أم حبيبة البريكى
10-08-2004, 12:13 AM
موقع «رجال الدين» في حياة الإسرائيليين
د. عبد الله اليحيى
(*) مساعد الأمين العام للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - السعودية.
الحاخامات هم مفسرو الشريعة ومعلموها عند اليهود، ولهم حضور دائم رغم المظاهر العلمانية والنمط الغربي للحكومات اليهودية المتتالية في فلسطين، واستطاعوا تشكيل الملامح السياسية البارزة فيها، وأصبحوا المحرك لها، ومفاتيح الكثير من القضايا؛ وذلك لدورهم الأساسي في تأسيس الفرق الدينية، والمدارس الأهلية، والأحزاب السياسية وقيادتها، وإصدار الفتاوى.
والإحاطة بهم من أهم خطوات القراءة الناجحة لواقع الكيان الصهيوني في فلسطين ومستقبله وما يمارسه أو يتطلع إليه؛ إنهم معالم يهودية بارزة معاصرة،
` علاقتهم بالسلطة:
تمثل الحاخامية مركز قوة من الدرجة الأولى في إسرائيل؛ حيث تمتد سلطتها إلى نواحٍ عديدة من حياة المواطن، كما أنها تتمتع بصفة قانونية رسمية. والعلاقة بين الحاخامات وحكومات الكيان الصهيوني المتتالية تتراوح ما بين مدّ وجزر؛ فالحكومة في نظرهم ليست شرعية، ولكنها ـ عند بعضهم ـ خطوة إلى الدولة التوراتية، وكل واحد من الطرفين يسعى إلى توظيف الآخر لتحقيق أهدافه. ومن ثمار هذه الصورة المتأرجحة تعليق قضايا مهمة، ومنها:
1 ـ تعريف اليهودي.
2 ـ الدستور اليهودي.
3 ـ حدود دولة اليهود في فلسطين.
وقد امتدت هيمنة الحاخامات والأحزاب الدينية إلى تهديد حزب شاس بالانسحاب من حكومة رابين؛ لأن وزيرة التعليم (ألوني) تم تصويرها وهي تأكل خلاف المواصفات اليهودية، كما احتج عدد من الأحزاب الدينية والحاخامات على تدنيس التعاليم اليهودية من قِبَل عضوة الكنيست (يائيل دايان) لأنها كانت ترتدي ثوب الاستحمام، وتقرأ كتاباً عن عيد الغفران على شاطئ تل أبيب، كما قام الحزب الديني القومي باستئجار مخبرين سريين من أجل التجسس على الوزراء لمعرفة الذين ينتهكون التعاليم اليهودية(1).
وحينما ننظر إلى مواقفهم في القمة السياسية نجد أن (رابين) لم يستطع الاتصال ببعض الحاخامات؛ لأنهم كانوا يرون (أن التواصل مع شخص آثم مثله يحط من قدرهم)(2)، وقد كانت فتاوى الحاخامات خلف مقتله، وأفتى الحاخام (عوفاديا يوسف) أن (إيهود باراك) يكره إسرائيل ويكره اليهود، وقرر الحاخام (زلمان ملميد) أن مصير (باراك) إلى جهنم إذا انسحب من القدس أو الضفة الغربية، وأيد ذلك الحاخام (أبراهام شابيرا) حيث أهدر دم كل سياسي إسرائيلي يدعو أو يعمل أو يؤيد الانسحاب من القدس وغزة وغيرهما، ولعن الحاخام (مردخاي إلياهو) من يفرط بأرض إسرائيل، واتهم (باراك) بخيانة الدين اليهودي، وأن من يقول بأن أجزاء من أرض إسرائيل تعود للعرب يكفر بالله. ومن كل الحاخامات شذ الحاخام (افنير)، فمنع تلاميذه من تجريح وإيذاء المسؤولين الكبار بالكلمات. أما البقية فقد كانوا في دائرة العداء للسلطة اليهودية الحاكمة التي تنظر بعين الواقع إلى السلامس، ومع هذا تزداد اهتمامات السياسيين بالحاخامات، ويتطلعون إلى مباركتهم؛ فشارون رغم علمانيته وعمره وحجمه اضطر أن يسير أكثر من نصف كيلو متراً متجهاً للحاخام (رينغن) البالغ من العمر الخامسة والأربعين ـ طلباً لرضاه، كما أنه خضع لطقوس لا يؤمن بها في لقائه من الحاخام (إسحاق كدوري)، وقد صرح الحاخام (إبراهام رافيتز) النائب عن اللائحة الموحدة للتوراة ـ خمس نواب في الكنيست ـ لوكالة فرانس أن (شارون ليس يهودياً يمارس طقوس ديانته، ولكنه بعكس باراك لا يشن الحرب على الديانة اليهودية)(3). إن مجيء الجنرالات للحكومة اليهودية في فلسطين المحتلة مؤشر على قوة الحاخامات وانتصارهم، وارتفاع أصوات المنادين بأن يكون قانون الدولة توراتياً علامة أخرى، وكون الحاخامات صناع بعض القرارات، والمشرفين على الأنشطة الاجتماعية، والمراقبين للمطبوعات والمجلات والأشرطة يؤكد ذلك.
