مشاهدة النسخة كاملة : عائشة .. في غـرفة التشريح .. !
موسى بن ربيع البلوي
08-23-2008, 06:36 AM
عائشة في غـرفة التشريح !
د محمد الحضيف
بدأ حلماً يراودها ، منذ تسع سنوات وقتها كانت في الصف الثالث الابتدائي ، حين صارحت أمها ، بأمنية ( بريئة ) كأحلام الطفولة ، بعد موقف مرّ بهما موقف ظل يتكرر كثيراً ، في أعوام تالية ، كلما أخذ والدها والدتها إلى المستشفى ، للكشف عليها حين تمر بعارض صحي تسمع توسلات أمها عميقة ولحوحة ، وهي تتمنّع في بعض المرّات ، عن الذهاب إلى المستشفى ، رغم وضعها الصحي السيء ، ثم توافق على مضض :
- أرجوك يا ناصر ، إذا كان دكتور ، لا أريده أن يكشف علي !
في كل مرّة ، كان زوجها يرد بحزم :
- ليس عندنا حل ثانِ يا مها ، إذا لم يكن هناك دكتورة
- لا أرجوك يا أبا أحمد أموت ، ولا يكشف عليّ رجل
سنوات تمضي ، ومشهد يتكرر في إحدى المرّات تذكر أن والديها ، عادا من المستشفى ، بكيس من الأدوية أبوها كان هادئاً ، لكن والدتها بدت بحالة نفسية متردّية ، أسوأ من تلك التي ذهبت بها سمعت والدها يتحدث يطمئنها ، ويؤكد بأن حالتها عادية ، ولا تستدعي القلق ، وأقسم على ذلك عدة مرّات وأن الطبيب أخبره بذلك ثم ختم حديثه قائلاً :
- وكان كذلك ، مؤدباً جداً وهو يكشف عليك أليس هذا هو المطلوب ؟
أفرغ كيس الأدوية على طـــاولة صغيرة ، في وسط غرفة النوم ، وأخذ يستعرض تعليمات الاستعمال ، الملصقة عليها :
- كل شيء واضح أهم شيء الالتزام بالمواعيد
نظر إلى ساعته وقال :
- سأخرج للصلاة الآن ، ولدي موعد بعدها ، استريحي عائشة ستساعدك
نادى على ابنته ، وقال ممازحاً :
- أكيد تعرفين تقرأين ؟
هزت رأسها
- شوفي التعليمات المكتوبة على الأدوية ، وأعطيها ماما
جثت على ركبتيها قريباً من الطاولة ، ثم التقطت منديلاً ورقياً ، وفرشته في إحدى زواياها شرعت تقرأ الإرشادات ، المرفقة مع كل علبة دواء ، ثم تفتحها ، وتأخذ منها ، حسب ما هو مبين في ملصق التعليمات ، وتضعه على المنديل ، حتى مرّت عليها كلها ، وأعادتها بعد ذلك إلى الكيس أحضرت كأس ماء ، ثم جمعت الدواء في المنديل ، واتجهت إلى والدتها ، التي كانت قد استلقت على السرير ، ووضعت وسادة على وجهها :
- ماما الدواء
التفتت الأم ، بعد أن رفعت الوسادة عن وجهها ، ونظرت إليها بعينين مبللتين مدت يدها إليها لتأخذ الدواء ، وبقايا ألم ما زالت في العينين تحاول أن تواريها :
- تسلمين حبيبتي
- أمي بابا يقول ، أنت طيبة ، وما فيه شيء خطير ، ليه أنت متضايقة ؟
- ما فيه شيء حبيبتي
- أجل ليه تبكين يا ماما أنت متضايقة من المستشفى ؟
أغلقت كفها على الدواء ، ثم أغمضت عينيها وأطرقت كانت تحبس وجعاً غير عادي ، وتتمنى لو تجد من تبوح له به في خاطرها أن البنت صغيرة ، ولا تستوعب حديثاً عن أحوال النساء بهذا المستوى كيف تفصح لها ، عن خجلها الشديد ، من كشف الطبيب عليها ؟
عندما رفعت رأسها ، كانت ابنتها ما زالت واقفة ، ممسكة كأس الماء بيدها ، وعلامات الاستفهام ، قد استولت على كـــــامل وجهها أخذت كأس الماء منها ، وتـــناولت كومة حبوب الدواء من المنديل ، وجمعتها في كــفها ، ثم قذفتها في فمها ، وأتبعتها بجرعة ماء وضعت الكأس بجانبها ، ولم تشأ أن تنظر في وجهها ، حتى لا تشعر بحرج من تهربها من الإجابة أحست بها تتقدم نحوها ثم تقف ، وتطوق عنقها بكـــفين ، وساعدين ممدودين رفعت رأسها ، ولما التقت نظراتهما فاجأتها بما لم تتوقع :
- ماما لمّا أكبر ، أصير دكتورة وأكشف عليك
صرخت وضمتها :
- يا عمري يا ( عيّوش ) حاسة فيني !
انـــزاح عن صـــــدرها هم ثــــقيل ، فانفرجت أساريرها كـــــانت تريد البوح ، أن تتـــــحدث إلى ( أحد ) لم تظن أن عائشة الصغيرة ، قادرة على إدراك ما يعتمل في داخلها أجلستها إلى جانبها على طرف السرير ، وانطلقت تحدثها عن حيائها من الرجال ، وشعورها بالإثم ، لإطلاع الطبيب على أجزاء من جسدها :
- أستحي يا بنيّتي ، وأحس إني أموت مئة مرّه ، قبل ما يخلص الدكتور من الكشف
لم تعلق عائشة ، وإنما استمرت تتأمل أمها ، وتمسح وجنتيها بكفّيها وتكرر بين آن وآخر جملتها : " أكبر وأصير دكتورة ، وما يكشف عليك إلا أنا " تبتسم الأم وتضمها ، لكنها لا تخفي عدم رغبتها في أن تصبح عائشة طبيبة :
- اسم الله عليك يا حبيبتي أخاف عليك!
كبرت عائشة ، وبقي الحلم يكبر ، في كل مرّة يتكرر الموقف ، حينما تضطر أمها للذهاب إلى الطبيب وكثيراً ما حدث ذلك حلم طفلة التاسعة ، بقي خواطر عفوية ساذجة ، تروح وتجيء ، إلى أن كان قدره أن يتعرض لصدمة ، حوّلته إلى هدف ، غير قابل للمساومة لفتاة أصبحت أكثر نضجاً ، وتقترب من سن الزواج ، وصارت تعرف من أمور النساء الشيء الكثير
في مجتمع ينشئ نساءه ، على الحشمة والحياء ، وتنظر المرأة لذلك ، على أنه مقياس لقيمتها ، وسور يمنع التعدي عليها لم يكن صعباً أن تفـــهم ، لماذا تعاني أمها ، كل هذه المعاناة ، في كل زيارة لها للطبيب إنها بمفهوم آخر ثقافي ، غــــير معــــلن ، تعتبر إطلاع الطبيب الرجل ، على خصوصية جسدها إنتهاكاً لمحرم ، واختراقاً لحصونها ، التي تستمد منها ، واحدة من أهم قيمها المعنوية في مقابل القيمة الحسية ، التي تَعْمَد إلى ( تَشْيِيء ) المـــــــــرأة ، والنظر إليها ، بوصفها شـــــيئاً ( متاحاً ) ، باعثاً للّذة ومن ثم ابتذالها جنسياً ، يعلي الحياء والحرص على خصوصية الجسد من القيمة المعنوية للمرأة ، بوصفها كــــينونة بعقل ومنظومة قيم صحيح أن حالة والدتها ، لا تتكرر كثيراً ، لكنها تستند إلى بيئة تربوية وثقافية تتفاوت النساء في تمثّلها
كانت شابة في السابعة عشرة طالبة في الصف الثاني الثانوي ، حينما رافقت أمها الحامل ، برفقة والدها إلى المستشفى في رحلة أحدثت تحولاً عميقاً في مجرى حياتها :
- أمك تحتاج إلى مساعدة يا عائشة تعالي معنا أصلّي المغرب ونمشي كونوا جاهزين
حين وصلوا المستشفى ، توجهوا لقسم الطوارئ قصد موظف الاستقبال ، وقال أن زوجته حامل ، وتشكو من آلام شديدة ، رغم أن موعد وضعها لم يحن بعد :
- لديها ملف ؟
- نعم
ثم مد يده إلى جيبه ، وأخرج بطاقة بلاستيكية
كانت على كــرسي متحرك أشار إليه ، وهو يمد البطاقة إلى ممرضة على يمينه ، بأن يدفعها باتجاه مكتب ، يتجمع حوله عدد من الممرضات أخذت الممرضة التي تحدث إليها ، البطاقة التي كانت تحمل اسمها ، ورقم الملف ، ومعلومات عامة عن المريض شرعت تملأ البيانات ، في ورقة تناولتها من ملف أمامها ، وتملي في الوقـــت نفسه ، عبر الهاتف ، الذي رفعته بكتفها ، وألصقته بأذنها معــلومات الملف ، على شخص آخر تحادثه أثناء ذلك ، كانت الممرضات الأخريات قد وضعنها على سرير ، في إحــــدى غرف الطوارئ ، وبدأن بأعمال الفحص الأوّلي أبـــــو أحمد زوجها ، كان متوتراً ، على غير عادته ، فبادر الممرضة :
- هاه يا ( سستر ) ، إن شاء الله خير ؟
- إن شاء الله " ممكن فيه ولادة ، بس لازم دكتور يشوف أول "
عائشة كانت إلى جوار أمها ، حـــين لاحظت أنها انتفضت ، بمجرّد سماعها كلمة ( دكتور ) بعفوية لا تخلو من توتر ، سحبت الأم الغطاء على بطنها المكشوف ، رغم أنه لم يكن موجوداً ، إلا زوجها وابنتها والممرضة ، التي تقيس ضغطها ، ودرجة حرارتها ولم تكن قد انتهت بعد ، من استكمال إجراءات الكشف لما أرادت الممرضة أن تزيح الغطاء ، لتضع السماعة على بطنها ، أبعدت يدها ، واجترّت نفساً عميقاً وقالت :
- أرجوك يا ( سستر ) ، إذا خلصتِ أبغى دكتورة تكشف علي
لم ترد الممرضة ، وإنما واصلت إجراءات الفحص ، وطرح الأسئلة التقليدية ، عن تاريخها المرضي ، وإذا ما كان لديها حساسية ، تجاه دواء معين تجاهل الممرضة لطلبها ، زادها إحباطاً ، ورفع وتيرة قلقها فنظرت إلى زوجها بعينين منهكتين ، أثقلهما الإحراج ، والشعور بالعناء الذي تسببه له فعجزت عن فتحهما بكامل استدارتهما وقالت :
- أسألك بالله يا أبو أحمد ، فكّني من وجع القلب هذا !
أغضى وتنهد بصوت مكتوم ، ولم يعلّق وقف للحظة ثم شد على يدها ، قبل أن يذهب خرج من عندها ، وصار يتلفّت بحثاً عن أحد يسأله شاهد شاباً يرتدي معطفاً أخضراً ، يناقش إحدى الممرضات في ورقة يحملها اقترب منه ، وأخبره بحاجة زوجته لعناية عاجلة لم يقطع الشاب حديثه مع الممرضة ، بل التفت بسرعة وقال وهو يشير بيده باتجاه أحد الأشخاص :
- كلّم الدكتور بشير
- وأنت ؟
- أنا طبيب امتياز
- يعني ؟
لم يـــــرد عليه ، بل استمر في حديثه ، واكتفى بالإشارة إلى شخص سوداني في طرف الصالة ، عليه معطف أبيض ، ويتحلق حوله عدد من الأشخاص ، بينهم ممرضات سأل إحدى الممرضات عن الدكتور بشير ، فأشارت إليه أراد أن يحدثها عن حالة زوجته ، فاعتذرت وأخبرته أن عليه أن يتحدث مع الطبيب المسؤول في قسم الطوارئ الدكتور بشير اقترب وحيّاه :
- مساء الخير دكتور ، أنا زوجتي حامل وتعبانه ممكن
- الدور جاي عليها ، دقائق فقط ، وأجيء لها
- المشكلة يا دكتور ، إنها تريد طبيبة تكشف عليها
- للأسف الليلة الدكتورة صار عندها حالة طارئة ومشت ، ولا يوجد في القسم عندنا ، إلا دكاترة رجال ، يكشفون على المرضى
- والولادة ؟ الممرضة قالت أنها ربما تكون عندها حالة ولادة مبكرة !
- موضوع الولادة ليس فيه مشكلة ، على حد علمي ، يوجد طبيبة ، لكن دعنا الآن نراها ، ونعرف ما هي حالتها بالضبط ، مع الدكتور فيصل
ثم أشار برأسه إلى طبيب ، يقف على بعد أمتار منه ، يقلب مجموعة أوراق بين يديه يبدو الدكتور فيصل ، من ملامحه ومظهره الخارجي أنه سعودي فرح بذلك ، وقال يحدث نفسه : دكـــتور سعودي سوف يتفهم موقف زوجتي ، ورفضها للأطباء الرجال ويقدر حالتها النفسية ، وشعورها
عاد إلى زوجته ، وفضل أن يبدأ بإطلاعها ، على ما يظن أنه الخبر الذي سيطمئنها ويريحها يعلم أنه لو أخبرها بعدم وجود طبيبة ، تتولى الكشف عليها ، فإن وضعها النفسي سيتدهور ، وحالتها الصحية ستزداد سوءاً قال إنه تحدث إلى الدكتور رئيس قسم الطوارئ ، عن رغبتها في طبيبة تتولى متابعة حالتها ، وأن الدكتور أكد وجود طبيبة نساء وولادة ، سوف تتولى رعايتها ، والإشراف على الولادة بمجرد أن يتم تحويلها من الطوارئ إلى قسم التوليد ، بعد أن تنتهي إجراءات الكشف ، والتأكد من حالتها ثم أضاف ، بكثير من الاطمئنان :
- هناك أيضاً دكتور سعودي موجود في الطوارئ ، سيساعدنا لو حصل أي إشكال
بدت أمارات الرضا على وجهها ، ولم تنتبه لكلام زوجها ، أن من سيتولى الكشف عليها ، وينهي إجراءات فحصها قبل تحويلها لقسم التوليد ، دكتور وليس دكتورة كان انتباهها مركزاً على الجزء الأول من الكلام ، الذي يتحدث عن طــــبيبة النــساء والولادة عائشة انتبهت للأسلوب ، الذي خاطب به والدها والدتها ، ولاحظت مظاهر ارتياح اتسم بها حديثه ، وهو يتحدث عن وجود طبيب سعودي انتبهت أيضاً للسكينة التي غمرت أمها ، بعد سماعها لكلام والدها اختلست نظرة لوجه والدها ، الذي أدرك ما يدور في خاطرها فتبادلا ابتسامة ارتياح وإعجاب هي للطريقة الذكية التي استخدمها لطمأنة أمها ، وهو لذكائها وسرعة بديهتها
كانت الممرضة قد فرغت من إجراءات الفحص ، ودونت النتائج في بيان معها ، وعلى وشك أن تخرج ، حين دخل الدكتور بشير السوداني ، ومعه الطبيب الآخر ، الذي كان واضحاً ، من لهجته وكلامه أنه سعودي أخذ الدكتور بشير الورقة من الممرضة ، وتحدث بلغة إنجليزية مع الطبيب الآخر ، وصارا يستعرضان المعلومات التي دونتها الممرضة طلب الدكتور بشير من الممرضة أن تكــشف عن بطن المريضة تمسكت أم عائشة بالشرشف ، لكن زوجها نظر إليها بعتاب وخاطبها بصوت خافت :
- مها !
