موسى بن ربيع البلوي
03-24-2008, 10:38 PM
ثلاثون وقفة في فن الدعوة
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله ، نحمده ونستغفره ، ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد
أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد :
فإن الدعوة فن يجيده الدعاة الصادقون ، كفن البناء للبناة المهرة ، وفن الصناعة للصناعة الحذاق ، وكان لزاما على الدعاة أن يحملوا هموم الدعوة ، ويجيدوا إيصالها للناس ، لأنهم ورثة محمد صلى الله عليه وسلم .
ولابد للدعاة أن يدرسوا الدعوة ، لوازمها ، ونتائجها ، وأساليبها ، وما يجد في الدعوة ، وكان لزاما عليهم أن يتقوا الله في الميثاق الذي حملوه من معلم الخير صلى الله عليه وسلم النبي صلي الله عليه وسلم فإنهم ورثة الأنبياء والرسل ، وهم أهل الأمانة الملقاة على عواتقهم فإذا علم ذلك فإن أي خطأ يرتكبه الداعية فإن ذلك سيؤثر في الأمة ، وسيكون الدعاة هم المسئولون بالدرجة الأولى عما يحدث من خطأ أو يرتكب من فشل ؛
بسبب أنهم هم رواد السفينة التي إذا قادوها إلى بر الأمان نجت بإذن الله .
لذا فإن على الدعاة آدابا لابد أن يتحلوا بها حتى يكونوا رسل هداية ، ومشاعل حق وخير ، يؤدون الرسالة كما أرادها الله .
1ـ الإخلاص في الدعوة :
إن الإخلاص في العمل هو أساس النجاح فيه ، لذا فإن على الدعاة الإخلاص في دعوتهم ، وأن يقصدوا ربهم في عملهم ، وألا يتطلعوا إلى مكاسب دنيوية
زائلة إلى حطام فان ، ولسان الواحد منهم يقول : ( مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ)(الفرقان: 57) . (قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ)(سـبأ:47).فلا يطلب الداعي منصبا ، ولا مكانا ، ولا منزلة ، ولا شهرة ، بل يريد بعمله وجه الواحد الأحد .
2ـ تحديد الهدف :
يجب أن يكون هدف الداعية واضحا أمامه ، وهو إقامة الدين وهيمنة الصلاح ، وإنهاء أو تقليص الفساد في العالم ( أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)(هود: 88) .
3ـ التحلي بصفات المجاهدين :
الداعية كالمجاهد في سبيل الله ، فكما أن ذاك على ثغر من الثغور ، فهذا على ثغر من الثغور ، وكما أن المجاهد يقاتل في سبيل أعداء الله ، فهذا يقاتل أعداء الله من الذين يريدون تسيير الشهوات والشبهات ، ، وإغواء الجيل ، وانحطاط الأمة ، وإيقاعها في حماة الرذيلة . ( وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً)(النساء: 27) .
فيجب على الداعية التحلي بما يتحلى به المجاهد .
4ـ طلب العلم النافع :
يلزم الداعية أن يطلب العلم النافع الموروث عن معلم الخير صلى الله عليه وسلم ، ليدعو على بصيرة ؛ فإن الله قال في محكم تنزيله : (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف:108).
قال مجاهد (( البصيرة : أي العلم )) ، وقال غيره : (( البصيرة : أي الحكمة )) .. وقال آخر : (( البصيرة :التوحيد )) .
والحقيقة أن المعاني الثلاثة متداخلة ، ولابد للداعي أن يكون موحد للواحد الأحد ، لا يخاف إلا من الله ، ولا يرجو إلا الله ، ولا يرهب إلا الله ، ولا يكون أحد أشد حبا له من الله ـ عز وجل .
ولابد أن يكون ذا علم نافع ، وهو علم قال الله وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ليدعو الناس على بصيرة ، فيحفظ كتاب الله أو ما تيسير من كتاب الله ـ عز وجل ـ ويعنى بالأحاديث عناية فائقة فيخرجها ، ويصح المصحح منها ، ويضعف الضعيف حتى يثق الناس بعلمه النبي صلي الله عليه وسلم ويعلم الناس أن يحترم أفكارهم ، وأن يحترم حضورهم ، فيجب أن الجمهور بأن يحضر لهم علما نافعا ، جديد بناء ، مرسوما على منهج أهل السنة والجماعة .
5- ألا يعيش المثاليات:
ومما ينبغي علي الداعية ألا يعيش المثاليات، وأن يعلم أنه مقصر، وان الناس مقصرون، قال سبحانه وتعالي:(( وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ و)(النور: الآية21) . فهو الكامل سبحانه وتعالى وحده، والنقص لنا، ذهب الله بالكمال، وأبقي كل نقص لذلك الإنسان، فما دام أن الإنسان خلق من نقص فعلي الداعية أن يتعامل معه علي هذا الاعتبار سواء كانوا رجالاً أو شباباً أو نساء، قال سبحانه وتعالي: ( إِنَّ
رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ)(لنجم: الآية32).
فما دام الله قد أنشأكم من الأرض ، من الطين، من التراب، فأنتم ناقصون لا محالة، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يتعامل مع الناس علي أنهم ناقصون، وعلي أنهم مقصرون، يري المقصر منهم فيعينه ويساعده ويشجعه، ويأخذ بيده إلي الطريق.
والداعية الذي يعيش المثاليات لا يصلح للناس، فإنه يتصور في الخيال أن الناس ملائكة، الخلاف بينهم وبين الملائكة الأكل والشرب!!وهذا خطأ ، خاصة في مثل القرن الخامس عشر الذي لا يوجد فيه محمد صلي الله عليه وسلم ولا الصحابة الأخيار ، وقل أهل العلم، وكثرت الشبهات، وانحدرت علينا البدع من كل مكان ، وأغرقنا بالشبهات، ،وحاربتنا وسائل مدروسة، درست في مجالس عالمية وراءها الصهيونية العالمية وأذنابها!!
فحق علي العالم، وحق علي الداعية أن يتعامل مع هذا الجيل ويتوقع منه الخطأ، ويعلم أن الإنسان سوف يحيد عن الطريق؛ فلا يعيش المثاليات .
6- عدم اليأس من رحمة الله:
يجب علي الداعية ألا يغضب إن طرح عليه شباب مشكلة، وأنه وقع في معصية، فقد أتي الرسول صلي الله عليه وسلم برجل شرب الخمر وهو من الصحابة أكثر من خمسين مرة!! ثبت هذا في الصحيح، فلما أتي به ليقام عليه الحد، قال بعض الصحابة: أخزه الله، ما أكثر ما يؤتي به! فغضب عليه الصلاة والسلام، وقال للرجل: (( لا تقل ذلك لا تعن الشيطان عليه، والذي نفسي بيده، ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله)).
فما أحسن الحكمة، وما أعظم التوجيه!!
لذلك نقول دائماً: لا تيأس من الناس مهما بدرت منهم المعاصي والمخالفات والأخطاء، واعتبر أنهم أمل هذه الأمة، وأنهم في يوم من الأيام سوف تفتح لهم أبواب التوبة، وسوف تراهم صادقين مخلصين، تائبين متوضئين.
وينبغي علي الداعية ألا ييأس من استجابة الناس، بل عليه أن يصبر ويثابر، ويسأل الله لهم الهداية في السجود، ولا يستعجل عليهم، فإن رسولنا صلي الله عليه وسلم مكث في مكة ثلاثة عشرة سنة يدعو إلي (( لا إله إلا الله))، فلم ييأس مع كثرة الإيذاء!! ومع كثرة السب!! ومع كثرة الشتم!! واعلم أن ما يتعرض له من صعوبات لا يقارن بما تعرض له النبي صلي الله عليه وسلم ، مع ذلك صبر وتحمل كل ذلك ولم يغضب، حتى أتاه ملك الجبال! فقال له: يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثتي ربك إليك لتأمرني بأمرك، فما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين؟ فقال له رسول صلي
الله عليه وسلم : ((بل أرجو أن يخرج الله من اصلابهم من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئاً)).
فأخرج الله من أصلاب الكفرة القادة ، فمن صلب الوليد بن المغيرة: خالد بن الوليد، ومن صلب أبي جهل: عكرمة بن أبي جهل.
فما احسن الطريقة، وما أحسن ألا ييأس الداعية؛ وأن يعلم أن العاصي قد يتحول بعد عصيانه إلي إمام مسجد! أو إلي خطيب ! أو إلي عالم!
وعلي الداعية ألا ييأس من المدعوين بسبب معاصيهم وإنما عليه أن يعايش الجميع، الكبير والصغير، الصالح والطالح، المطيع والعاصي ، ولتعلم أن هذا العاصي قد يكون في يوم الأيام من رجال الدعوة ، وقد يكون من أولياء الله ، فلا تيأس، وعليك أن تتدرج معه، وأن تأخذ بيده رويداً رويداً، وألا تجابهه، وألا تقاطعه.
7- عدم الهجوم علي الأشخاص بأسمائهم:
من مواصفات الداعية ألا يهاجم الأشخاص بأسمائهم، فلا ينبذهم علي المنابر بأسمائهم أمام الناس، بل يفعل كما فعل الرسول صلي الله عليه وسلم ويقول : (( ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا)). فيعرف صاحب الخطأ خطأه ولكن لا يشهر به.
أما إن كان هناك رجل جاهر الله بكتاباته أو بانحرافه أو بأدبه أو ببدعته، أو بدعوته إلي المجون ن فهذا لا باس أن يشهر به عند أهل العلم، حتى يبين خطره، فقد شهر أهل العلم بالجهم بن صفوان، وقال ابن المبارك في الجهم: هذا المجرم الذي قاد الأمة إلي الهاوي، وابتدع بدعة في الدين قال: عجبت لدجال دعا الناس إلي النار. واشتق اسمه من جهنم، وشهروا كذلك بالجعد بن درهم، وكتبوا أسماءهم في كتب الحديث، وحذروا الناس منهم في المجالس العامة والخاصة، فمثل هؤلاء يشهر بهم، أما الذين يتكتم علي أسمائهم فهم أناس أرادوا الخير فأخطأوا ، وأناس زلت بهم أقدامهم، وأناس أساءوا في مرحلة من المراحل، فهؤلاء لا تحاول
أن تظهر أسماءهم في قائمة سوداء فقد يغريهم هذا إلي التمادي في الخطأ، وقد تأخذهم العزة بالإثم!