وتأثيراتهم في الجيش الصهيوني قوية وملموسة استطاعوا من خلالها أن يحققوا مطالبهم، وبعضها في الطريق، ومنها:
1 ـ إعفاء طلبة العلم الديني من الخدمة العسكرية.
2 ـ فصل المجندين عن المجندات.
3 ـ فصل المتدينين عن العلمانيين.
4 ـ تشكيل وحدة عسكرية متدينة.
أمثلة من فتاويهم:
إن بعض التصريحات والفتاوى الصادرة من الحاخامات تكشف ملامح شخصيتهم، وجذور الإرهاب والعنصرية والأصولية اليهودية فيهم، ويمكن الاطلاع على أمثلة مختزلة منها من خلال:
1 ـ الفتاوى السياسية:
أفتى الحاخام (دوف ليئور) بـ (أن من يتفاوض مع الوحوش ـ العرب ـ خائن ونذل وجبان، ويجب شن حرب مقدسة على دعاة الانسحاب من أرض إسرائيل) والحاخام (عوفاديا يوسف) يرى (أن العرب أفاعٍ)، وأدلى الحاخام (إسحاق بورغ) بتصريحات يؤكذ فيها أن الإنسان العربي حيوان بطبعه، وأن التوراة وصفته بالإنسان المتوحش، وأشاد بمنفذ مجزرة الحرم الإبراهيمي، وقال: (إن ما قام به تقديس لله وإنقاذ أرواح، وعمله من الواجبات اليهودية الدينية)، وبعد المجزرة أصدر ثلاثة من كبار الحاخامات ـ أبراهام شابير، موشي رافي، شارون إسرائيل ـ مذكرة حرضوا فيها الجنود اليهود على عصيان الأوامر القاضية بإفراغ المستوطنات، وقد طلب منهم (رابين) التراجع عن هذه المذكرة فأبوا، وحصلوا ـ أيضاً ـ على تأييد من الحاخام الأكبر الرسمي؛ حيث رفض إدانة مبادرتهم اللاقانونية ولكنها شرعية، ويؤكد الحاخام (تسفي يهوذا كوك): (لقد كان أمرنا بأن نستولي على الأرض وبأن نستوطن، ومعنى هذا الاستيلاء هو الغزو، وقد فرض علينا في توراتنا الخالدة أن نستعمر الأرض اليباب، وليس في وسعنا أن نتجنب هذه الفريضة؛ فالتوراة والحرب والاستيطان ثلاثة في واحد). وفي المقابل انتقد (يؤئيل تيلتباوم ـ الزعيم الروحي للحسديم الستمار) الحاخامات الذين دفعوا الجيش إلى القتال عام 1967م، وأعلنوا أن النصر قادم كالمعجزة، وقال عنهم: (إن هؤلاء أيدوا الصهاينة في دخولهم الحرب بتنبؤات كاذبة، وأخبروا الصهاينة أنهم سينتصرون من خلال قوة التوراة، ولقد غشوهم عندما قالوا لهم: إن هذه الحرب هي حرب مقدسة)(1).
