ممدوح عبدالله البلوي
04-28-2004, 08:26 AM
بقلم : أحمد بن عبد العزيز الحمدان
بسم الله الرحمن الرحيم
المقـدمـة :
الْحَمْدُ للهِ وَحدَه، وَالصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَى رَسُولِ اللهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ وَمَنْ وَالَه،
أَمَّا بَعد..
فَإِنَّ العبدَ في هذه الدُّنيا مُعَرَّضٌ للابتلاء والامتحان، وهو فيها يسير بِقَدَرِ وقضاءِ الملكِ الدَّيَّان،
قال الله تعالى [ الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ والْحَيَوةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ العَزِيزُ الغَفُورُ ] .
وقال تعالى [ وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِالصَّابِرِينَ،
الَّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوآ إِنَّا للهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ، أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأَوْلَئِكَ
هُمُ الْمُهْتَدُونَ ] .
وَعَن سَـعْدِ بنِ أبي وَقَاصٍ رضي الله عنه ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُـولَ الله ! أَيُّ النَّاسِ أَشَـدُّ بَـلاَء ؟ قَالَ :
(( الأَنْبِيَاء، ثُمَّ الصَّالِحُون، ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ مِنَ النَّاس، يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِه، فَإِنْ كَانَ فِي
دِينِهِ صَلاَبَةٌ زِيدَ فِي بَلاَئِه، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ خُفِّفَ عَنْه، وَمَا يَزَالُ الْبَلاَءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَمْشِيَ عَلَى
ظَهْرِ الأَرْضِ لَيْسَ عَلَيْهِ خَطِيئَة )).
وإن من جملة ما يبتلى به الإنسان في هذه الدُّنيا أن يصاب بالعين، قال الله صلى الله عيله وسلم :
[ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ، مِن شَرِّ مَا خَلَقَ ، وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ، وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ ،
وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ] .
فحقق صلى الله عيله وسلم الشرَّ عند صدور الحسد، دون تدخل مباشر حسي :
[ وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ] .
وعن عبد الله بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عن النَّبيِّ صلى الله عيله وسلم قال :
((الْعَيْنُ حَقّ، وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابَقَ الْقَدَرَ سَبَقَتْهُ الْعَيْنُ، وَإِذَا اسْتُغْسِلْتُمْ فَاغْسِلُوا)).
وقال رسول الله صلى الله عيله وسلم : ((أَكْثَرُ مَن يَمُوتُ مِن أُمَّتِي ـ بَعدَ قَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ ـ بِالْعَيْن)).
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه ، قال: قَالَ رسول الله صلى الله عيله وسلم : (( إِنَّ الْعَيْنَ لَتُولِعُ ( تعلق ، وتغري به ) بِالرَّجُلِ -بِإِذْنِ اللهِ- حَتَّى يَصْعَدَ حَالِقًا ( جبلاً شاهقاً ) ثُمَّ يَتَرَدَّى مِنْه )).
فالعين حقٌّ لا ريب فيها، ولكنَّها لا تؤثر إلا بإذن الله تبارك وتعالى، فقد يصيب العائنُ بها
نفسَـه، وقد يصيب غيره، من حبيب أو بغيض، أو قريب أو بعيد، أو شاهد أو غائب، أو جليل أو حقير،
برغبته أو بغيرها، وقد يصيب وهو مسلم، أو كافر، وقد يصيب وهو أعمى، أو بصير.
* حقيقة العين وأنواعها :
والعين نظر من العائن ، أو تصورٌ في ذهنه باستحسان، مشوب بحسد، تخرج سهامها من نفس
العائن نحو المعيون، فإن صادفته مكشوفاً لا غطاء عليه أثرت فيه -بإذن الله الكوني لا الشرعي-
وإن صادفته مغطى لم تؤثر فيه، وربما ارتدت على نفس العائن فيضرُّ نفسَه.
قال الله تعالى [ وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُواْ الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ] .
قال ابن عبَّاس رضي الله عنهما: أي يعينوك بأبصارهم، لولا وقاية الله لك، وحمايته إيَّاك منهم.
وهذا يعقوب عليه السلام خشي العين على أبنائه، من قوم كفار، قال تعالى :
[ وَقَالَ يَبَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَبٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَآ أُغْنِي عَنْكُم
مِّنَ اللهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ] .
قال ابن عبَّاس رضي الله عنهما: خشي عليهم العين، وذلك أنهم كانوا ذوي جمال وهيئة حسنة،
ومنظر وبهاء، فخشي عليهم أن يصيبهم النَّاس بعيونهم، فإنَّ العين حقّ، تستنزل الفارس عن فرسه.
والعين من حيث مصدرُها عينان : إنسية وجنّية، فأما الإنسية: فهي سهام الشر، التي تخرج من عين
الحاسد إلى المحسود، وأما الجنّية: فسهام الشرّ، التي تخرج من عين الحاسد، يحضرها شيطان،
فيتلقفها -قبل وصولها إلى المعيون- فيدخل بها إلى جسده.
قال البغوي، رحمه الله: نظر الجنِّ أنفذ من أسنَّة الرماح، وفي الحديث:
(( الْعَيْنُ حَقٌّ وَيَحْضُرُ بِهَا الشَّيْطَانُ وَحَسَدُ ابْنِ آدَم )).