8- الداعية لا يزكي نفسه عند الناس:
علي الداعية ألا يزكي نفسه عند الناس، بل يعرف أنه مقصر مهما فعل ، ويحمد ربه سبحانه وتعالي أن جعله متحدثاً إلي الناس ، مبلغاً عن رسوله صلي الله عليه وسلم ، فيشكر الله علي هذه النعمة، فإن الله قال لرسوله صلي الله عليه وسلم : ( وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ )(النور:الآية21). وقال له في آخر المطاف بعد أن أدى الرسالة كاملة: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً) (النصر:1-3)).
*قال أهل العلم: أمره أن يستغفر الله.
فلا يأتي الداعية فيزكي نفسه، ويقول : أنا آمركم دائماً وتعصونني! وأنهاكم ولا تمتثلوا نهيي! وأنا دائماً ألاحظ عليكم.. وأنا دائماً أري، وأنا دائماً أقول، أو أنا دائماً أحدث نفسي إلي متى تعصي هذه الأمة ربها ؟! فيخرج نفسه من اللوم والعقاب ، وكأنه برئ!! فهذا خطأ. بل يجعل الذنب واحداً ، والتقصير واحداً ، فيقول لهم: وقعنا كلنا في هذه المسألة، وأخطانا كلنا، والواجب علينا كلنا ، حتى لا يخرج نفسه من اللوم والعتاب ، فما نحن إلا أسرة واحدة، فربما يكون من الجالسين من هو أزكي من الداعية، ون هو أحب إلي الله، وأقرب إليه منه.
9- عدم الإحباط من كثرة الفساد والمفسدين:
فينبغي ألا يصاب الداعية بالإحباط، وألا يصاب بخيبة أمل، وهو يري الألوف تتجه إلي اللهو ، وإلي اللغو، والقلة القليلة تتجه غلي الدروس والمحاضرات، فهذه سنة الله في خلقه . فنحن لا نملك سوطاً ولا عصي، ولا عذاباً ولا حبساً، إنما نملك حباً ودعوة وبسمة نقود الناس بها الي جنة عرضها السموات والأرض ، فإن استجابوا حمدنا الله، وإن لم يستجيبوا ورفضوا أوكلنا أمرهم لله الذي يحاسبهم ـ سبحانه وتعالي.
قال بعض العلماء: (( الكفار في الأرض اكثر من المسلمين ، وأهل البدعة أكثر من أهل السنة، والمخلصون من أهل السنة اقل من غير المخلصين)).
ومن صفات الداعية أيضاً أنه يعيش واقع الناس ويقرأ حياتهم ويتعرف علي أخبارهم، وقال ـ سبحانه وتعالي ـ لرسوله صلي الله عليه وسلم : ( وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) (الأنعام:55) .
فحق علي الداعية أن يقرأ واقعه، ويستفيد من مجتمعه، وأن يعرف ماذا يدور في البلد؟ وماذا يقال؟ وما هي القضايا المطروحة؟ ويتعرف حتى علي الباعة، وعلى أصناف التجار، وعلي الفلاحين، وعلي طبقات الناس، وأن يلوح بطرفه في الأماكن ، وفي مجامع الناس، وفي الأسواق ، وفي المحلات، وفي الجامعات، وفي الأندية، حتى يكون صاحب خلفية قوية، يتكلم عن واقع يعرفه.
لذا جعل أهل العلم من لوازم الداعية إذا أتي إلي بلد أن يقرأ تاريخ هذا البلد، وكان بعض العلماء إذا سافروا إلي الخارج يأخذون مذكرات عن البلد، وعن تاريخه، وعن جغرافيته، وعن متنزهاته، ويتعرفون علي طبيعة أهله، وكيف يعيشون وماذا يحبون، وماذا يكرهون؟! ويتعرفون علي كيفية التربية في هذا البلد. حتى يتكلموا عن بصيرة.
10- عدم المزايدة علي كتاب الله:
فإن بعض الوعاظ والدعاة يحملهم الإشفاق والغيرة علي الدين علي أن يزيدوا عليه ما ليس فيه، فتجدهم إذا تكلموا عن معصية جعلوا عقابها أكثر مما جعله الله ـ عزوجل ـ حتى إن من يريد أن ينهي عن الدخان وعن شربه يقول مثلاً : (( يا عباد الله، إن من شرب الدخان حرم الله عليه الجنة، وكان جزاؤه جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً))!!
هذا خطأ، لأن هناك موازين في الشريعة.. هناك شرك يخرج عن الملة. وهناك كبائر، وهناك صغائر، وهناك مباحات. قد جعل الله لكل شئ قدراً.
فعلي الداعي ألا يهول علي الناس في جانب العقاب، كما عليه ألا يهول عليهم في جانب الحسنات كأن يستشهد بالحديث ـ وهو ضعيف ـ الذي يقول: (( صلاة بسواك أفضل من سبعين صلاة بلا سواك)). وحديث ـ وهو باطل ـ : (( من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله بني الله له سبعين قصراً في الجنة، في كل قصر سبعون حورية ، علي كل حورية سبعون وصيفاً، ويبقي سبعين من صلاة العصر إلي صلاة المغرب…))!
فالتهويل ليس بصحيح، بل يكون الإنسان متوازناً في عباراته، يعرف أنه يوقع عن رب العالمين، وينقل عن معلم الخير صلي الله عليه وسلم.
11- عدم الاستدلال بالأحاديث الموضوعة:
علي الداعية ألا يستدل بحديث موضوع إلا علي سبيل البيان، ويعلم أن السنة ممحصة ومنقاة، وأنها معروضة ولذلك لما أوتي بالمصلوب ـ هذا المجرم الذي وضع أربعة آلاف حديث علي محمد صلي الله عليه وسلم كذباً وزوراً ـ إلي هارون الرشيد ليقتله، فسل هارون الرشيد السيف، قال هذا المجرم اقتلني أو لا تقتلني، والله لقد وضعت علي أمة محمد أربعة آلاف حديث!!
فقال هارون الرشيد :(( ما عليك يا عدو الله يتصدى لها الجهابذة يزيفونها، ويخرجونها كابن المبارك، وأبي إسحاق المزوري)) فما مر ثلاثة أيام إلا نقاها عبد الله بن المبارك وأخرجها، وبين أنها موضوعة جميعا.
فالأحاديث الموضوعة ـ ولله الحمد ـ مبينة ، ونحذر الدعاة من أن يذكروا للناس حديثاً موضوعاً .
12- عدم القدح في الهيئات والمؤسسات والجمعيات والجماعات باسمائها:
وما يجب علي الداعية إلا يقدح في الهيئات ولا المؤسسات بذكر أسمائها، وكذلك الجمعيات والجماعات وغيرها.. لكن عليه أن يبين المنهج الحق، ويبينالباطل، فيعرف صاحب الحق أنه محق، ويعرف صاحب الباطل أنه مخطئ، لأنه إذا تعرض للشعوب جملة، أو للقبائل بأسمائهم أو للجمعيات، أو للمؤسسات، أو للشركات، أتي الآلاف من هؤلاء فنفروا منه، وما استجابوا له.. وتركوا دعوته، وهذا خطأ.
وفي الأدب المفرد مما يروي عنه صلي الله عليه وسلم : (( أن من أفري الفرى أن يهجو الشاعر القبيلة بأسرها))، وهذا خطأ ، فإن من يقول قبيلة كذا كلهم فسدة وفسقه مخطئ! لأنه ما صدق في ذلك فالتعميم عرضة للخطأ.
ولابد أن يكون الداعي لبقاً في اختيار عباراته حتى يكسب القلوب، ولا يثير عليه الشعب، فإن الناس يغضبون لقبائلهم، ويغضبون لشعوبهم، ويغضبون لشركاتهم، ويغضبون لمؤسساتهم، ويغضبون لجمعياتهم.. فليتنبه لهذا، وعليه ألا يظهر بهالة المستعلي علي جمهوره، وعلي أصحابه وعلي أحبابه ، وعلي إخوانه، وعلى المدعوين، كأن يقول ـ مثلاً ـ : أنا قلت ، وفعلت، وكتبت، وراسلت، وغضبت، وألفت! فإن (( أنا)) من الكلمات التي استخدمها إبليس.
*فواجب علي الداعية أن يظهر دائماً بالتواضع، وأن يلتمس الستر من إخوانه، وأن يبادلهم الشعور، وأن يطلب منهم المشور والاقتراح، وأن يعلم أن فيهم من هو أعلم منه، وأفصح منه، وأصلح منه.
13- أن يجعل الداعية لكل شيء قدراً:
لا ينبغي للداعية أن يعطي المسألة أكبر من حجمها ، فالدين مؤسس، والدين مفروغ منه: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً )(المائدة: الآية3) .
فلا يعطي الداعية المسائل أكبر من حجمها، وكذلك لا يصغر المسائل الكبرى أو يهونها عند الناس .
فإن التربية الموجهة أن تصف له المسالة السهلة فتكبرها عنده، وتصغر له المسالة الكبرى.
14- اللين في الخطاب والشفقة في النصح:
علي الداعية أن يكون ليناً في الخطاب، فقد كان الرسول صلي الله عليه وسلم لين الكلام بشوش الوجه، وكان صلي الله عليه وسلم متواضعاً محبباً إلي الكبير والصغير، يقف مع العجوز ويقضي غرضهن ويأخذ الطفل ويحمله، ويذهب إلي المريض ويعوده، ويقف مع الفقير، ويتحمل جفاء الإعرابي، ويرحب بالضيف، وكان إذا صافح شخصاً لا يخلع يده من يده حتى يكون الذي يصافحه هو الذي يخلع، وكان إذا وقف مع شخص لا يعطيه ظهره حتى ينتهي من حديثه، وكان دائم البسمة
في وجوه أصحابه صلي الله عليه وسلم لا يقابل أحد بسوء ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِك)(آل عمران: الآية159) فإذا فعل الإنسان ذلك كان أحب إلي الناس ممن يعطيهم الذهب والفضة!