2 ـ الفتاوى الاجتماعية:
من صور الصدام بين الحاخامات أن السنة السابعة للأرض الزراعية كيوم الســبت يحــرم زراعتهــا لما ورد في التــوراة: (لا تغرس حقلك ولا تحصد كرمك) إلا أن الحاخام (إلياهو باكشي) أباح بيع الأرض لغير اليهودي لمدة سنة وفي أثنائها يمكن زراعتها؛ على أن تعود إلى اليهود بعد السنة السبعية، ولكن الحاخام (يوسف إلياشيع) حرم هذا البيع وكفَّر من أفتى به، وزعم أن الأرض اليهودية مقدسة لا يجوز تسليمها للغير، كما أن فتوى الحاخام (عوفاديا يوسف) برأت (آريه درعي)، وسبقت وناقضت حكم المحكمة المركزية التي أدانته بالفساد وحكمت عليه بالسجن؛ وهذه الفتوى وسعت الفجوة بين اليهود الشرقيين والغربيين، وأثارت قضية من يحكم؟ وحجم سيطرة الحاخامات.
والحاخام (موشى رفي) يدعو إلى ممارسة الإكراه في قضية الالتزام الديني، ويرى أنه شرعي لتربية عامـة اليهود، ولا يزال الحاخامات مصرِّين على تعريف اليهودي كما تمليه التعاليم اليهودية؛ فالطفل الذي توفي من أب يهودي وأم مسيحية لا يدفن في مقابر اليهود، والجنود الذين قتلوا في الداخل أو على الحدود لا مكان لهم فيها إن لم تكن اليهودية ممتدة إلى جذورهم من جهة الأم، ويرفضون الزواج المدني، ومن يفعله زناة وأبناؤهم أبناء زنا، ويحرم عليهم الزواج من يهودية أو يهـودي، كما فـرضـوا علـى مطاعـم «ماكدونالدز» أن لا تقدم «الهمبورجر» مع الجبن؛ لأن التعاليم اليهودية تحرم أكل اللحوم المخلوطة باللبن.
3 ـ من حيل اليهود الفقهية المعاصرة:
تستيقـظ حيـل اليهـود الفقهية حينمـا تتعارض مصالحهـم ـ وخاصة المادية ـ مع التعاليم اليهودية، فيهبُّ الحاخامات لتضييق الفجوة وتبرير الانحراف، وفتح باب من خلاله تلج مصالحهم على حساب دينهم، وقد سبق ذكر تحايل الحاخام (إلياهو باكشي) في تجاوز تحريم زراعة الأرض في السنة السابعة وإراحتها ببيعها لغير يهودي لمدة عام، وزراعتها في السنة المؤجرة وإعادتها بعدها إلى صاحبها، ولكن الحاخام الأكبر (إبراهام كوك) وجد باباً آخر وهو أن هذا التحريم (لا ينطبق في فترة بناء الدولة)(2). وحاخام آخر أجاز الزراعة إذا وضع المزارع اليهودي في الأرض المحرمة رقاعاً من البلاستيك، والحاخامات المتعاطفون مع المستوطنين في فلسطين ابتدعوا من باب المساعدة فتوى، ما لبث حلفاؤهم في الأحزاب الدينية الصهيونية، فيما بعد، أن عملوا على إعطائها صفة الكمال، فأصبح هذا القانون ممارسة إسرائيلية ثابتة.
يعمل هذا القانون كما يلي: قبل السنة السبتية بوقت قصير، يعطي وزيرُ الشؤون الداخلية الإسرائيلي للحاخام الرئيسي وثيقة تجعله المالك الشرعي للأرض الإسرائيلية كافة، الخاصة منها والعامة، فيذهب الحاخام الرئيسي إلى شخص غير يهودي، مسلحاً بهذه الورقة، فيبيعه أراضي إسرائىل كافة، (بما فيها المناطق المحتلة منذ عام 1967م)؛ وذلك لقاء مبلغ رمزي من المال. وتكون هناك وثيقة أخرى منفصلة، تنص على أن «الشاري» سوف «يعيد بيع» الأرض إلى الشخص الذي باعه إياها بعد انقضاء السنة. وتُكرر هذه المبادلة التجارية عادة كل سبع سنوات مع الشاري نفسه.
