موسى بن ربيع البلوي
02-03-2008, 01:51 AM
من روائع الشيخ علي الطنطاوي .. رحمه الله
قصة كاملة.... لم يؤلفها بشر
كنت أسرد في الذكريات أحداث حياتي ، فقال قوم : هلا نوعت الأساليب وذكرت ما مر بك من وقائع الناس ، ولم تقصر حديثك على نفسك ، فجربت أن أصنع ما قالوا ، فسردت خبر واقعتين ، عندي من أمثالهما الكثير ، فأعجب بهما جل القارئين ، وقال ناس : إنها ممتعة ، ولكنها ليست ذكريات .
قلت : ولِمَ لا تكون من الذكريات ؟ وهل الذكريات إلا ما وقع لي أنا ، وما رأيت وما سمعت به أو قرأته ، ولقد قرأت في هذه السنين التي عشتها من القصص الأدبية ، وقصص المغامرات وما يسمونه : ( القصص البوليسية ) ما لا يحصيه عد ، وعملت فترة من عمري – نحو سنة 1930 م – في الصحافةناقدا مسرحيا ، أشهد الرواية ، أو أرى الفلم في السينما ، فألخصه وأنقده ، وعندي بقية مما كتبت في ذلك منشورة تملأ كتابا صغيرا .
ولكني لن أعرض في الذكريات لشيء منه بل ألخص وقائع أغرب من القصص ، ما ألفها أديب قصصي ، ولا عمل فيها خيال روائي ، بل ألفتها الحياة ، فجاءت بأحداثها ومصادفاتها ، وبداياتها ، وخواتيمها ،أبلغ مما ألف القصاص من الأدباء ، هذه التي أعرض بعضها في هذه الذكريات ، وما تخيلت أحداثها تخيلا ، ولكن أخذت ما وقع فصغته بقلمي هذه الصياغة التي ترونها . وإنكم لتحسبون من إحكامها وترابط أجزائها ، أنها منقولة عن أهل الخيال من الأدباء ، وأنا أؤكد لمن لم يصدقني منكم بأنها واقعة .
ومن الوقائع ما هو أغرب من الخيال .
ِكنت ذاهبا إلى بيروت من أكثر من أربعين سنة ( نشرت هذه في 27/ 11/ 1986 م في جريدة الشرق الأوسط ) في سيارة صغيرة ، لصديق لي ، فلما جاوزنا شتورا وبدأنا نتسلق الجبل ، مرت بجنبنا سيارة " شيفروليت " من المقياس الواسع ، جديدة مسرعة ،فمشينا وراءها ، وإذا هي تسابق السيارات ، كلما رأت سيارة أسرعت حتى تسبقها ، فيصيح من فيها ويضحكون ويصفقون ، فلما رأينا ذلك تأخرنا عنها ، ولكننا لبثنا نراها ، حتى إذا وصلت إلى المنعطف الكبير ، حيث يمشي الطريق على شفير الوادي ، يشرف على سهل البقاع ، رأيناها تحاول أن تسبق سيارة صهريج كبيرة من التي تنقل البنزين ، ضخمةكلها من الحديد ، وكانت تريد أن تدور ، فلم تنتظر السيارة الصغيرة دورانها ، بل زاحمتها ومرت من جنبها ، فمال الصهريج عليها ، فصدمها ، فلم نرها إلا وهي ساقطة في الوادي ، تتدحرج كأنها كرة قذفتها قدما غلام ، فدهشنا ووقفنا سيارتنا ووقفت السيارات المارة كلها ، ونزلنا نرى فلم نصل إليها إلا بعد ربع ساعة ، فوجدنا أطفالا ثلاثة وبنتا في نحو التاسعة قد أصابتهم خدوش وجروح ولكنهم أحياء ، ووجدنا فتاة شابةإلى جنب السيارة قد أصابها الإغماء ولكن يبدو أنها سليمة ، أما باقي الركاب فقدصاروا عجينة واحدة ، منظر من أفظع المناظر التي يمكن أن تراها العين ، قد اختلط فيها اللحم والعظم ، منظر لم أر مثله إلا مرة أخرى سنة 1970 م في الطريق الدولي في ألمانيا ، عند ( دوسلدورف ) – إذ تمشي السيارات في المسرى الأيسر من الطريق بسرعة تزيد دائما عن المائة والخمسين كيلا ، فإذا وقفت واحدة منها فجأة ، لم تستطع التي وراءها أن تقف فيكون هذا الصدام الهائل – فأسعفنا الأولاد ولم نمس شيئا حتى تصل النجدة التي ذهبت إحدى السيارات لطلبها من المريجات على طرف الوادي ، وسرعان ما حضر المحقق والطبيب والشرطة ، وجعل الناس ينصرفون يتابعون طريقهم ، ووقفت مع المحقق وكنت يومئذ من رجال القضاء ، فاستمعت أول التحقيق وأمسكت بطرف الخيط . فلما رجعت إلى دمشق ، تتبعت بقية القصة واطلعت على الأوراق ، وجمعت الخيوط كلها ، حتى عرفت القصة كاملة ، فقلت : لا إله إلا الله ، ما أعظم عدالتك يا رب ؟ !
ووجدت قصة فيها عبرة من أعظم العبر ، فكتبتها وتركتها بين أوراقي ، حتى جئت اليوم أقلب هذه الأوراق القديمة فوجدتها ، فقلت : أحدثكم حديثها .
كانت بنتا جميلة ،وكان أبوها واسع النعمة ، مبسوط اليد ، فنشًأها على الدلال ، وعلى أن تتمنى فتنال ،وأن تطلب فتعطى .
فلما بلغت السابعة عشرة خطبت ، فاعتل أبوها بصغرها ، فقال أبو الخاطب : ألا ترضى أن أجعلها مني بمثابة ابنتي ، وأن أسكنها معي في داري ،فتكون أبدا في سمعي وبصري ؟قال : بلى .
وعقد العقد ، ووصاها أبوهاحين زفها إلى زوجها ، أن تكون لحميها – أي لوالد زوجها – بنتا ليكون لها أبا ، وأن تمنحه التوقير والطاعة ، ليخلص لها الرعاية والحب ، وأن تجعل حماتها كأمها ، وأن تثق بها ، ولا تكذب عليها ولا تخالف أمرها .
ولم تكن تحتاج إلى هذه الوصاةلأنه كان لها من طبيعتها ، ومن أسلوب نشأتها ، ما يدفعها إلى الصدق والاستقامة ،ويمنعها من الانحراف والكذب .
وعاشت معهم ، وكانوا أربعة في الدار :
الزوج ، وهو شاب رضي الخلق صادق الحب يريد لها الخير والإسعاد ، ولكنه لايملك مع أبيه في الدكان عطاء ولا منعا ، ولا مع أمه في الدار أمرا ولا نهيا .
وعمة الزوج ، وهي عجوز عانس سعيدة في ظاهرها ، ولكنها شقية في حقيقتها ،فهي لهذا تحسد كل بنت متزوجة سعيدة في زواجها ، وتتمنى زوال نعمتها عنها .
وأم الزوج ، وهي امرأة بخيلة شحيحة العين ، مقبوضة الكف ، ربها الدينار ،ودينها جمع المال ، ودستورها ادخار الدرهم الأبيض لليوم الأسود ، ثم إنها تظن أن الأرض كفت عن الدوران ، وأنه وقف الزمان ، وأن سنة 1920 م بعاداتها وأزيائها يمكن أن تجيء في سنة 1947 م – سنة وقعت هذه الواقعة – فإذا هي لم تجئ معها ، أفرغت غيظهاعلى بنات هذا الجيل الجديد ، وترحمت على جيلها وزمانها .
والرابع أبو الزوج، وهو رجل شديد الأسر ، سليط اللسان ، ولكنه إذا قابل امرأته كلّ لسانه ، ولان ساعده ، ولم يكن له مع رأيها رأي ، ولا مع سلطانها سلطان .