وَعَنْ أُمِّ المُؤْمِنِينَ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِي اللهُ عَنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عيله وسلم رَأَى فِي بَيْتِهَا جَارِيَةً فِي
وَجْهِهَا سَفْعَة (وهو تغيرٌ في لون الجلد) فَقَالَ: ((اسْتَرْقُوا لَهَا فَإِنَّ بِهَا النَّظْرَةَ)). والنَّظرة :
عين من الجنّ .
والعين من حيث أثرُها عينان : مزعجة ومهلكة ؛ فأما المزعجة : فالتي تؤذي دون القتل ،
وأما المهلكة: فالتي تقتل.
وإن من فضل الله على عباده أن أذن لهم في معالجة ابتلائه، فَعَنْ جَابِرٍ بنِ عَبْدِ الله رضي الله عنهما ،
عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عيله وسلم ، أَنَّهُ قَالَ: ((لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاء، فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاءُ الدَّاءِ بَرَأَ بِإِذْنِ اللهِ عز وجل )).
والإصابة بالعين داء من الأدواء التي أذن الله تبارك وتعالى لنا بمعالجتها ،
والأخذ بسبل الوقاية منها :
قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عيله وسلم يأمرني أن أسترقي من العين.
وقال أنس رضي الله عنه : رخص رسول الله صلى الله عيله وسلم في الرقية من العين.
وأعظم علاج مَنَّ الله تبارك وتعالى به على هذه الأمّة: القرآن العظيم :
قال الله عز وجل :
[ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شفاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً] .
فالقرآن العظيم شفاء، أي مُذْهِبٌ لما في النفوس من أمراض وشك، وشرك ورياء ،
وهو رحمة، أي يحصل به الإيمان، إذ فيه الحكمة والخير.
قال العلامة ابن القيم، رحمه الله: فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبد نية ،
إذا أحسن العليل التداوي به، ووضعه على دائه بصدق وإيمان، وقبولٍ تام، واعتقادٍ جازم ،
واستيفاء شروطه، لم يقاومه الداءُ أبداً، وكيف تقاوم الأدواءُ كلامَ ربِّ الأرض والسماء ؟
الذي لو نزل على الجبال لصدعها، أو على الأرض لقطّعها، فما من مرض من أمراض القلوب
والأبدان إلا وفي القرآن سبيل الدلالة على دوائه، وسببه، وَالْحِمْيَةِ منه، لمن رزقه الله فهماً في كتابه،
قال الله تعالى [ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ] .
وإن أعظم الرقى التي علمناها رسول الله صلى الله عيله وسلم : فاتحة الكتاب، التي قال عنها
رسول الله صلى الله عيله وسلم : ((إنَّها شفاء من كلِّ داء)).
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْري رضي الله عنه ، قَالَ: انْطَلَقَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عيله وسلم
فِي سَفْرَةٍ سَافَرُوهَا، حَتَّى نَزَلُوا عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَب، فَاسْتَضَافُوهُم، فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُم،
فَلُدِغَ سَيِّدُ ذَلِكَ الْحَيّ، فَسَعَوْا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لاَ يَنْفَعُهُ شَيْء؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَوْ أَتَيْتُمْ هَؤُلاَءِ الرَّهْط،
الَّذِينَ نَزَلُوا، لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ شَيْء، فَأَتَوْهُم، فَقَالُوا: يَا أَيُّهَا الرَّهْطُ، إِنَّ سَيِّدَنَا لُدِغ ،
وَسَعَيْنَا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لاَ يَنْفَعُه، فَهَلْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْكُمْ مِنْ شَيْء ؟ فَقَالَ بَعْضُهُم: نَعَمْ وَاللهِ إِنِّي لأَرْقِي،
وَلَكِنْ وَاللهِ لَقَدِ اسْتَضَفْنَاكُم، فَلَمْ تُضَيِّفُونَا، فَمَا أَنَا بِرَاقٍ لَكُمْ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلاً، فَصَالَحُوهُمْ عَلَى
قَطِيعٍ مِنَ الْغَنَم ، فَانْطَـلَقَ يَتْفِـلُ عَلَيْه، وَيَقْـرَأُ [ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] فَكَأَنَّمَا نُشِطَ مِنْ عِقَال،
فَانْطَلَقَ يَمْشِي وَمَا بِهِ قَلَبَة، قَالَ: فَأَوْفَوْهُمْ جُعْلَهُمِ الَّذِي صَالَحُوهُمْ عَلَيْه، فَقَالَ بَعْضُهُم: اقْسِمُوا،
فَقَالَ الَّذِي رَقَى: لاَ تَفْعَلُوا حَتَّى نَأْتِيَ النَّبِيَّ صلى الله عيله وسلم ، فَنَذْكُرَ لَهُ الَّذِي كَان، فَنَنْظُرَ مَا يَأْمُرُنَا،
فَقَدِمُوا عَلَى رَسُــولِ اللهِ صلى الله عيله وسلم ، فَذَكَرُوا لَهُ؛ فَقَالَ: (( وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ ؟)) ثُمَّ قَالَ:
((قَدْ أَصَبْتُمُ، اقْسِمُوا، وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ سَهْمًا)). فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عيله وسلم .
