم عبد الرحمن صلاة خفيفة فلما انصرفوا قال: يا ابن عباس انظر من قتلني فجال ساعة ثم جاء فقال: غلام المغيرة، قال: الصنع؟ قال: نعم، قال: قتله الله لقد أمرت به معروفًا، والحمد لله الذي لم يجعل ميتتي بيد رجل يدعي الإسلام، قد كنت أنت وأبوك تحبان أن تكثر العلوج بالمدينة، وكان العباس أكثرهم رقيقًا، فقال: إن شئت فعلت: أي إن شئت قتلنا، قال: كذبت بعد مَا تكلموا بلسانكم وصلوا قبلتكم، وحجوا حجكم؛ فاحتمل إلى بيته، فانطلقنا معه، وكأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذٍ فقائل يقول: لا بأس، وقائل يقول: أخاف عليه، فأتى بنبيذ فشربه فخرج من جوفه، ثم أتي بلين فشربه فخرج من جرحه، فعلموا أنه ميت، فدخلنا عليه وجاء الناس فجعلوا يثنون عليه، وجاء رجل شاب، فقال: أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقدمٍ في الإسلام مَا قد علمت، ثم وليت فعدلت، ثم شهادة، قال: وددت أن ذلك كفاف لا عليَّ ولا ليَّ، فلما أدبر إذا إزاره يمس الأرض، قال: ردوا عليَّ الغلام. قال: يا ابن أخي ارفع ثوبك؛ فإنه أبقى لثوبك وأتقى لربك، يا عبد الله بن عمر انظر مَا علي من الدَّيْن فحسبوه فوجدوه ستة وثمانين ألفًا أو نحوه قال: إن وفى له مال آل عمر فأده من أموالهم، وإلا فسل في بني عدي بن كعب، فإن لم تَفِ أموالهم فسل في قريش، ولا تعدهم إلى غيرهم فأد عني هذا لمال، انطلق إلى عائشة أم المؤمنين فقل: يقرأ عليك عمر السلام، ولا تقل أمير المؤمنين؛ فإني لست اليوم للمؤمنين أميرًا، وقل: يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه، فسلم واستأذن، ثم دخل عليها فوجدها قاعدة تبكي، فقال: يقرأ عليك عمر بن الخطاب السلام, ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه، فقالت: كنت أريده لنفسي، ولأوثرنه به اليوم عَلَى نفسي، فلما أقبل، قيل: هذا عبد الله بن عمر قد جاء، قال: ارفعوني فأسنده رجل إليه، فقال: مَا لديك؟ قال: الذي تحب يا أمير المؤمنين، أذنت، قال: الحمد لله مَا كان من شيء أهم إليَّ من ذلك، فإذا أنا قضيت فاحملوني ثم سلم، فقل: يستأذن عمر بن الخطاب، فإن أذنت لي فأدخلوني، وإن ردتني ردوني إلى مقابر المسلمين، وجاءت أم المؤمنين حفصة والنساء تسير معها، فلما رأيناها قمنا فولجت عليه فبكت عنده ساعة، واستأذن الرجال فولجت داخلاً لهم فسمعنا بكاءها من الداخل فقالوا: أوص يا أمير المؤمنين استخلف، قال: ما أجد أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر -أو الرهط- الذي توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ فسمى عليًّا, وعثمان, والزبير, وطلحة, وسعدًا, وعبد الرحمن، وقال: يشهدكم عبد الله بن عمر، وليس له من الأمر شيء كهيئة التعزية له, فإن أصابت الإمرة سعدًا فهو ذاك، وإلا فليستعن به أيكم مَا أمر، فإني لم أعزله عن عجز ولا خيانة، وقال: أوصي الخليفة من بعدي بالمهاجرين الأولين: أن يعرف لهم حقهم، ويحفظ لهم حرمتهم، وأوصيه بالأنصار خيرًا الَّذِينَ تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم: أن يقبل من محسنهم, وأن يعفي عن مسيئهم، وأوصيه بأهل الأمصار خيرًا؛ فإنهم ردء الإسلام وجباةُ المال وغيظ العدو، وأن لا يؤخذ منهم إلا فضلهم عن رضاهم، وأوصيه بالأعراب خيرًا؛ فإنهم أصل العرب ومادة الإسلام أن يؤخذ من حواشي أموالهم ويرد عَلَى فقرائهم، وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم أن يوفي لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم ولا يكلفوا إلا طاقتهم، فلما قبض خرجنا به فانطلقنا نمشي فسلم عبد الله بن عمر قال: يستأذن عمر بن الخطاب، قالت: أدخلوه فأدخل فوضع هنالك مع صاحبيه، فلما فرغ من دفنه اجتمع هؤلاء الرهط فقال عبد الرحمن: اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم، فقال الزبير: قد جعلت أمري إلى علي، فقال طلحة: قد جعلت أمري إلى عثمان، وقال سعد: قد جعلت أمري إلى عبد الرحمن بن عوف، فقال عبد الرحمن بن عوف: أيكما تبرأ من هذا الأمر فنجعله إليه، والله عليه والإسلام لينظرن أفضلهم في نفسه؟ فأسكت الشيخان فقال عبد الرحمن: أفتجعلونه إليَّ والله علي أن لا آلو عن أفضلكم؟ قالا: نعم, فأخذ بيد أحدهما فقال: لك قرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم والقدم في الإسلام مَا قد علمت، فالله عليك لئن أمرتك لتعدلن، ولئن أمرت عثمان لتسمعن ولتطيعن، ثم خلا بالآخر فقال مثل ذك، فلما أخذ الميثاق قال: ارفع يديك يا عثمان فبايعه فبايع له علي وولج أهل الدار فبايعوه.
كانوا أوفياء لإخوانهم بعد موت الإخوان:
أخرج البخاري(26) في ((صحيحه)) من طريق زيد بن أسلم عن أبيه قال: خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى السوق فلحقت عمر امرأة شابة، فقالت: يا أمير المؤمنين هلك زوجي وترك صبية صغارًا، والله مَا ينضجون كراعًا ولا لهم زرع ولا ضرع، وخشيت أن تأكلهم الضبع، وأنا بنت خفاف بن إيماء الغفاري، وقد شهد أبي الحديبية مع النبي صلى الله عليه وسلم، فوقف معها عمر ولم يمضِ ثم قال: مرحبًا بنسب ثريب، ثم انصرف إلى بعير ظهير كان مربوطًا في الدار فحمل عليه غرارتين ملأهما طعامًا، وحمل بينهما نفقة وثيابًا ثم ناولها بخطامه، ثم قال: اقتاديه فلن يفنى حتى يأتيكم اللهُ بخير، فقال رجل: يا أمير المؤمنين أكثرت لها. قال عمر: ثكلتك أمك، والله إني لأرى أبا هذه وأخاها قد حاصرا حصنًا زمانًا فافتتحاه، ثم أصبحنا نستفيء سهماننا فيه.
هذه هي أمنياتهم:
أخرج الحاكم في ((مستدركه)) (27) بسند حسن عن عمر رضي الله عنه أنه قال لأصحابه: تمنوا فقال بعضهم: أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة ذهبًا أنفقه في سبيل الله وأتصدق، وقال رجل: أتمنى لو أنها مملوءة زبرجدًا وجوهرًا فأنفقه في سبيل الله وأتصدق، ثم قال عمر: تمنوا، فقالوا: مَا ندري يا أمير المؤمنين فقال عمر: أتمنى لو أنها مملوءة رجالاً مثل أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حذيفة وحذيفة بن اليمان.