لا يعترف الحاخامات غير الصهيونيين بشرعية هذه الفتوى، وهم يقولون إن القانون الإسرائيلي ما دام يحظر على اليهود بيع أراضٍ في فلسطين إلى الأغيار؛ فإن هذه المبادلة التجارية برمتها مبادلة قائمة على خطيئة، ومن ثم فإنها لاغية وباطلة. إلا أن الحاخامات الصهيونيين يردون على ذلك بالقول بأن المحظور هو عملية بيع حقيقية وليس عملية بيع غير حقيقية)(3).
ومن الحيل ـ أيضاً ـ أن الدولة فرضت ـ بضغط من الحاخامات ـ على مزرعة (لاهافا التعاونية لتربية الخنازير) في فلسطين أن يكون هدفها من الخنازير الاحتياجات الطبية، وأن تضع ألواحاً خشبية تحت أقدام الخنازير لكي لا تلوث أرض الميعاد المقدسة(4)، ومن المحرمات لدى اليهود حلب الأبقار يوم السبت، وبما أن الحليب هو السائل الأبيض الخارج من ضروع الأبقار فإن الحاخامات أجازوا عملية الحلب إن كان الحليب غير أبيض، ولذا تم إعطاء البقر مادة تجعل حليبها أزرق حتى يمكن حلبها يوم البست، ثم يعود إلى لونه الأبيض بعد ذلك. ويصف الكاتب اليهودي (إسرائيل شاحاك) حيلة من حيلهم، فيقول: «للحاخامات غير الصهيونيين خطة ذات دلالة أكثر غموضاً كنت شاهداً شخصياً على تطبيقها في كيبوتس للمتدينين عام 1952م؛ فقد اكتشف هؤلاء نصاً قديماً بإفراغ ضروع البقر يوم السبت فقط من أجل إراحتها من المعاناة التي يسببها انتفاخ ضروعها، ولكن بشرط متشدد بترك الحليب يُهدر سائلاً على الأرض».
وإليكم الآن ما يجري عمله في الواقع: يذهب أحد المستوطنين (الأتقياء) صباح يوم السبت إلى حظيرة البقر، ويضع السُّطُول تحت الأبقار ـ إذ لا يوجد حظر على هذا النوع من العمل في الأدب التلمودي كافة ـ ومن ثم يذهب إلى الكنيس من أجل الصلاة. فيأتي رفيقه بـ «النية الصادقة» لتخفيف آلام هذه الحيوانات، بجعل حليبها يسيل على الأرض. ولكن إذا صادف وجود سَطْل هناك، هل يصبح هذا الرفيق مجبراً على رفعه من مكانه؟ بالطبع لا.
إنه يكتفي بتجاهل السُّطُول، ويؤدي مهمة الرحمة التي يتولاها، ثم يذهب إلى الكنيس. ويأتي أخيراً رفيق ثالث من (الأتقياء)، فيدخل إلى حظيرة البقر ويكتشف لدهشته العظيمة، السُّطُول المليئة بالحليب، فيضعها في براد، ويلحق برفاقه في الكنيس، والآن أصبح كل شيء على ما يرام، وليست هناك حاجة لهدر المال على الصبغة الزرقاء)(1).
وإذا كان صوت المرأة عورة لدى اليهود والاستماع إليها وهي تغني من المحرمات؛ فإن القناة السابعة وجدت مخرجاً لهذه الأحكام الدينية؛ وذلك بتكليف رجل أو رجال يقومون بغناء الأغاني الشهيرة للمطربات ثم يتم تحويل الأصوات إلكترونياً إلى الطبقات الصوتية النسائية(2)، وعند ذلك يزول المحرم. ومن الحيل ـ أيضاً ـ القفز على منع الحاخام (شاخ) أعضاء حزبه (ياهدوت هاتوراة) من أن يتولى أحدهم وزارة ما في حكومة (نتنياهو) رغم أن الحزب من المؤيدين له، ولذا كافأهم رئيس الحكومة بإعطائهم التحكم في وزارة الإسكان، وتولى (نتنياهو) الوزارة بنفسه، ولكنه يقوم بالتوقيع على ما يراه نائب الوزير الذي يمثل حزب الحاخام (شاخ).