طرفت عيناها من خلف النقاب ، ثم أرخت قبضتي كفيها عن الغطاء وتنهدت بعمق في الوقت نفــــسه ، انحنت عائشة ووشوشت في أذن أمها بكلمات غير مسموعة ، أطلقت بعدها الشرشف ، وتركت الممرضة تقوم بواجبها
وضع الدكتور بشير السماعة على الجزء الظاهر من بطنها ، وتحدث مع الطبيب الآخر ، الذي تناول منه السماعة ووضعها في أذنيه أصغى لبضع ثواني ، ثم التفت إلى الدكتور بشير ، وهز رأسه موافقاً ، وعلق بعبارة واحدة كان الحوار باللغة الإنجليزية ، فلم يفهموا شــيئاً مما دار بينهما التفت الدكتور بشير إلى والد عائشة ، أبو أحمد وقال :
- زوجتك لديها حالة ولادة مبكرة ، وسنكتب لها إذن تنويم الدكتور فيصل هو استشاري النساء والولادة سيتولى إكمال الإجراءات والإشراف على الولادة
تبادل أبو أحمد نظرات سريعة مع زوجته ، التي فاجأها الخبر ، وكان خلاف ما توقعته فظهر الهلع في عينيها ، وأخذت تجمع الشرشف حولها بعصبية ، وتردد : لا لا كان الدكتور بشير على وشك أن يخرج ، قبل أن يستوقفه زوجها ، ويقول له :
- لكني يا دكتور ذكرت لك ، أن زوجتي لديها مشكلة ، ولا تريد إلا دكتورة لتقوم بتوليدها
- والله يا أستاذنا ، هذا ليس من اخــــتصاص الطوارئ كلم الدكتور فيصل هو المسؤول
غادر الدكتور بشير ، فالتفت أبو أحمد إلى الدكتور فيصل ، الذي كان يرتب إجراءات التنويم مع الممرضة ، وسمع الحديث الذي دار بينه وبين الدكتور بشير فقال :
- دكتور فيصل ، لو سمحت
قبل أن يكمل كلامه ، فاجأه الدكتور فيصل ، دون أن ينظر إليه ، وهو ما زال منشغلاً مع الممرضة برد جاف ، وتقاطيع جامدة :
- الإجراءات تتم حسب المتوفر
- الدكتور بشير ، قال لي قبل وصولك بدقائق ، إن فيه طبيبة دكتورة
انفعل الدكتور فيصل ، ورد بعصبية :
- يعني أنا كذاب ؟!
- أنا ما قلت كذا !
واصل الدكتور فيصل انفعاله ، وبوتيرة أعلى :
- قلت أو ما قلت ، أزعجتونا كل واحد يجيء لي أبغى دكتورة تولد زوجتي إيش الأوادم هذي ؟ صلحوا لكم مستشفيات بمزاجكم عاجبك نظامنا ، أو خذ زوجتك وتوكّل على الله الباب يوسع جمل !
ثم ختم ردّه الحاد ، بعبارة خافته ، حاول أن تكون غير واضحة :
- ناس متخلفة !
لكن يبدو أن أذن أبو أحمد ، قد التقطت الكلمة :
- يا دكتور هذا مستشفى حكومي ، ومن حق المواطن أن يلقى احتراماً ، وخدمة صحيحة التخلف ليس التزام الإنسان بما يؤمن به ، بل معاملة الناس بهذه الطريقة
اندفع الدكتور فيصل خارجاً من غرفة الفحص ، بعد أن أكمل بلغة غاضبة ، توجيه تعليماته للممرضة لم تفلح في إيقافه عبارة : " أرجوك يا دكتور " ، التي ظل أبو أحـــمد يرددها أملاً في أن يستمع إليهم ، ويتفهم ظروف زوجته ، ووضعها النفسي أراد أن يشرح له ، أنها ليست مسألة حلال أو حرام فقط ، ما يجعل زوجته ترفض الأطباء الرجال وهو ما فهمه ، من وصفه لهم بالتخلف بل بسبب حالتها النفسية كان واضحاً أن مــــوقفه قطعي ونهائي ، لأن الممرضة ، بعد انصرافه ، جاءت وأكّدت لهم ، أن الدكتور فيصل ، طلب منها أخذ توقيعه وإقراره ، على أن من سيتولى توليد زوجته طبيب رجل ، وليس طبيبة
أراد أن يتبعه ليجادله ، لكنه فضل أن يبقى ليهدئ زوجته ، التي أخذت تنتحب ، وفاض الدمع من عينيها ، حتى بلل معظم نقابها منظر زوجته تتلوى من الألم ، وموقف الدكتور الحاد من طلبهم ، جـعله يشتعل سُخطاً وغضباً ولم يبقِ مجالاً للصبر ، فخرج ليلحق به جال في قسم الطوارئ يبحث عنه ، وهو يردد بغيظ :
- أين دكتوركم المحترم ؟
لم يجده وكذلك الدكتور بشير ، لم يكن موجوداً هو الآخر بدأ يعلو جداله مع موظف الأمن ، الذي كان يطالبه بالهدوء أو سيضطر لاستدعاء الشرطة لإخراجه زوجته وابنته كانتا تسمعانه من داخل غرفة الفحص خشيتا عليه أن ينفعل ، فيقدم على تصرف غير محسوب :
- عائشة نادي على والدك بسرعة
( يتبع )
موسى بن ربيع البلوي
08-23-2008, 10:48 PM
خرجت عائشة لتجد والدها في جدال محتدم مع رجل الأمن ، وبعض العاملين في قسم الطواريء نادت عليه ، وأخبرته أن أمها تريده حين دخل على زوجته ، كان وجهه محتقناً ، عليه أثار الإجهاد والغضب ، من النقاش الحاد ، والشعور بالإحباط لم يطق الصبر على نظراتها الكسيفة ، ولا استطاع أن يديم النظر إلى وجهها الأبيض الغض ، الذي انقبض وعــصرته آلام المخاض ، وشحب فصار أصفر ، بعد أن امتص نضارته ، الإحساس بالعجز والمهانة ، من طريقة تعامل الدكتور فيــصل معهم قال لها كأنما يريد أن يعيد إليها ولنفسه ، كرامة مهانة ، وإنسانية مهدرة :
- حبيبتي مها ، لا يهمك الدكتور قليل الأدب هذا الآن نطلع ، ونروح لمستشفى خاص ، وتولّدك دكتورة
ثم التفت إلى ابنته ليؤكد ما عزم عليه :
- عائشة هاتي عربية أنا سأساعد ماما على النزول من السرير
اعتدلت زوجته في جلستها ، وأمسكت بيد ابنتها ، لتمنعها من الذهاب ، وقالت وهي تنظر إليه ، بعيون امتلأت حباً :
- لا يا ناصر الله يخليك لنا المستشفيات الخاصة تكلف كثير ، وأنا ولادتي ، يحتمل أن تكون غير طبيعية العمليات القيصرية غالية جداً يفرجها ربك إن شاء الله
ثم أضافت ، بنغمة لا تخلو من خوف :
- تذكر جيراننا أم خالد كيف طردهم المستشفى الحكومي ، لعدم وجود أَسِرِّة لأن زوجها ، ليس من منسوبي ذلك القطاع ، وراحوا لمستشفى أهلي ، وكلفتهم الولادة أكــثر من 25 ألف ريال ما قدروا يدفعونها ، فرفض المستشفى تسليمهم المولود ، إلا بعد شهر ، لمّا استلفوا ودفعوا لهم
عائشة كانت ترقب المشهد تتأمل صراع أمها مع الألم ، وصراعها مع نفسها بين رفضها أن تذهب إلى مستشفى خاص ، سوف يكلفهم فوق ما يطيقون ، وبين قبولها بأن يتولى عملية توليدها رجل ، وهو أمر فوق أن تحتمله نغمة اليأس العميق ، بدت واضحة جداً ، وهي تعترض على اقتراح زوجــــها جملتها الأخـــــيرة : " يفرجها ربك " ، خرجت خافتة متقطعة ، وعبّرت عن حقيقة شعورها العميق ، بالأسى والمرارة ، رغم أن ظاهر كلامها خلاف ذلك حين أنهت عبارتها هذه ، أسبلت جفنيها ، ثم انزلقت على وسادتها ، فغاص رأسها في الوســــادة ، وهبط صدرها ، بعد أن زفرت نفساً عميقاً بدا المشهد ، بين انغماس رأسها في الوسادة ، وهبوط صدرها وكأنها تهوي إلى قاع
ألم عائشة تضاعف ، وهي تشـــاهد والدها تقسّمه الحيرة ، بين ما آلت إليه حال أمها ، بسبب موقف الدكتور فيصل ، وبين رغبته في أن يساعدها ، للخروج من هذا الوضع ، بنقلها إلى مستشفى خاص ، رغم ضعف إمكاناته المادية انتبهت إلى أن حيرته تضاعفت ، بعد رواية أمها لقصة أم خالد تسترجع المشهد لبضع دقائق مضت ، حين كــــان والدها ، يشرق وجهه بالأمل ، وتكسو محيّاه علامات الارتياح ، لوجود طبيب سعودي تلحظ الآن ، شعوراً بالمرارة ، يجعله يوالي ارتشاف الماء ، من زجاجة مياه صحية لم تفارق يده ، منذ أن تجادل مع العاملين في قسم الطوارئ ، حول موقف الدكتور فيصل سمعته يردد في جداله معهم : " تصوّروا يصفنا بالتخلف ، لأن زوجتي امرأة تستحي ، وتراقب ربها ، ولا تريد أن يقوم بتوليدها إلا طبيبة هل يعقل أن يكون هذا الدكتور وأمثاله ، من نفس مجتمعنا ، ويدينون بدينه ؟ " أحست أن صدمتها من تعامل الطبيب ، وخيبة أمل والدها به ، أشد أذى على نفسها ، مما اعترى والدتها من انزعاج ، لعدم وجود طبيبة تـــتولى توليدها
هــذا المــوقف ليس الأول ، الذي يصدمها فيه تعامل بعض السعوديين العام الماضي ، روت لها زوجة خالها ، التي كانت عائدة من رحلة خارجية ، موقف راكب سعودي ، رفض أن يتنازل لهم عن مكانه ، ليلتئم شمل الأسرة ، وتبرع بذلك شخص هندي تتذكر أن زوجة خالها ، قالت بسخرية ، تعليقاً على ذلك الموقف : " لا وبعد ، لابس قميص ( تي شيرت ) ، كاتب عليه : ارفــع رأسك أنت سعودي على ويش ؟ على زين الطبائع ! "
ابتسمت في سرها ، إذْ صادف تعليق زوجة خالها ، قناعة داخلية لديها ، بأن هذا الشعار ، ينطوي على إحساس مزيف بالتفوق ولا يخلو من نبرة عنصرية ، تكرّس فوقية فارغة
استغرقت في التفكير ، تتأمل والديها الموزعين بين عناءين : الرهاب النفسي لوالدتها من الأطباء الذكور ، وعجز والدها عن تحقيق رغبة أمها مادياً بسبب ضيق ذات اليد ، ومعنوياً بسبب صلف الدكتور وعجرفته عادت بها الذاكرة إلى سنوات مضت ، إلى حلم صغير لابنة التاسعة أمنية طفلة باحت بها في لحظة براءة ، لأم اشتكت إلى ربها في خلوتها ، عجزها ، وقلة حيلتها كادت أن تفلت منها ابــــــتسامة ، في أجـــــــواء الأسى هذه ، حــــــــــين تذكرت قولتها القديمة لأمها : " ماما لما أكبر أصير دكتورة ، وأكشف عليك " أحست أن هذه الأمنية ، صارت أكثر إلحاحاً الآن ، لتكون حقيقة شريط الذكريات انقطع فجأة ، على صوت ممرضة تزيح ستارة غرفة الفحص ، وهي تدفع سريراً بعجلات وتقول :
- " يا الله ماما ، نروح القسم ، فيه تنويم "
تناظروا فيما بينهم الأب لزم الصمت ، أما عائشة فاصطنعت ابتسامة ، لتشجع والدتها على النهوض ، وصارت تهز رأسها ، وتشير إلى السرير الذي تمسك به الممرضة أدركت والدة عائشة أن صمت زوجها ، ينطوي على موافقة ضمنية على رأي ابنتها بالاستجابة للممرضة أصلحت من ملابسها ، ونهضت واستقرت على السرير
دفعت الممرضة السرير باتجاه باب خشبي من درفتين ، لونه أزرق فاتح ، بمستطيل زجاجي يمتد عمودياً وسط كل درفة من خلال الزجاج ، يبدو ممر طويل ، يلمع بلاط أرضيته البلاستيكية ، من شدة النظافة حين انطبقت درفتا الباب ، لحظة تجاوزوه اختنقت الأصوات ، التي كانت تملأ قسم الطوارئ ، فخيّم الهدوء ، إلاّ من وقع أقدام ، لرجل يسرع الخطو ، في آخر الممر
نحيب أم أحمد المتقطع ، صار هو الأعلى ، مع ابتعاد وقع خطوات الرجل صار صوتها كذلك ، يرتفع احتجاجاً ، فيدوي في المكان معترضة على ذهابها لقسم الولادة الممرضة التي يبدو أنها قد تأثرت بحالتها النفسية ، وشاهدت انفعال الدكتور فيصل في حديثه معهم ، أشفقت عليها ، وسعت لتهدئتها بعــــبارات من نوع : " ماما ليش فيه خوف كله بسيط ، هذا فيه بنج ، ما فيه ألم إن شاء الله الله يخلي ولادة طبيعي "
كانت الممرضة ، أثناء حديثها مع أم أحمد ، تربّت على كتفها بهدوء ، أو تضع كفها على جبينها حديثها اللطيف ، ولمساتها الحانية ، جذبت انتباه عائشة ، فاختلست نظرة إلى بطاقتها الشخصية ، المعلقة على صدر معطفها استطاعت أن تلتقط اسمها الأول : روزماري أثار الاسم فضولها :
- ( سستر ) أنتِ من أندونيسيا ؟
ردّت بابتسامة :
- " لا أنا فلبين "
فاجأها الرد كأنما كانت تتمنى أن تكون من أندونيسيا ، رغم أن ملامحها ، واسمها لا يدلان على ذلك في ذهنها ارتبطت اندونيسيا بالإسلام ، والفلبين بالمسيحية همست لنفسها : " من الفـــلبين ليست مسلمة ، تعاملها طيب ، يا الله خسارة "
أبقت في نفسها أملاً أن تكون من مسلمي الفلبين ، لكنها استحت أن تسألها عن دينــها ، وأحست بحاجز نفسي ، انتصب بينهما ، يمنعها من استمرار التواصل معها حين داخلها شك بأنها مسيحية لا تدري لماذا ينتابها مثل هذا الشعور مع غير المسلمين ، رغم أنها ، ليست المرّة الأولى ، التي تقــابل فيها شخصاً غير مسلم ، بأخلاق حسنة كما أنها تصادف حالات كثيرة ، لا يكون تعامل المسلمين فيها جيداً هذا الوضع ، سبب لها إرباكاً ، وشعوراً بالإحباط إنها حاجتنا أن ننسجم مع إيماننا وقناعاتنا ، وأن ننفر من التناقض : أليس التعامل الحسن ، خلقاً إسلامياً ؟
كانت سارحة ، تقلب في ذهنها معنى اسمها : ( روزماري ) وتود لو سألتها ماذا يعــــــني ربما يفصح ذلــــــك عن دينها الذي ما زالت في شك منه ، وقد يفسر لها كما تعتقد ، علاقة ذلك ، بسلوكها اللطيف دون أن تتعرض لحرج السؤال المباشر عزّت نفسها بخاطر آخـر : " حتى لو لم تكن مسلمة تعاملها طيب " قطعت عليها الممرضة أفكارها ، حين بادرتها :
- " ليه ماما فيه خوف من ولادة " ؟
- " لا ماما ما فيه خوف ماما ما تبغى دكتور رجال يسوّي ولادة "
فتحت عينيها بدهشة وقالت :
- " بَسْ ! ما فيه مشكلة ، أنا أكلم دكتورة "
كانوا عند مدخل قسم الولادة ووضع أم أحمد النفسي قد ازداد سوءاً ، حين طلبت منهم الانتظار ، لتتولى بحث الأمر عائشة ووالدها التزموا الصمت ، لكن والدتها ، صارت تلهج بالدعاء لها بالجنة ! سحبت الممرضة الملف ، المعلق بذراع السرير المعدني ، وأسرعت إلى مكتب رئيسة جهاز التمريض
أبو أحمد علق مازحاً ليخفف عنها ، ويضفي جواً من المرح :
- تدعين لها من قلب يا أم أحمد ، تراها مسيحية كأنك تغيرت !