قال النووي، رحمه الله تعالى: فيه التصريح بأنها رقية، فيستحب أن يقرأ بها على اللديغ والمريض،
وسائر أصحاب الأسقام والعاهات.
ومما كان يرقي به صلى الله عيله وسلم : ما روى أَبِو سَعِيدٍ الخُدْري رضي الله عنه ، أَنَّ جِبْرِيلَ
عليه السلام أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عيله وسلم ؛ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، اشْتَكَيْت ؟ فَقَالَ: ((نَعَم)) قَالَ:
بِاسْمِ اللهِ أَرْقِيك، مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيك، مِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْس، أَوْ عَيْنِ حَاسِد، اللهُ يَشْفِيك، بِاسْمِ اللهِ أَرْقِيك.
وَعَنْ عَبْدِ الْعَزِيز؛ قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَثَابِتٌ عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه ؛ فَقَالَ ثَابِت: يَا أَبَا حَمْزَة،
اشْتَكَيْت ! فَقَالَ أَنَسٌ رضي الله عنه: أَلاَ أَرْقِيكَ بِرُقْيَةِ رَسُـولِ اللهِ صلى الله عيله وسلم ؟ قَالَ: بَلَى.
قَالَ: ((اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاس، مُذْهِبَ الْبَاس، اشْفِ، أَنْتَ الشَّافِي، لاَ شَافِيَ إِلاَّ أَنْت، شِفَاءً لاَ يُغَادِرُ سَقَمًا)).
وقد جعل الله عز وجل لكل شيء سبباً، ومن ذلك الشفاء، فقد جعل الله عز وجل له أسباباً؛ منها:
إرادته جل وعلا، فإن الإنسان قد يبذل كلَّ الأسباب التي يقدر عليها ولا يكتب الله تعالى
له شفاء فيها، لحكمة بالغة يريدها سبحانه، إما لذنوب على عبده، يريد الله تكفيرها بالمرض،
أو لدرجة عالية في الجنَّة، كتبها الله لعبده، وهو لا يبلغها بعمله، أو لغفلة في العبد، فَيُذَكِّره
الله تعالى بالمرض، ونحو ذلك.
ومنها: قوة الرقية، وتكتسبها من كتاب الله، وسنَّة رسول الله صلى الله عيله وسلم .
ومنها: قوة الراقي: بتقواه، وصدقه مع الله، ويقينه به، وأن الشفاء منه سبحانه.
ومنها: صدق توجه المريض إلى الله، وأدائه الواجبات، وبعده عن المعاصي.
أما إذا عُرف العائن فالأمر -بإذن الله- سهل حيث علمنا رسول الله صلى الله عيله وسلم كيف نفعل،
فعن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، قال: خرج أبي سهل بن حنيف رضي الله عنه مع رسول الله
صلى الله عيله وسلم نحو مكة، حتى إذا كانوا بشعب الخرار من الجحفة اغتسل أبي، فَنَزَعَ جبة
كانت عليه، وعامر بن ربيعةرضي الله عنه ينظر إليه، وكان سهل شديد البياض، حسن الجلد،
فقال عامر: ما رأيت كاليوم، ولا جلد مخبأة عذراء ! فَلُبِطَ (أي صُرِع) سَهْلٌ مكانَه، فأُخْبِرَ
رسولُ الله صلى الله عيله وسلم ، وقيل له: ما يرفع رأسه، فقال: ((هل تتهمون له أحداً ؟)) قالوا:
عامر بن ربيعة. فدعاه رسول الله صلى الله عيله وسلم فتغيظ عليه، فقال: ((علام يقتل أحدكم أخاه،
ألا بركت ؟ اغتسل له)) فغسل عامرٌ وجهه ويديه، ومرفقيه وركبتيه، وأطراف رجليه، وداخلة إزاره،
في قدح، ثم صب عليه من ورائه، فبرأ سهل من ساعته، وراح مع النَّاس، ليس به بأس.
قال الإمام ابن شهاب الزهري، رحمه الله: الغسل الذي أدركنا عليه علماءنا: أن يمسك القدح مرفوعاً
عن الأرض، فيتوضأ فيه، يتمضمض ويمج الماء فيه، ويستنشق ويستنثر فيه، إلى أن يفرغ من وضوئه،
ويصب الماء على ركبته اليمنى ثم اليسرى، ويصب ذلك في القدح، ثم يدخل داخلة إزاره فيه، كلُّ
ذلك لا يضعه على الأرض، ثم يصبه على رأس المعيون، من خلفه صبة واحدة، ثم يكفأ الإناء.
وهذا العلاج نافع بإذن الله إذا عُرف العائن.
* وتكون معرفةُ العائن بأمور؛ فمنها:
اعترافه بذلك، أوتكرار وقوع الأذى منه، أوكونه من بلد أو أسرة أو قبيلة اشتُهرت بذلك،
أو أن يُعْرَف بسرعة وغرابة تشبيه الأشياء التي تعجبه.
* كما وقع لأحدِهم، وكان يقرأ صحيفة، وإذا بطيرٍ يقع على ميزابِ بيتِه، ويبدأ في نقر الميزاب
بمنقاره نقراتٍ متتالية، فنظر إليه منزعجاً، وقال: ((كأنَّه يُبْرِقُ برقيّة !)) وإذا بالطيرِ يقع على الأرضِ ميتاً.