د. عبد الله اليحيى
(*) مساعد الأمين العام للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - السعودية.
الحاخامات هم مفسرو الشريعة ومعلموها عند اليهود، ولهم حضور دائم رغم المظاهر العلمانية والنمط الغربي للحكومات اليهودية المتتالية في فلسطين، واستطاعوا تشكيل الملامح السياسية البارزة فيها، وأصبحوا المحرك لها، ومفاتيح الكثير من القضايا؛ وذلك لدورهم الأساسي في تأسيس الفرق الدينية، والمدارس الأهلية، والأحزاب السياسية وقيادتها، وإصدار الفتاوى.
والإحاطة بهم من أهم خطوات القراءة الناجحة لواقع الكيان الصهيوني في فلسطين ومستقبله وما يمارسه أو يتطلع إليه؛ إنهم معالم يهودية بارزة معاصرة،
` علاقتهم بالسلطة:
تمثل الحاخامية مركز قوة من الدرجة الأولى في إسرائيل؛ حيث تمتد سلطتها إلى نواحٍ عديدة من حياة المواطن، كما أنها تتمتع بصفة قانونية رسمية. والعلاقة بين الحاخامات وحكومات الكيان الصهيوني المتتالية تتراوح ما بين مدّ وجزر؛ فالحكومة في نظرهم ليست شرعية، ولكنها ـ عند بعضهم ـ خطوة إلى الدولة التوراتية، وكل واحد من الطرفين يسعى إلى توظيف الآخر لتحقيق أهدافه. ومن ثمار هذه الصورة المتأرجحة تعليق قضايا مهمة، ومنها:
1 ـ تعريف اليهودي.
2 ـ الدستور اليهودي.
3 ـ حدود دولة اليهود في فلسطين.
وقد امتدت هيمنة الحاخامات والأحزاب الدينية إلى تهديد حزب شاس بالانسحاب من حكومة رابين؛ لأن وزيرة التعليم (ألوني) تم تصويرها وهي تأكل خلاف المواصفات اليهودية، كما احتج عدد من الأحزاب الدينية والحاخامات على تدنيس التعاليم اليهودية من قِبَل عضوة الكنيست (يائيل دايان) لأنها كانت ترتدي ثوب الاستحمام، وتقرأ كتاباً عن عيد الغفران على شاطئ تل أبيب، كما قام الحزب الديني القومي باستئجار مخبرين سريين من أجل التجسس على الوزراء لمعرفة الذين ينتهكون التعاليم اليهودية(1).
وحينما ننظر إلى مواقفهم في القمة السياسية نجد أن (رابين) لم يستطع الاتصال ببعض الحاخامات؛ لأنهم كانوا يرون (أن التواصل مع شخص آثم مثله يحط من قدرهم)(2)، وقد كانت فتاوى الحاخامات خلف مقتله، وأفتى الحاخام (عوفاديا يوسف) أن (إيهود باراك) يكره إسرائيل ويكره اليهود، وقرر الحاخام (زلمان ملميد) أن مصير (باراك) إلى جهنم إذا انسحب من القدس أو الضفة الغربية، وأيد ذلك الحاخام (أبراهام شابيرا) حيث أهدر دم كل سياسي إسرائيلي يدعو أو يعمل أو يؤيد الانسحاب من القدس وغزة وغيرهما، ولعن الحاخام (مردخاي إلياهو) من يفرط بأرض إسرائيل، واتهم (باراك) بخيانة الدين اليهودي، وأن من يقول بأن أجزاء من أرض إسرائيل تعود للعرب يكفر بالله. ومن كل الحاخامات شذ الحاخام (افنير)، فمنع تلاميذه من تجريح وإيذاء المسؤولين الكبار بالكلمات. أما البقية فقد كانوا في دائرة العداء للسلطة اليهودية الحاكمة التي تنظر بعين الواقع إلى السلامس، ومع هذا تزداد اهتمامات السياسيين بالحاخامات، ويتطلعون إلى مباركتهم؛ فشارون رغم علمانيته وعمره وحجمه اضطر أن يسير أكثر من نصف كيلو متراً متجهاً للحاخام (رينغن) البالغ من العمر الخامسة والأربعين ـ طلباً لرضاه، كما أنه خضع لطقوس لا يؤمن بها في لقائه من الحاخام (إسحاق كدوري)، وقد صرح الحاخام (إبراهام رافيتز) النائب عن اللائحة الموحدة للتوراة ـ خمس نواب في الكنيست ـ لوكالة فرانس أن (شارون ليس يهودياً يمارس طقوس ديانته، ولكنه بعكس باراك لا يشن الحرب على الديانة اليهودية)(3). إن مجيء الجنرالات للحكومة اليهودية في فلسطين المحتلة مؤشر على قوة الحاخامات وانتصارهم، وارتفاع أصوات المنادين بأن يكون قانون الدولة توراتياً علامة أخرى، وكون الحاخامات صناع بعض القرارات، والمشرفين على الأنشطة الاجتماعية، والمراقبين للمطبوعات والمجلات والأشرطة يؤكد ذلك.