لم ترد لكنه أضاف باسماً :
- أيّام إعصار ( كاترينا ) ، لما كنت تدعين على الأمريكان ، بالموت والغرق ، كنت لما أقول لك : مساكين ما لهم علاقة بــ ( بوش ) وحكومته الملاعين ، قلت لي : خلهم كفار ، يستاهلون !
- الأمريكان يكرهوننا أنت ناسي إني ما دعيت عليهم ، لأنهم كفار ، لكن لأنهم يسجنون الشباب السعوديين في غوانتانامو ويقتلونهم ، ثم يقولون إنهم انتحروا وبعدين الممرضة هذي طيبة ما علي منها ، دينها لها ، أنا يهمني التعامل الطيب !
استمر في مشاكستها ، بأسلوب ، لا يخلو من الدعابة والاستفزاز :
- ما شاء الله هذا شيء جديد !
- لا أنا سمعت الشيخ في صلاة التراويح في رمضان ، يقول إن الإسلام يأمر بالإحسان ، والتعامل الطيب مع الكفار ، الذين لا يأتي منهم ضرر أو أذى
- الله يجعلها سبب خير
أقـــبلت الممرضة تحمل الملف معها كانت تمشي بسكينة ، دون انفعالات ظاهرة على وجهها حين اقتربت ، قالت بهدوء وهي تعيد الملف إلى مكانه :
- " خلاص ماما ما فيه دكتور رجّال ، دكتورة ميمونة يسوّي ولادة "
صرخت أم أحمد من المفاجأة ، وصارت تردد : " يا بعد عمري ، يا بعد عمري " ، ثم التفتت إلى ابنتها :
- إيش اسمها يا ( عيّوش ) ؟
- روزماري
- يا بعد عمري يا روز
ابتسمت الممرضة ، وهي تدفع السرير إلى داخل القسم من رد فعلها الشديد كانت تراقب أم أحمد ، وقد تحول وجهها من قطعة أسى مغموسة بالدمع ، إلى مساحة من البهجة يتطاير الفرح من كل قسماته ، وتومض في وسطه ابتسامة ، افتر عنها ثغرها المرصع بثناياها البيض المتراصة بانتظام أدركت أن هذه الفرحة الكبيرة ، كانت بسبب ما قامت به ، من أجل أن تتولى توليدها طبيبة لم تزد على أن ابتسمت ابتسامة خفيفة ، ورمقتها بنظرة رضا ، ثم طلبت من زوجها أبي أحمد ، أن يبقى في غرفة انتـــظار جانبية ، لأنه ليس مسموحاً للرجال ، من غير العاملين ، بتـــجاوز هـــذه المنطقة
فرحة أم أحمد ، بما فعلته الممرضة من أجلها ، لم تقف عند حـــــــــد الدعاء لها ، والتعبير عن شكرها العميق ، لما قامت به أو حتى القبلة العنيفة ، التي طبعتها على خدها ثمة امتنان يتوارى في اللاوعي ، ترغب في ترجمته إلى ســـلوك واعي قـــــالت لعائشة :
- اسأليها عن معنى اسمها إن الله رزقني بنيّة ، لأسميها عليها
ضحكت عائشة ، ونقلت للممرضة ، التي كانت تجهز سرير التنويم ما تقوله أمها ابتسمت الممرضة ابتسامة عريضة وقالت ببهجة واضحة :
- " روزماري أووه هذا ( كريستيان نيم ) !
لم تكن لغة عائشة الإنجليزية تسعفها ، لتفهم ماذا تقصد ، وكانت على وشك أن تسألها توضيحاً لكلامها ، عندما دخلت امرأة منقبة ، ترتدي معطفاً أبيضاً فهمت عائشة ووالدتها ، من مخاطبة الممرضة لها بالدكتورة ، أنها قد تكون طبيبة من قسم الولادة عرفت بنفسها :
- أنا الدكتورة ميمونة مناوبة الليلة في قسم الولادة أنت ستكونين مريضتي وتحت متابعتي
- يعني أنتِ التي ستولّدينني يا دكتورة ؟
- نعم الدكتور عبد العزيز ، كبــــير الأطباء ، كان في الطوارئ ، وأتصل بي ، وطلب مني أن تكوني مريضتي كأنه ألمح إلى وجود مشكلة
خجلت أن تتحدث عن حالتها ولم ترد نظرت عائشة إلى أمها ، تستأذنها بالــكلام :
- أمي يا دكتورة ، عندها مشكلة مع الأطباء الرجال حالتها النفسية تسوء ، إذا كشف عليها طبيب كانت على وشك أن تنهار ، لمّا رفض طبيب في الطوارئ اسمه فيصل ، أن تتولى توليدها دكتورة ، وقال ما فيه طبيبات
- حصل خير الممرضة روز شرحت حالتها لرئيسة الممرضات في القسم ، وهي بدورها اتصلت على الطوارئ ، وصادف وجود كبير الأطباء ، مع الدكتور بشير ، وتم تكليفي بمتابعة حالتها
قاطعت الأم ، وسألت بلهفة :
- يعني أكيد يا دكتورة دكتور فيصل هذا ما له علاقة ؟
- الدكتور عبد العزيز ، كبير الأطباء ، هو صاحب القرار وهو إنسان رائع ، ومن خيرة الأطباء السعوديين ويتفهم مثل هذه الحالات
أخبرتهم الطبيبة أن دلالات الفحص الأولى ، تشير إلى أن الولادة لن تكون طبيعية ، وأنها قد تحتاج إلى عملية قيصرية ، خاصة وأن الأشعة فوق الصوتية تبيّن ، ولكن بشكل غير مؤكد ، أنها قد تكون حاملاً بتوأم ثم أضافت ، موجهة الحديث لعائشة :
- قد تتأخر ولادتــــها عدة ساعات ستكون تحت المراقبة ، ولن تكون بحاجة لمرافق خذي من الممرضة رقم هاتف القسم ، ورقم التحويلة واتصلوا في الصباح للاطمئنان ، وعندما يحين موعد الزيارة بعد الظهر ، تستطيعون الحضور
عادت عائشة ووالدها إلى البيت حينما رجعت الظهر من المدرسة ، كان الخبر السار بانتظارها في غرفتها وجدت على وسادتها رسالة من والدها : ورقة بيضاء ، رسم عليها شكلاً لوجه يبتسم ، وتحته كتب هذه العبارة : " انضم اليوم عضوان إلى ( قبيلتنا ) " فهمت الرسالة : أمها ولدت توأم هذه واحدة من دعابات والدها ، الذي قال مرّة ، لما ذهبوا إلى أحد المطاعم ، ولم يجدوا مقاعد كافية لجميع أفراد العائلة أنه في المستقبل ، سوف يـــفتح مطعماً ، ويغير قــــسم العائلات ، إلى قسم ( القبائل )
لم تسعها الفـــرحة أخذت تقفز ، وتدور حول نفسها وتدندن اتجهت إلى الهاتف ، واتصلت بالمستشفى جاءها الرد ، فطلبت التحويلة ثم تتابع الرنين عدة مرات ، دون إجابة كررت الاتصال أكثر من مرّة ، وفي المرّة الرابعة ، سمعت صوتاً مختلفاً على الطرف الآخر سألت :
- ممكن أكلم أم أحمد ؟
- فيه واحدة في السرير الثاني اسمها مها ، هل هي التي تقصدين ؟
- نعم
- نائمة !
أغلقت الخط ، واستبد بها قلق أخذت تحدث نفسها مترددة : هل تتصل بوالدها ، أو تنتظر وصوله ؟ لا تدري هل هو الخوف على أمها ، أم الفضول هو ما يلح عليها بالاتصال لم يطل ترددها ، فالتقطت جوالها واتصلت فوجئت بأنه مغلق نظرت إلى ساعتها ، وقالت وهي تهز رأسها : " وقت الصلاة " اعتاد والــدها أن يغلق جوّاله ، وقت الصلاة رأت أن تنتهزها فرصة ، لتغير ملابس المدرسة ، وتصلي ثم تعاود الاتصال بوالدها سيكون وقتها ، قد فرغ من الصلاة ، وأعاد فتح جواله كانت قد انتهت من صلاتها ، حين دق جوالها بنغمة مميزة همست في سرها : " هذا البابا " ردت مازحة :
- أهلاً بشيخ ( القبيلة ) !
- يا لعّابة
قالها وهو يغالب الضحك
واصلت معابثتها له :
- كيف حال حرمكم المصون أيها الأمير ؟
- أنا في الطريق سوف نتناول غداءنا ونذهب كلمتُ والدتك الصباح ولادتها قيصرية ، وهي طيبة ، لكنها في ورطة !
ردّت بوجل :
- بسْم الله عليها عسى ما شر ؟!
- أبداً صحتها جيدة ، لكنها متورطة بالعهد الذي قطعته على نفسها
- أي عهد ؟
- بأن تسمي واحدة من البنتين ، على الممرضة روز ماري
- يعني التوأم بنتين ؟ دم دم يلاللىّ !
جالت في البيت ، على إخوانها وأخواتها ، تغني وتهزج ، تبشرهم بولادة أمها لتوأم :
- ولدت أمي بنتين جميلتين مثل القمر
اتصلت بخالاتها وعماتها وبناتهن ، وأرسلت رسائل جوال لعدد من الصديقات خلال ربع ساعة ، كان الخبر قد انتشر ، مثل نور القمر ، على حد تعبيرها بين دائرة كبيرة ، من الأقارب والأصدقاء حين وصل الأب ، تناولوا غداءهم بسرعة ، ثم انطلقوا إلى المستشفى ، يرافقهم الابن الأكبر أحمد الذي يصغرها بما يزيد قليلاً عن العام تداولت هي وأحمد في السيارة ، أثناء الطريق أسماء كثيرة في الأخير علق والدهما :
- اختاروا اسماً واحداً فقط والدتكم جادة في تسمية واحدة من البنات ، على الممرضة
وصلوا المستشفى قبل بداية موعد الزيارة بخمس دقائق مسؤول الأمن كان واقفاً بالباب ، يمنع الدخول قبل بدء الموعد تماماً رفض قطعياً طلب والدها ، استجابة لتوسلاتها بأن يسمح لهم بالدخول ، وكان حازماً :
- النظام يا الطيب ما فيه دخول قبل الموعد
كانوا في مقدمة الزوار المنتظرين ، عند باب المستشفى ، ولحظة فتح رجل الأمن الباب ، وضعت علبة الشـــوكلاته في يد أحمد شقيقها ، واندفعت مثل السهم ، إلى الداخل تبسم والدها ، وهو يراها تهرول نحو المصعد ، وكتم ضحكة ، وهو يسمع تعليق شقيقها : " بابا أوقف المهبولة هذي "
في الغرفة التفوا حول سرير الوالدة ، وكان التوأم في حاضنة إلى جانبها الدعوات بالسلامة ، والتغزل بحلاوة البنتين وجمالهما والتعبير عن الدهشة بقدوم التوأم ، اختلط بأصوات أخــرى ، داخل الغرفة كانوا أول الواصلين إلى قســــم الولادة الأطباء والطبيبات لم ينهوا بعد ، جولتهم الإعتيادية على مرضاهم عائشة كانت الأكثر انفعالاً بالحدث أخذت تحاول أن تخرج إحدى البنتين ، لتحملها بين يديها ، ووالدتها تصرخ عليها لتمنعها ، وتؤكد أن التعليمات تمنع إخراجهما من الحاضنة في هذه اللحظة انزاحت الستارة ، التي تفصل بين أسِرّة المريضات ، ودخلت الطبيبة ألقت السلام ، وقالت :
- الحمد لله العملية كانت سهلة يا أم أحمد ، والبنات حالتهن ممتازة ومثل الأقمار ، ما شاء الله تبارك الله
ردّت أم أحمد ووهج ابتسامة يكسو وجهها :
- جزاك الله خيراً يا دكتورة ميمونة جهدك ودورك ما ينكر
- أبداً لم أقم إلا بالواجب بالمناسبة هل سمّيتوا الحلوات ؟
تبادلوا النظرات ثم قالت أم أحمد ، وقد برقت عيناها :
- واحدة منهن خلاص ، اتفقنا نسميها ميمونة
قالتها والتفتت إلى الجانب الآخر من ا لسرير ، حيث يصطف زوجها وأولادها وغمزت لهم بعينها لمعت عينا الطبيبة بالسرور من خلف نقابها وقالت بامتنان :
- والله ؟ هذا شرف كبير لي !
عائشة التقطت طرف الحديث ، وقالت :
- اسمك محل اتفاق يا دكتورة لكن الوالدة ، تريد أن تسمي البنت الثانية على الممرضة روز ، لكنها محرجة ، لأن الاســــــم غير عربي وغريب وأتذكر إني لما ســـــــــألت الممرضة عنـــــــــه ، قـــــــالت إنـــه " كريستيان نيم " ولم أفهم قصدها !