وآخر: خرج من دار من أضافَه، وإذا بشجرة عظيمةٍ في فناءِ الدَّار قد أُثقلت أغصانُها بالثمار حتَّى
اقتربت من الأرض، والثمار صفراء كبيرة، فقال الضيف: ((كأنَّها قناديل الحرم !))
فما أصبح صباح اليوم التالي حتَّى جَفَّت الشجرة، وكأنَّها أعوادٌ من حطبٍ محترقة.
وآخر: يقود سيارته في الظهيرة، وقد اشتدَّ الحرُّ حتّى ما عاد أحدٌ يمشي في الشارع، وقد أدار
مكيف الهواء داخلها إلى سرعته القصوى، وإذا بشخص يشير بيده يريد منه أن يحمله معه في
سيارته، فأوقف سيارته، وحمله معه، فما استقرّ في السيارة وشعر بفارق درجات الحرارة داخلها عنه خارجها حتَّى قال: ((آه كأنَّها المربعانيّة !)) وإذا بمكيف الهواء يخرج منه صوت قوي، ويتوقف عن العمل.
وآخر: يضلّ الطريق إلى بيت صديق له، ومعه مجموعة من رفاقه، ولم يجدوا من يدلّهم الطريق،
فقام أحدُ رفاقه وأخرج هاتفه الجوّال ليجري مكالمة مع صاحب البيت يسأله عن الطريق إلى بيته،
ولَمَّا فرغ من مكالمته، قال: قد عرفت الطريق، فقال له العائن: ((جاءك بخبر الطريق هذا الهدهد !))
يعني الجّوال، وإذا بالجوّال يتعطل من ساعتِه، ويسعى صاحبُه لإصلاحِه عند وكيله المعتمد، فاعتذر
قسم الصيانة عن إصلاحه، لأنَّه تلف، ولا يعرفون السبب !
وآخر: يدخل محلاً تجاريّاً، فلما رأى أنواره البيضاء تُشِّعُ مُحِيلةً المكان وكأنَّه في النَّهار، وضع يده
على جبينه، وهو يردد: ((شمس شمس !)) وإذا بأنوار المحل تحترق في تلك اللحظة، ولم تبق منها
إلاَّ شمعة واحدة في ركن المحل تبصبص بالنُّور (هذه الأحداث لم ترو لي فقط ، بل هي مما شاهدته
بنفسي ، وأعرف من صدرت منه).
ولا بدّ من التنبه إلى أن هذه الأمور يجب التحقق فيها، أو غلبة الظنّ، أما مجرد الشكوك والأوهام فلا
يلتفت إليها، ولا يعول عليها.
* وسائل الوقاية من العين :
1- تقوى الله عز وجل ، قال الله تعالى [ وَنَجَيْنَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ وَيَتَّقُونَ ] .
2- التوكل على الله عز وجل ، قال تعالى [ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ] .
3- حفظ الله عز وجل باتباع أمره ، واجتناب نهيه:
فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ رَدِيفَ النَّبِيِّ صلى الله عيله وسلم ؛ فَقَالَ:
((يَا غُلاَمُ ! أَلاَ أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللهُ بِهِنّ ؟)) فَقُلْتُ: بَلَى. فَقَالَ: ((احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْك، احْفَظِ اللهَ
تَجِدْهُ أَمَامَك، تَعَرَّفْ إِلَيْهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّة، وَإِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ الله، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ
بِالله، قَدْ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِن، فَلَوْ أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ جَمِيعًا أَرَادُوا أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللهُ عَلَيْكَ
لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْه، وَإِنْ أَرَادُوا أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللهُ عَلَيْكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْه. وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الصَّبْرِ
عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا، وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْر، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْب، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)).
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عيله وسلم : ((إِنَّ اللهَ قَالَ: مَنْ عَادَى
لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْب، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْه، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي
يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّه، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِه، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِه، وَيَدَهُ
الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا ، وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّه، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّه، وَمَا تَرَدَّدْتُ
عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِن، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَه)).
4- الإكثار من الصدقة، لكونها تقي مصارع السوء.
5- تطهير البيت من آلات اللهو والصور، والكلاب لأنَّ الشياطين لا تقرّ في البيت الذي تخلو منه
هذه الأشياء.
6- المواظبة على الأذكار المحصنة، فهي درع المسلم من العين، بإذن الله تعالى.
7- الدعاء بالبركة كلما رأى المسلم شيئاً يعجبه.
8- الاحتراز ممن عُرف بالعين، بأن لا يُجَالَس، تجنباً لأذاه.
9- ستر ما يخشى عليه من العائن عند مجالسته.
10- ذكر الله تعالى أمام العائن بصوت مرتفع، لأنه بذلك يُدْفَعُ إلى ذكر الله، فيبطل كيده، بإذن الله.
أما ما يفعله بعض الناس من وضع مصحف في السيارة، أو تعليقه على رقبة الصغير، ففعلهم ليس
من هدي النبي صلى الله عيله وسلم ، بل فيه تعريض للمصحف الشريف أن يهان، بإدخاله إلى
الأماكن النجسة، أو تعريضه للتلف. والله الموفق.