وعملوا بدستورالمرأة وادخروا ، وكثرت في أيديهم الدراهم البيض ، والدنانير الصفر ، والأوراق الملونة المنقوشة ، ودفاتر الصكوك – الشيكات – وأسناد العمارات ، فاحتفظوا بها كلها، خوفا من اليوم الأسود.
ولم يأت اليوم الأسود ولكنهم جعلوا أيامهم كلها من خوفهم سوداء ، كمن كان عنده الطعام الكثير فخاف أن يأكل فينفد فيجوع بعده ، فجوّع نفسه العمر كله ، خوفا من أن يجوع يوما واحدا .
وكانت في بيت أبيها تجدالطعام أمامها ، من الخبز إلى أفخر الحلوى ، ومن الفاكهة إلى النقل والسكاكر ، وكان أبوها إذا وجد منها ومن إخوتها عزوفا عن الطعام ، جعل لهم على الأكل جُعْلا ، أي مكافأة ليرغبهم فيه .
فلما جاءت بيت زوجها وجدت إقلالا من كل شيء ، إن جاؤوا يوما بعلبة حلوى ، حفظوها في الخزانة ، وأقفلوا عليها كأنما هي علبة جوهر ، وإن هم وضعوها بين أيدي الضيوف وضعوا عيونهم عليها ، وقلوهبم معها ، لا يمدون أيديهم إليها، لعل الضيف تقصر يده عنها .
وكانت قطع اللحم في بيت أبيها أكثر من حبات الفاصوليا مثلا ، فوجدت اللحم عندهم أخفى من نجم السها ، فهو لا يرى إلا بالمجهرالكهربي ( الإلكتروني ) .
وكانت الفاكهة توضع في بيت أبيها على المائدة ، فمن شاء أكل ، فوجدت ظهور الفاكهة هنا أندر من ظهور قرص الشمس في بلاد الإنكليز ، وإن هم شروها ؛ فإنما يشترون منها الرخيص الفاسد الذي لا يؤكل .
فتألمت لذلك ولكنها ما تكلمت ، وكانت قليلة الطعام ، شبعانة العين ، فلم تبال .
وكانت مدللة لاتشتغل ؛ لأن في بيت أبيها خادمتين ، فكلفت هنا خدمت الأسرة كلها ، يكومون لها كومةالصحون الوسخة ، ويدخلون ليسمروا وتبقى هي في المطبخ لتغسلها ، لا يسمحون لها من أن تسخن الماء ، خوفا من كلفة التسخين ، فكانت أصابعها تحمر من الماء البارد في الشتاءالقاسي ، فإذا دخلت وجدت المدفأة مطفأة توفيرا للنقود ، وخوفا من اليوم الأسود .
فتشققت يداها ، واسودت أظافرها ، واجتمع عليها من نقص الغذاء وزيادة التعب ،وفقد الاطمئنان والعطف ، فذهبت صحتها وذاب جسمها .
وكان زوجها يحبها ويبتغي الخير لها ، وكان مستقيم السيرة ، متين الدين ، فلم يكن ينظر إلى غيرها ، أو يفكر في سواها ، ولكنه لم يكن يستطيع أن يبدي حبه إياها ، وعطفه عليها لأن هذه العيون الست كانت أبدا مفتحة عليه ناظرة إليه ، مراقبة حركاته وسكناته ، لاسيما عينا عمته العجوز العانس ، الحاسدة الحاقدة ، التي لم تعرف يوما حب الزوج ، وسعادة الزواج ،فهي تريد أن تنتقم لنفسها من المجتمع ، بحرمان هذه الفتاة من الحب والسعادة ، فكانت تلازمها دائما ، لا تفارقها لحظة ، وكانت لها ولزوجها أشد من الرقيب للمحب ،والعزول للعاشق ، وكانت أكبر من أخيها سنا ، وكانت كالمربية للزوج في صغره ، فاتخذت لنفسها حق النصح له في كبره فكانت تنخر أبدا في قلبه نخر السوس ، إن رأته منح زوجته بسمة ، أو رقق لها كلمة ، ....