- أووه قصدك الممرضة روز ماري صحيح اسمها مسيحي
نظرت أم أحمد إلى زوجها ، الذي كان قد رفع حاجبيه بتعجب كأنما يريد أن يوصل لها رسالة فهمت حركة وجهه : الاسم ليس غير عربي فقط ، بل له دلالات غير إسلامية كذلك بدت على وجهها أثار الخيبة ، ولم تعلق عائشة بادرت ، لكي تنقذ الموقف فــــسألت الطبيبة ، إن كانت تقترح اسماً آخر الطبيبة التي رأت الإحباط في وجه الأم ، وأدركت رغبتها في التعبير عن امتنانها للممرضة إضافة إلى إحساسها العميق هي شخصياً ، بالعرفان لها ، بتسميتها إحدى بناتها عليها أرادت أن تتخذ موقفاً مسانداً لرغبتها فقالت :
- هناك حـــل وسط ، تتحقق من خلاله رغبة أم أحمد نأخذ نصف اسم الممرضة روزمــاري ، وتسمون البنت مارية ، تيمناً باسم زوجة الرسول صلى الله عليه وسلم ، مارية القبطية
وقع الاقتراح في نفوسهم جميعهم ، موقعاً حسناً ، ظهر على أسارير وجوههم ، التي انفرجت ، وعبّرت أم أحمد عن ذلك ، بشعور تلقائي :
- والله إنك يا دكتورة وجه خير وميمونة على اسمك
خرجت الدكتورة ، بعد أن أملت عليها عدداً من التعليمات ، بخصوص حالتها الصحية أكدت على وجوب الالتزام ببرنامج دوائي ، لعلاج التهاب بكتيري ، أظهر الفحص المخبري وجوده ، في عنق الرحم ثم قالت في ختام حديثها :
- الالتزام بأخذ الدواء ، كما هو محدد مهم الإهمال قد يؤثر في قدرتك على الإنجاب وبالمناسبة ، ممنوع الحمل ، قبل 3 سنوات على الأقل ، لأن ولادتك قيصرية
بعد أن أنهت حديثها ، مالت عليها عائشة ، وهمست في أذنها فتناولت القلم من جيب معطفها ، وانتزعت ورقة من دفتر الوصفات الدوائية ، وكتبت فيها ، ثم أعطتها إياها
عندما خرجت ، وأغلقت الستارة خلفها ، التفتت عائشة إلى والدتها مبتسمة ، دون أن تفصح عن الذي دار بينها وبين الطبيبة وقالت :
- ولا يهمك إذا حملتِ بعد 3 سنوات ، أكون قرّبت أتخرج من كلية الطب وقتها أنا سأشرف على الولادة
ابتسمت أم أحمد وأبو أحمد أما أحمد ، الذي اعتاد على مناكفة أخته ، فقد عبر عن سخريته ، بطريقته الخاصة ، حين أخرج لسانه ، وقال : " بالمشمش " لم يعجب أم أحمد تعليق أحمد على كلام شقيقته فقالت :
- إذا كانت تريد أن تكون مثل الدكتورة ميمونة أنعم وأكرم
انطلقت بعدها أم أحمد ، تثني على الدكتورة ميمونة ، وعلى التزامها وأخلاقها وصــــفت بكثــــير من الإعجاب ، كيف أن الفريق الذي كان معها في غرفة العمليات ، كله من النساء ، بما في ذلك طبيبة التخدير حديث أم أحمد عن الدكتورة ميمونة ، والفريق النسائي العــــامل معها ، يمثل تحولاً كبيراً في موقفها بقدر ما كان يعذبها ، اضطرارها للّجوء إلى أطباء رجال للفحص أو العلاج ، كانت تنفر كثيراً من فكرة شائعة ، عمّا يــدور في المستشفيات من اختلاط ، بين الرجال والنساء ، من أفراد الطاقم الطبي يتجاوز حدود الحاجة ، إلى ما تسميه إحدى صديقاتها : " قلة الحياء "
لم تكن عائشة تحتاج أكثر من ثناء أمها على الدكتورة ميمونة ، لتزداد إعجاباً بها ، ويزيد تعلقها بشخصيتها كلام أمها ، حمل أيضاً ، موافقة ضمنية على دور للمرأة ، كانت ترفضه ، وتتوجس منه ، بل وتعتبره كذلك معيباً وتدعو الله أن يحفظها منه لا تذكر كم من المرّات ، قالت أمها : " بسم الله عليك " ، حينما تفصح عن أمنيتها بأن تكون طبيبة جاء كلام أمها عن الــدكتورة ميمونة ، ليعزز الحلم الأمنية ، ويمنحه دافعاً و شرعية
يتبع000
موسى بن ربيع البلوي
08-25-2008, 03:12 PM
عام مضى البنتان التوأم كبرتا ، وأصبحتا قمرين حقيقيين ليس جمالهما ورقتهما ، هو ما يجعلهما موضوعاً لحديث أهل البيت المستمر بـــل اسماهما أيضاً اسم مارية ، ما يفتأ يذكّر الأم ، بمعاناتها مع الأطباء الرجال ، وبتلك الليلة بالذات ، وذلك القدر الجميل ، الذي ساق الممرضة روزماري لتتدخل ، وتضع نهاية سعيدة ، لليلة امتلأت بالعناء أبو أحمد ، يتأمل طفلتيه ، ويتذكر بمرارة الدكتور فيصل ، وخيبته في طبيب سعودي ، توقع أن يـــكون أكـــــثر تفهماً من غيره ما زال غير مدرك ، لماذا تقف بعض النخب ضد أهلهم ومجتمعهم ؟ أمّا عائشة فلها شأن آخر لقد نجحت هذا العام من الثانوية العامة بتقدير ممتاز ، وبمعدل فوق 95% اسم أختها ميمونة التوأم الأخرى ، أقرب إلى قلبها ، ولا يكاد يغادر ذهنها ليس لسبب معين ، لكنها تستذكر بكثير من الأمـــل ، من خلال اسم أختها ، الدكتورة ميمونة لتعزز حلمها وأمنيتها ، بأن تكون طبيبة خاصة أن أمها تحمل للطبيبة شعوراً ايجابياً ، وذكريات طيبة قالت مداعبة والدتها ، بشيء من المكر :
- يعني يا ماما ، أنـــــت ما تذكرك أختي مارية ، إلا بالممرضة روز ؟ طيب ميمونة ما تذكرك بالدكتورة ميمونة أو مالها فضل ؟
- يا حبي لها الدكتورة ميمونة الله يكثر من أمثالها
- أنت جادة يا ماما ودّك إن الله يكثر من أمثالها ؟
نظرت الأم إلى ابنتها ، نظرة تعجب ، وشعرت أنها تخفي شيئاً ، وتهدف من استثارتها بهذه الطريقة ، إلى الوصول إلى أمرٍ ما وقفتها الغريبة زادت من حيرتها عائشة كانت تضع يدها خلف ظهرها ، ثم فاجأت أمها بإبراز ما كانت تخفيه ، وقالت :
- حبيبتي ماما هذا إشعار نجاحي من الثانوية نسبتي تؤهلني لدخول كلية الطب ما تبغيني أكون مثل الدكتورة ميمونة أحل مشكلتك ، ومشاكل كثير من الأمهات أمثالك ؟
لم تجد الأم ما ترد به على ابنتها ، سوى أن تقول لها ، أن الأمر بيد والدها ردّت عائــشة ، على اعتذار والدتها ، وربطه بقرار والدها وموافقته ، بأنها هي ، وليس غيرها ، من يستطيع أن يقنعه ، إن كانت هي موافقة ومقتنعة بالهدف ، الذي تسعى من أجله ، لتكون طبيبة ردت والدتها :
- ما عندي مانع أكلم الوالد صحيح أنا بعد التجربة الأخيرة وموقف الدكتورة ميمونة ، صرت أقدر الحاجة ، لأهمية وجود طبيبة لعلاج النساء ، خصوصاً من هم مثلي لكني أيضاً تهمني مصلحتك ومستقبلك ، وخائفة عليك !
انشق ثغر عائشة عن ابتسامة عريضة ، فقذفت بإشعار النجاح من يدها ، وقفزت في الهواء وهي تردد صيحات فرح ثم اتجهت إلى أمها وضمتها :
- يا عــــمري ، يا أحلى ماما إن شاء الله إني أكون عند حسن ظنكم أنا قلت لها ، إنك لن تخذليني !
لم تفهم والدتها قصدها ، لكن عائشة نظرت إلى ساعتها ، ثم سارعت وأخرجت من جيبها ، ورقة وصفة دوائية ، مدون عليها رقم أخذت تتصل به وهي تقول بصوت مسموع : " إن شاء الله الوقت مناسب " :
- السلام عليكم دكتورة ميمونة ، كيف حالك ؟ أنا عائشة ، أخت التوأم ميمونة ومارية عرفتيني ؟
- وعليكم والسلام ، أهلاً أهلاً ، أكيد عرفتك
- أبشرك نجحت من الثانوية بمجموع مرتفع ، الحمد لله الماما تســـلم عليك ، وتراها وافقت على تسجيلي في كلية الطب
مدّت عائشة الجوّال لوالدتها ، التي أخذتها المفاجأة الآن فقط فهمت قصة الحديث الهامس بين ابنتها والدكتورة ميمونة ، والكتابة على ورقة الوصفة الدوائية قبل عام ، حين مرت عليها الدكتورة بعد الولادة ، في غرفتها في المستشفى للاطمئنان عليها ، وإعطائها التعليمات تحدثت مع الدكتورة ميمونة ، وكررت شكرها وامتنانها العميق لما قامت به تجاهها اعتذرت عن ارتباكها ، لأن عائشة فاجأتها بهذا الاتصال ، الذي يبدو أنها كانت تخطط له منذ زمن وأختارت له ، لحظة حاسمة مثل هذه تحدثت كذلك ، عن توأمها الجميل وكيف أن اسميهما زاداهما حلاوة ، ملمحة إلى اسم الدكتورة
الدكتورة ميمونة شكرتها على تأييدها لرغبة ابنتها عائشة ، في دراسة الطب ، ووعدت أن تقف معها وتساندها ، أثناء دراستها في الكلية تمنت أيضاً ، أن تزورها في المستشفى ، ومعها توأمها مارية وميمونة لتراهما :
- لقد شوّقتني لرؤية سَميِّتي ميمونة ، وتوأمها الأخرى الأَمّورة مارية أنا متأكدة أن روزماري ستفرح بهما كثيراً بالمناسبة ، فهي ممتنة جداً ، لتسميتك مارية عليها ، وقد ترك ذلك انطباعاً جيداً لديها
انتظمت عائشة في دراستها في كلية الطب البيت كله صار يؤيدها ويساندها أمها الرافضة الخائفة ، خصصت لها غرفة خاصة في البيت الوالد المتردد ، صار يطوف على المكتبات ، يوفر لها الكتب والمراجع أما شقيقها أحمد ، الذي كان كل ما تفعله وتحلم به أخته ، محل استهزاء وسخرية منه فقد أصبح مصدراً رئيساً ، لدعم لم تكن تتوقعه
أحمد صار متابعاً منتظماً لمنتديات الإنترنت لا يمر يوم أو يومان ، إلا ويزود عائشة بأوراق ، طبعها من بعض منتديات الانترنت ، بعضها يتكلم عن أهمية دعم عمل المرأة في القطاع الصحي ، لتخدم بنات جنسها ، وأخرى عن وجوب توفير بيئة مناسبة للطالبات في الكلـيات الطبية ، والعاملات في القطاع الصحي تمنع التحرشات والمضايقات ، التي قد تقع عليهن أكثر ما لفت نظرها ، كتابات لصاحب معرّف ، في أحد منتديات الانترنت الشهيرة ، رمز لنفسه باسم " شهاب الإسلام " كانت كتابات شهاب الإسلام ، تفيض حَمَيّة وحماساً ، في الدفاع عن حــــــــــق المرأة ، بأن يتولى علاجها وتطبيبها ، امرأة مثلها ، وضرورة وجــود بيئة عمل ( نظيفة ) في المستشفيات ، تؤدي المرأة العاملة فيها ، وظيفتها ورسالتها
في سنتها الأولى في الكلية ، مثلت لها هذه الكتابات ، بالإضافة إلى ما تلقاه من دعم أهلها سنداً معنوياً غير عادي خاصة وأن والديها تعرضا لانتقادات كثيرة من أقارب ومعارف ، لسماحهم لابنتهم بالدراسة في كلية ( موبوءة ) بالاختلاط ، كما يقولون أو بتعبير إحدى قريباتهم : " ريحتها فايحة " !
جارتهم وهي امرأة متعلمة ، كثيراً ما تفخر بأن زوجها رجل الأعمال ، يملك مركزاً طبياً ، كل العاملات فيه من النساء قالت لوالدتها مرّة ، على مسمع جمع من نساء ، كن مجتمعات عندها في إحدى المناسبات ، أن آخـــــر شيء كانت تــــتوقعه ، هــــو أن ( تفرط ) أم أحمد بأخلاق ابنتها عائشة ، وتسمح لها بدخول كلية الطب كاد كلام المرأة يصيبها بيأس هل هذا رأيها ، أم موقف سببه الغيرة لأنها قبلت في كلية الطب ، ولم تقبل ابنتها كانت تتوقع بحكم نشاط زوجها التجاري الذي له علاقة بطبيعة دراسة الطب ، أن تكون أكثر إدراكاً من غيرها ، لحاجة المرأة ، لامرأة مثلها ، تتولى علاجها " قليل من الناس من يتخلى عن هواه وحظ نفسه ، ويتجرد لذات المبدأ " همست لنفسها
نجاح عائشة المميز ، في عاميها الأوّلين في الكلية ، رغم الصعوبات ، وتحقيقها نتائج ممتازة في سنتها الـثالثة عزز من موقفها ، وزاد ثقتها بنفسها صارت الكلية ، خياراً لا رجعة عنه ، وحملات التثبيط ، وموجات الإحباط أصبحت تاريخاً ، تتأمله بكثير من السخرية ليس هذا فحسب ، بل غدت جزءاً مهماً ، من نشاط تجمع طالبي ، يقوده عدد من الطالبات ، يسعى لدعم استقلالية المرأة ، ضد سياسات تهدف لاستغلالها ، وتوظيفها في ( أجندات ) خاصة كما ذكرت مرّة ، في نقاش لها مع والدها
لم تعد الكلية ، يوم دراسي طويل ممل ومضنٍ على مائدة الأكل في نهاية الأسبوع ، صار مألوفاً ، أن تتوقف عائشة عن تناول طعامها ، وترد على اتصال هاتفي من زميلة ، وتكرر عبارات من نوع : نكافح ، نناضل ، ننتزع حقوقنا لم تفهم والدتها ، ماذا تعني بالضبط ، حين سمعتها ذات مرّة تقول ، في واحد من حواراتها على الهاتف ، مع صديقة لها من الكلية : " أرأيت كيف بدا زميلنا التافه اليوم ، حينما تصرفنا معه بأسلوب ، أدرك من خلاله أن المرأة وطالبة الطب خصوصاً ، ليست ( لحماً معروضاً ) يتذوقه بعينه أو بكلامه ! " كلامها كان مثيراً للاستفهام فاستفسرت منها أخبرتها ، أن زميلاً لهن " استخف دمه " ، على حد تعبيرها فأوقفناه عند حدّه كانت واثقة أن ابنتها تسير في الطريق الصحيح همست في سرها : " أنا فرّطت بأخلاق بنتي ؟ يا حبي لك والله يا عيوش "
اليوم شهدت الكلية موقفاً غير مألوف عائشة وبعض زميلات دفعتها ، رفضن الكشف السريري على مرضى ذكور كان الكشف يتطلب التعرض المباشر لبعض الأعضاء الحساسة أستاذ المادة ، استهجن تصرفهن ، ونعتهن بأوصاف ، تعبّر عن تشدد وضيق أفق وعدم ( تقدير ) العلم بعد أن هدّدهن بحرمانهن ، من دخول امتحان المادة ، وتطبيق ( النظام ) عليهن ، على حد قوله قال :
- الكلية ليست حكومة طالبان ونحن ندرس طب ، وليس نواقض الوضوء !
عبارته الاستفزازية ، لم تدفعهن لأي ردة فعل ، وتعاملن معها بصمت ، ولا مبالاة
لكنه عاد وأكد بشكل قاطع ، أنه جاد في تطبيق النظام ، ومعاقبة أي طالبة لا تنفذ ما هو مطلوب منها التهديد أثر في بعض الطالبات ، فتراجعن عن رفضهن الامتثال لطلبه عائشة وعدد من زميلاتها بقين على موقفهن :
- دكتور نرجو أن تتفهم موقفنا ، ووجهة نظرنا هذا الجزء من الدرس ، سنكتفي بالجانب النظري منه !
- كـــلامي واضح ونهائي لن تجتاز طالبة المادة ، إلا بأداء القسم العملي منها
ردّت عائشة بثقة :
- أعتقد أن في الجامعة نظاماً للامتحان ، يحدد الكيفية ، التي تجتاز فيها الطالبة المادة
- من أنت ؟
- عائشة الصالح
حــدق بها ، بنظرة حادة ، وقال بلهجة لا تخلو من غضب ، وعبارة ملأها مقتاً وإزدراء :
- آه عرفتك ، أنت التي يسمونك الزملاء " الملا عمر " !
لم تمر الحـــادثة بهدوء أصبحت حديث مجتمع الجامعة ، وتداولتها بعض البيوت بعد أيام وصلت القصة وإسم عائشة ، إلى زميل قديم لوالدها جار لهم صلى معه العصر ، وبعد الصلاة همس له :
- لعله بلغك خبر الذي حصل في كلية الطب !