حرصوا عَلَى العلم فآتاهم الله إياه:
أخرج الدارمي(28) بإسناد صحيح عن ابن عباس قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لرجل من الأنصار: يا فلان هلم فلنسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأنهم اليوم كثير، فقال: واعجبًا لك يا ابن عباس! أترى الناس يحتاجون إليك، وفي الناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من ترى؟ فترك ذلك وأقبلت عَلَى المسألة، فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتيه وهو قائل، فأتوسد ردائي عَلَى بابه فتسفي الريح عَلَى وجهي التراب، فيخرج فيراني فيقول: يا ابن عم رسول الله مَا جاء بك؟ ألا أرسلت إلي فآتيك؟ فأقول: أنا أحق أن آتيك، فأسأله عن الحديث، قال:فبقي الرجل حتى رآني وقد اجتمع الناس عليَّ، فقال: كان هذا الفتى أعقل مني.
وحرصوا عَلَى الإيمان فوفقهم الله إليه:
أخرج البخاري ومسلم(29) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنا جلوسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأُنْزِل عليه سورة الجمعة: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة: 3]. قال: قلت: من هم يا رسول الله؟ فلم يراجعه حتى سأل ثلاثًا، وفينا سلمان الفارسي وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده عَلَى سلمان، ثم قال: ((لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال -أو رجل- من هؤلاء)).
وها هُوَ سلمان وبحثه عن الحقيقة:
أخرج الإمام أحمد (30) -رحمه الله- من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: حدثني سلمان الفارسي حديثه من فيه، قال: كنت رجلاً فارسيًّا من أهل أصبهان من أهل قرية يقال لها: جى، وكان أبي دهقان قريته، وكنت أحب خلق الله إليه، فلم يزل به حبه إياي حتى حبسني في بيته -أي ملازم النار- كما تحبس الجارية، وأجهدت في المجوسية حتى كنت قطن النار الذي يوقدها لا يتركها تخبو ساعة، قال: وكانت لأبي ضيعة عظيمة، قال: فشغل في بنيان له يومًا، فقال لي: يا بني إني قد شغلت في بنيان هذا اليوم عن ضيعتي فاذهب فاطلعها، وأمرني فيها ببعض مَا يريد ،فخرجت أريد ضيعته فمررت بكنيسة من كنائس النصارى، فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون، وكنت لا أدري مَا أمر الناس لحبس أبي إياي في بيته، فلما مررت بهم وسمعت أصواتهم دخلت عليهم أنظر مَا يصنعون. قال: فلما رأيتهم أعجبني صلاتهم، ورغبت في أمرهم، وقلت: هذا والله خير من الدين الذي نحن عليه، فوالله مَا تركتهم حتى غربت الشمس، وتركت ضيعة أبي ولم آتها، فقلت لهم: أين أصل هذا الدين؟ قالوا: بالشام، قال: ثم رجعت إلى أبي وقد بعث في طلبي وشغلته عن عمله كله، قال فلما جئته، قال: أي بني أين كنت؟ ألم أكن عهدت إليك مَا عهدت، قال: قلت: يا أبت مررت بناس يصلون في كنيسة لهم فأعجبني مَا رأيت من دينهم، فوالله مَا زلت عندهم حتى غربت الشمس، قال: أي بني ليس في ذلك الدين خير، دينك ودين آبائك خير منه، قال: قلت: كلا والله إنه خير من ديننا، قال: فخافني، فجعل في رجلي قيدًا، ثم حبسني في بيته، قال: وبعثت إلى النصارى، فقلت لهم: إذا قدم عليكم ركب من الشام تجار من النصارى فأخبروني بهم، قال: فقدم عليهم ركب من الشام تجار من النصارى، قال: فأخبروني بهم، قال: فقلت لهم: إذا قضوا حوائجهم وأردوا الرجعة إلى بلادهم فآذنوني بهم، قال:فلما أرادوا الرجعة إلى بلادهم أخبروني بهم، فألقيت الحديد من رجلي، ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام، فلما قدمتها قلت: من أفضل أهل هذا الدين؟ قالوا: الأسقف في الكنيسة، قال: فجئته فقلت: إني قد رغبت في هذا الدين وأحببت أن أكون معك أخدمك في كنيستك، وأتعلم منك وأصلي معك، قال: فادخل فدخلت معه، قال: فكان رجل سوء يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها، فإذا جمعوا إليه منها أشياء اكتنزه لنفسه، ولم يعطه المساكين حتى جمع سبع قلال من ذهب وورق، قال: وأبغضته بغضًا شديدًا لما رأيته يصنع، ثم مات فاجتمعت إليه النصارى ليدفنوه فقلت لهم: إن هذا كان رجل سوء؛ يأمركم بالصدقة ويرغبكم فيها فإذا جئتموه بها اكتنزها لنفسه ولم يعط المساكين منها شيئًا، قالوا: وما علمك بذلك؟ قال قلت: أنا أدلكم عَلَى كنزه، قالوا: فدلنا عليه، قال: فأريتهم موضعه، قال: فاستخرجوا منه سبع قلال مملوءة ذهبًا وورقًا، قال: فلما رأوها قالوا: والله لا ندفنه أبدًا، فصلبوه ثم رجموه بالحجارة، ثم جاءوا برجل آخر فجعلوه بمكانه قال: يقول سلمان: فما رأيت رجلاً لا يصلي الخمس أرى أنه أفضل منه, أزهد في الدنيا ولا أرغب في الآخرة ولا أدأب ليلاً ونهارًا منه قال: فأحببته حبًّا لم أحبه من قبله، وأقمت معه زمانًا ثم حضرته الوفاة، فقلت له: يا فلان إني كنت معك وأحببتك حبًّا لم أحبه من قبلك، وقد حضرك مَا ترى من أمر الله، فإلى من توصي بي وما تأمرني؟ قال: أي بني، والله مَا أعلم أحدًا اليوم عَلَى مَا كنتُ عليه، لقد هلك الناس وبدلوا وتركوا أكثر مَا كانوا عليه، إلا رجلاً بالموصل، وهو فلان فهو عَلَى مَا كنت عليه فالحق به، قال: فلما مات وغيب لحقت بصاحب الموصل فقلت له: يا فلان إن فلانًا أوصاني عند موته أن ألحق بك، وأخبرني أنك عَلَى أمره, قال فقال لي: أقم عندي فأقمت عنده فوجدته خير رجل عَلَى أمر صاحبه، فلم يلبث أن مات فلما حضرته الوفاة قلت له: يا فلان إن فلانًا أوصى بي إليك وأمرني باللحوق بك، وقد حضرك من الله عَزَّ وَجَلَّ مَا ترى، فإلى من توصي بي، وما تأمرني؟ قال: أي بني، والله مَا أعلم رجلاً عَلَى مثل مَا كانا عليه إلا رجلاً بنصيبين وهو فلان فالحق به، قال: فلما مات وغيب لحقت بصاحب نصيبين فجئته فأخبرته بخبري وما أمرني به صاحبي، قال: فأقم عندي، فأقمت عنده فوجدته عَلَى أمر صاحبيه، فأقمت مع خير رجل فوالله مَا لبثت أن نزل به الموت، فلما حضر قلت له: يا فلان إن فلانًا كان أوصى بي إلى فلان, ثم أوصى بي فلان إليك، فإلى من توصي بي وما تأمرني؟ قال: أي بني، والله مَا نعلم أحدًا بقي عَلَى أمرنا آمرك أن تأتيه إلا رجلاً بعمورية؛ فإنه بمثل مَا نحن عليه فإن أحببت فأته، قال: فإنه عَلَى أمرنا، قال: فلما مات وغيب لحقت بصاحب عمورية وأخبرته خبري فقال: أقم عندي فأقمت مع رجل عَلَى هدي أصحابه وأمرهم، قال: واكتسبت حتى كان لي بقرات وغنيمة، قال: ثم نزل به أمر الله، فلما حضر قلت له: يا فلان إني كنت مع فلان فأوصى بي فلان إلى فلان، وأوصى بي فلان إلى فلان، ثم أوصى به فلان إليك، فإلى من توصي بي وما تأمرني؟ قال: أي بني، والله مَا أعلمه أصبح عَلَى مَا كنا عليه أحد من الناس آمرك أن تأتيه، ولكنه قد أظلك زمان نبي هُوَ مبعوث بدين إبراهيم، يخرج بأرض العرب مهاجرًا إلى أرض بين حرتين بينهما نخل، به علامات لا تخفى، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل، قال: ثم مات وغيب فمكثت بعمورية مَا شاء الله أن أمكث، ثم مر بي نفر من كلب تجارًا، فقلت لهم: تحملوني إلى أرض العرب وأعطيكم بقراتي هذه وغنيمتي هذه؟ قالوا: نعم: فأعطيتهموها وحملوني، حتى إذا قدموا بي وادي القرى ظلموني فباعوني من رجل يهودي عبدًا، فكنت عنده، ورأيت النخل، ورجوت أن تكون البلد الذي وصف لي صاحبي، ولم يحق لي في نفسي، فبينما أنا عنده قدم عليه ابن عم له من المدينة من بني قريظة فابتاعني منه فاحتملني إلى المدينة، فوالله مَا هُوَ إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبي، فأقمت بها، وبعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم فأقام بمكة مَا أقام لا أسمع له بذكر مع ما أنا فيه من شغل الرق. ثم هاجر إلى المدينة فوالله إني لفي رأس عذق لسيدي أعمل فيه بعض العمل، وسيدي جالس إذ أقبل ابن عم له حتى وقف عليه فقال: فلان قاتل الله بني قيلة، والله إنهم الآن لمجتمعون بقباء عَلَى رجل قدم عليهم من مكة اليوم يزعمون أنه: نبي قال: فلما سمعتها أخذتني العرواء حتى ظننت سأسقط عَلَى سيدي، قال: ونزلت عن النخلة فجعلت أقول لابن عمه ذلك: ماذا تقول؟ ماذا تقول؟ قال: فغضب سيدي فلكمني لكمة شديدة، ثم قال: مالك ولهذا؟ أقبل عَلَى عملك، قال: قلت: لا شيء، إنما أردت أن أستثبت عما قال، وقد كان عندي شيء قد جمعته فلما أمسيت أخذته ثم ذهبت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بقباء، فدخلت عليه، فقلت له: إنه قد بلغني أنك رجل صالح، معك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة، وهذا شيء كان عندي للصدقة فرأيتكم أحق به من غيركم، قال: فقربته إليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ((كلوا)). وأمسك يده فلم يأكل شيئًا، فقلت في نفسي: هذه واحدة، ثم انصرفت عنه فجمعت شيئًا، وتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ثم جئت به فقلت: إني رأيتك لا تأكل الصدقة، وهذه هدية أكرمتك بها، قال: فأكل رسول الله منها وأمر أصحابه فأكلوا معه، قال: فقلت في نفسي: هاتان اثنتان، ثم جئت رسول الله صلى وهو في الغرقد، قال: وقد تبع جنازة من أصحابه عليه شملتان له وهو جالس في أصحابه فسلمت عليه، ثم استدرت أنظر إلى ظهره، هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي؟ فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم استدرته عرف أني أستثبت في شيء وُصف لي، قال: فألقى ردائه عن ظهره، فنظرت إلى الخاتم فعرفته، فانكببت عليه أقبله وأبكي فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تحول)). فتحولت فقصصت عليه حديثي كما حدثتك يا ابن عباس قال: فأعجب رسول الله، أن يسمع ذلك أصحابه. ثم شغل سلمان الرق حتى فاته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرًا وأحدًا، قال: ثم قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كاتب يا سلمان)). فكاتبت صاحبي عَلَى ثلاثمائة نخلة أجبيها له بالفقير وبأربعين أوقية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ((أعينوا أخاكم)). فأعانوني بالنخل الرجل بثلاثين ودية، والرجل بعشرين، والرجل بخمس عشرة، والرجل بعشر -يعني الرجل بقدر مَا عنده- حتى اجتمعت لي ثلاثمائة ودية فقال لي رسول الله: ((اذهب يا سلمان ففقر لها فإذا فرغت فائتني أكون أنا أضعها بيدي)). ففقرت لها وأعانني أصحابي حتى إذا فرغت منها جئته فأخبرته، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم معي إليها, فجعلنا نقرب له الودي ويضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فوالذي نفس سلمان بيده مَا ماتت منها ودية واحدة، فأديت النخل وبقي علي المال. فأتى رسول الله بمثل بيضة الدجاجة من ذهب من بعض المغازي، فقال: ((ما فعل الفارسي المكاتب؟)) قال:فدعيت له، فقال: (( خذ هذه فأد بها مَا عليك يا سلمان)) فقلت: وأين تقع هذه يا رسول الله مما علي؟ قال: ((خذها فإن الله عَزَّ وَجَلَّ سيؤدي بها عنك)). قال:فأخذتها فوزنت لهم منها، والذي نفس سلمان بيده أربعين أوقية فأوفيتهم حقهم، وعتقت فشهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق ،ثم لم يفتني معه مشهد.
قوم آثروا إخوانهم عَلَى أنفسهم:
أخرج البخاري(31) من حديث أنس رضي الله عنه أنه قال: قدم علينا عبد الرحمن بن عوف وآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع -وكان كثير المال- فقال سعد: قد علمت الأنصار أني من أكثرها مالاً سأقسم مالي بيني وبينك شطرين، ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك فأطلقها حتى إذا حلَّت تزوجتها، فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في هلك، فلم يرجع يومئذ حتى أفضل شيئًا من سمن وأقط، فلم يلبث إلا يسيرًا حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه وضرٌ من صفرة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مهيم؟)) قال: تزوجت امرأة من الأنصار، قال: ((ما سقت فيها؟)) قال: وزن نواة من ذهب -أو نواة منِ ذهب- فقال: ((أولم ولو بشاة)).
وهذه نماذج من أوجه الإنفاق والإيثار:
أخرج البخاري ومسلم(32) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب. قال أنس: فلما أنزلت هذه الأية: {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]. قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن الله تبارك وتعالى يقول: {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}[آل عمران:92]. وإن أحب أموالي إليَّ بيرحاء، وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بخ، ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، وقد سمعتُ مَا قلتَ، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين)). فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه.
وأخرج عبدُ بن حميد في ((المنتخب)) (33) من حديث أنس أن رجلاً قال: يا رسول الله إن لفلان نخلة وإنما أقيم حائطي بها، فأمره أن يعطني إياها حتى أقيم حائطي بها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((أعطها إياه بنخلة في الجنة)). فأبى فأتاه أبو الدحداح فقال: بعني نخلتك بحائطي قال: ففعل قال: فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إني قد ابتعت النخلة بحائطي، فاجعلها له وقد أعطيتكها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كم من عذق رواح لأبي الدحداح في الجنة)). قالها مرارًا، قال: فأتى امرأته فقال: يا أم الدحداح أخرجي من الحائط فإني قد بعته بنخلة في الجنة فقالت: ربح البيع، أو كلمة تشبهها.
قوم، وإن اعترت وجوه بعضهم دمامةٌ لكن قلوبهم بيضاء:
أخرج أبو يعلى(34) بإسناد حسن من حديث أنس رضي الله عنه قال: كان رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقال له: جليبيب في وجهه دمامة فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم التزويج فقال: إذًا تجدني كاسدًا، فقال: ((غير أنك عند الله لست بكاسد)).