يتبع غداً بإذن الله تعالى
قصة كاملة.... لم يؤلفها بشر
كنت أسرد في الذكريات أحداث حياتي ، فقال قوم : هلا نوعت الأساليب وذكرت ما مر بك من وقائع الناس ، ولم تقصر حديثك على نفسك ، فجربت أن أصنع ما قالوا ، فسردت خبر واقعتين ، عندي من أمثالهما الكثير ، فأعجب بهما جل القارئين ، وقال ناس : إنها ممتعة ، ولكنها ليست ذكريات .
قلت : ولِمَ لا تكون من الذكريات ؟ وهل الذكريات إلا ما وقع لي أنا ، وما رأيت وما سمعت به أو قرأته ، ولقد قرأت في هذه السنين التي عشتها من القصص الأدبية ، وقصص المغامرات وما يسمونه : ( القصص البوليسية ) ما لا يحصيه عد ، وعملت فترة من عمري – نحو سنة 1930 م – في الصحافةناقدا مسرحيا ، أشهد الرواية ، أو أرى الفلم في السينما ، فألخصه وأنقده ، وعندي بقية مما كتبت في ذلك منشورة تملأ كتابا صغيرا .
ولكني لن أعرض في الذكريات لشيء منه بل ألخص وقائع أغرب من القصص ، ما ألفها أديب قصصي ، ولا عمل فيها خيال روائي ، بل ألفتها الحياة ، فجاءت بأحداثها ومصادفاتها ، وبداياتها ، وخواتيمها ،أبلغ مما ألف القصاص من الأدباء ، هذه التي أعرض بعضها في هذه الذكريات ، وما تخيلت أحداثها تخيلا ، ولكن أخذت ما وقع فصغته بقلمي هذه الصياغة التي ترونها . وإنكم لتحسبون من إحكامها وترابط أجزائها ، أنها منقولة عن أهل الخيال من الأدباء ، وأنا أؤكد لمن لم يصدقني منكم بأنها واقعة .
ومن الوقائع ما هو أغرب من الخيال .
ِكنت ذاهبا إلى بيروت من أكثر من أربعين سنة ( نشرت هذه في 27/ 11/ 1986 م في جريدة الشرق الأوسط ) في سيارة صغيرة ، لصديق لي ، فلما جاوزنا شتورا وبدأنا نتسلق الجبل ، مرت بجنبنا سيارة " شيفروليت " من المقياس الواسع ، جديدة مسرعة ،فمشينا وراءها ، وإذا هي تسابق السيارات ، كلما رأت سيارة أسرعت حتى تسبقها ، فيصيح من فيها ويضحكون ويصفقون ، فلما رأينا ذلك تأخرنا عنها ، ولكننا لبثنا نراها ، حتى إذا وصلت إلى المنعطف الكبير ، حيث يمشي الطريق على شفير الوادي ، يشرف على سهل البقاع ، رأيناها تحاول أن تسبق سيارة صهريج كبيرة من التي تنقل البنزين ، ضخمةكلها من الحديد ، وكانت تريد أن تدور ، فلم تنتظر السيارة الصغيرة دورانها ، بل زاحمتها ومرت من جنبها ، فمال الصهريج عليها ، فصدمها ، فلم نرها إلا وهي ساقطة في الوادي ، تتدحرج كأنها كرة قذفتها قدما غلام ، فدهشنا ووقفنا سيارتنا ووقفت السيارات المارة كلها ، ونزلنا نرى فلم نصل إليها إلا بعد ربع ساعة ، فوجدنا أطفالا ثلاثة وبنتا في نحو التاسعة قد أصابتهم خدوش وجروح ولكنهم أحياء ، ووجدنا فتاة شابةإلى جنب السيارة قد أصابها الإغماء ولكن يبدو أنها سليمة ، أما باقي الركاب فقدصاروا عجينة واحدة ، منظر من أفظع المناظر التي يمكن أن تراها العين ، قد اختلط فيها اللحم والعظم ، منظر لم أر مثله إلا مرة أخرى سنة 1970 م في الطريق الدولي في ألمانيا ، عند ( دوسلدورف ) – إذ تمشي السيارات في المسرى الأيسر من الطريق بسرعة تزيد دائما عن المائة والخمسين كيلا ، فإذا وقفت واحدة منها فجأة ، لم تستطع التي وراءها أن تقف فيكون هذا الصدام الهائل – فأسعفنا الأولاد ولم نمس شيئا حتى تصل النجدة التي ذهبت إحدى السيارات لطلبها من المريجات على طرف الوادي ، وسرعان ما حضر المحقق والطبيب والشرطة ، وجعل الناس ينصرفون يتابعون طريقهم ، ووقفت مع المحقق وكنت يومئذ من رجال القضاء ، فاستمعت أول التحقيق وأمسكت بطرف الخيط . فلما رجعت إلى دمشق ، تتبعت بقية القصة واطلعت على الأوراق ، وجمعت الخيوط كلها ، حتى عرفت القصة كاملة ، فقلت : لا إله إلا الله ، ما أعظم عدالتك يا رب ؟ !