وتأثيراتهم في الجيش الصهيوني قوية وملموسة استطاعوا من خلالها أن يحققوا مطالبهم، وبعضها في الطريق، ومنها:
1 ـ إعفاء طلبة العلم الديني من الخدمة العسكرية.
2 ـ فصل المجندين عن المجندات.
3 ـ فصل المتدينين عن العلمانيين.
4 ـ تشكيل وحدة عسكرية متدينة.
أمثلة من فتاويهم:
إن بعض التصريحات والفتاوى الصادرة من الحاخامات تكشف ملامح شخصيتهم، وجذور الإرهاب والعنصرية والأصولية اليهودية فيهم، ويمكن الاطلاع على أمثلة مختزلة منها من خلال:
1 ـ الفتاوى السياسية:
أفتى الحاخام (دوف ليئور) بـ (أن من يتفاوض مع الوحوش ـ العرب ـ خائن ونذل وجبان، ويجب شن حرب مقدسة على دعاة الانسحاب من أرض إسرائيل) والحاخام (عوفاديا يوسف) يرى (أن العرب أفاعٍ)، وأدلى الحاخام (إسحاق بورغ) بتصريحات يؤكذ فيها أن الإنسان العربي حيوان بطبعه، وأن التوراة وصفته بالإنسان المتوحش، وأشاد بمنفذ مجزرة الحرم الإبراهيمي، وقال: (إن ما قام به تقديس لله وإنقاذ أرواح، وعمله من الواجبات اليهودية الدينية)، وبعد المجزرة أصدر ثلاثة من كبار الحاخامات ـ أبراهام شابير، موشي رافي، شارون إسرائيل ـ مذكرة حرضوا فيها الجنود اليهود على عصيان الأوامر القاضية بإفراغ المستوطنات، وقد طلب منهم (رابين) التراجع عن هذه المذكرة فأبوا، وحصلوا ـ أيضاً ـ على تأييد من الحاخام الأكبر الرسمي؛ حيث رفض إدانة مبادرتهم اللاقانونية ولكنها شرعية، ويؤكد الحاخام (تسفي يهوذا كوك): (لقد كان أمرنا بأن نستولي على الأرض وبأن نستوطن، ومعنى هذا الاستيلاء هو الغزو، وقد فرض علينا في توراتنا الخالدة أن نستعمر الأرض اليباب، وليس في وسعنا أن نتجنب هذه الفريضة؛ فالتوراة والحرب والاستيطان ثلاثة في واحد). وفي المقابل انتقد (يؤئيل تيلتباوم ـ الزعيم الروحي للحسديم الستمار) الحاخامات الذين دفعوا الجيش إلى القتال عام 1967م، وأعلنوا أن النصر قادم كالمعجزة، وقال عنهم: (إن هؤلاء أيدوا الصهاينة في دخولهم الحرب بتنبؤات كاذبة، وأخبروا الصهاينة أنهم سينتصرون من خلال قوة التوراة، ولقد غشوهم عندما قالوا لهم: إن هذه الحرب هي حرب مقدسة)(1).