- نعم ابنتي حدثتنا ، بما صار ، بين بعض الطالبات والدكتور وقد ذكرت أنها وزميلاتها ، قدمن شكوى لعميد الكلية ضد الدكتور ، الذي هددهن بالحرمان
- لا يا أبا أحمد الأمر ليس بهذه البساطة الطالبات اتهمن الدكتور بالخروج على تعاليم الإسلام ، وقلن إن نظام الكلية كافر نصيحتي لك أن تنتبه لابنتك
عاد أبو أحمد إلى البيت ، وروى لعائشة وأمها ، الذي دار بينه وبين صاحبه كان واضحاً أنّ ثمة هم ، بدأ يتسلل إلى قلبه ، ولم تفلح التلقائية التي حاول أن يتصنعها في حديثه ، في إخفاء ذلك عائشة أرادت أن تهوّن الأمر ، ولم تخف سخريتها من الشائعات ، التي ضخمت الحادثة ، فأوصلتها إلى هذا الحد الطبيعة القلقة لوالدتها ، جعلتها تنظر للموضوع من زاوية مختلفة :
- أنا قلبي يوجعني يا عائشة ، الموضوع يكبر ، والناس ما لهم إلا الظاهر المثل يقول : " ابعد عن الشر وغني له " !
صمت الأب ، فيما بقيت عائشة ، تجادل عن موقفها أكدت أن الأمر لم يتعد النقـاش الذي روته بتفاصيله ، بين الدكتور والطالبات وأن أي شيء خلاف ذلك ، هو من الإشاعات والأراجيف ، التي يروجها بعض الناس أرادت أن تضع تفــــسيراً علمياً لتضخم الشائعة ، فعزت ذلك إلى طبائع بعض الأشخاص النفسية ، الذين يعيدون صــــياغة الأحداث ، بما يتفق مع رؤاهم ، ويوافق طــــبائعهم ذكّرت والدها بما كان يقوله عن صاحبه هذا ، وأنه ميّال لتبني الرأي ، الذي يبرر سلوكه الانسحابي ، الذي يقوم على تضخيم المواقف ، بدافع الخوف ، لتبرير التنصل منها :
- ألم تقل يا أبـــــي أن صاحبك هذا جبان ، وأنكم أيـــام الدراسة ، كــــنتم تسمونه ( الدجاجة ) لشدة خوفه ؟
أخذت تشرح كيف أن طبيعة الرجل ، تفسر سلوكه فالقصة وصلته مع بعض الإضافات بيّنت أن كونه يعرفهم ، دفعه لأن يصنع له دوراً في الحدث ، يتناسب مع طبيعة شخصيته الجبانة ، التي لا تستطيع أن ترى نفسها في موقف ( ضد ) أي مؤسسة رسمية في نظره كلية الطب مؤسسة حكومية ، والحكومة ( دائماً ) على حق ولا يمكن أن يصدر منها ما يخـــالف الدين ، أو يصادم الأعراف والتقاليد أضافت أنه ثمة أمرٌ آخر كل التجاذبات والصراعات ، التي يمر بها البلد ، تدور حول العلاقة بين التكفير والإرهاب أفـــضل ( سلاح ) يمكن استخدامه الآن ، لإدانة الرأي الآخر المعترض على بعض السياسات الرسمية ، هو دمغه بالتشدد والتكفير ، ثم إدانته بالإرهاب :
- هذا كل ما في الأمر يا أبي ويا أمي ، وستسمعون كلاماً أكثر غرابة وشذوذاً من هذا من نوع أننا قلنا : يا ليت طالبان تحكمنا مثلاً ! هل تصدقون ؟ أنا لم أقل لكم هذا الجزء ، مما دار بيننا وبين الدكتور لقد وصفني الدكتور بــ ( الملا عمر ) ! ماذا يحصل لو أني قلت للدكتور : أنت مثل نوال السعداوي ، أو شبهته بأحد العلمانيين المتطرفين ؟
بدا التفسير مقنعاً ومنطقياً لوالد عائشة ، ولكن والدتها ظلت قلقة انصبت نصائحها لعائشة ، بوجوب إيثار السلامة ، والإهتمام بدراستها فقط :
- يا بنيّتي خليك في دراستك ، " لست وكيلة آدم على ذريته " فيه خراب وفساد في البــــلد ، كــــل الناس تعرف ذلك ! لكن " الموت مع الجماعة رحمة " !
لم ترق لها اللـــــغة الانهزامية لوالدتها لكنها ظلت صامتة ، بانتظار تعليق والدها كان والدها يتأملها بنظرة عميقة ، حملت كثيراً من المعاني ليس من بينها الخوف عليها ، أو وضع حدود لحرية تصرفها ، وسلوكها داخل الكلية كانت متأكدة من ذلك في اللحظة التي أراد بها أن يتكلم ، استجابة لرجاءات تتلاحق من عينيها ، دخل شقيقها أحمد ، يحمل رزمة من ا لأوراق :
- السلام عليكم كأن عندكم اجتماع خاص لا تكون عائشة مخطوبة ؟
قالها وهو يبتسم ، ويقلب الأوراق بين يديه ثم أضاف ، وقد تأهب للجلوس وهو يؤشر بالأوراق التي بيده :
- من قدّها ! موقفها هي وزميــــلاتها في الكلية ، أصبح حديث منتديات الانترنت أكيد سيكثرون خطابها !
لم تبتسم عائشة كعادتها ، على دعابات أحمد ، خاصة المتعلقة منها بالزواج التقطت الأوراق من على الطاولة ، حيث وضعها أحمد ، وصارت تستعرضها والدة أحمد ، أخذت زمام الحديث وقالت :
- قصة عائشة وزميلاتها ، وصلت الإنترنت هذا الذي كان ينقصنا !
- ليه يا أمي ؟ لو أنا مكانك ، أفتخر بعائشة الشباب في الانترنت اعتبروا موقف البنات مشرف ، وأفيدك فيه أخبار من داخل الجامعة ، تؤكد أن مدير الجامعة ، اعتبر الذي قامت به عائشة وزميلاتها ، حق لهن
- أكيد يا حبيبي أنت لم تصلك الأخبار الثانية الناس يقولون ، إن البنات يكفرون دكاترة الكلية ، ومنهج التدريس فيها
- كلام فاضي يا أمي
عائشة كانت تستعرض الأوراق ، وتفتح عينيها دهشة صدمتها العناوين المبالغ فيها ، التي تتصدر المقالات صارت تردد : " ما هذا ما هذا ؟ " أبوها الذي لاحظ انزعاجها سأل :
- ما الأمر يا عائشة ؟
- اسمع يا أبي ماذا كتبوا في الانترنت : " حفيدات حفصة وعائشة والخنساء ، يتحدين العلمانية في عقر دارها " ، " دكتور ليبرالي في كلية الطب ، يستهزئ بحجاب المرأة المسلمة " ، " دكتور الطب العلماني ، يطلب من بنات المسلمين العبث بأعضاء الرجال التناسلية " ، " كلية الطب أصبحت وكراً للــــرذيلة " ، " أين الغيورون مما يحدث لبناتهم من انحلال ، باسم الطب ؟ "
وجهها امتلأ أسفاً وأسى وغيظاً ، وهي تستعرض الأوراق ، وتقرأ مقاطع مما جاء فيها والدها لم يكن متأكداً من حقيقة موقفها مما تقرأ ، هل هي مع أو ضد ؟ ظـــل نظره معلقاً بها ، بانتظار أن تفصح عن حقيقة شعورها أخوها أحمد ، كان مزهواً فسر تعليقاتها القصيرة على الموضوعات ، وتعابير وجهها ، بأنـــها فرحة طاغية ، وشعور غامر بالسعادة ، بالحصول على مثل هذا التأييد الكبير رمت الأوراق على الطــاولة وقالت :
- هذا الكلام غير صحيح ، وغير منطقي ! أي علمانية ، وأي رذيلة ؟
نظرت إلى والدها ، وعيناها قد احتقنتا بالدمع وأضافت :
- نحن بين تطرفين يا أبي دعاوى التكفير ، وتهم العلمانية والانحلال !
أحمد الذي فاجأه موقف عائشة ، التزم الصمت تحسس جيبه ، وأخرج ورقة وأعاد طيّها ، ثم أرجعها مرّة أخرى لجيبه كان واضحاً من مظهرها ، أنها من جنس الأوراق ، التي استعرضتها عائشة ، وقرأت مقاطع منها مطبوعات من منتديات الإنترنت اهتمامه الخاص بهذه الورقة ، أثار استغراب والده فسأله :
- ما هذه الورقة التي في جيبك يا أحمد ؟
ارتبك ونظر إلى عائشة ، التي أدركت ما هي ، فغشيت وجهها حمرة الخجل والده كرر عليه السؤال فأجاب :
- صورة مقال ، مثل المقالات التي كانت عائشة تقرأ منها !
- لماذا أنت مهتم به بشكل خاص ؟
تلعثم ونظر إلى عائشة مرّة ثانية :
- لا أبداً إنه لكاتب تحب عائشة أن تتابع ما يكتب ، وأنا أزودها بمقالاته
تناول الأب المقال ، وشرع في قراءته لم يكن مختلفاً عن تلك التي كانت عائشة تقرأ منها ، إلا أن لغته أكثر حدة حين انتهى من القراءة ، انتبه إلى أن الكاتب اسمه ( شهاب الإسلام ) نظر إلى عائشة وقال :
- ما الذي يشدك إلى كتاباته ؟
ردّت وهي تتصنع عدم اهتمام :
- يتناول أحياناً ، مواضيع لها علاقة بالمرأة العاملة في القطاع الطبي
التفت إلى أحمد :
- هل تعرفه شخصياً يا أحمد ؟
- هاه لا لا
أحمد كان قد أسرّ لعائشة في وقت مضى ، أن ( شهاب الاسلام ) ، هو ابن خالتهم عبد السلام الياسر كتابات شهاب الإسلام ، شدتها منذ البداية ، قبل أن تعرف اسمه الحقيقي في بداية دخولها الكلية ، كانت متحمسة لطرحه الجريء ، في مواضيع لها علاقة بظروف عمل المرأة ، خاصة في القطاع الصحي أسلوبه وافق هوى في نفسها ، في بداية دخولها الكلية يوم كانت في قمة حماسها كانت تصور مقالاته ، التي يزودها بها أحمد ، وتوزعها بين الطالبات في كليتها
شيئاً فشيئاً ، اكتشفت أنها لم تتعلق بمقالاته فقط ، بل بشخصه صارت تطلب من أحمد ، بطريق غير مباشر ، أن يجمع لها معلومات أكثر عن شخصيته تتذرع أحياناً بحاجة الطالبات ، للاتصال المباشر به ، لإطْلاعه على خفايا ما يحدث في الكلية تقول لأحمد ، أنهن لا يمكن أن يتواصلن مع شخص ، حتى يعرفن شخصيته الحقيقية ، ليثقن به أحمد قام باتصالات كثيرة ، عن طريق البريد الالكتروني ، و ( الماسنجر ) ، مع أعضاء عديدين في المنتدى ، حتى استطاع معرفة الشخصية الحقيقية لشهاب الإسلام في إحدى المناسبات الاجتماعية ، واجهه بما وصل إليه من معلومات عن شخصيته ، فأقر بذلك ، وطلب منه أن يكتم الأمر
عندما التحقت عائشة بالجامعة ، كان ( شهاب الإسلام ) ، طالباً في السنة الثانية في كلية التربية لم تعرف حقيقة شخصيته ، إلا حينما صارت هي في السنة الثالثة ، في كلية الطب ، وهو كان قد تخرج وقتها من الجامعة ، وقلت مشاركاته في منتديات الانترنت ، وإن لم يفتر حماسه ظلت لغته ، وأسلوبه في الكتابة ، بنفس القوة والحدة تجربتها في الكلية ، حيث احتكت أكثر ، وتفاعلت على مستويات متفاوته ، مع أفراد مختلفين ، من أساتذة وزميلات إضافة إلى كونها صارت أكبر ، وأكثر نضجاً ، جعــلها أقل قابلية لهذا النوع من الطرح ، وأقل انجذاباً ، لِلَغة بهذا المستوى من الحدة لكنها في أعماقها ، ظلت تشعر بانجذاب إليه
بعد أن عرفت شخصيته ، تشجعت وأرسلت له رسالة بريد إلكترونية ذكرت في الرسالة أنها تعرفه ، وعرفته بنفسها ، وشكرته على مواقفه ، وطرحه الجريء بررت إرسال الرسالة إليه ، بأنها افتقدت حضوره في الانترنت ، وأن مشاركاته قلت بشكل ملــــحوظ رد عليها برسالة ، شكرها فيها ، وذكر أن قلة مشاركته في الانـــترنت ، تعود لتخرجه من الجامعة ، وانشغاله بالبحث عن وظيفة ختم الرسالة ، بالدعاء لها بالتوفيق في دراستها ، وحياتها المستقبلية
لغة الرد في رسالته كانت باردة لم يكن بها احتفاء ، أو حماس ، أو تشجيع من أي نوع فضلاً عن أنها لم تشتمل على أي مفردة حميمة قلق صار يساورها ، وتكدر خاطرها لكنها عزت ذلك لطبيعته الجادة ، أو ربما أنه يرى أن التزامه الديني ، يمنعه من أن يستخدم لغة غير رسمية ، وكلمات مجاملة ، مع امرأة ليست من محارمه وقفت عند عبارته ، التي تمنى لها فيها التوفيق في حياتها المستقبلية هي الآن في آخر سنتها الرابعة في الكلية ، وبقي على تخرجها سنتان هل هــــذا هو ( المستقبل ) ، الذي تمنى لها التوفيق فيه ؟ حين أعادت قراءة الرسالة ، وجدت أنه قد أشار إلى دراستها ، وتمنى لها التوفيق فيها أيضاً إلى جانب ( حياتها ) ، المستقبلية
طــــــافت في ذهنها خــواطر سيئة ، وقلبت أفكاراً سلبية : هل كانت حساباتها خاطئة أكانت سنوات من الوهم ؟ ليس أقسى ، وأكثر فجيعة ، من أن تراهن على وهــم تمــــضي سنوات عمرك تراه إلى جانبك ، بناءً عالياً ، صنعته من شوق ، وحب وتحسبه مشروع حياة ، ثم تفيق ذات صباح ، فلا ترى إلا سراباً ، وتتلمس وليس ثمة شيء أمس رفــــضت العريس الثامن ، الذي يتقدم لخطبتها أغلبهم زملاء في الكلية ، من دفعات سابقة ، تخرجوا أو على وشــك التخرج متفوقون ويغلب على سلوكهم المحافظة والانضباط الشديد
علامة الاستفهام كبرت : هل فرّطت بمستقبلها ( الحقيقي ) ، متعلقة بسراب ؟
تتابع على خاطرها ، أسماء الشباب الذين تقدموا لخطبتها ورفضتهم أكثرهم تدور أحاديث الطالبات الخاصة حولهم لا تتذكر أن واحدة من الطالبات ، التي كانت توزع عليهن نسخاً من مقالات ( شهاب الإسلام ) ، تحدثت عنه بإعجاب ، ولو بطريقة عابرة رغم أن بعضهن يتبنين آراءً ، أكثر تطرفاً مما يطرح تساءلت في سرها بمرارة : " كيف ربطت مستقبلها ، وعلقت قلبها ، بمعرف مجهول في الانترنت " ؟ كيف لو عرفت زميلاتها ، أنها رفضت مستقبلاً لها ، مع خالد ، ومحمد ، وناصر ، وفهد ، وعبد الكريم من أجل شهاب الإسلام ، الذي يتمنى لها ( التوفيق في حياتها المستقبلية ) ؟ لكن مع من ؟ سؤال انغرز في قلبها ، مثل مخيط غار في كرة صوف تعوذت من الشيطان ، وهي تفتح إحدى الصفحات الداخلية لكراسة محاضراتها ، وتتأمل عبارة كتبتها ، قبل سنتين ، بأكثر من لون : " شهاب الإسلام أضأت قلبي ! " إلى جانب العبارة في أسفل الصفحة ، ألصقت قصاصة مقال ، لشهاب الإسلام عنوانه : عائشة الصالح قبس من نور يضيء دهاليز كلية الطب "
مستقبلها الذي جعلت شهاب الإسلام أهم أركانه ، تشكل من حلمها بإنسان يؤمن برسالتها وليس بــ ( صورتها ) نظرت إلى إقبال الزملاء ، على طلب الزواج بها أنه رغبة في جمالها ، وليس إيماناً برسالتها ، وتقديراً لدورها في الكلية نفرت من زملائها ، الذين يتهافتون كالفراش ، على الجميلات زميلاتها ممن لم يتوفر لهن حد أدنى من الجمال ، لم تشفع لهن جديتهن ومحافظتهن التناقض بين المبادئ والأفعال ، بــــــــدا صارخاً ، وهي ترى فتيات يذبلن بين قاعات الكلية ، وممرات المستشفى لأن حظهن من الجمال قليل بينما الرجال ، أصحاب الشعارات ، عندما لا يتوفر الجمال يبحثون عنه خارج الكلية ، لدى من هُنّ أكثر جاذبية بدعوى ( النقاء ) تصبح الطالبة أو الطبيبة ، أقل نقاء وطهرانية ، إذا كانت أقل جــــــمالاً هذا هو المبدأ ، الذي تتندر عليه ، هي وزميلاتها مقابل الهمس ، الذي يعلو أحياناً ، بين ( الذكور ) ، عن تبسّط طالبات الطب والطبيبات ، في علاقاتهن مع زملائهن الرجال