بقلم : أحمد بن عبد العزيز الحمدان
بسم الله الرحمن الرحيم
المقـدمـة :
الْحَمْدُ للهِ وَحدَه، وَالصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَى رَسُولِ اللهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ وَمَنْ وَالَه،
أَمَّا بَعد..
فَإِنَّ العبدَ في هذه الدُّنيا مُعَرَّضٌ للابتلاء والامتحان، وهو فيها يسير بِقَدَرِ وقضاءِ الملكِ الدَّيَّان،
قال الله تعالى [ الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ والْحَيَوةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ العَزِيزُ الغَفُورُ ] .
وقال تعالى [ وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِالصَّابِرِينَ،
الَّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوآ إِنَّا للهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ، أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأَوْلَئِكَ
هُمُ الْمُهْتَدُونَ ] .
وَعَن سَـعْدِ بنِ أبي وَقَاصٍ رضي الله عنه ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُـولَ الله ! أَيُّ النَّاسِ أَشَـدُّ بَـلاَء ؟ قَالَ :
(( الأَنْبِيَاء، ثُمَّ الصَّالِحُون، ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ مِنَ النَّاس، يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِه، فَإِنْ كَانَ فِي
دِينِهِ صَلاَبَةٌ زِيدَ فِي بَلاَئِه، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ خُفِّفَ عَنْه، وَمَا يَزَالُ الْبَلاَءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَمْشِيَ عَلَى
ظَهْرِ الأَرْضِ لَيْسَ عَلَيْهِ خَطِيئَة )).
وإن من جملة ما يبتلى به الإنسان في هذه الدُّنيا أن يصاب بالعين، قال الله صلى الله عيله وسلم :
[ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ، مِن شَرِّ مَا خَلَقَ ، وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ، وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ ،
وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ] .
فحقق صلى الله عيله وسلم الشرَّ عند صدور الحسد، دون تدخل مباشر حسي :
[ وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ] .
وعن عبد الله بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عن النَّبيِّ صلى الله عيله وسلم قال :
((الْعَيْنُ حَقّ، وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابَقَ الْقَدَرَ سَبَقَتْهُ الْعَيْنُ، وَإِذَا اسْتُغْسِلْتُمْ فَاغْسِلُوا)).
وقال رسول الله صلى الله عيله وسلم : ((أَكْثَرُ مَن يَمُوتُ مِن أُمَّتِي ـ بَعدَ قَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ ـ بِالْعَيْن)).
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه ، قال: قَالَ رسول الله صلى الله عيله وسلم : (( إِنَّ الْعَيْنَ لَتُولِعُ ( تعلق ، وتغري به ) بِالرَّجُلِ -بِإِذْنِ اللهِ- حَتَّى يَصْعَدَ حَالِقًا ( جبلاً شاهقاً ) ثُمَّ يَتَرَدَّى مِنْه )).
فالعين حقٌّ لا ريب فيها، ولكنَّها لا تؤثر إلا بإذن الله تبارك وتعالى، فقد يصيب العائنُ بها
نفسَـه، وقد يصيب غيره، من حبيب أو بغيض، أو قريب أو بعيد، أو شاهد أو غائب، أو جليل أو حقير،
برغبته أو بغيرها، وقد يصيب وهو مسلم، أو كافر، وقد يصيب وهو أعمى، أو بصير.
* حقيقة العين وأنواعها :
والعين نظر من العائن ، أو تصورٌ في ذهنه باستحسان، مشوب بحسد، تخرج سهامها من نفس
العائن نحو المعيون، فإن صادفته مكشوفاً لا غطاء عليه أثرت فيه -بإذن الله الكوني لا الشرعي-
وإن صادفته مغطى لم تؤثر فيه، وربما ارتدت على نفس العائن فيضرُّ نفسَه.
قال الله تعالى [ وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُواْ الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ] .
قال ابن عبَّاس رضي الله عنهما: أي يعينوك بأبصارهم، لولا وقاية الله لك، وحمايته إيَّاك منهم.
وهذا يعقوب عليه السلام خشي العين على أبنائه، من قوم كفار، قال تعالى :
[ وَقَالَ يَبَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَبٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَآ أُغْنِي عَنْكُم
مِّنَ اللهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ] .
قال ابن عبَّاس رضي الله عنهما: خشي عليهم العين، وذلك أنهم كانوا ذوي جمال وهيئة حسنة،
ومنظر وبهاء، فخشي عليهم أن يصيبهم النَّاس بعيونهم، فإنَّ العين حقّ، تستنزل الفارس عن فرسه.
والعين من حيث مصدرُها عينان : إنسية وجنّية، فأما الإنسية: فهي سهام الشر، التي تخرج من عين
الحاسد إلى المحسود، وأما الجنّية: فسهام الشرّ، التي تخرج من عين الحاسد، يحضرها شيطان،
فيتلقفها -قبل وصولها إلى المعيون- فيدخل بها إلى جسده.
قال البغوي، رحمه الله: نظر الجنِّ أنفذ من أسنَّة الرماح، وفي الحديث:
(( الْعَيْنُ حَقٌّ وَيَحْضُرُ بِهَا الشَّيْطَانُ وَحَسَدُ ابْنِ آدَم )).