وأخرج مسلم(35) من حديث أبي برزة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في مغزى له فأفاء الله عليه فقال لأصحابه: ((هل تفقدون من أحد؟)) قالوا: نعم فلانًا وفلانًا وفلانًا ثم قال: ((هل تفقدون من أحد؟)), قالوا: نعم فلانًا وفلانًا وفلانًا، ثم قال: ((هل تفقدون من أحد؟)), قالوا: لا. قال: ((لكني أفقد جليبيبًا فاطلبوه)), فطلب في القتلى فوجد إلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه، فأتى النبيُّ صلى الله عليه وسلم فوقف عليه فقال: ((قتل سبعة ثم قتلوه، هذا مني وأنا منه، هذا مني وأنا منه)). قال: فوضعه عَلَى ساعديه ليس له إلا ساعد النبي صلى الله عليه وسلم قال: فحفر له ووضع في قبره، ولم يذكر غسلاً.
فلهذا استجيبت دعواتهم، ها هُوَ سعد:
أخرج البخاري(36)من حديث جابر بن سمرة، قال: شكا أهل الكوفة سعدًا إلى عمر رضي الله عنه فعزله واستعمل عليه عمارًا فشكوا حتى ذكروا: أنه لا يُحسن يُصلي، فأرسل إليه، فقال: يا أبا إسحاق إن هؤلاء يزعمون: أنك لا تحسن تصلي، قال أبو إسحاق: أما أنا والله فإني كنت أصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم مَا أخرم عنها، أصلي صلاة العشاء فأركد في الأوليين وأخف في الأخريين، قال: ذاك الظن بك يا أبا إسحاق، فأرسل معه رجلاً -أو رجالاً- إلى الكوفة، فسأل عنه أهل الكوفة ولم يدع مسجدًا إلا سأل عنه ويثنون معروفًا حتى دخل مسجدًا لبني عبس، فقام رجل منهم يقال له أسامة بن قتادة يكنى أبا سعدة، قال: أما إذ نشدتنا فإن سعدًا كان لا يسير بالسرية ولا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية. قال سعد: أما والله لأدعون بثلاث: اللهم إن كان عبدك هذا كاذبًا قام رياء وسمعة؛ فأطل عمره، وأطل فقره، وعرضه بالفتن، وكان بعد إذا سئل يقول: شيخ كبير مفتون أصابتني دعوة سعد، قال عبد الملك: فأنا رأيته بعد قد سقط حاجباه عَلَى عينيه من الكبر وإنه ليتعرض للجواري في الطرق يغمزهن.
وذاك سعيد:
أخرج الإمام مسلم (1) -رحمه الله- من طريق هشام بن عروة عن أبيه أن أروى بنت أويس ادعت عَلَى سعيد بن زيد: أنه أخذ شيئًا من أرضها؛ فخاصمته إلى مروان بن الحكم، فقال سعيد: أنا كنت آخذ من أرضها شيئًا بعد الذي سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: وما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: سمعت رسول الله يقول: ( (من أخذ شبرًا من الأرض ظلمًا طوقه إلى سبع أرضين)). فقال له مروان: لا أسألك بينة بعد هذا، فقال: اللهم إن كانت كاذبة فعم بصرها واقتلها في أرضها قال: فما ماتت حتى ذهب بصرها، ثم بينما هي تمشي في أرضها إذ وقعت في حفرة فماتت.
* * *
أدوية ومقويات عامة ومنظفات للقلب
وها هي جرعات من الدواء، من الدواء المركز الشافي بإذن الله ولا شافي إلا الله.
إنها أدوية مضمونة بإذن الله.
إنه علاج أكيد النفع بمشيئة الله.
هاهي جرعات من الدواء فتناولها وسم الله.
{وَتَوَكَّلَ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِين تَقُومُ* وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الشعراء: 217 - 220].
______________________________
(1) أخرجه مسلم حديث (1028).
(2) البخاري، حديث (3266)، ومسلم (1027).
(3) أبو داود، حديث (1662)، والترمذي (3675) وإسناده حسن.