هي الآن تخطو خطوتها الأخيرة ، نحو نهاية مشوارها ست سنوات مرت ، هي المسافة بين حلم طفلة التاسعة ، ومشروع امرأة الرابعة والعشرين إحساسها بالاخــتلاف ، أصبح أعلى وتيرة ، وأسرع إيقاعاً ليس فقط نظرة أهل بيتها وأقاربها ، الذين تعودت عليهم منذ سنوات ، ينادونها بالدكتورة لقد تغيرت صفتها الأكاديمية كذلك لم تعد طالبة ، بل صارت تسمى Residence ، أو طبيب مقيم أصـبحت تدخل غرف العمليات لتشارك في رفع الألم ، وتخفيف المعاناة عن الناس منظر الناس يسلمون أرواحهم طواعية لآخرين ، ويأتمنونهم على أجسادهم ، لم تكن عملية سهلة استشعرت المسؤولية ، إلى درجة أنها في بعض المرّات ، تتردد في اتخاذ الخطوة الأولى ، لخوض تجربة معادة ومكررة ، ضمن روتين عملها اليومي
لم يكن ترددها في دخول غرفة العمليات الذي تفـــكر فيه ، ولا تعلنه ، نتيجة خوف ، أو رهاب من أي نوع ثمة صراع يتنامى داخلها فهي إزاء ما تراه من تقصير وتجاوزات ، تحدث في غرف العمليات تجاه المرضى ، طورت لنفسها معادلة صارمة : " يسلمك روحه تحافظ عليها ، يأتمنك على جسده لا تخونه " معادلتها الصارمة ، التي لم تتهاون في تطبيقها ، كثيراً ما أدخلتها في جدالات حادة ، مع أساتذة وزملاء اعترضت مرّة ، على وجـــود زميل بملابسه العادية في غرفة العمليات ، لأنه كما يقول ، وصل متأخراً ، ولم يجد الوقت لتبديل ملابسه أصرت أن يبدل ملابسه ، أو أن العملية لن تبدأ ، كما هددت بالتصعيد
في مرّة ثانية كانت المشكلة مع زميلة جاءت إلى غرفة العمليات ، كما لو كانت تدخل قاعة أفراح كما تقول المكياج طبقات ، والعطور أنواع أبدت استياءها في البداية ، ولكن حينما بدأ المكياج يسيح ويختلط بأحمر الشفاه قررت أن تتوقف ، وتوقف كل شيء لم يكن الوضع يسمح بأي نوع من أنصاف الحلول تم استبدال الزميلة بأخرى ، لكن القصة خرجت من غرفة العمليات ووصلت العميد لم تحصل محاسبة ، ولا لفت نظر لكن أصداؤها وتداعياتها ، ظلت تتردد داخل الكلية ، عبر التعليقات الساخرة ، التي يتداولها الطلاب والأطباء : غرفة العمليات صار يطلق عليها ( قاعة الديسكو ) ، أما العملية نفسها ، فأصــــــبح اسمها بين الطلاب والطالبات ، ( حفلة الدي جي )
مسألة الانضباط المهني ، في غرفة العمليات ، تبدو يسيرة ، أمام موقفها الحاد والقطعي ، تجاه حماية خصوصية المرضى حين يأتي دورها في الجدول ، لتكون ضمن الطاقم الطبي داخل غرفة العمليات ، تحدث حالة استنفار قصوى بين جهاز التمريض ، الذي سيتولى تجهيز المريض التعليمات تنفذ بدقة ، بخصوص الأجزاء التي يمكن كشفها من جسم المريض ، الذي ستجرى له العملية عندما يكون المريض أنثى ، تتابع شخصياً إجراءات تجهيزها لغرفة العمليات في البداية واجهت إهمالاً ، أو تجاهلاً ، أو رفضاً من الأطباء بـــشأن طلباتها بهذا الخصوص لكنها متسلحة بموقف شرعي وأخلاقي ، قاومت كل الضغوط ، وأساليب الإهمال والتجاهل لم تكن تتردد في التعبير عن اعتراضها ورفضها ، لأي سلوك ترى فيه انتهاكاً لخصوصية مريض ، تحت أي تبرير كثيرٌ من الألقاب والصفات ألصقت بها ، ويتم تداولها همساً ، بين بعض الأطباء مثل : ( حارسة العورات ) تتصنع اللامبالاة أحياناً ، وتتظاهر بالقوة لكن حين تخلو بنفسها ، يعتريها الضعف البــــــــشري فتــــــــــبكي تحدث نفــــــسها : " الجميع يـــؤثر الســـــلامة " ، حتى ( الطيبون ) في إشارة منها للأطباء المتدينين
كان قد بقي أمامها أسابيع لتتخرج وتصبح طبيبة عامة لكن كأن قدرها يأبى إلا أن تنهي مسيرة حياتها الأكاديمية ، بحدث غير اعتيادي ، يضاف إلى سجلها الحافل بالمواجهات والمصادمات والمواقف المدوية كان يوم اثنين ، خرجت من البيت صائمة ، جدولها اليوم مزدحم أوصلها السائق إلى المستشفى ، متأخرة خمس دقائق صعدت إلى القسم ، وأنهت تحرير بعض الأوراق كانت هناك جولة على بعض المرضى ، حرصت أن تنهيها قبل التاسعة ، حيث أن موعد عملية ، ستكون ضمن طاقمها سوف يكون السـاعة التاسعة وعشرون دقيقة لم تنس أن تتصل بجهاز التمريض ، لتؤكد على تجهيز المريض صار لها عادة أن تصلي ركعتين ، قبل كل عملية تدخلها فاتجهت إلى مكتبها وَصلّت وصلت غرفة العمليات في التاسعة وخمس دقائق مريضة اليوم شابة في بداية عشريناتها ، تشتكي من فتق مزمن أسفل البطن كانت المريضة قد وصلت ، فاتجهت إليها وطمأنتها ، وهدّأت من قلقها بعد عشر دقائق ، اكتمل وصول الطاقم الطبي
بدأت العملية ، ومرّت النصف ساعة الأولى بشكل اعتيادي انتبهت بعد ذلك ، أن الطبيب ومساعده ، يتبادلان إشارات بالأعين لم تفهم طبيعة هذه الإشارات ، ولم تجد لها تفسيراً إلا حين لاحظت أنهما يتعمدان إزاحة الغطاء عن بعض أجزاء جسد المريضة ، بطريقة تبدو عفوية توترت لم يكن بمقدورها أن تفعل شيئاً ، سوى ملاحقتهما ، وتغطية الأجزاء التي تتعرض للكشف انتهت العملية ، لكنها شعرت بإحباط شديد مبدؤها : " يأتمنك على جسده ولا تخونه " ، صار يلح عليها بأن تفعل شيئاً في طريقها لغرفة تغيير الملابس ، قلبت الأمور ، فرأت أنه ليس لديها الكثير لتفعله سلوكهما بدا عفوياً وتلقائياً ، ولا يمكن إدانتهما بأي شكل من الأشكال أي تصعيد ، سيكون بالضرورة ضدها
عندما انتهت من تبديل ملابسها ، غسلت وجهها واسترخت على أحد المقاعد التوتر مع الصيام أرهقها ، والحدث زادها مرارة مرت ربع ساعة ، شعرت أنها أكثر هدوءاً نهضت وتوجهت خارجة من غرفة العمليات ، ثم خطر لها أن تمر على المريضة في غرفة الإفاقة ، لتطمئن عليها حين أزاحت الستارة ، فوجئت بمنظر صدمها المريضة ما زالت في غيبوبتها ، عارية تماماً الغطاء مرفوع عنها ، والطبيب ومساعده يتأملانها صرخت :
- حسبي الله عليكم ! هذا والله خيانة وإجرام
فوجئا بوجودها فارتبكا ، وحاولا استيعاب المفاجأة ، بالتظاهر بأنهما يقومان بإجراء روتيني ، لمتابعة حالة المريضة ، وذلك بالتهامس والإشارة لموضع العملية ، ثم إعادة تغطية المريضة لم تنجح محاولتهما في تهدئتها ، أو الحد من انفعالها ، رغم أن الطبيب حاول الاستخفاف بها ، والظهور بمظهر الواثق من نفسه حين قال :
- روحي لبيتكم يا شاطرة أحسن لك
يتبع
....
بلي في القلب
08-25-2008, 04:41 PM
اشكرك من كل قلبي على هذه القصه الرائعه تقبلو مني خالص الاحترام وتقبلو مروري
نايف الحمري
08-25-2008, 05:50 PM
يعطيك العافيه
موسى بن ربيع البلوي
08-28-2008, 07:14 PM
استمرت في توجيه عبارات التوبيخ والتوعد بتصعيد الموضوع والتهديد بمقاضاتهما صوتها المرتفع ، جعل بعض الأطباء والعاملين ، يتوجه لمصدر الصوت ، لتقصّي الأمر حرج الطبيب ومساعده ، ازداد مع تكاثر الأشخاص ، الذين دفعهم الفضول للقدوم ، لمعرفة ما يجري كانت تتكلم عن " خسة ونذالة وخيانة للأمانة وشـــرف المهنة " ، دون أن يدري الموجـــــودون ، ما الذي حـــدث بالضبط بعض الحضور ، ظن أنها قد تعرضت للتحرش إلى أن قالت :
- لقد مسكت سعـــــادة الدكتور بسام ومساعده متلبسين ، بجريمة كشف عورة مريضة إن الأمر لا يقف عند الاعتداء على شرف الناس ، وهذه بحد ذاتها جريمة ، بل كذلك خيانة للعهد والميثاق وشرف المهنة
رد الدكتور :
- أنتم تعرفون الأخت مريضة بالوسواس
- المريض يا دكتور ، هو الذي لم يردعه دين ، ولا سن ، ولا شرف مهنة ، عن كشف عورات المرضى النائمين
- ما قلت لكم ؟ الأخت مهووسة بشيء يتداوله المتطرفون في الانترنت ، اسمه العورات النائمة وهناك من يحرضها من متطرفي وإرهابيي الانترنت
ثم أراد أن يحول الأمر إلى سخرية منها ، وتكريساً لاتهامه لها بالوسواس ، وصلتها بمن يسميهم متطرفي الانترنت فقال :
- الأخت تحب القيادة والزعامة والأضواء ما يكفيها أنها اشتهرت في الكلية باسم ( الملا عمر ) ، بسبب سلوكها المتطرف ، البعيد عن المهنية لذلك أقترح لإرضاء هوسها ، نسميها زعيمة ( حزب العورات النائمة )
ثم اصطنع ابتسامة ، وصار يتلفت نحو الموجودين ، لينال تأييدهم ، ومشاركتهم السخرية منها لكنها ردت :
- الدفاع عن عورات المسلمين النائمة ، ضد لصوص الأعراض مثلك ، يا سعادة الدكتور شرف من هو المسكون بفوبيا الجنس أيها التنويري ، من نوع تلك الشعارات الفارغة التي دائماً ترددها لتسويغ الانحراف ؟ والله العظيم لن يمر الحادث بسهولة ، وإن لم تتخذ الكلية إجراءاً إني لأصعد الأمر لوسائل الإعلام
لم يتخذ إجــراء من أي نوع ، ولم تجرِ حتى مساءلة وحرصت عمادة الكلية ، وإدارة المستشفى ، على احتواء الموضوع ، والتكتم عليه حفاظاً على سمعة الكلية والمستشفى كـــــــــثير من حقوق الناس تهدر ، لتبدو صـــــــورة المؤسسات الرســـــمية ( كاملة ) يموت الناس ، أو يتعرضون للأذى بسبب إهمال الأطباء ، أو تعدي الأفراد ، على الموقوفين في المراكز الأمنية ولا يحاسب أحد ، لأن هذا يضر بسمعة الوزارة المعنية ، التي ترخص أمام ( نزاهتها ) المزعومة ، أرواح المواطنين تساق قضية ( الخصوصية ) دائماً ، لتبرير عدم مساءلة أي مسؤول ، أو محاكمته علناً على تقصيره أطرف تعليق على هذا الوضع الشاذ ، ما سمعته مرّة من إحدى صديقاتها : " في العالم غيرنا ، حين يعيث المسؤول فساداً ، في حياة الناس وأموالهم يستقيل أو يحاكم ، أما عندنا فلا هذا ولا ذاك ، لأن لنا ، كما يقولون ( خصوصيتنا ) ، وقاعدتها الذهبية : " صورة الحكومة أولاً ، وسمعة المسؤول ثانياً وليذهب المواطن إلى الجحيم " عائشة على أساس من قناعات وتجارب سابقة ، كانت تتوقع موقفاً مثل هذا ، لكنها نجحت في تسريب الموضوع إلى الصحافة إلى الأستاذ سعد ، كاتب عــــمود صحفي مشهور ، فدارت سجالات حول القضية ، تؤكد على وجوب حماية خصوصية المرضى ، واستحداث نــــظام للملابس ، داخل غرف العمليات يحميهم من العبث والتجاوزات
الميدان الآخر للحدث ، كان أحاديث أفراد المجتمع ، ومنتديات الانترنت ظل النقاش حاداً وساخناً ، لأكثر من شهر مما خلق رأياً عاماً ، يطالب بوضع قوانين تحمي المرضى ، وتعاقب من ينتهك حرماتهم الحادثة نفسها وتداعياتها ، أشاعت حالاً من الحذر والخوف ، لدى أفراد يقعون في انتهاكات لخصوصيات المرضى ، أو تقصير في حقهم هناك حديث مرتفع ، عن تحرشات يقوم بها بعض العاملين الذكور في المستشفيات يتردد أن هناك عبثاً واستغلالاً جنسياً ، لبعض المريضات ، من قبل أشخاص ، يعملون في قطاعات فنية مساندة في المستشفيات ، يزعمون أنهم يتلقون توجيهات من أطباء ، مستغلين جهل المرضى وذويهم
بعد الفضيحة التي صارت حديث الناس ، صار هناك توجس لا أحد يرغب أن يضع نفسه ، في موقف مثل الذي حصل للدكتور ومساعده الأمر في بعض مراحله ، كاد أن يكون أكثر خطورة ، لولا تدخل بعض الأشخاص ، من داخل الكلية لدى عائشة كانت قد هددت ، إن لم يتخذ إجراء وعقوبات رادعة ، بأنها ستبلغ أولياء المريضة ، بالفعل الذي ارتكبه الدكتور ومساعده
صدمة عائشة ، لم تكن من الفعل فقط على بشاعته بل من الطبيب نفسه يقدم الدكتور بسام نفسه ، ويعرّفه زملاؤه ، على أنه ليبرالي تنويري ، يناصر حرية المرأة ، وحقها في العمل ، ويدافع عن الحريات عموماً كثيراً ما وصف الدعوات التي توجه إلى عمادة الكلية ، أو لوزارة الصحة ، بتنظيم عمل المرأة في القطاع الصحي بما يوائم عادات المجتمع وتقاليده ، والحد من الاختلاط غير المبرر ، بين الجنسين ، بأنها ( فوبيا ) جنسية ، يروّج لها ( المتزمتون ) ، المسكونون بميكانزم غريزي ، يجعلهم ينظرون للمرأة ، على أنها هدف جنسي متحرك جاءت الحادثة ، ليس فقط ، بمثابة الفضيحة للدكتور بسام ، ولتسقط صورة المثقف ، التي صنعها لنفسه بل كذلك لتكشف حــــقيقة موقفه من المرأة ، و( الأجندة ) التي يقوم بتسويقها ، حول حقوق المرأة كما أن وقوف بعض زملاء الدكتور إلى جانبه ، ومساندتهم له على فداحة الفعل الذي ارتكبه ، جعلها تقطع أن دعاوى الحرية والليبرالية ، التي يدعيها بعض الأشخاص ، ليست إلا شعاراً فارغاً ، لسلوك شهواني أمْرٌ كانت تدركه ، وتعرفه حق المعرفة ، لكنها كثيراً ما تدخل في جدالات ونقاشات ، حول حقيقته ، وإمكانية إثباته قالت للدكتور نايف ، وهو زميل للدكتور بسام ، تبنى حـــملة للدفاع عنه :
- أفهم أن تنادوا بحق امرأة أن تتبرج ، لكن كيف تدافع عن زميلك الذي يعرّي امرأة نائمة ، معتدياً على أهم حقوقها خصوصية جسدها ؟ هل تريد أن تقنعني أن المريضة النائمة ، كانت في حالة ( سلوك ظلامي ) ، وأن زميلك الدكتور بسام ، كان يمارس ( فعلاً تنويرياً ) ويعبر عن سلوك ليبرالي ؟!