وَعَنْ أُمِّ المُؤْمِنِينَ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِي اللهُ عَنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عيله وسلم رَأَى فِي بَيْتِهَا جَارِيَةً فِي
وَجْهِهَا سَفْعَة (وهو تغيرٌ في لون الجلد) فَقَالَ: ((اسْتَرْقُوا لَهَا فَإِنَّ بِهَا النَّظْرَةَ)). والنَّظرة :
عين من الجنّ .
والعين من حيث أثرُها عينان : مزعجة ومهلكة ؛ فأما المزعجة : فالتي تؤذي دون القتل ،
وأما المهلكة: فالتي تقتل.
وإن من فضل الله على عباده أن أذن لهم في معالجة ابتلائه، فَعَنْ جَابِرٍ بنِ عَبْدِ الله رضي الله عنهما ،
عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عيله وسلم ، أَنَّهُ قَالَ: ((لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاء، فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاءُ الدَّاءِ بَرَأَ بِإِذْنِ اللهِ عز وجل )).
والإصابة بالعين داء من الأدواء التي أذن الله تبارك وتعالى لنا بمعالجتها ،
والأخذ بسبل الوقاية منها :
قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عيله وسلم يأمرني أن أسترقي من العين.
وقال أنس رضي الله عنه : رخص رسول الله صلى الله عيله وسلم في الرقية من العين.
وأعظم علاج مَنَّ الله تبارك وتعالى به على هذه الأمّة: القرآن العظيم :
قال الله عز وجل :
[ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شفاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً] .
فالقرآن العظيم شفاء، أي مُذْهِبٌ لما في النفوس من أمراض وشك، وشرك ورياء ،
وهو رحمة، أي يحصل به الإيمان، إذ فيه الحكمة والخير.
قال العلامة ابن القيم، رحمه الله: فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبد نية ،
إذا أحسن العليل التداوي به، ووضعه على دائه بصدق وإيمان، وقبولٍ تام، واعتقادٍ جازم ،
واستيفاء شروطه، لم يقاومه الداءُ أبداً، وكيف تقاوم الأدواءُ كلامَ ربِّ الأرض والسماء ؟
الذي لو نزل على الجبال لصدعها، أو على الأرض لقطّعها، فما من مرض من أمراض القلوب
والأبدان إلا وفي القرآن سبيل الدلالة على دوائه، وسببه، وَالْحِمْيَةِ منه، لمن رزقه الله فهماً في كتابه،
قال الله تعالى [ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ] .
وإن أعظم الرقى التي علمناها رسول الله صلى الله عيله وسلم : فاتحة الكتاب، التي قال عنها
رسول الله صلى الله عيله وسلم : ((إنَّها شفاء من كلِّ داء)).
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْري رضي الله عنه ، قَالَ: انْطَلَقَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عيله وسلم
فِي سَفْرَةٍ سَافَرُوهَا، حَتَّى نَزَلُوا عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَب، فَاسْتَضَافُوهُم، فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُم،
فَلُدِغَ سَيِّدُ ذَلِكَ الْحَيّ، فَسَعَوْا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لاَ يَنْفَعُهُ شَيْء؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَوْ أَتَيْتُمْ هَؤُلاَءِ الرَّهْط،
الَّذِينَ نَزَلُوا، لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ شَيْء، فَأَتَوْهُم، فَقَالُوا: يَا أَيُّهَا الرَّهْطُ، إِنَّ سَيِّدَنَا لُدِغ ،
وَسَعَيْنَا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لاَ يَنْفَعُه، فَهَلْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْكُمْ مِنْ شَيْء ؟ فَقَالَ بَعْضُهُم: نَعَمْ وَاللهِ إِنِّي لأَرْقِي،
وَلَكِنْ وَاللهِ لَقَدِ اسْتَضَفْنَاكُم، فَلَمْ تُضَيِّفُونَا، فَمَا أَنَا بِرَاقٍ لَكُمْ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلاً، فَصَالَحُوهُمْ عَلَى
قَطِيعٍ مِنَ الْغَنَم ، فَانْطَـلَقَ يَتْفِـلُ عَلَيْه، وَيَقْـرَأُ [ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] فَكَأَنَّمَا نُشِطَ مِنْ عِقَال،
فَانْطَلَقَ يَمْشِي وَمَا بِهِ قَلَبَة، قَالَ: فَأَوْفَوْهُمْ جُعْلَهُمِ الَّذِي صَالَحُوهُمْ عَلَيْه، فَقَالَ بَعْضُهُم: اقْسِمُوا،
فَقَالَ الَّذِي رَقَى: لاَ تَفْعَلُوا حَتَّى نَأْتِيَ النَّبِيَّ صلى الله عيله وسلم ، فَنَذْكُرَ لَهُ الَّذِي كَان، فَنَنْظُرَ مَا يَأْمُرُنَا،
فَقَدِمُوا عَلَى رَسُــولِ اللهِ صلى الله عيله وسلم ، فَذَكَرُوا لَهُ؛ فَقَالَ: (( وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ ؟)) ثُمَّ قَالَ:
((قَدْ أَصَبْتُمُ، اقْسِمُوا، وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ سَهْمًا)). فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عيله وسلم .