ويرسل الله موسى وهارون عليهما السلام إلي فرعون أطغي الطواغيت، ويأمرهما باللين معه فيقول: ( فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) (طـه:44) .
فالقول اللين سحر حلال، قيل لبعض أهل العلم: ما هو السحر الحلال؟ قال: (( تبسمك في وجوه الرجال)). وقال أحدهم يصف الدعاة الأخيار منأمة محمد صلي الله عليه وسلم : (( حنينون، لينون، أيسار بني يسر، تقول لقيت سيدهم مثل النجوم التي يسري بها الساري)).
فأدعو الدعاة إلي لين الخطاب، وألا يظهروا للناس التزمت ولا الغضب ، ولا الفظاظة في الأقوال والأفعال ، ولا يأخذوا الناس أخذ الجبابرة، فإنهم حكماء معلمون أتوا رحمة للناس .
فالرسول صلي الله عليه وسلم رحمة، واتباعه رحمة، وتلاميذه رحمة، والدعاة إلي منهج الله رحمة، وعلي الداعية كذلك أن يثني علي أهل الخير، وأن يشاور إخوانه فلا يستبد برأيه.
15- حسن التعامل مع الناس وحفظ قدرهم:
فعلي الداعية أن يثني علي أهل الخير، ويشكر من قدم له معروفاً ، فإن الداعية إذا أثني علي أهل الخير عرفوا أنه يعرف قدرهم، وأنه يعرف الجميل، أما أن تترك صاحب الجميل بلا شكر والمخطئ بلا إدانة وبلا تنبيه، فكأنك ما فعلت شيئاً!
لابد أن تقول للمحسن أحسنت، وللمسيء أسأت لكن بأدب ، فكبار السن يحبون منك أن تحتفل بهم، وأن تعرف أن لهم حق سن الشيخوخة، وأنهم سبقوك في الطاعة، وأنهم اسلموا قبلك بسنوات، فتعرف لهم قدرهم.
وكذلك العلماء والقضاة ، وأعيان الناس، وشيوخ القبائل.. ونحو ذلك من أهل العلم والفضل، وأهل المواهب كالشعراء الإسلاميين، والكتاب الإسلاميين، ومن لهم بلاء حسن ، والتجار الذين ينفقون في سبيل الله.. فتظهر لهم المنزلة وتشكرهم علي ما قدموا حتى تحيي في قلوبهم هذا الفعل الخير .
16- أن يعلن الدعوة للمصلحة ، ويسر بها للمصلحة:
فعلي الداعية أن يعلن الدعوة للمصلحة، يعلن بها حيث يكون الإعلان طيباً كالمحاضرة العامة، والموعظة العامة في قرية أو بلدة أو في مدينة، ولكنه إذا أتي ينصح شخصاً بعينه فعليه أن يسر الدعوة، فيأخذه علي حده، ويتلطف له في العبارة ، وينصحه بينه وبينه
17- الإلمام بالقضايا المعاصرة والثقافة الواردة:
علي الداعية أن يكون ملماً ومطلعاً علي الأطروحات المعاصرة والقضايا الحالية، ويتعرف علي الأفكار الواردة، فيقرأ الكتابات الواردة، وليس بصحيح ما قاله بعض الناس حتى من الفضلاء بعدم قراءة كتب الثقافات الواردة! فإن هذا ليس بصحيح ، فلو لم نقرأ هذه الكتب ونطلع علي هذه الثقافات ما عرفنا كيف نعيش؟ وأين نعيش ؟ ولما عرفنا كيف نتعامل مع هؤلاء الناس؟!
بل أري أن علي الدعاة أن يقرءوا الصحف والمجلات، لكن بحيطة وحذر، حتى لا يصل قليلو الثقافة إلي بعض المجلات الخليعة فتفسد عليهم قلوبهم، لكن إن أرادوا أن يطلعوا فليطلعوا بانفراد وتأمل، ليعرفوا أهدافهم ويعالجوا ذلك.
عرفت الشر لا للشــر لكــن لتلافيــه
ومن لا يعرف الشر جدير أن يقع فيه
فحق علي الدعاة أن يطلعوا علي هذه الثقافات ـ ما قلت ـ ومن يجد كتاباً فيه شبهة أو فيه نظر فليعرضه علي من هم أعلي منه حتى يكون علي بصيرة ، ونخرج بحل إما بتنبيه أو بنصيحة عامة.
18- مخاطبة الناس علي قدر عقولهم:
علي الداعية أن يكون حاذقاً ، يخاطب الناس علي قدر عقولهم، فإذا أتي إلي المجتمع القروي تحدث بما يهم أهل القرية من مسائلهم التي يعيشونها ، وإذا أتى إلي طلبة العلم في الجامعة حدثهم علي قدر عقولهم من الثقافة والوعي. وإذا أتي إلي مستوي تعليمي أدني تنزل إليهم في مسائلهم وتباطأ، فإن لكل مسائل.
فمسائل البادية ـ مثلا ـ الشرك أو السحر أو الكهانة أو الإخلال بالصلاة أو نحو ذلك.
ومسائل أهل الجامعة ـ مثلاً ـ : الأفكار الواردة من علمنة وإلحاد وحداثة، وشبهات وشهوات.
ومن مسائل المستوي الأدنى من ذلك : الجليس، بر الوالدين، حقوق الكبار، حفظ القرآن ، .. ونحو ذلك.
فلابد من مخاطبة الناس علي قدر عقولهم ، وعلي قدر مواهبهم، وعلي قدر استعدادهم، انظر إلي المصطفي صلي الله عليه وسلم يخاطب معاذ بن جبل بحطاب لا يخاطب به غيره من الإعراب ، فيخاطبه عن العلم، وعن اثر العلم، وعن حفظ الله، وعن حدود الله، ويخاطب الأعراب عن توحيد وأنه يقودهم إلي جنة عرضها السموات والأرض .. ونحو ذلك.
19- ألا يسقط عيوبه علي الآخرين:
مما ينبغي علي الداعية أن يحذر منه ألا ينتقد الآخرين ليرفع من قدر نفسه.(( وهو أسلوب الإسقاط)) كما يسمى هذا في التربية.. أن تسقط غيرك لتظهر أنت، ويفعله بعض الناس من أهل الظهور وحب الشهرة ـ والعياذ بالله من ذلك ـ وأهل الرياء والسمعة.
20- أن يتمثل القدوة في نفسه:
علي الداعية أن يتمثل القدوة في نفسه، وأن يسدد ويقارب، وأن يعلم أن خطاه، يتضخم! فالخطأ منه كبير! وأن الناس ينظرون إليه.
فإنه اصبح أمامهم كالمرآة كلما وقعت فيها نقطة سوداء صغيرة كبرت وتضخمت، فليتق الله في هذه الأمة حتى لا يكون سبباً لهلاك كثير من الناس، فإنا رأينا كثيراً من العامة وقعوا في كثير من الخطايا بسبب فتاوى، أو بسبب تصرفات اجتهادية من بعض الفضلاء ربما أوجروا عليها.. أخطئوا خطأ واحداً ، ولكن بسببهم عالم!!
قال بعض الفضلاء: زلة العالم زلة عالم!
21- التآلف مع الناس:
ينبغي للداعية أن يتآلف مع الناس بالنفع، فيقدم لهم نفعاً، فليست مهمة الداعية فقط أن يلاحقهم بالكلام! أو يلقي عليهم الخطب والمواعظ! لكن يفعل كما فعل رسولنا صلي الله عليه وسلم ، يتآلفهم مرة بالهدية، ومرة بالزيارة ، ولا بأس بالدعوة، فإن رسول الله صلي الله عليه وسلم دعا الناس وآلفهم وأعطاهم وأهدي لهم، بل كان يعطي الواحد منهم مائة ناقة، وكان يأخذ الثياب الجديدة، وكان يعانق الإنسان ويجلسه مكانه، فهذا من التآلف.
وليس هناك صعوبة لتأليف كثير من الناس، وردهم إلي الله ـ عز وجل ـ مثل تأليف كثير من الشباب العصاة.. إذا رأيت شاباً عاصياً وعلمته، أو وجدت شاباً لا يستطيع الزواج ودفعت له المهر أو شيئاً من المهر، وقلت له أن يصحبك لصلاة الجماعة، وأن يعود إلي الله وأن يتوب. أن تتآلف إنساناً تراه ـ مثلاً ـ مدمناً للمخدرات بشيء من المال بشرط أن يتركها ويجتنبها وهكذا.
22- أن يكون عند الداعية ولاء وبراء نسبي:
ينبغي علي الداعية أن يكون عنده ولا وبراء نسبي، حب وبغض ، علي حسب طاعة الناس، وعلي حسب معصيتهم، لا تحب حباً مطلقاً لمن فيه طاعة، ولا تبغض بغضاً مطلقاً لمن فيه معصية، لكن تحب الإنسان علي قدر طاعته وحبه لله، وتبغضه علي قدر معصيته ومخالفته لله، فقد يجتمع في الشخص الواحد حب وبغض ، تحبه لأنه يحافظ علي صلاة الجماعة، وتبغضه لأنه يغتاب الناس!
تحب شخصاً آخر لأنه يعفي لحيته ، وتبغضه لأنه يسبل ثوبه، فيجتمع في الشخص الواحد حب وطاعة!
23- أن يكون الداعية اجتماعياً:
علي الداعية أن يشارك الناس أحزانهم، ويحل مشكلاتهم، ويزور مرضاهم،فالانقطاع عن الناس ليس بصحيح، فإن الناس إذا شعروا أنك معهم تشاركهم أحزانهم وأتراحم ، تعيش مشكلاتهم، أحبوك ، ولذلك أقترح علي الدعاة أن يحضروا حفلات الزواج، وقد يعتذر الداعي أحياناً عن عدم حضور حفلات الزواج لما عنده من إرهاق ، فلا يعني ذلك أنه لا يحب المشاركة، لكن يحضر الزواج، فيبارك للعريس ، ويبارك لأهل البيت، ويفرح معهم، ويقدم الخدمات، ويرونه متكلماً في صدر المجلس، يرحب بضيوفهم معهم، فيحبونه كثيراً.