الحدث صار حديث مجتمع الجامعة ، وربما انتقل خارجها ، لكن عين عائشة وقلبها ، كانا في مكان آخر ماذا كتب في الانترنت عن الموضوع وما الذي كتبه شهاب الإسلام تحديداً ؟ شقيقها أحمد ظل يزودها بكل ما دار في الانترنت حول الحادثة وتداعياتها مكثت هي أسابيع ، تتابع الإنترنت بنفسها ، وَتَطّلع على ما يحضره أحمد لها لم تجد شيئاً لشهاب الإسلام نفد صبرها ، فسألت عنه أحمد ، الذي كان يتوقع سؤالاً مثل هذا قال :
- تابعت كل ما كتب لم أجد شيئاً لشهاب الإسلام ، ولم يرد على البريد الالكتروني ، الذي أرسلته إليه بهذا الخصوص
أحمد كتم عن عائشة ، كلاماً سمعه عن شهاب الإسلام وهي ظلت تترقب بعد أيام ، بعض زميلاتها اللائي يعرفن اهتمامها بما يكتب شهاب الإسلام ، سَرّبن لها كلاماً منسوباً إليه ، في أحد مواقع الانترنت مفاده : " موقفها جيد ، لكن ما الذي يجيز لها أن تبقى في غرفة العمليات ، مع رجال أجانب ، يتكشّفون عورات المسلمين ؟ ! " سكتت ولم تعلق ، وحاولت أن تستبعد صدور هذا الكلام منه صار الموضوع هماً ، لم تطق الصبر عليه ، فصارحت أحمد بما نقل إليها لم يشأ أن يؤكد لها الموضوع ، الذي تواتر عنده من أكثر من مصدر خشي أن يسبب لها صدمة قال :
- سمعتُ مثلك هذا الكلام لكني لست متأكداً من أنه فعْلاً قاله !
هزت رأسها ، وهي تنصرف لغرفتها وتغالب ، لتبدو تعابير وجهها طبيعية لم يكن ردّه مقنعاً ولم تعلق لكنها شعرت بجرس يُقْرع في قلبها للحزن ، والرحيل ، والفقد طعم واحد ، وأصواتٌ متعددة قَرَأَتْ مرّة أن الريح تعوي في الأطلال الخربة حين ضمت ساعديها إلى صدرها ، وتلمست أضلاعها ، تحسست صوتاً ، كأنّ صخبه في أذنيها تساءلت : أهذا صوت عواء الريح في قلبي ؟
على مشارف عامها السادس والعشرين تلتفت ، ثمة إنجازات كبيرة ، على أكثر من صعيد الذين حولها يقولون : ما زلت صغيرة المستقبل أمامك ، لديك الكثير لتحقّقينه اليوم حين أحست بذلك الدويّ في صدرها ، أدركت أن لا شيء في قلبها تحقق ، منذ أول خاطر ، تسلل عبره شهاب الإسلام إليه : أطلال وريـــح تعوي نحن لا نقيس انــــــــجازاتنا فقط ، بما حققناه لندهش الآخرين ، فيصفقوا لنا للقلوب مساحة من زمن ، تزهر فيها قــصيرة ، إن لم يأتِ ربيعها بــ( وسمي ) ، فليس إلا عطش الدهر وحزن الأبد المستقبل بدا موحشاً وعدماً ، وحديث القلب : شُختِ ليس ثمة وقت لأحلام !
كانت جالسة على طرف سريرها أرهقها الهم ، فلم تخلع حتى معطف المستشفى الأبيض الأفكار كانت قد أخذتها بعيداً ، حين دقت نغمة جوالها ، معلنة استلام رسالة سحبت الجوال من جيب معطفها ، ووضعته على منضدة الزينة ترددت في فتح الرسالة سئمت من كثرة الرسائل ، التي وصلتها ، حول قضية الدكتور ومساعده ، إما استفساراً عن الموضوع ، أو إشادة بموقفها
حين بدلت ملابسها ، ألح عليها فضول غير عادي ، بأن تفتح الرسالة التي وصلتها قبل قليل التقطت الجــــــــوال واستلقت على سريرها ، فتحت الرسالة لم تكن من النوع الذي اعتــــــادت استلامه مؤخراً : " لكم باقة ورد ، لــــــــدى محل ( الفصول الأربعة ) للورود نرجو الاتصال ، لإعطاء مندوبنا وصفاً لعنوانكم رقم الطلب 5/5/24 " اعتدلت في جلستها غمامة فرح ، بدأت تتشكل على محياها قسماتها غدت أكثر إشراقاً ، وابتسامة صارت تنمو في ثغرها شعور بالبهجة ، تحسه يجتاحها ، ويكاد يرفعها عن الأرض كأنها على بساط ريح همست لنفسها : " شيء رائع ، أن يأتيك ورد بعد أن أصبحت المشاهد كلها بلون رمادي ، ولم يعد لإيقاع الحياة طعم أو لون " تحب الورد ، ولا تتفق مع الرأي الرافض له ، على أساس من موقف ديني ليس في تهادي الورد تقليداً لكافر سمعت هذا الرأي من أكثر من عالم موثوق تحتفظ بذاكرتها بموقف جميل عن الورد ، ترويه إحدى زميلاتها تحدثت الزميلة عن زوجها الذي غاضبها مرة فندم ثم اختلس في ذات الوقت ، فرصة انشغالها ، بأمر ما ، وأشترى لها وردة ، أرفقها ببطاقة كتب فيها : " أفتقد الذوق أحياناً " كان للوردة ، والعبارة ، والموقف فعل السحر ، تقول الزميلة
الورد مظهر من مظاهر الجمال أو هو أبهى مظاهر الجمال و " الله جميل يحب الجمال " لكنها تكره المغالاة والتباهي ، في إهداء الورد ، مثل ذلك الذي تراه يحدث في المستشفى بين النساء خصوصاً تذكر أنها دخلت على إحدى المريضات ، فوجدت حول سريرها ورداً ، قيمته لا تقل عن عشرة ألاف ريال عرفت السبب كل صاحبة باقة ورد ، تبرز اسمها بشكل واضح على باقتها ، فتأتي أخرى تزايد عليها ، فتهدي أغلى منها وتجعل اسمها بارزاً وهكذا ! المريضة لاحظت اندهاشها من العدد الكبير من باقات وآنية الورد فقالت مزهوة : " أنا سعيدة الورد جميل " فاجأها ردّها : " ألا ترين أنه يصبح قبيحاً ، عندما يتحول إلى مباهاة وتبذير "
اتصلت بمحل الورد ، وأعطتهم وصفاً لعنوان البيت بانتظار وصول الهدية ، أخذت تستعرض في ذهنها من قد يكون المرسل اليوم الخميس ، لا تتذكر مناسبة توافق هذا التاريخ رجحت أن تكون إحدى صديقاتها في الكلية أو المستشفى ، أو ربما أحدٌ من عائلتها ، مهتم بها ، وهي لا تعلم أو قد يكون شخصاً قدر موقفها ، في موضوع عورات المرضى النائمين وصل مندوب الفصول الأربعة ، واستلمت الباقة كانت جميلة جداً ، فتلهفت لمعرفة المرسل التقطت البطاقة المرفقة ، التي كانت كبيرة ، خلاف البطاقات ، التي ترفق عادة مع باقات الورود وشرعت تقرأ :
" سيدتي الجميلة ، أنت لا تعرفينني ، ولستِ بحاجة لأن تعرفينني جئتُ مرّة قبل عام إلى الطوارئ ، ومعي طفلتي المريضة ، وهي في حال يرثى لها ، من المرض وعدم النظافة كان اهتمامك بها ، ورعايتك لها ، ولمستك الحانية ، ومتابعتك لحالتها ، شيء لا يفعله إلا إنسان يمارس فعله عن إيمان ثم كان خطابك المطَمْئِن ، اللطيف ، المؤدب لنا الــــذي غمرنا بشعور من الأمان والسكينة
أعتقد أن وجود مثلك ، ليس في هذه الأماكن فقط ، بل في حياة الناس ، ضرورة كونية ، لكي لا يختل ميزان القيم ، وليكون للحياة معنى كذلك
لقد سألت عنك وقتها ، وأُخْبِرتُ باسمك ، وعلمت أنك طبيبة تحت التدريب ، ولم تتخرجي بقيت أسأل عن موعد تخرجك ، فعلمت أنه يوم السبت ، فأردت أن تكون لي مشاركة بالفرحة ، بإنجاز إنسان رائع خَـلاّق مثلك
حين أردت أن أشاركك فرحتك ، فكرت بروحك الجميلة ، التي لا يهمها ما يلمع وما يبرق أعلم أنه يستهويك ما يستهوي النساء ، لكن قيمتك لدي لا أستطيع أن أصل إليها ليس لأن حالتي المادية لا تسمح ، بل لأني أؤمن وأحلف بالله العظيم ، أنك أسمى من جواهر الأرض كلها
أؤمن بأن إنساناً ، بمثل أدبك ، وأخلاقك ، وجمال روحك لابد أن يكون هو نفسه مصدراً للجمال ، ومُستَقْبِلاً للجمال أؤمن أيضاً ، أن الورد ، من حيث هو ، تعبير عن قيمة جمالية سامية ، ورمز لأسمى معاني التواصل الإنساني يمثل مشتركاً ثقافياً إنسانياً أما أعلى درجات إيماني ، فهي أن كينونتك ، أصدق معنى للحضور الإنساني ، وحضورك الفاعل في حياتنا أبهى صورة للجمال ، لذلك أهديتك ورداً
ســـــــــــــــــلامي ، ومودتـــــــــــــي ودعــــــــــــــــــــــائي "
محمد
كانت الدموع تترقرق من عينيها ، وهي توالي قراءة البطاقة تنتقل من كلمة لأخرى ، لتعود لقراءة الجملة مرّة ثانية لا تدري هل تفرح للورد ، أو للّغة العذبة السامقة ، أم للّفتة الجميلة بالاحتفاء بتخرجها ، من إنسان غريب هي نفسها ، رغم أهمية المناسبة لها ، لم يرتقِ اهتمامها بها ، إلى هذا المستوى لا تدري هل هو بسبب خيبات القلب ، أو لأن الحدث ، بعد سنوات الدراسة الطويلة ، صار تحصِيلُ حَاصِل في الأشهر الأخيرة ، صارت تمر بحالات هبوط نفسي ، تحس بها تؤزّمها ، وتغمسها في مستنقع يأس ، ثم تهوي بروحها إلى أعماق لولا زحمة العمل ، التي أصبحت تتعمد أن تغرق نفسها في بحرها لتهرب من واقعها ، لاختنقت في جُبِّ أزمتها
تتأمل الورد وتتلمسه ، ثم تعـــــــود تقرأ البطاقة أحست بـروحها تصعد تغادر رويداً رويداً ، حضيض بؤس ، هوت في أعماقه ، وحين وصلت إلى الكلمة الأخيرة ، شعرت كأنها على رأس قمة حولها فضاء مفتوح ومدى لا نهائي تنـــهدت بعــــمق : " كم هو مبهج ، وباعث على الأمل ، أن تمتد لك يد غريبة لم تنتظرها ، لتنتشلك من قاع ، لم يدرك من حولك ، كم صار لك ، تتردّ!ى في قراره "
يتوغل الألم في داخـــلنا بقسوة ، حين يَنْفُضْ الذين نحبهم أيديهم منّا ، وينفَضّون عنا يتركوننا ، نغوص في لجة أحزاننا نواجه عناءنا ، بقلوب أفرغها الفقد ، من أي رجاء ونزعت منها ، رياح الوحدة والوحشة كل الأشرعة
عابرون كثيرون في حياتنا بذات الجمال ، والثراء الروحي ، ويملكون فيضاً من المشاعر والأحــــاسيس ، لا ندرجهم ضمن ( قائمتنا ) المهمة لأننا وضعنا لها معايير ، لا علاقة لها بالقيم الخَلاّقة للفرد من حيث هو إنسان ، يمكن أن يضيف لحياتنا الحقيقية شيئاً كم من مثل صاحب الرسالة ، افتقدوا فقط آلية التواصل معنا ، ليسكبوا مثل هذا الفيض في أرواحنا لم يكن لأنهم يحتاجــــون أن ( نحــسن ) إليهم ، لنستحثهم على فعل ذلك ، فتنثال مشاعرهم نحونا بل لأننا خلقنا ( حدوداً ) ، تحدد جغرافيتنا ، ووضعنا نقطة عبور واحدة نحونا ، لأفراد منتخبين ، وفق معايير ، لا علاقة لها بما تحتاجه أرواحنا ، ويحتاجه الإنسان فينا نخسر كثيراً ، مشاعر دفاقة بهذا الحجم نحتاجها ، من أناس بسطاء لأن فرصتهم لكي يبــوحوا بها ، لا تَتَأتّى إلا مرّة واحدة لحظة نشرع أبواب قلوبنا لهم إن لم نفعل ذلـــــك في ساعة ( صفر ) ، يفرضها قدر لقائنا بهم ، على ناصية لحظة من زمن حياتنا فلن يحــــدث ذلك مطلقاً سيبتلعهم إيقاع الحياة ، الذي يسرق أعـمارهم ، في ساعات لهــاث خلف لقمة عيش فـــلا يعودوا ، وتخوننا معاييرنا ، التي لم تمنحهم الفرصة فتقصيهم ونخسر
وضعت الورد في مستطيل زجاجي ملأته بالماء ، بعد أن استلّت منه وردة جوري ، وضعتها على وسادتها ألصقت البطاقة بطريقة أنيقة ، في الزاوية العليا اليسرى لمرآة منضدة الزينة في هذه الأثناء قرع باب غرفتها كان صوت أمها تستأذن أسرعت وفتحت الباب ، وبهجة طافحة على وجهها بادرتها والدتها :
- منوّره أكيد هناك أخبار سارة لم أرك من أمس يا عيوّ يا عائشة ، اشتقت لك !