قال النووي، رحمه الله تعالى: فيه التصريح بأنها رقية، فيستحب أن يقرأ بها على اللديغ والمريض،
وسائر أصحاب الأسقام والعاهات.
ومما كان يرقي به صلى الله عيله وسلم : ما روى أَبِو سَعِيدٍ الخُدْري رضي الله عنه ، أَنَّ جِبْرِيلَ
عليه السلام أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عيله وسلم ؛ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، اشْتَكَيْت ؟ فَقَالَ: ((نَعَم)) قَالَ:
بِاسْمِ اللهِ أَرْقِيك، مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيك، مِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْس، أَوْ عَيْنِ حَاسِد، اللهُ يَشْفِيك، بِاسْمِ اللهِ أَرْقِيك.
وَعَنْ عَبْدِ الْعَزِيز؛ قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَثَابِتٌ عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه ؛ فَقَالَ ثَابِت: يَا أَبَا حَمْزَة،
اشْتَكَيْت ! فَقَالَ أَنَسٌ رضي الله عنه: أَلاَ أَرْقِيكَ بِرُقْيَةِ رَسُـولِ اللهِ صلى الله عيله وسلم ؟ قَالَ: بَلَى.
قَالَ: ((اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاس، مُذْهِبَ الْبَاس، اشْفِ، أَنْتَ الشَّافِي، لاَ شَافِيَ إِلاَّ أَنْت، شِفَاءً لاَ يُغَادِرُ سَقَمًا)).
وقد جعل الله عز وجل لكل شيء سبباً، ومن ذلك الشفاء، فقد جعل الله عز وجل له أسباباً؛ منها:
إرادته جل وعلا، فإن الإنسان قد يبذل كلَّ الأسباب التي يقدر عليها ولا يكتب الله تعالى
له شفاء فيها، لحكمة بالغة يريدها سبحانه، إما لذنوب على عبده، يريد الله تكفيرها بالمرض،
أو لدرجة عالية في الجنَّة، كتبها الله لعبده، وهو لا يبلغها بعمله، أو لغفلة في العبد، فَيُذَكِّره
الله تعالى بالمرض، ونحو ذلك.
ومنها: قوة الرقية، وتكتسبها من كتاب الله، وسنَّة رسول الله صلى الله عيله وسلم .
ومنها: قوة الراقي: بتقواه، وصدقه مع الله، ويقينه به، وأن الشفاء منه سبحانه.
ومنها: صدق توجه المريض إلى الله، وأدائه الواجبات، وبعده عن المعاصي.
أما إذا عُرف العائن فالأمر -بإذن الله- سهل حيث علمنا رسول الله صلى الله عيله وسلم كيف نفعل،
فعن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، قال: خرج أبي سهل بن حنيف رضي الله عنه مع رسول الله
صلى الله عيله وسلم نحو مكة، حتى إذا كانوا بشعب الخرار من الجحفة اغتسل أبي، فَنَزَعَ جبة
كانت عليه، وعامر بن ربيعةرضي الله عنه ينظر إليه، وكان سهل شديد البياض، حسن الجلد،
فقال عامر: ما رأيت كاليوم، ولا جلد مخبأة عذراء ! فَلُبِطَ (أي صُرِع) سَهْلٌ مكانَه، فأُخْبِرَ
رسولُ الله صلى الله عيله وسلم ، وقيل له: ما يرفع رأسه، فقال: ((هل تتهمون له أحداً ؟)) قالوا:
عامر بن ربيعة. فدعاه رسول الله صلى الله عيله وسلم فتغيظ عليه، فقال: ((علام يقتل أحدكم أخاه،
ألا بركت ؟ اغتسل له)) فغسل عامرٌ وجهه ويديه، ومرفقيه وركبتيه، وأطراف رجليه، وداخلة إزاره،
في قدح، ثم صب عليه من ورائه، فبرأ سهل من ساعته، وراح مع النَّاس، ليس به بأس.
قال الإمام ابن شهاب الزهري، رحمه الله: الغسل الذي أدركنا عليه علماءنا: أن يمسك القدح مرفوعاً
عن الأرض، فيتوضأ فيه، يتمضمض ويمج الماء فيه، ويستنشق ويستنثر فيه، إلى أن يفرغ من وضوئه،
ويصب الماء على ركبته اليمنى ثم اليسرى، ويصب ذلك في القدح، ثم يدخل داخلة إزاره فيه، كلُّ
ذلك لا يضعه على الأرض، ثم يصبه على رأس المعيون، من خلفه صبة واحدة، ثم يكفأ الإناء.
وهذا العلاج نافع بإذن الله إذا عُرف العائن.
* وتكون معرفةُ العائن بأمور؛ فمنها:
اعترافه بذلك، أوتكرار وقوع الأذى منه، أوكونه من بلد أو أسرة أو قبيلة اشتُهرت بذلك،
أو أن يُعْرَف بسرعة وغرابة تشبيه الأشياء التي تعجبه.
* كما وقع لأحدِهم، وكان يقرأ صحيفة، وإذا بطيرٍ يقع على ميزابِ بيتِه، ويبدأ في نقر الميزاب
بمنقاره نقراتٍ متتالية، فنظر إليه منزعجاً، وقال: ((كأنَّه يُبْرِقُ برقيّة !)) وإذا بالطيرِ يقع على الأرضِ ميتاً.