وكذلك إذا سمع بموت ميت، أن يذهب إلي أهله ويواسيهم ويسليهم، ويلقي عليهم الموعظة.
كيف يراك الناس تدعوهم يوم الجمعة، ثم لا يرونك في أفراحهم أو في أحزانهم؟!
وكذلك تساهم في حل مشكلاتهم، فالداعية مصلح، وحينئذٍ يكسب ود الناس، كما فعل النبي صلي الله عليه وسلم فإنه تأخر عن صلاة الظهر مرة كما ورد في البخاري لأنه ذهب إلي بني عمر ابن عوف يحل مشكلاتهم، ويصلح فيما بينهم.
وكان صلي الله عليه وسلم إذا سمع عن مريض، حتى من الإعراب البدو في طرف المدينة، ذهب بأصحابه يزوره!
وهذا من أعظم ما يمكن أن يحبب الداعية في نفوس الناس.
24- مراعاة التدرج في الدعوة:
كذلك فإنه ينبغي علي الداعية أن يتدرج في دعوته، فيبدأ بكبار المسائل قبل صغارها، فلا يقحم المسائل إقحاماً ، فبعض الدعاة يذهبون غلي أماكن في البادية في بعض القرى فيريد أن يصب لهم الإسلام في خطبة جمعة واحدة! وما هكذا تعرض المسائل!
عليك أن تأخذ مسألة واحدة تعرضها عليهم، وتدرسها معهم كمسألة التوحيد ، أو مسألة المحافظة علي الصلوات ، أو مسألة الحجاب ، أما أن تذكر لهم في خطبة واحدة أو في درس واحد مسائل التوحيد، والشرك، والسحر، والحجاب ، والمحافظة علي الصلاة، وحق الجار، فإنهم لا يمكن أن يحفظوا شيئاً.
لذلك لا ييأس الإنسان من قلة وسائله، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام كانت ثقافات العالم حوله في جزيرة العرب ـ إمبراطورية كسرى وإمبراطورية قيصرـ يملكون كل الإمكانات الضخمة، ومع ذلك كان هو في بيته المبني من الطين وبوسائله البسيطة، ولكن مع الإخلاص والصدق بلغه الله ما تمني، وبلغ الدين مشارق الأرض ومغاربها!
25- أن ينزل الناس منازلهم:
كذلك ينبغي علي الداعية أن ينزل الناس منازلهم، فلا يجعل الناس سواسية، فالعالم له منزلة، والمعلم له منزلة، والقاضي له منزلة وهذا ليس نوعاً من التفريق أو التمييز العنصرين بل هذا من أدب الإسلام. يختلف لقاء هذا عن ذاك ، وتختلف منزلة هذا عن ذاك ، وبعضهم لا يرضي إلا بصدر المجلس، وبعضهم لو عانقته يكون له عناق مختلف، وبعضهم له عناق آخر!
فإنزال الناس منازلهم من الحكمة التي ينبغي أن يتحلى بها الداعية في تعامله مع الناس، كما فعل النبي صلي الله عليه وسلم حيث كان ينزل الناس منازلهم،كما جاء في صحيح مسلم ورواه مسنداً أبو داود، وهو صحيح من كلام عائشة.
26- أن يحاسب نفسه وأن يبتهل إلي الله:
علي الداعية ـ أيضاً ـ أن يحاسب نفسه محكماً في ذلك قوله ، فيسمع لقوله إذا قال، ويحاسب نفسه علي عمله! هل هو ينفذ ما يقول أم لا ؟ وهل يطبق ما أمر به أم لا ؟ ثم يسأل ربه العون والسداد، وعليه أن يبتهل إلي الله في أول كل كلمة، وأول كل درس، ويسأل الله ـ عز وجل ـ أن يسدده، وأن يفتح عليه، وأن يهديه. وما يؤثر في ذلك، ما ورد في الحديث (( اللهم بك أصول، وبك أحاول)).
وكان كثير من العلماء إذا أرادوا أن يدرسوا الناس سألوا الله بهذا الدعاء، وبعضهم كان يقول : (( اللهم افتح علي من فتوحاتك )) وبعضهم يقول: (( اللهم لا تكلني غلي نفسي طرفة عين فأهلك)).
فإن الإنسان لو اعتمد علي قدراته وإمكاناته وذاكرته وصوته تقطعت به السبل، فليس لنا معين إلا الله.
27- أن يكون متميزاً في عبادته:
فيجب أن يكون للداعية نوافل من العبادات ، وأوراد من الأذكار والأدعية، فلا يكون عادياً مثل سائر الناس ؛ بل يكون له تميز خاص، يحافظ علي الدعاء بعد الفجر، والدعاء بعد الغروب، حتى يحفظه الله، ـ سبحانه وتعالي ـ ويكون له وقت إشراق مع نفسه، يحاسب نفسه بدعاء وبكلمات مباركة بعد الفجر، ويكون له ورد يومي بعيداً عن أعين الناس، يقرأ فيه كثيراً من القرآن، ويتدبر أموره، ويكون له مطالعة في تراجم السلف، لأن كثرة الخلطة مع الناس تعمي القلب، وتجعل الإنسان
مشوش الذهن ، وقد يقسو قلبه بسبب ذلك، فلابد من العزلة، أو ساعة من الساعات أو بعض الوقت في اليوم والليلة ، يعتزل وحده فلا يجلس مع زائر، ولا يلتقي بأحد، ولا تصل بهاتف، ولا يقرأ إلا فيما ينفعه، ثم يحاسب نفسه علي ذلك.
28- أن يتقلل من الدنيا ويستعد للموت:
علي الداعية أن يتفكر في الارتحال من هذه الدنيا ، ويدرك أنه قريباً سوف يرتحل، وأن الأجل محتوم! سوف يوافيه، فلا يغتر بكثرة الجموع، ولا بكثرة إقبال الناس، فإن الله يقول: ( إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً) (مريم:93/94) .
ويعلم أنه سوف يموت وحده! ويحشر وحده! ويقبر وحده! وأن الله سوف يسأله عن كل كلمة قالها، فيتأمل: لماذا يدعو؟ ولماذا يتكلم؟ وبماذا يقول؟ ولماذا ينطق؟ حتى يكون علي بصيرة.
كذلك علي الداعية أن يتقلل من الدنيا تقللاً لا يحرجه، فخير الأمور أوسطها، يسكن كما يسكن أواسط الناس، ويبس كما يلبس أواسط الناس، مع العلم أن هناك حيثيات قد تخفي علي كثير من الناس.
29- أن يكون حسن المظهر:
بعض الناس يري أن علي الداعية أن يلبس لباس الفقراء! أو يلبس لباساً من أوضع اللباس! وهذا ليس بصحيح، فإن الله ـ عز وجل ـ قد احل الطيبات، ورسول الله صلي الله عليه وسلم دعا إلي التجمل بقوله: (( تجملوا كأنكم شامة في عيون الناس)) وقال : (( إن الله جميل يحب الجمال)).
وقد يكون من المطلوب أن يكون الداعية متجملاً، متطيباً، ويكون مجلسه وسيعاً، يستقبل فيه الأخيار البررة، وأن يكون له مركب طيب، فإن هذا لا يعارض سنة الله ـ عز وجل ـ ولا سنة رسوله صلي الله عليه وسلم ، بل عليه كذلك أن يكون له في كل حالة بما يناسبها.
ولكن علي الداعية ألا يتشاغل بالدنيا تشاغلاً يعنيه عن طريقه، فإنه من الحسرة أن تجد كثيراً من الدعاة، أو بعض المشايخ، أو بعض طلبة العلم غارقاً إلي أذنيه، له من المؤسسات وله من الشركات، وله من الدور، ما يشغله عن الدعوة!
وكذلك يجب أن يهتم الداعية بمظهره الشخصي، وأن تكون حليته إيمانية، وأن يظهر الوقار والسكينة، وأن يلبس لباس أهل الخير، وأهل العلم، فإن لكل قوم لباساً، ويمشي مشية أهل العلم، ويكون مظهره جميلاً، ويعتني بخصال الفطرة، كالسواك وتقليم الأظافر، وإعفاء اللحية، واخذ الشارب، ويتعاهد باقي خصال الفطرة، وان يكون متطيباً، محافظاً علي الغسل، يحافظ علي مظهره.. حتى يمثل الدعوة تمثيلاً طيباً أما الناس.
أن يكون للداعية شخصيته المستقلة:
إن علي الداعية ألا يتقمص شخصية غيره، وألا يذوب ذوباناً في بعض الشخصيات، فتجد بعض الدعاة إذا أحب داعية آخر، أو عالماً آخر قلده في كل شيء حتى في صوته! وحتى في مشيته!وحتى في حركاته! فذاب في شخصية ذاك!
ويروي عن الرسول صلي الله عليه وسلم قوله: (( لا يكن أحدكم إمعة، إن أحسن الناس أحسنت، وإن أساءوا أسأت)).
ولكن إن احسن الناس فأحسن، وإن أساءوا فاجتنب إساءتهم، فذوبان الشخصية ليس مطلوباً للداعية.
فإن عليك أن تستقل بشخصيتك، وتعلم أن الله خلقك نسيجاً وحدك، وان الأرض ما تستطيع ـ بإذن الله عز وجل ـ أن تخرج واحداً مثلك، فأنت من بين الملايين التي خلقها الله منذ آدم إلي أن يرث الله الأرض ومن عليها وحدك، صوتك لا يشابهك فيه أحد، وملامح جسمك واستعدادك ، وما عندك من مواهب، كل هذه تختلف فيها عن غيرك، وقد كانت العرب تكره أن يتقمص الإنسان شخصية غيره.
30- أن يهتم بأمور النساء:
كذلك علي الداعية أن يهتم بجانب النساء، بعالم النساء، فلا يغفل هذا الجانب في كلامه، ولا في محاضراته، لأنهن نصف المجتمع، وكل ما في هذا الكتيب إنما هو موجه إلي المرأة المسلمة أيضاً.