ووجدت قصة فيها عبرة من أعظم العبر ، فكتبتها وتركتها بين أوراقي ، حتى جئت اليوم أقلب هذه الأوراق القديمة فوجدتها ، فقلت : أحدثكم حديثها .
كانت بنتا جميلة ،وكان أبوها واسع النعمة ، مبسوط اليد ، فنشًأها على الدلال ، وعلى أن تتمنى فتنال ،وأن تطلب فتعطى .
فلما بلغت السابعة عشرة خطبت ، فاعتل أبوها بصغرها ، فقال أبو الخاطب : ألا ترضى أن أجعلها مني بمثابة ابنتي ، وأن أسكنها معي في داري ،فتكون أبدا في سمعي وبصري ؟قال : بلى .
وعقد العقد ، ووصاها أبوهاحين زفها إلى زوجها ، أن تكون لحميها – أي لوالد زوجها – بنتا ليكون لها أبا ، وأن تمنحه التوقير والطاعة ، ليخلص لها الرعاية والحب ، وأن تجعل حماتها كأمها ، وأن تثق بها ، ولا تكذب عليها ولا تخالف أمرها .
ولم تكن تحتاج إلى هذه الوصاةلأنه كان لها من طبيعتها ، ومن أسلوب نشأتها ، ما يدفعها إلى الصدق والاستقامة ،ويمنعها من الانحراف والكذب .
وعاشت معهم ، وكانوا أربعة في الدار :
الزوج ، وهو شاب رضي الخلق صادق الحب يريد لها الخير والإسعاد ، ولكنه لايملك مع أبيه في الدكان عطاء ولا منعا ، ولا مع أمه في الدار أمرا ولا نهيا .
وعمة الزوج ، وهي عجوز عانس سعيدة في ظاهرها ، ولكنها شقية في حقيقتها ،فهي لهذا تحسد كل بنت متزوجة سعيدة في زواجها ، وتتمنى زوال نعمتها عنها .
وأم الزوج ، وهي امرأة بخيلة شحيحة العين ، مقبوضة الكف ، ربها الدينار ،ودينها جمع المال ، ودستورها ادخار الدرهم الأبيض لليوم الأسود ، ثم إنها تظن أن الأرض كفت عن الدوران ، وأنه وقف الزمان ، وأن سنة 1920 م بعاداتها وأزيائها يمكن أن تجيء في سنة 1947 م – سنة وقعت هذه الواقعة – فإذا هي لم تجئ معها ، أفرغت غيظهاعلى بنات هذا الجيل الجديد ، وترحمت على جيلها وزمانها .
والرابع أبو الزوج، وهو رجل شديد الأسر ، سليط اللسان ، ولكنه إذا قابل امرأته كلّ لسانه ، ولان ساعده ، ولم يكن له مع رأيها رأي ، ولا مع سلطانها سلطان .