وآخر: خرج من دار من أضافَه، وإذا بشجرة عظيمةٍ في فناءِ الدَّار قد أُثقلت أغصانُها بالثمار حتَّى
اقتربت من الأرض، والثمار صفراء كبيرة، فقال الضيف: ((كأنَّها قناديل الحرم !))
فما أصبح صباح اليوم التالي حتَّى جَفَّت الشجرة، وكأنَّها أعوادٌ من حطبٍ محترقة.
وآخر: يقود سيارته في الظهيرة، وقد اشتدَّ الحرُّ حتّى ما عاد أحدٌ يمشي في الشارع، وقد أدار
مكيف الهواء داخلها إلى سرعته القصوى، وإذا بشخص يشير بيده يريد منه أن يحمله معه في
سيارته، فأوقف سيارته، وحمله معه، فما استقرّ في السيارة وشعر بفارق درجات الحرارة داخلها عنه خارجها حتَّى قال: ((آه كأنَّها المربعانيّة !)) وإذا بمكيف الهواء يخرج منه صوت قوي، ويتوقف عن العمل.
وآخر: يضلّ الطريق إلى بيت صديق له، ومعه مجموعة من رفاقه، ولم يجدوا من يدلّهم الطريق،
فقام أحدُ رفاقه وأخرج هاتفه الجوّال ليجري مكالمة مع صاحب البيت يسأله عن الطريق إلى بيته،
ولَمَّا فرغ من مكالمته، قال: قد عرفت الطريق، فقال له العائن: ((جاءك بخبر الطريق هذا الهدهد !))
يعني الجّوال، وإذا بالجوّال يتعطل من ساعتِه، ويسعى صاحبُه لإصلاحِه عند وكيله المعتمد، فاعتذر
قسم الصيانة عن إصلاحه، لأنَّه تلف، ولا يعرفون السبب !
وآخر: يدخل محلاً تجاريّاً، فلما رأى أنواره البيضاء تُشِّعُ مُحِيلةً المكان وكأنَّه في النَّهار، وضع يده
على جبينه، وهو يردد: ((شمس شمس !)) وإذا بأنوار المحل تحترق في تلك اللحظة، ولم تبق منها
إلاَّ شمعة واحدة في ركن المحل تبصبص بالنُّور (هذه الأحداث لم ترو لي فقط ، بل هي مما شاهدته
بنفسي ، وأعرف من صدرت منه).
ولا بدّ من التنبه إلى أن هذه الأمور يجب التحقق فيها، أو غلبة الظنّ، أما مجرد الشكوك والأوهام فلا
يلتفت إليها، ولا يعول عليها.
* وسائل الوقاية من العين :
1- تقوى الله عز وجل ، قال الله تعالى [ وَنَجَيْنَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ وَيَتَّقُونَ ] .
2- التوكل على الله عز وجل ، قال تعالى [ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ] .
3- حفظ الله عز وجل باتباع أمره ، واجتناب نهيه:
فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ رَدِيفَ النَّبِيِّ صلى الله عيله وسلم ؛ فَقَالَ:
((يَا غُلاَمُ ! أَلاَ أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللهُ بِهِنّ ؟)) فَقُلْتُ: بَلَى. فَقَالَ: ((احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْك، احْفَظِ اللهَ
تَجِدْهُ أَمَامَك، تَعَرَّفْ إِلَيْهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّة، وَإِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ الله، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ
بِالله، قَدْ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِن، فَلَوْ أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ جَمِيعًا أَرَادُوا أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللهُ عَلَيْكَ
لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْه، وَإِنْ أَرَادُوا أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللهُ عَلَيْكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْه. وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الصَّبْرِ
عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا، وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْر، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْب، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)).
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عيله وسلم : ((إِنَّ اللهَ قَالَ: مَنْ عَادَى
لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْب، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْه، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي
يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّه، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِه، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِه، وَيَدَهُ
الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا ، وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّه، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّه، وَمَا تَرَدَّدْتُ
عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِن، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَه)).
4- الإكثار من الصدقة، لكونها تقي مصارع السوء.
5- تطهير البيت من آلات اللهو والصور، والكلاب لأنَّ الشياطين لا تقرّ في البيت الذي تخلو منه
هذه الأشياء.
6- المواظبة على الأذكار المحصنة، فهي درع المسلم من العين، بإذن الله تعالى.
7- الدعاء بالبركة كلما رأى المسلم شيئاً يعجبه.
8- الاحتراز ممن عُرف بالعين، بأن لا يُجَالَس، تجنباً لأذاه.
9- ستر ما يخشى عليه من العائن عند مجالسته.
10- ذكر الله تعالى أمام العائن بصوت مرتفع، لأنه بذلك يُدْفَعُ إلى ذكر الله، فيبطل كيده، بإذن الله.
أما ما يفعله بعض الناس من وضع مصحف في السيارة، أو تعليقه على رقبة الصغير، ففعلهم ليس
من هدي النبي صلى الله عيله وسلم ، بل فيه تعريض للمصحف الشريف أن يهان، بإدخاله إلى
الأماكن النجسة، أو تعريضه للتلف. والله الموفق.
بقلم : أحمد بن عبد العزيز الحمدان