نسأل الله ـ سبحانه وتعالي ـ أن يرضي عنا، وأن يسدد منا الأقوال والأفعال، وأن يتولانا فيمن تولى، وصلي الله علي محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام علي المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
مختصراً من كتيب بعنوان ثلاثون وقفة في فن الدعوة
لفضيلة الشيخ عائض بن عبد الله القرني
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله ، نحمده ونستغفره ، ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد
أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد :
فإن الدعوة فن يجيده الدعاة الصادقون ، كفن البناء للبناة المهرة ، وفن الصناعة للصناعة الحذاق ، وكان لزاما على الدعاة أن يحملوا هموم الدعوة ، ويجيدوا إيصالها للناس ، لأنهم ورثة محمد صلى الله عليه وسلم .
ولابد للدعاة أن يدرسوا الدعوة ، لوازمها ، ونتائجها ، وأساليبها ، وما يجد في الدعوة ، وكان لزاما عليهم أن يتقوا الله في الميثاق الذي حملوه من معلم الخير صلى الله عليه وسلم النبي صلي الله عليه وسلم فإنهم ورثة الأنبياء والرسل ، وهم أهل الأمانة الملقاة على عواتقهم فإذا علم ذلك فإن أي خطأ يرتكبه الداعية فإن ذلك سيؤثر في الأمة ، وسيكون الدعاة هم المسئولون بالدرجة الأولى عما يحدث من خطأ أو يرتكب من فشل ؛
بسبب أنهم هم رواد السفينة التي إذا قادوها إلى بر الأمان نجت بإذن الله .
لذا فإن على الدعاة آدابا لابد أن يتحلوا بها حتى يكونوا رسل هداية ، ومشاعل حق وخير ، يؤدون الرسالة كما أرادها الله .
1ـ الإخلاص في الدعوة :
إن الإخلاص في العمل هو أساس النجاح فيه ، لذا فإن على الدعاة الإخلاص في دعوتهم ، وأن يقصدوا ربهم في عملهم ، وألا يتطلعوا إلى مكاسب دنيوية
زائلة إلى حطام فان ، ولسان الواحد منهم يقول : ( مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ)(الفرقان: 57) . (قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ)(سـبأ:47).فلا يطلب الداعي منصبا ، ولا مكانا ، ولا منزلة ، ولا شهرة ، بل يريد بعمله وجه الواحد الأحد .
2ـ تحديد الهدف :
يجب أن يكون هدف الداعية واضحا أمامه ، وهو إقامة الدين وهيمنة الصلاح ، وإنهاء أو تقليص الفساد في العالم ( أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)(هود: 88) .
3ـ التحلي بصفات المجاهدين :
الداعية كالمجاهد في سبيل الله ، فكما أن ذاك على ثغر من الثغور ، فهذا على ثغر من الثغور ، وكما أن المجاهد يقاتل في سبيل أعداء الله ، فهذا يقاتل أعداء الله من الذين يريدون تسيير الشهوات والشبهات ، ، وإغواء الجيل ، وانحطاط الأمة ، وإيقاعها في حماة الرذيلة . ( وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً)(النساء: 27) .
فيجب على الداعية التحلي بما يتحلى به المجاهد .
4ـ طلب العلم النافع :
يلزم الداعية أن يطلب العلم النافع الموروث عن معلم الخير صلى الله عليه وسلم ، ليدعو على بصيرة ؛ فإن الله قال في محكم تنزيله : (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف:108).
قال مجاهد (( البصيرة : أي العلم )) ، وقال غيره : (( البصيرة : أي الحكمة )) .. وقال آخر : (( البصيرة :التوحيد )) .
والحقيقة أن المعاني الثلاثة متداخلة ، ولابد للداعي أن يكون موحد للواحد الأحد ، لا يخاف إلا من الله ، ولا يرجو إلا الله ، ولا يرهب إلا الله ، ولا يكون أحد أشد حبا له من الله ـ عز وجل .
ولابد أن يكون ذا علم نافع ، وهو علم قال الله وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ليدعو الناس على بصيرة ، فيحفظ كتاب الله أو ما تيسير من كتاب الله ـ عز وجل ـ ويعنى بالأحاديث عناية فائقة فيخرجها ، ويصح المصحح منها ، ويضعف الضعيف حتى يثق الناس بعلمه النبي صلي الله عليه وسلم ويعلم الناس أن يحترم أفكارهم ، وأن يحترم حضورهم ، فيجب أن الجمهور بأن يحضر لهم علما نافعا ، جديد بناء ، مرسوما على منهج أهل السنة والجماعة .
5- ألا يعيش المثاليات:
ومما ينبغي علي الداعية ألا يعيش المثاليات، وأن يعلم أنه مقصر، وان الناس مقصرون، قال سبحانه وتعالي:(( وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ و)(النور: الآية21) . فهو الكامل سبحانه وتعالى وحده، والنقص لنا، ذهب الله بالكمال، وأبقي كل نقص لذلك الإنسان، فما دام أن الإنسان خلق من نقص فعلي الداعية أن يتعامل معه علي هذا الاعتبار سواء كانوا رجالاً أو شباباً أو نساء، قال سبحانه وتعالي: ( إِنَّ
رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ)(لنجم: الآية32).
فما دام الله قد أنشأكم من الأرض ، من الطين، من التراب، فأنتم ناقصون لا محالة، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يتعامل مع الناس علي أنهم ناقصون، وعلي أنهم مقصرون، يري المقصر منهم فيعينه ويساعده ويشجعه، ويأخذ بيده إلي الطريق.
والداعية الذي يعيش المثاليات لا يصلح للناس، فإنه يتصور في الخيال أن الناس ملائكة، الخلاف بينهم وبين الملائكة الأكل والشرب!!وهذا خطأ ، خاصة في مثل القرن الخامس عشر الذي لا يوجد فيه محمد صلي الله عليه وسلم ولا الصحابة الأخيار ، وقل أهل العلم، وكثرت الشبهات، وانحدرت علينا البدع من كل مكان ، وأغرقنا بالشبهات، ،وحاربتنا وسائل مدروسة، درست في مجالس عالمية وراءها الصهيونية العالمية وأذنابها!!
فحق علي العالم، وحق علي الداعية أن يتعامل مع هذا الجيل ويتوقع منه الخطأ، ويعلم أن الإنسان سوف يحيد عن الطريق؛ فلا يعيش المثاليات .
6- عدم اليأس من رحمة الله:
يجب علي الداعية ألا يغضب إن طرح عليه شباب مشكلة، وأنه وقع في معصية، فقد أتي الرسول صلي الله عليه وسلم برجل شرب الخمر وهو من الصحابة أكثر من خمسين مرة!! ثبت هذا في الصحيح، فلما أتي به ليقام عليه الحد، قال بعض الصحابة: أخزه الله، ما أكثر ما يؤتي به! فغضب عليه الصلاة والسلام، وقال للرجل: (( لا تقل ذلك لا تعن الشيطان عليه، والذي نفسي بيده، ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله)).
فما أحسن الحكمة، وما أعظم التوجيه!!
لذلك نقول دائماً: لا تيأس من الناس مهما بدرت منهم المعاصي والمخالفات والأخطاء، واعتبر أنهم أمل هذه الأمة، وأنهم في يوم من الأيام سوف تفتح لهم أبواب التوبة، وسوف تراهم صادقين مخلصين، تائبين متوضئين.
وينبغي علي الداعية ألا ييأس من استجابة الناس، بل عليه أن يصبر ويثابر، ويسأل الله لهم الهداية في السجود، ولا يستعجل عليهم، فإن رسولنا صلي الله عليه وسلم مكث في مكة ثلاثة عشرة سنة يدعو إلي (( لا إله إلا الله))، فلم ييأس مع كثرة الإيذاء!! ومع كثرة السب!! ومع كثرة الشتم!! واعلم أن ما يتعرض له من صعوبات لا يقارن بما تعرض له النبي صلي الله عليه وسلم ، مع ذلك صبر وتحمل كل ذلك ولم يغضب، حتى أتاه ملك الجبال! فقال له: يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثتي ربك إليك لتأمرني بأمرك، فما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين؟ فقال له رسول صلي
الله عليه وسلم : ((بل أرجو أن يخرج الله من اصلابهم من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئاً)).
فأخرج الله من أصلاب الكفرة القادة ، فمن صلب الوليد بن المغيرة: خالد بن الوليد، ومن صلب أبي جهل: عكرمة بن أبي جهل.
فما احسن الطريقة، وما أحسن ألا ييأس الداعية؛ وأن يعلم أن العاصي قد يتحول بعد عصيانه إلي إمام مسجد! أو إلي خطيب ! أو إلي عالم!
وعلي الداعية ألا ييأس من المدعوين بسبب معاصيهم وإنما عليه أن يعايش الجميع، الكبير والصغير، الصالح والطالح، المطيع والعاصي ، ولتعلم أن هذا العاصي قد يكون في يوم الأيام من رجال الدعوة ، وقد يكون من أولياء الله ، فلا تيأس، وعليك أن تتدرج معه، وأن تأخذ بيده رويداً رويداً، وألا تجابهه، وألا تقاطعه.
7- عدم الهجوم علي الأشخاص بأسمائهم:
من مواصفات الداعية ألا يهاجم الأشخاص بأسمائهم، فلا ينبذهم علي المنابر بأسمائهم أمام الناس، بل يفعل كما فعل الرسول صلي الله عليه وسلم ويقول : (( ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا)). فيعرف صاحب الخطأ خطأه ولكن لا يشهر به.
أما إن كان هناك رجل جاهر الله بكتاباته أو بانحرافه أو بأدبه أو ببدعته، أو بدعوته إلي المجون ن فهذا لا باس أن يشهر به عند أهل العلم، حتى يبين خطره، فقد شهر أهل العلم بالجهم بن صفوان، وقال ابن المبارك في الجهم: هذا المجرم الذي قاد الأمة إلي الهاوي، وابتدع بدعة في الدين قال: عجبت لدجال دعا الناس إلي النار. واشتق اسمه من جهنم، وشهروا كذلك بالجعد بن درهم، وكتبوا أسماءهم في كتب الحديث، وحذروا الناس منهم في المجالس العامة والخاصة، فمثل هؤلاء يشهر بهم، أما الذين يتكتم علي أسمائهم فهم أناس أرادوا الخير فأخطأوا ، وأناس زلت بهم أقدامهم، وأناس أساءوا في مرحلة من المراحل، فهؤلاء لا تحاول
أن تظهر أسماءهم في قائمة سوداء فقد يغريهم هذا إلي التمادي في الخطأ، وقد تأخذهم العزة بالإثم!