وعملوا بدستورالمرأة وادخروا ، وكثرت في أيديهم الدراهم البيض ، والدنانير الصفر ، والأوراق الملونة المنقوشة ، ودفاتر الصكوك – الشيكات – وأسناد العمارات ، فاحتفظوا بها كلها، خوفا من اليوم الأسود.
ولم يأت اليوم الأسود ولكنهم جعلوا أيامهم كلها من خوفهم سوداء ، كمن كان عنده الطعام الكثير فخاف أن يأكل فينفد فيجوع بعده ، فجوّع نفسه العمر كله ، خوفا من أن يجوع يوما واحدا .
وكانت في بيت أبيها تجدالطعام أمامها ، من الخبز إلى أفخر الحلوى ، ومن الفاكهة إلى النقل والسكاكر ، وكان أبوها إذا وجد منها ومن إخوتها عزوفا عن الطعام ، جعل لهم على الأكل جُعْلا ، أي مكافأة ليرغبهم فيه .
فلما جاءت بيت زوجها وجدت إقلالا من كل شيء ، إن جاؤوا يوما بعلبة حلوى ، حفظوها في الخزانة ، وأقفلوا عليها كأنما هي علبة جوهر ، وإن هم وضعوها بين أيدي الضيوف وضعوا عيونهم عليها ، وقلوهبم معها ، لا يمدون أيديهم إليها، لعل الضيف تقصر يده عنها .
وكانت قطع اللحم في بيت أبيها أكثر من حبات الفاصوليا مثلا ، فوجدت اللحم عندهم أخفى من نجم السها ، فهو لا يرى إلا بالمجهرالكهربي ( الإلكتروني ) .
وكانت الفاكهة توضع في بيت أبيها على المائدة ، فمن شاء أكل ، فوجدت ظهور الفاكهة هنا أندر من ظهور قرص الشمس في بلاد الإنكليز ، وإن هم شروها ؛ فإنما يشترون منها الرخيص الفاسد الذي لا يؤكل .
فتألمت لذلك ولكنها ما تكلمت ، وكانت قليلة الطعام ، شبعانة العين ، فلم تبال .
وكانت مدللة لاتشتغل ؛ لأن في بيت أبيها خادمتين ، فكلفت هنا خدمت الأسرة كلها ، يكومون لها كومةالصحون الوسخة ، ويدخلون ليسمروا وتبقى هي في المطبخ لتغسلها ، لا يسمحون لها من أن تسخن الماء ، خوفا من كلفة التسخين ، فكانت أصابعها تحمر من الماء البارد في الشتاءالقاسي ، فإذا دخلت وجدت المدفأة مطفأة توفيرا للنقود ، وخوفا من اليوم الأسود .
فتشققت يداها ، واسودت أظافرها ، واجتمع عليها من نقص الغذاء وزيادة التعب ،وفقد الاطمئنان والعطف ، فذهبت صحتها وذاب جسمها .
وكان زوجها يحبها ويبتغي الخير لها ، وكان مستقيم السيرة ، متين الدين ، فلم يكن ينظر إلى غيرها ، أو يفكر في سواها ، ولكنه لم يكن يستطيع أن يبدي حبه إياها ، وعطفه عليها لأن هذه العيون الست كانت أبدا مفتحة عليه ناظرة إليه ، مراقبة حركاته وسكناته ، لاسيما عينا عمته العجوز العانس ، الحاسدة الحاقدة ، التي لم تعرف يوما حب الزوج ، وسعادة الزواج ،فهي تريد أن تنتقم لنفسها من المجتمع ، بحرمان هذه الفتاة من الحب والسعادة ، فكانت تلازمها دائما ، لا تفارقها لحظة ، وكانت لها ولزوجها أشد من الرقيب للمحب ،والعزول للعاشق ، وكانت أكبر من أخيها سنا ، وكانت كالمربية للزوج في صغره ، فاتخذت لنفسها حق النصح له في كبره فكانت تنخر أبدا في قلبه نخر السوس ، إن رأته منح زوجته بسمة ، أو رقق لها كلمة ، ....
يتبع غداً بإذن الله تعالى