2 ـ الفتاوى الاجتماعية:
من صور الصدام بين الحاخامات أن السنة السابعة للأرض الزراعية كيوم الســبت يحــرم زراعتهــا لما ورد في التــوراة: (لا تغرس حقلك ولا تحصد كرمك) إلا أن الحاخام (إلياهو باكشي) أباح بيع الأرض لغير اليهودي لمدة سنة وفي أثنائها يمكن زراعتها؛ على أن تعود إلى اليهود بعد السنة السبعية، ولكن الحاخام (يوسف إلياشيع) حرم هذا البيع وكفَّر من أفتى به، وزعم أن الأرض اليهودية مقدسة لا يجوز تسليمها للغير، كما أن فتوى الحاخام (عوفاديا يوسف) برأت (آريه درعي)، وسبقت وناقضت حكم المحكمة المركزية التي أدانته بالفساد وحكمت عليه بالسجن؛ وهذه الفتوى وسعت الفجوة بين اليهود الشرقيين والغربيين، وأثارت قضية من يحكم؟ وحجم سيطرة الحاخامات.
والحاخام (موشى رفي) يدعو إلى ممارسة الإكراه في قضية الالتزام الديني، ويرى أنه شرعي لتربية عامـة اليهود، ولا يزال الحاخامات مصرِّين على تعريف اليهودي كما تمليه التعاليم اليهودية؛ فالطفل الذي توفي من أب يهودي وأم مسيحية لا يدفن في مقابر اليهود، والجنود الذين قتلوا في الداخل أو على الحدود لا مكان لهم فيها إن لم تكن اليهودية ممتدة إلى جذورهم من جهة الأم، ويرفضون الزواج المدني، ومن يفعله زناة وأبناؤهم أبناء زنا، ويحرم عليهم الزواج من يهودية أو يهـودي، كما فـرضـوا علـى مطاعـم «ماكدونالدز» أن لا تقدم «الهمبورجر» مع الجبن؛ لأن التعاليم اليهودية تحرم أكل اللحوم المخلوطة باللبن.
3 ـ من حيل اليهود الفقهية المعاصرة:
تستيقـظ حيـل اليهـود الفقهية حينمـا تتعارض مصالحهـم ـ وخاصة المادية ـ مع التعاليم اليهودية، فيهبُّ الحاخامات لتضييق الفجوة وتبرير الانحراف، وفتح باب من خلاله تلج مصالحهم على حساب دينهم، وقد سبق ذكر تحايل الحاخام (إلياهو باكشي) في تجاوز تحريم زراعة الأرض في السنة السابعة وإراحتها ببيعها لغير يهودي لمدة عام، وزراعتها في السنة المؤجرة وإعادتها بعدها إلى صاحبها، ولكن الحاخام الأكبر (إبراهام كوك) وجد باباً آخر وهو أن هذا التحريم (لا ينطبق في فترة بناء الدولة)(2). وحاخام آخر أجاز الزراعة إذا وضع المزارع اليهودي في الأرض المحرمة رقاعاً من البلاستيك، والحاخامات المتعاطفون مع المستوطنين في فلسطين ابتدعوا من باب المساعدة فتوى، ما لبث حلفاؤهم في الأحزاب الدينية الصهيونية، فيما بعد، أن عملوا على إعطائها صفة الكمال، فأصبح هذا القانون ممارسة إسرائيلية ثابتة.
يعمل هذا القانون كما يلي: قبل السنة السبتية بوقت قصير، يعطي وزيرُ الشؤون الداخلية الإسرائيلي للحاخام الرئيسي وثيقة تجعله المالك الشرعي للأرض الإسرائيلية كافة، الخاصة منها والعامة، فيذهب الحاخام الرئيسي إلى شخص غير يهودي، مسلحاً بهذه الورقة، فيبيعه أراضي إسرائىل كافة، (بما فيها المناطق المحتلة منذ عام 1967م)؛ وذلك لقاء مبلغ رمزي من المال. وتكون هناك وثيقة أخرى منفصلة، تنص على أن «الشاري» سوف «يعيد بيع» الأرض إلى الشخص الذي باعه إياها بعد انقضاء السنة. وتُكرر هذه المبادلة التجارية عادة كل سبع سنوات مع الشاري نفسه.