8- الداعية لا يزكي نفسه عند الناس:
علي الداعية ألا يزكي نفسه عند الناس، بل يعرف أنه مقصر مهما فعل ، ويحمد ربه سبحانه وتعالي أن جعله متحدثاً إلي الناس ، مبلغاً عن رسوله صلي الله عليه وسلم ، فيشكر الله علي هذه النعمة، فإن الله قال لرسوله صلي الله عليه وسلم : ( وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ )(النور:الآية21). وقال له في آخر المطاف بعد أن أدى الرسالة كاملة: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً) (النصر:1-3)).
*قال أهل العلم: أمره أن يستغفر الله.
فلا يأتي الداعية فيزكي نفسه، ويقول : أنا آمركم دائماً وتعصونني! وأنهاكم ولا تمتثلوا نهيي! وأنا دائماً ألاحظ عليكم.. وأنا دائماً أري، وأنا دائماً أقول، أو أنا دائماً أحدث نفسي إلي متى تعصي هذه الأمة ربها ؟! فيخرج نفسه من اللوم والعقاب ، وكأنه برئ!! فهذا خطأ. بل يجعل الذنب واحداً ، والتقصير واحداً ، فيقول لهم: وقعنا كلنا في هذه المسألة، وأخطانا كلنا، والواجب علينا كلنا ، حتى لا يخرج نفسه من اللوم والعتاب ، فما نحن إلا أسرة واحدة، فربما يكون من الجالسين من هو أزكي من الداعية، ون هو أحب إلي الله، وأقرب إليه منه.
9- عدم الإحباط من كثرة الفساد والمفسدين:
فينبغي ألا يصاب الداعية بالإحباط، وألا يصاب بخيبة أمل، وهو يري الألوف تتجه إلي اللهو ، وإلي اللغو، والقلة القليلة تتجه غلي الدروس والمحاضرات، فهذه سنة الله في خلقه . فنحن لا نملك سوطاً ولا عصي، ولا عذاباً ولا حبساً، إنما نملك حباً ودعوة وبسمة نقود الناس بها الي جنة عرضها السموات والأرض ، فإن استجابوا حمدنا الله، وإن لم يستجيبوا ورفضوا أوكلنا أمرهم لله الذي يحاسبهم ـ سبحانه وتعالي.
قال بعض العلماء: (( الكفار في الأرض اكثر من المسلمين ، وأهل البدعة أكثر من أهل السنة، والمخلصون من أهل السنة اقل من غير المخلصين)).
ومن صفات الداعية أيضاً أنه يعيش واقع الناس ويقرأ حياتهم ويتعرف علي أخبارهم، وقال ـ سبحانه وتعالي ـ لرسوله صلي الله عليه وسلم : ( وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) (الأنعام:55) .
فحق علي الداعية أن يقرأ واقعه، ويستفيد من مجتمعه، وأن يعرف ماذا يدور في البلد؟ وماذا يقال؟ وما هي القضايا المطروحة؟ ويتعرف حتى علي الباعة، وعلى أصناف التجار، وعلي الفلاحين، وعلي طبقات الناس، وأن يلوح بطرفه في الأماكن ، وفي مجامع الناس، وفي الأسواق ، وفي المحلات، وفي الجامعات، وفي الأندية، حتى يكون صاحب خلفية قوية، يتكلم عن واقع يعرفه.
لذا جعل أهل العلم من لوازم الداعية إذا أتي إلي بلد أن يقرأ تاريخ هذا البلد، وكان بعض العلماء إذا سافروا إلي الخارج يأخذون مذكرات عن البلد، وعن تاريخه، وعن جغرافيته، وعن متنزهاته، ويتعرفون علي طبيعة أهله، وكيف يعيشون وماذا يحبون، وماذا يكرهون؟! ويتعرفون علي كيفية التربية في هذا البلد. حتى يتكلموا عن بصيرة.
10- عدم المزايدة علي كتاب الله:
فإن بعض الوعاظ والدعاة يحملهم الإشفاق والغيرة علي الدين علي أن يزيدوا عليه ما ليس فيه، فتجدهم إذا تكلموا عن معصية جعلوا عقابها أكثر مما جعله الله ـ عزوجل ـ حتى إن من يريد أن ينهي عن الدخان وعن شربه يقول مثلاً : (( يا عباد الله، إن من شرب الدخان حرم الله عليه الجنة، وكان جزاؤه جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً))!!
هذا خطأ، لأن هناك موازين في الشريعة.. هناك شرك يخرج عن الملة. وهناك كبائر، وهناك صغائر، وهناك مباحات. قد جعل الله لكل شئ قدراً.
فعلي الداعي ألا يهول علي الناس في جانب العقاب، كما عليه ألا يهول عليهم في جانب الحسنات كأن يستشهد بالحديث ـ وهو ضعيف ـ الذي يقول: (( صلاة بسواك أفضل من سبعين صلاة بلا سواك)). وحديث ـ وهو باطل ـ : (( من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله بني الله له سبعين قصراً في الجنة، في كل قصر سبعون حورية ، علي كل حورية سبعون وصيفاً، ويبقي سبعين من صلاة العصر إلي صلاة المغرب…))!
فالتهويل ليس بصحيح، بل يكون الإنسان متوازناً في عباراته، يعرف أنه يوقع عن رب العالمين، وينقل عن معلم الخير صلي الله عليه وسلم.
11- عدم الاستدلال بالأحاديث الموضوعة:
علي الداعية ألا يستدل بحديث موضوع إلا علي سبيل البيان، ويعلم أن السنة ممحصة ومنقاة، وأنها معروضة ولذلك لما أوتي بالمصلوب ـ هذا المجرم الذي وضع أربعة آلاف حديث علي محمد صلي الله عليه وسلم كذباً وزوراً ـ إلي هارون الرشيد ليقتله، فسل هارون الرشيد السيف، قال هذا المجرم اقتلني أو لا تقتلني، والله لقد وضعت علي أمة محمد أربعة آلاف حديث!!
فقال هارون الرشيد :(( ما عليك يا عدو الله يتصدى لها الجهابذة يزيفونها، ويخرجونها كابن المبارك، وأبي إسحاق المزوري)) فما مر ثلاثة أيام إلا نقاها عبد الله بن المبارك وأخرجها، وبين أنها موضوعة جميعا.
فالأحاديث الموضوعة ـ ولله الحمد ـ مبينة ، ونحذر الدعاة من أن يذكروا للناس حديثاً موضوعاً .
12- عدم القدح في الهيئات والمؤسسات والجمعيات والجماعات باسمائها:
وما يجب علي الداعية إلا يقدح في الهيئات ولا المؤسسات بذكر أسمائها، وكذلك الجمعيات والجماعات وغيرها.. لكن عليه أن يبين المنهج الحق، ويبينالباطل، فيعرف صاحب الحق أنه محق، ويعرف صاحب الباطل أنه مخطئ، لأنه إذا تعرض للشعوب جملة، أو للقبائل بأسمائهم أو للجمعيات، أو للمؤسسات، أو للشركات، أتي الآلاف من هؤلاء فنفروا منه، وما استجابوا له.. وتركوا دعوته، وهذا خطأ.
وفي الأدب المفرد مما يروي عنه صلي الله عليه وسلم : (( أن من أفري الفرى أن يهجو الشاعر القبيلة بأسرها))، وهذا خطأ ، فإن من يقول قبيلة كذا كلهم فسدة وفسقه مخطئ! لأنه ما صدق في ذلك فالتعميم عرضة للخطأ.
ولابد أن يكون الداعي لبقاً في اختيار عباراته حتى يكسب القلوب، ولا يثير عليه الشعب، فإن الناس يغضبون لقبائلهم، ويغضبون لشعوبهم، ويغضبون لشركاتهم، ويغضبون لمؤسساتهم، ويغضبون لجمعياتهم.. فليتنبه لهذا، وعليه ألا يظهر بهالة المستعلي علي جمهوره، وعلي أصحابه وعلي أحبابه ، وعلي إخوانه، وعلى المدعوين، كأن يقول ـ مثلاً ـ : أنا قلت ، وفعلت، وكتبت، وراسلت، وغضبت، وألفت! فإن (( أنا)) من الكلمات التي استخدمها إبليس.
*فواجب علي الداعية أن يظهر دائماً بالتواضع، وأن يلتمس الستر من إخوانه، وأن يبادلهم الشعور، وأن يطلب منهم المشور والاقتراح، وأن يعلم أن فيهم من هو أعلم منه، وأفصح منه، وأصلح منه.
13- أن يجعل الداعية لكل شيء قدراً:
لا ينبغي للداعية أن يعطي المسألة أكبر من حجمها ، فالدين مؤسس، والدين مفروغ منه: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً )(المائدة: الآية3) .
فلا يعطي الداعية المسائل أكبر من حجمها، وكذلك لا يصغر المسائل الكبرى أو يهونها عند الناس .
فإن التربية الموجهة أن تصف له المسالة السهلة فتكبرها عنده، وتصغر له المسالة الكبرى.
14- اللين في الخطاب والشفقة في النصح:
علي الداعية أن يكون ليناً في الخطاب، فقد كان الرسول صلي الله عليه وسلم لين الكلام بشوش الوجه، وكان صلي الله عليه وسلم متواضعاً محبباً إلي الكبير والصغير، يقف مع العجوز ويقضي غرضهن ويأخذ الطفل ويحمله، ويذهب إلي المريض ويعوده، ويقف مع الفقير، ويتحمل جفاء الإعرابي، ويرحب بالضيف، وكان إذا صافح شخصاً لا يخلع يده من يده حتى يكون الذي يصافحه هو الذي يخلع، وكان إذا وقف مع شخص لا يعطيه ظهره حتى ينتهي من حديثه، وكان دائم البسمة
في وجوه أصحابه صلي الله عليه وسلم لا يقابل أحد بسوء ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِك)(آل عمران: الآية159) فإذا فعل الإنسان ذلك كان أحب إلي الناس ممن يعطيهم الذهب والفضة!