(4) أحمد (2 / 366).
(5) كذا في ((المسند)) المطبوع، وصوابه: ((لا توى)) - بدون الدال- أي: لا هلاك لمائه، وليس بخاسرٍ مَا أنفقه في سبيل الله، ولم يذهب سُدًى، والله أعلم.
(6) البخاري حديث (3667).
(7) البخاري (3653)، ومسلم (2381) من حديث أبي بكر رضي الله عنه.
(8) البخاري (4077)، ومسلم (2418).
(9) البخاري حديث (4750).
(10) البخاري حديث (3842).
(11) البخاري حديث (3687)، ومسلم حديث (2396).
(12) قال النووي في شرح مسلم (5 / 258): هذا الحديث محمول عَلَى ظاهره أن الشيطان متى رأى عمر سالكًا فجًّا هرب هيبةً من عمر، وفارق ذلك الفجر، وذهب في فج آخر لشدة خوفه من بأس عمر أن يفعل فيه شيئًا، قال القاضي: يحتمل أنه ضرب مثلاً لبعد الشيطان وإغوائه منه، وأن عمر في جميع أموره سالك طريق السداد خلاف مَا يأمر به الشيطان، والصحيح الأول.
وذكر الحافظ ابن حجر أقوالاً، ثم قال: ولا يلزم من ذلك ثبوت العصمة له؛ لأنها في حق النبي صلى الله عليه وسلم واجبة، وفي حق غير ممكنة.
(13) أحمد (5 / 353).
(14) البخاري حديث: 3692).
(15) مسلم حديث (2401).
(16) البخاري حديث (2805).
(17) أبو داود حديث (2665) وأحمد (1 / 117).
(18) أخرجه البخاري (4261).
(19) عند البخاري (4260).
(20) ((الطبقات)) (3 / 1 / 7).
(21) أبو يعلى (6 / 138).
(22)
(23) البخاري حديث (3989).
(24) مسلم حديث ( 190).
(25) أخرجه البخاري (3700) .
(26) الحاكم ((المستدرك)) (3 / 226).
(27) الحاكم (المستدرك) (3/226).
(28) الدارمي (1 / 141 - 142).
(29) البخاري (4897)، ومسلم (2546).
(30) أحمد (5 / 441)، وإسناده حسن.
(31) البخاري حديث (3781).
(32) البخاري (1461)، ومسلم ( 998).
(33) ((المنتخب)) بتحقيقي، حديث (1332)، وإسناده صحيح.
(34) أبو يعلى (6 / 89).
(35) مسلم (2472).
وعند أحمد (4 / 425) في أول هذا الحديث: أن جليبيبًا كان من الأنصار، وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان لأحدهم أيم لم يزوجها حتى يعلم أللنبي صلى الله عليه وسلم فيها حاجة أم لا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم لرجل من الأنصار: ((زوجني ابنتك)) فقال: نعم ونعمة عين فقال له: ((إني لست لنفسي أريدها)) قال: فلمن؟ قال: ((لجليبيب)). قال: حتى أستأمر أمها، فأتاها فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ابنتك، قالت: نعم ونعمة عين زوج رسول الله. قال: إنه ليس يريدها لنفسه، قالت: فلمن؟ قال: لجليبيب، قالت: حلقى أجليبيب أنيه؟ مرتين، لا لعمر الله، لا أزوج جليبيبًا، قال: فلما قام أبوها ليأتي النبي صلى الله عليه وسلم، قالت الفتاة لأمها من خدرها: من خطبني إليكما؟ قالت: النبي صلى الله عليه وسلم. قالت: فتردون عَلَى النبي صلى الله عليه وسلم أمره؟ ادفعوني إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لا يضيعني. فأتى أبوها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: شأنك بها، فزوجها جليبيبًا. ثم ذكر حديث الباب، وأخرجه أيضًا ابن حبان (موارد 2269).
(36) البخاري حديث (755).