لا يعترف الحاخامات غير الصهيونيين بشرعية هذه الفتوى، وهم يقولون إن القانون الإسرائيلي ما دام يحظر على اليهود بيع أراضٍ في فلسطين إلى الأغيار؛ فإن هذه المبادلة التجارية برمتها مبادلة قائمة على خطيئة، ومن ثم فإنها لاغية وباطلة. إلا أن الحاخامات الصهيونيين يردون على ذلك بالقول بأن المحظور هو عملية بيع حقيقية وليس عملية بيع غير حقيقية)(3).
ومن الحيل ـ أيضاً ـ أن الدولة فرضت ـ بضغط من الحاخامات ـ على مزرعة (لاهافا التعاونية لتربية الخنازير) في فلسطين أن يكون هدفها من الخنازير الاحتياجات الطبية، وأن تضع ألواحاً خشبية تحت أقدام الخنازير لكي لا تلوث أرض الميعاد المقدسة(4)، ومن المحرمات لدى اليهود حلب الأبقار يوم السبت، وبما أن الحليب هو السائل الأبيض الخارج من ضروع الأبقار فإن الحاخامات أجازوا عملية الحلب إن كان الحليب غير أبيض، ولذا تم إعطاء البقر مادة تجعل حليبها أزرق حتى يمكن حلبها يوم البست، ثم يعود إلى لونه الأبيض بعد ذلك. ويصف الكاتب اليهودي (إسرائيل شاحاك) حيلة من حيلهم، فيقول: «للحاخامات غير الصهيونيين خطة ذات دلالة أكثر غموضاً كنت شاهداً شخصياً على تطبيقها في كيبوتس للمتدينين عام 1952م؛ فقد اكتشف هؤلاء نصاً قديماً بإفراغ ضروع البقر يوم السبت فقط من أجل إراحتها من المعاناة التي يسببها انتفاخ ضروعها، ولكن بشرط متشدد بترك الحليب يُهدر سائلاً على الأرض».
وإليكم الآن ما يجري عمله في الواقع: يذهب أحد المستوطنين (الأتقياء) صباح يوم السبت إلى حظيرة البقر، ويضع السُّطُول تحت الأبقار ـ إذ لا يوجد حظر على هذا النوع من العمل في الأدب التلمودي كافة ـ ومن ثم يذهب إلى الكنيس من أجل الصلاة. فيأتي رفيقه بـ «النية الصادقة» لتخفيف آلام هذه الحيوانات، بجعل حليبها يسيل على الأرض. ولكن إذا صادف وجود سَطْل هناك، هل يصبح هذا الرفيق مجبراً على رفعه من مكانه؟ بالطبع لا.
إنه يكتفي بتجاهل السُّطُول، ويؤدي مهمة الرحمة التي يتولاها، ثم يذهب إلى الكنيس. ويأتي أخيراً رفيق ثالث من (الأتقياء)، فيدخل إلى حظيرة البقر ويكتشف لدهشته العظيمة، السُّطُول المليئة بالحليب، فيضعها في براد، ويلحق برفاقه في الكنيس، والآن أصبح كل شيء على ما يرام، وليست هناك حاجة لهدر المال على الصبغة الزرقاء)(1).
وإذا كان صوت المرأة عورة لدى اليهود والاستماع إليها وهي تغني من المحرمات؛ فإن القناة السابعة وجدت مخرجاً لهذه الأحكام الدينية؛ وذلك بتكليف رجل أو رجال يقومون بغناء الأغاني الشهيرة للمطربات ثم يتم تحويل الأصوات إلكترونياً إلى الطبقات الصوتية النسائية(2)، وعند ذلك يزول المحرم. ومن الحيل ـ أيضاً ـ القفز على منع الحاخام (شاخ) أعضاء حزبه (ياهدوت هاتوراة) من أن يتولى أحدهم وزارة ما في حكومة (نتنياهو) رغم أن الحزب من المؤيدين له، ولذا كافأهم رئيس الحكومة بإعطائهم التحكم في وزارة الإسكان، وتولى (نتنياهو) الوزارة بنفسه، ولكنه يقوم بالتوقيع على ما يراه نائب الوزير الذي يمثل حزب الحاخام (شاخ).