ويرسل الله موسى وهارون عليهما السلام إلي فرعون أطغي الطواغيت، ويأمرهما باللين معه فيقول: ( فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) (طـه:44) .
فالقول اللين سحر حلال، قيل لبعض أهل العلم: ما هو السحر الحلال؟ قال: (( تبسمك في وجوه الرجال)). وقال أحدهم يصف الدعاة الأخيار منأمة محمد صلي الله عليه وسلم : (( حنينون، لينون، أيسار بني يسر، تقول لقيت سيدهم مثل النجوم التي يسري بها الساري)).
فأدعو الدعاة إلي لين الخطاب، وألا يظهروا للناس التزمت ولا الغضب ، ولا الفظاظة في الأقوال والأفعال ، ولا يأخذوا الناس أخذ الجبابرة، فإنهم حكماء معلمون أتوا رحمة للناس .
فالرسول صلي الله عليه وسلم رحمة، واتباعه رحمة، وتلاميذه رحمة، والدعاة إلي منهج الله رحمة، وعلي الداعية كذلك أن يثني علي أهل الخير، وأن يشاور إخوانه فلا يستبد برأيه.
15- حسن التعامل مع الناس وحفظ قدرهم:
فعلي الداعية أن يثني علي أهل الخير، ويشكر من قدم له معروفاً ، فإن الداعية إذا أثني علي أهل الخير عرفوا أنه يعرف قدرهم، وأنه يعرف الجميل، أما أن تترك صاحب الجميل بلا شكر والمخطئ بلا إدانة وبلا تنبيه، فكأنك ما فعلت شيئاً!
لابد أن تقول للمحسن أحسنت، وللمسيء أسأت لكن بأدب ، فكبار السن يحبون منك أن تحتفل بهم، وأن تعرف أن لهم حق سن الشيخوخة، وأنهم سبقوك في الطاعة، وأنهم اسلموا قبلك بسنوات، فتعرف لهم قدرهم.
وكذلك العلماء والقضاة ، وأعيان الناس، وشيوخ القبائل.. ونحو ذلك من أهل العلم والفضل، وأهل المواهب كالشعراء الإسلاميين، والكتاب الإسلاميين، ومن لهم بلاء حسن ، والتجار الذين ينفقون في سبيل الله.. فتظهر لهم المنزلة وتشكرهم علي ما قدموا حتى تحيي في قلوبهم هذا الفعل الخير .
16- أن يعلن الدعوة للمصلحة ، ويسر بها للمصلحة:
فعلي الداعية أن يعلن الدعوة للمصلحة، يعلن بها حيث يكون الإعلان طيباً كالمحاضرة العامة، والموعظة العامة في قرية أو بلدة أو في مدينة، ولكنه إذا أتي ينصح شخصاً بعينه فعليه أن يسر الدعوة، فيأخذه علي حده، ويتلطف له في العبارة ، وينصحه بينه وبينه
17- الإلمام بالقضايا المعاصرة والثقافة الواردة:
علي الداعية أن يكون ملماً ومطلعاً علي الأطروحات المعاصرة والقضايا الحالية، ويتعرف علي الأفكار الواردة، فيقرأ الكتابات الواردة، وليس بصحيح ما قاله بعض الناس حتى من الفضلاء بعدم قراءة كتب الثقافات الواردة! فإن هذا ليس بصحيح ، فلو لم نقرأ هذه الكتب ونطلع علي هذه الثقافات ما عرفنا كيف نعيش؟ وأين نعيش ؟ ولما عرفنا كيف نتعامل مع هؤلاء الناس؟!
بل أري أن علي الدعاة أن يقرءوا الصحف والمجلات، لكن بحيطة وحذر، حتى لا يصل قليلو الثقافة إلي بعض المجلات الخليعة فتفسد عليهم قلوبهم، لكن إن أرادوا أن يطلعوا فليطلعوا بانفراد وتأمل، ليعرفوا أهدافهم ويعالجوا ذلك.
عرفت الشر لا للشــر لكــن لتلافيــه
ومن لا يعرف الشر جدير أن يقع فيه
فحق علي الدعاة أن يطلعوا علي هذه الثقافات ـ ما قلت ـ ومن يجد كتاباً فيه شبهة أو فيه نظر فليعرضه علي من هم أعلي منه حتى يكون علي بصيرة ، ونخرج بحل إما بتنبيه أو بنصيحة عامة.
18- مخاطبة الناس علي قدر عقولهم:
علي الداعية أن يكون حاذقاً ، يخاطب الناس علي قدر عقولهم، فإذا أتي إلي المجتمع القروي تحدث بما يهم أهل القرية من مسائلهم التي يعيشونها ، وإذا أتى إلي طلبة العلم في الجامعة حدثهم علي قدر عقولهم من الثقافة والوعي. وإذا أتي إلي مستوي تعليمي أدني تنزل إليهم في مسائلهم وتباطأ، فإن لكل مسائل.
فمسائل البادية ـ مثلا ـ الشرك أو السحر أو الكهانة أو الإخلال بالصلاة أو نحو ذلك.
ومسائل أهل الجامعة ـ مثلاً ـ : الأفكار الواردة من علمنة وإلحاد وحداثة، وشبهات وشهوات.
ومن مسائل المستوي الأدنى من ذلك : الجليس، بر الوالدين، حقوق الكبار، حفظ القرآن ، .. ونحو ذلك.
فلابد من مخاطبة الناس علي قدر عقولهم ، وعلي قدر مواهبهم، وعلي قدر استعدادهم، انظر إلي المصطفي صلي الله عليه وسلم يخاطب معاذ بن جبل بحطاب لا يخاطب به غيره من الإعراب ، فيخاطبه عن العلم، وعن اثر العلم، وعن حفظ الله، وعن حدود الله، ويخاطب الأعراب عن توحيد وأنه يقودهم إلي جنة عرضها السموات والأرض .. ونحو ذلك.
19- ألا يسقط عيوبه علي الآخرين:
مما ينبغي علي الداعية أن يحذر منه ألا ينتقد الآخرين ليرفع من قدر نفسه.(( وهو أسلوب الإسقاط)) كما يسمى هذا في التربية.. أن تسقط غيرك لتظهر أنت، ويفعله بعض الناس من أهل الظهور وحب الشهرة ـ والعياذ بالله من ذلك ـ وأهل الرياء والسمعة.
20- أن يتمثل القدوة في نفسه:
علي الداعية أن يتمثل القدوة في نفسه، وأن يسدد ويقارب، وأن يعلم أن خطاه، يتضخم! فالخطأ منه كبير! وأن الناس ينظرون إليه.
فإنه اصبح أمامهم كالمرآة كلما وقعت فيها نقطة سوداء صغيرة كبرت وتضخمت، فليتق الله في هذه الأمة حتى لا يكون سبباً لهلاك كثير من الناس، فإنا رأينا كثيراً من العامة وقعوا في كثير من الخطايا بسبب فتاوى، أو بسبب تصرفات اجتهادية من بعض الفضلاء ربما أوجروا عليها.. أخطئوا خطأ واحداً ، ولكن بسببهم عالم!!
قال بعض الفضلاء: زلة العالم زلة عالم!
21- التآلف مع الناس:
ينبغي للداعية أن يتآلف مع الناس بالنفع، فيقدم لهم نفعاً، فليست مهمة الداعية فقط أن يلاحقهم بالكلام! أو يلقي عليهم الخطب والمواعظ! لكن يفعل كما فعل رسولنا صلي الله عليه وسلم ، يتآلفهم مرة بالهدية، ومرة بالزيارة ، ولا بأس بالدعوة، فإن رسول الله صلي الله عليه وسلم دعا الناس وآلفهم وأعطاهم وأهدي لهم، بل كان يعطي الواحد منهم مائة ناقة، وكان يأخذ الثياب الجديدة، وكان يعانق الإنسان ويجلسه مكانه، فهذا من التآلف.
وليس هناك صعوبة لتأليف كثير من الناس، وردهم إلي الله ـ عز وجل ـ مثل تأليف كثير من الشباب العصاة.. إذا رأيت شاباً عاصياً وعلمته، أو وجدت شاباً لا يستطيع الزواج ودفعت له المهر أو شيئاً من المهر، وقلت له أن يصحبك لصلاة الجماعة، وأن يعود إلي الله وأن يتوب. أن تتآلف إنساناً تراه ـ مثلاً ـ مدمناً للمخدرات بشيء من المال بشرط أن يتركها ويجتنبها وهكذا.
22- أن يكون عند الداعية ولاء وبراء نسبي:
ينبغي علي الداعية أن يكون عنده ولا وبراء نسبي، حب وبغض ، علي حسب طاعة الناس، وعلي حسب معصيتهم، لا تحب حباً مطلقاً لمن فيه طاعة، ولا تبغض بغضاً مطلقاً لمن فيه معصية، لكن تحب الإنسان علي قدر طاعته وحبه لله، وتبغضه علي قدر معصيته ومخالفته لله، فقد يجتمع في الشخص الواحد حب وبغض ، تحبه لأنه يحافظ علي صلاة الجماعة، وتبغضه لأنه يغتاب الناس!
تحب شخصاً آخر لأنه يعفي لحيته ، وتبغضه لأنه يسبل ثوبه، فيجتمع في الشخص الواحد حب وطاعة!
23- أن يكون الداعية اجتماعياً:
علي الداعية أن يشارك الناس أحزانهم، ويحل مشكلاتهم، ويزور مرضاهم،فالانقطاع عن الناس ليس بصحيح، فإن الناس إذا شعروا أنك معهم تشاركهم أحزانهم وأتراحم ، تعيش مشكلاتهم، أحبوك ، ولذلك أقترح علي الدعاة أن يحضروا حفلات الزواج، وقد يعتذر الداعي أحياناً عن عدم حضور حفلات الزواج لما عنده من إرهاق ، فلا يعني ذلك أنه لا يحب المشاركة، لكن يحضر الزواج، فيبارك للعريس ، ويبارك لأهل البيت، ويفرح معهم، ويقدم الخدمات، ويرونه متكلماً في صدر المجلس، يرحب بضيوفهم معهم، فيحبونه كثيراً.
وكذلك إذا سمع بموت ميت، أن يذهب إلي أهله ويواسيهم ويسليهم، ويلقي عليهم الموعظة.
كيف يراك الناس تدعوهم يوم الجمعة، ثم لا يرونك في أفراحهم أو في أحزانهم؟!
وكذلك تساهم في حل مشكلاتهم، فالداعية مصلح، وحينئذٍ يكسب ود الناس، كما فعل النبي صلي الله عليه وسلم فإنه تأخر عن صلاة الظهر مرة كما ورد في البخاري لأنه ذهب إلي بني عمر ابن عوف يحل مشكلاتهم، ويصلح فيما بينهم.
وكان صلي الله عليه وسلم إذا سمع عن مريض، حتى من الإعراب البدو في طرف المدينة، ذهب بأصحابه يزوره!
وهذا من أعظم ما يمكن أن يحبب الداعية في نفوس الناس.
24- مراعاة التدرج في الدعوة:
كذلك فإنه ينبغي علي الداعية أن يتدرج في دعوته، فيبدأ بكبار المسائل قبل صغارها، فلا يقحم المسائل إقحاماً ، فبعض الدعاة يذهبون غلي أماكن في البادية في بعض القرى فيريد أن يصب لهم الإسلام في خطبة جمعة واحدة! وما هكذا تعرض المسائل!
عليك أن تأخذ مسألة واحدة تعرضها عليهم، وتدرسها معهم كمسألة التوحيد ، أو مسألة المحافظة علي الصلوات ، أو مسألة الحجاب ، أما أن تذكر لهم في خطبة واحدة أو في درس واحد مسائل التوحيد، والشرك، والسحر، والحجاب ، والمحافظة علي الصلاة، وحق الجار، فإنهم لا يمكن أن يحفظوا شيئاً.
لذلك لا ييأس الإنسان من قلة وسائله، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام كانت ثقافات العالم حوله في جزيرة العرب ـ إمبراطورية كسرى وإمبراطورية قيصرـ يملكون كل الإمكانات الضخمة، ومع ذلك كان هو في بيته المبني من الطين وبوسائله البسيطة، ولكن مع الإخلاص والصدق بلغه الله ما تمني، وبلغ الدين مشارق الأرض ومغاربها!
25- أن ينزل الناس منازلهم:
كذلك ينبغي علي الداعية أن ينزل الناس منازلهم، فلا يجعل الناس سواسية، فالعالم له منزلة، والمعلم له منزلة، والقاضي له منزلة وهذا ليس نوعاً من التفريق أو التمييز العنصرين بل هذا من أدب الإسلام. يختلف لقاء هذا عن ذاك ، وتختلف منزلة هذا عن ذاك ، وبعضهم لا يرضي إلا بصدر المجلس، وبعضهم لو عانقته يكون له عناق مختلف، وبعضهم له عناق آخر!
فإنزال الناس منازلهم من الحكمة التي ينبغي أن يتحلى بها الداعية في تعامله مع الناس، كما فعل النبي صلي الله عليه وسلم حيث كان ينزل الناس منازلهم،كما جاء في صحيح مسلم ورواه مسنداً أبو داود، وهو صحيح من كلام عائشة.
26- أن يحاسب نفسه وأن يبتهل إلي الله:
علي الداعية ـ أيضاً ـ أن يحاسب نفسه محكماً في ذلك قوله ، فيسمع لقوله إذا قال، ويحاسب نفسه علي عمله! هل هو ينفذ ما يقول أم لا ؟ وهل يطبق ما أمر به أم لا ؟ ثم يسأل ربه العون والسداد، وعليه أن يبتهل إلي الله في أول كل كلمة، وأول كل درس، ويسأل الله ـ عز وجل ـ أن يسدده، وأن يفتح عليه، وأن يهديه. وما يؤثر في ذلك، ما ورد في الحديث (( اللهم بك أصول، وبك أحاول)).
وكان كثير من العلماء إذا أرادوا أن يدرسوا الناس سألوا الله بهذا الدعاء، وبعضهم كان يقول : (( اللهم افتح علي من فتوحاتك )) وبعضهم يقول: (( اللهم لا تكلني غلي نفسي طرفة عين فأهلك)).
فإن الإنسان لو اعتمد علي قدراته وإمكاناته وذاكرته وصوته تقطعت به السبل، فليس لنا معين إلا الله.
27- أن يكون متميزاً في عبادته:
فيجب أن يكون للداعية نوافل من العبادات ، وأوراد من الأذكار والأدعية، فلا يكون عادياً مثل سائر الناس ؛ بل يكون له تميز خاص، يحافظ علي الدعاء بعد الفجر، والدعاء بعد الغروب، حتى يحفظه الله، ـ سبحانه وتعالي ـ ويكون له وقت إشراق مع نفسه، يحاسب نفسه بدعاء وبكلمات مباركة بعد الفجر، ويكون له ورد يومي بعيداً عن أعين الناس، يقرأ فيه كثيراً من القرآن، ويتدبر أموره، ويكون له مطالعة في تراجم السلف، لأن كثرة الخلطة مع الناس تعمي القلب، وتجعل الإنسان
مشوش الذهن ، وقد يقسو قلبه بسبب ذلك، فلابد من العزلة، أو ساعة من الساعات أو بعض الوقت في اليوم والليلة ، يعتزل وحده فلا يجلس مع زائر، ولا يلتقي بأحد، ولا تصل بهاتف، ولا يقرأ إلا فيما ينفعه، ثم يحاسب نفسه علي ذلك.
28- أن يتقلل من الدنيا ويستعد للموت:
علي الداعية أن يتفكر في الارتحال من هذه الدنيا ، ويدرك أنه قريباً سوف يرتحل، وأن الأجل محتوم! سوف يوافيه، فلا يغتر بكثرة الجموع، ولا بكثرة إقبال الناس، فإن الله يقول: ( إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً) (مريم:93/94) .
ويعلم أنه سوف يموت وحده! ويحشر وحده! ويقبر وحده! وأن الله سوف يسأله عن كل كلمة قالها، فيتأمل: لماذا يدعو؟ ولماذا يتكلم؟ وبماذا يقول؟ ولماذا ينطق؟ حتى يكون علي بصيرة.
كذلك علي الداعية أن يتقلل من الدنيا تقللاً لا يحرجه، فخير الأمور أوسطها، يسكن كما يسكن أواسط الناس، ويبس كما يلبس أواسط الناس، مع العلم أن هناك حيثيات قد تخفي علي كثير من الناس.
29- أن يكون حسن المظهر:
بعض الناس يري أن علي الداعية أن يلبس لباس الفقراء! أو يلبس لباساً من أوضع اللباس! وهذا ليس بصحيح، فإن الله ـ عز وجل ـ قد احل الطيبات، ورسول الله صلي الله عليه وسلم دعا إلي التجمل بقوله: (( تجملوا كأنكم شامة في عيون الناس)) وقال : (( إن الله جميل يحب الجمال)).
وقد يكون من المطلوب أن يكون الداعية متجملاً، متطيباً، ويكون مجلسه وسيعاً، يستقبل فيه الأخيار البررة، وأن يكون له مركب طيب، فإن هذا لا يعارض سنة الله ـ عز وجل ـ ولا سنة رسوله صلي الله عليه وسلم ، بل عليه كذلك أن يكون له في كل حالة بما يناسبها.
ولكن علي الداعية ألا يتشاغل بالدنيا تشاغلاً يعنيه عن طريقه، فإنه من الحسرة أن تجد كثيراً من الدعاة، أو بعض المشايخ، أو بعض طلبة العلم غارقاً إلي أذنيه، له من المؤسسات وله من الشركات، وله من الدور، ما يشغله عن الدعوة!
وكذلك يجب أن يهتم الداعية بمظهره الشخصي، وأن تكون حليته إيمانية، وأن يظهر الوقار والسكينة، وأن يلبس لباس أهل الخير، وأهل العلم، فإن لكل قوم لباساً، ويمشي مشية أهل العلم، ويكون مظهره جميلاً، ويعتني بخصال الفطرة، كالسواك وتقليم الأظافر، وإعفاء اللحية، واخذ الشارب، ويتعاهد باقي خصال الفطرة، وان يكون متطيباً، محافظاً علي الغسل، يحافظ علي مظهره.. حتى يمثل الدعوة تمثيلاً طيباً أما الناس.
أن يكون للداعية شخصيته المستقلة:
إن علي الداعية ألا يتقمص شخصية غيره، وألا يذوب ذوباناً في بعض الشخصيات، فتجد بعض الدعاة إذا أحب داعية آخر، أو عالماً آخر قلده في كل شيء حتى في صوته! وحتى في مشيته!وحتى في حركاته! فذاب في شخصية ذاك!
ويروي عن الرسول صلي الله عليه وسلم قوله: (( لا يكن أحدكم إمعة، إن أحسن الناس أحسنت، وإن أساءوا أسأت)).
ولكن إن احسن الناس فأحسن، وإن أساءوا فاجتنب إساءتهم، فذوبان الشخصية ليس مطلوباً للداعية.
فإن عليك أن تستقل بشخصيتك، وتعلم أن الله خلقك نسيجاً وحدك، وان الأرض ما تستطيع ـ بإذن الله عز وجل ـ أن تخرج واحداً مثلك، فأنت من بين الملايين التي خلقها الله منذ آدم إلي أن يرث الله الأرض ومن عليها وحدك، صوتك لا يشابهك فيه أحد، وملامح جسمك واستعدادك ، وما عندك من مواهب، كل هذه تختلف فيها عن غيرك، وقد كانت العرب تكره أن يتقمص الإنسان شخصية غيره.
30- أن يهتم بأمور النساء:
كذلك علي الداعية أن يهتم بجانب النساء، بعالم النساء، فلا يغفل هذا الجانب في كلامه، ولا في محاضراته، لأنهن نصف المجتمع، وكل ما في هذا الكتيب إنما هو موجه إلي المرأة المسلمة أيضاً.
نسأل الله ـ سبحانه وتعالي ـ أن يرضي عنا، وأن يسدد منا الأقوال والأفعال، وأن يتولانا فيمن تولى، وصلي الله علي محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام علي المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
مختصراً من كتيب بعنوان ثلاثون وقفة في فن الدعوة
لفضيلة الشيخ عائض بن عبد الله القرني