انتبهت أنها كانت ستناديها يا عيوش ، وهو الاسم الذي كانت تدللها به ، منذ كانت صغيرة وإلى وقت قريب قالت مُداعبة :
- لأنك لم تعودي تدلليني ! حتى عيوش صرت تستكثرينه علي
- لا والله لكـــــني أحس إنك صرت كبيرة ، وقلت يمكن أن يحرجك تصغيري لك خاصة وأنه بقي يومين وتصيرين دكتورة
قالتها وهي تبتسم ضمتها عائشة وهي تقول :
- ما فيه أحلى من عيوش على لسانك
انتبهت لإناء الورد ، ولوردة الجوري على وسادتها فقالت :
- عندك هدية ثمينة من النوع الذي تحبينه ، خسارة فيه أحد سبقني في تكريمك !
لم تعلق لكن والدتها لاحظت البطاقة الملصقة بعناية على المرآة ، فاقتربت وقرأت مقتطفات منها وتوقفت عند التوقيع ، الذي لم يعطها أي دلالة على صاحبه التفتت إليها ، وفي عينيها علامة استفهام ابتسمت عائشة ، وعرفت ما يدور في خلدها فقالت :
- هذه شهادة تخرجي الأولى ، وقعها ( إنسان ) لا أعرفه لكنه منحني وثيقة عبور ، لأكتشف كينونتي ، وقيمتي الحقيقية وأهداني ورداً الجامعة يا أمي ستقدم لي يوم السبت ، وثيقة تخرجي الرسمية ، بوصفي طبيبة مجازة ، وستمنحني ورقة ، تسميها مرتبة شرف ، سأضيفهما لمجموعة الأوراق التي كدستها في خزانتي هذا هو الفرق يا أمي
ابتسمت ابتسامة خفيفة ، وهزت رأسها ، ثم ثَبّتت نظراتها على وردة الجوري ، الملقاة على الوسادة البيضاء ، المطعمة بتشجيرات صغيرة من الأحمر والأخضر تحاول أن تبحث عن علاقة ما ، بين مكانها على الوسادة ، وبين البطاقة المعلقة على المرآة بأناقة علقت عائشة :
- آه وردة الجوري ! انتزعتها من الباقة ، ووضعتها على الوسادة كنت أستعد للنوم ، وأردت أن أحلم أحلاماً وردية مزيج من البياض الذي ملأتني به الرسالة ، ولون الوردة
- الله يجعل أحلامك كلها وردية يا عيوش غداؤك جاهز سأضعه في الثلاجة ، وإذا قمت سخنيه يا عيوني
خرجت وسحبت الباب خلفها بهدوء وفي الوقت الذي كان صوتها ، يتناهى إلى داخل الغرفة ، طالبة من إخوانها الصغار عدم إزعاجها ، لتخلد إلى النوم ، كانت عائشة تضع رأسها على الوسادة ، ووردة الجوري تتمدد أمام عينيها ، على طرف الوسادة البيضاء المشجرة ، مثل حورية بحر ، استلقت بضجر ، على شاطيء رملي أبيض، تناثرت فوقه الأصداف، وأعشاب البحر بانتظار ( فارس ) ، أخلف موعده
موسى بن ربيع البلوي
08-28-2008, 07:15 PM
يوم السبت كان استثنائياً لدى أم أحمد ما أن خرجت عائشة في الصباح ، إلى المستشفى ، حتى حولت البيت إلى ورشة عمل عند العودة من المدارس كل فرد من العائلة أوكلت إليه مهمة :
- ستعود عائشة اليوم مبكرة من المستشفى لتستعد للذهاب إلى حفل التخرج الليلة كل شيء يجب أن يكون قد انتهى قبل رجوعها
كانت قد وضعت برنامجاً لحفلة مصغرة بين المغرب والعشاء ، قبل أن تذهب إلى الحفل في الجامعة تقتصر الحفلة على الدائرة القريبة من الأقارب ، الأعمام والعمات والأخوال والخالات وبناتهم الكبيرات بعد ساعات من العمل ، تحول البيت إلى لوحة جميلة من الزخرفة والزينات صُفّت الهدايا بطريقة بديعة في الصالة الرئيسة في غرفة الطعام ، تم تنظيم المائدة بذوق فنان تقتضي الخطة أن يتم استقبال عائشة ، حين عودتها من العمل عند باب البيت ، ثم يتم عصب عينيها ، واقتيادها إلى غرفتها ، حتى لا ترى أياً من مظاهر الاحتفال ، ولا تخرج إلا حين يصل الضيوف بعد صلاة المغرب
سارت الاستعدادات وفق الخطة المرسومة بهجة عائشة لا توصف ، حين خرجت من غرفتها أدهشها مستوى التنظيم ، وجمال مظاهر الاحتفاء الحفاوة البالغة من أقاربها الرجال ، ضخ فيها روحاً غير عادية عبارة عمها ، الذي يكبر والدها حملتها إلى سماوات :
- عائشة دعوت الله ألاّ أموت ، حتى أشهد هذه المناسبة
مفاجأتها بكلام عمّها جاءت بسبب الإشاعات التي رُوّجت ، أنه كان ممن سعوا لدفع أقاربها للضغط على والدها ، لمنعها من دخول كلية الطب كان في خاطرها شيء عليه ، فأسعدها أن تسمع هذا الكلام منه خاصة وأنه اشتهر في الأسرة بورعه وتقواه أخذت رأسه وقبلته بشدة ، وصارت تلثم يمينه وشماله ، وتقول :
- هذا الكلام أغلى وسام
شكرت الجميع على حضورهم ودعمهم ثم قالت :
- ما كنت لأكـــــون شيئاً لولا هــــــذا الرجــــــــل إن كــانت عــــــــائشة أصبحت ( شيئاً ) فهو من جعلها كذلك ، وحال دون أن تكون رقماً ، ضمن ألاف الإناث
ثم أشارت إلى والدها ، الذي امتلأت عيناه بالدموع
كانت على وشك أن تنصرف إلى والدتها والمدعوات في الداخل حين تذكرت وصية والدتها لها ، بأن تشكر أعمامها وأخوالها على هداياهم فاستدركت :
- حضوركم أهلي واحتفاؤكم بتخرج ابنتكم أعظم هدية ، وهداياكم القيّمة ، يعجز العرفان بالجميل مهما بلغ ، أن يَفِيكم حقكم ، بما تكــلفتم به
حفل النساء كان مهرجاناً آخر من الحفاوة والفرح احتفى بها الجميع ، وعبّروا عن فخرهم بها روت لها البنات ، كيف كُنّ يتداولن أخبار تفوقها ، ومواقفها داخل الكلية ، بكثير من الاعتزاز بين زميلاتهن وصديقاتهن ، ويفتخرن بقرابتها لهن هي بدورها عبّرت عن امتنانها وشكرها ، وكررت كثيراً ، شعورها العميق بالحب والعرفان للجميع ، وخصت والدتها بثناء خاص :
- لولا أمي ما كنت طبيبة والله لولاها ما كنت سأصبح طبيبة ألمها هو الذي خلق الفكرة الأولى في عقلي ، وحبها ، ورعايتها ، وتشجيعها ، هو ما جعلني أصمد أمام طوفان الخذلان والتثبيط
ذكرت كيف أنها في بعض الأحيان تأتي من الكلية تبكي ، من موقف مرّ بها ، أو ظلم وقع عليها فتأخذها في أحضانها ، حتى تسكن وتهدأ
- من يملك حضناً يلوذ به ، وصدراً يسكن إليه ، ألا يستطيع أن يقاوم أعتى الأعاصير ؟ بلى يقاوم والله
يحمر وجه والدتها خجلاً ، وتتمتم : " عائشة تبالغ " فتضمها إليها ، وتقول مؤكدة للحضور أثرها عليها :
- يا بعد عمر عيّوش أنتِ ، والله ثم والله ، ما أنسى نظرتها ، مع نافذة غرفتها ، إذا خرجت الصباح للكلية كأنما ترسل نظراتها معي ، تحفني وترعاني ، ولا وقفتها عند الباب ، إذا رجعت بعد العصر وابتسامتها تدعوني لأحضانها ، وهي تردد : " عقبال ما أفرح بك يا دكتورة "
خالتها هَيَا ، أم عبد السلام الياسر ، ( شهاب الإسلام ) ، التي كانت حاضره عقبت على كلامها :
- تستاهلين يا عائشة ما تلام الوالدة مثلك يرفع الرأس عقبال ما نفرح بك الفرحة الكبيرة !
أدركت عائشة ، أنها بعبارتها الأخيرة ، كانت تلمح للزواج انتفض قلبها ، مثل عصفور بللته غمامة هل خالتها تريد أن توصل لها رسالة من شهاب الإسلام ؟ هل الشائعات التي تقول أنه لا يفكر فيها ، وأنه يبحث عن زوجة ليست صحيحة ، وأن خالتها أرادت بجملتها هذه ، أن تدحض هذه الشائعة ؟ وجع الأيام السابقة ، أحست به ينسل من قلبها ، مثل شوكة تنزع من أخمص قدم كمية هائلة من الهواء زفرتها فاتسع صدرها ، كأن ثقلاً أزيح عنه أو كأنها لم تتنفس منذ أيام
تَعجْب من حالات القلب : كيف تغدو به وتروح ، كلمات ومواقف كيف يتعلق بــ ( غائب ) ، يهيم النهار كـــله ساهياً لا يدري عنه ، وفي الليل يحضن وسادة ربما ، وينام ملء عينيه ساكناً ، لا يتحرك منه ، إلا بضع قطرات من ريقه ، تتهادى على وسادة من ريش وهو القلب ، يضطرب داخل أضلاع ، تضيق وتحكم الحصار عليه مثل قضبان زنزانة ، ويضطرم مثل مرجل ، من شوق يشتعل في سويدائه لا يطفئه إلا ريق ، تراق قطراته عبثاً ، وضمّةٌ كان هو أولى بها من الوسادة !
أختها أروى ، التي استمعت لتعقيب خالتهما هيا هي الوحيدة ، التي التقطت المشاعر ، التي أورقـــــت في وجهها فانــــفرجت أساريره ، مثل ورد ناعس ، نبّهَه الربيع فأفاق وتفتح أروى أختها وصديقتها الخــــاصة أيضاً في لحظة صدق وألم ، حـدثتها بحقيقة شعورها ، تجاه شهاب الإسلام لم تستطع أن تحتمل السر لوحدها ، وعجز قلبها ، الذي تهتك من الهم القلق ، أن يكون وحده وعاءً لوجع بهذا الحجم أروى لا تتفق معها في شعورها وترى أنها متعلقة بوهم قالت لها مرّة : " حب من طرف واحد " ، فمرضت بسبب ذلك لأيام تحاشت بعدها أن تقول لها رأيها بصراحة
أصرت أختها وقريباتها ، أن تلبس لحفل التخرج ، اللباس الذي اخترنه لها ، لهذه المناسبة حين ترددت ، قالت خالتها نوره تشاكسها وهي عزيزة عليها ، أكثر من غيرها ، من بين خالاتها وعماتها :
- لا خيار لك إذا شئت أن نرافقك للحفل ، ونفرح معك
- لكني سأبدو فيه وكأني عارضة أزياء ، ولست طبيبة ماركة مشهورة جداً وغالية ، وآخر موضة
ابنة عمها جمانة ، وهي من صديقاتها المقربات أطلقت واحـــداً من تعليقاتها الساخرة :
- لا بأس يا عائشة هذه المرّة ، لا نريد أن نراك تبدين ، وكأنك تشي غيفارا
ضحكت وقالت :
- شفتوا يا بنات جمانة أرحم فيه ناس في الكلية يسمونني " الملا عمر " !
ذهبت عائشة إلى حفل التخرج ، برفقة والدتها وأختها وقريباتها كانت محل حفاوة الجميع صفق الحضور طويلاً ، حين أعلن عن اسمها ضمن المكرّمات ، والحائزات على جوائز تقدير والدتها التي كانت تصلها إشاعات ، أن ابنتها صاحبة مشاكل ، وعلى خلاف مع الجميع ، لم تجف دمعتها ، وهي ترى حجم الحفاوة الذي نالته بين دقيقة وأخرى ، يأتي من يسلم على عائشة ، ويبارك لها ، ويغدق عليها عبارات الثناء ترد هي بالشكر والامتنان ، ثم تشير إلى والدتها :
- هذه أمي الفضل لها
فتغرق الأم في بحر من الدموع
كانا أسبوعا احتفال ، ازدحما بكل مظاهر الاحتفاء حفلات عشاء ، وهدايا ، وباقات ورد وتبريكات اتصالات هاتفية ، ورسائل جـــــوّال ، وفاكسات وقت سمته : كرنفال حب عادت بعد هذا ( الكرنفال ) لتغرق في دوامة العمل اعتادت أن تضع هاتفها الجوّال على وضع الصامت ، حينما تدخل العيادة حين توقفت عند صلاة الظهر عن استقبال المرضى ، نظــرت إلى الجوّال لترى ما قد يكون وصلها من رسائل ، أو فاتها من اتصالات لاحظت أن هناك أكثر من 10 اتصالات فــــائتة حين استعرضتها ، انتابها قلق سبع من هذه الاتصالات جاءت من والدتها بادرت بالاتصال ، وهي تـــظن أن أمراً سيئاً أصاب أهلها دق جوّال أمها حتى انقطع الرنين فازداد قلقها أعادت الاتصال ، فجاء صوت أمها عجلاً :
- هلا عيوّش أقلقتك يا عمري !
- سلامات يا أمي ، عسى ما شر ؟
- أشغلتني أم نايف اللاوي ، من صباح رب العالمين وهي تتصل تقول إن زوجة ولدها في المستشفى تنتظر الولادة تواجه مشكلة في تنويمها ، وزوجها مُصِّر على أن تُوَلّدها دكتورة ، واتصلت بي ، تبغى فزعتك !
- فهد اللاوي ! ما تذكرين يا أمي أعمال فهد اللاوي ؟ أنا مجروحة منه والله
- خليك أكبر منه يا عائشة ، ولو من أجل أمّه !
فهد اللاوي شخص سليط ، وهو أحد أقرباء عائشة من جهة والدتها يتبنى موقفاً متشنجاً ونشازاً ، ضد دراسة الفتيات في كلية الطب ، من منظور التعصب القبلي دراسة المرأة للطب وممارسته ، من الأمور ( الوضيعة ) ، التي لا تليق بامرأة تنتسب لأسرة تحترم نفسها كما يقول لم يتورع في كل مناسبة ، عن الغمز واللمز بطالبات الطب ، ونال عائشة منه الشيء الكثير كان يسميها ( المسترجلة ) ، ويقول عنها : " من سيـــــتزوج بنتاً ، تقضي من الوقت ، تخالط الرجال ، أكثر من الذي تقضيه في بيتها "
بيّتتْ عائشة في نفسها أمراً اتصلت بإحدى زميلاتها ، طبيبة نساء وولادة ، وشرحت لها موقف الرجل ، ورجتها أن تقبل المرأة لتكون مريضتها ، وتتولى توليدها اتفقت معها كذلك ، أن تطلب من المرأة ، أهمية أن يتصل زوجها بعائشة ، ويطلب منها أن يتولى توليد زوجته طبيبة على اعتبار أنها هي المسؤولة ، دون أن يعلم أنه يتصل بعائشة اتصلت زوجة نايف اللاوي بزوجها ، وأبلغته ضرورة أن يتصل بالمسؤولة ، لأنها صاحبة القرار ، بأن تكون هي ، تحت إشراف دكتورة تقوم بتوليدها
اتصل نايف اللاوي بعائشة ، وعرّف بنفسه ، وسأل بصوت فيه الكثير من الخضوع ، أن تقوم طبيبة بتوليد زوجته كانت مفاجأة كبيرة له ، أن يعلم أن من يتحدث معها هي عائشة ، التي لم تَبْقَ نقيصة لم يلصقها بها حاول أن يبدو أكثر لطفاً ، وأكثر تقديراً وامتناناً لكنها أشعرته أنها لن تعمل هذا من أجله ، وإنما من أجل والدته التي اتصلت بوالدتها ، ملمحة إلى مواقفه السابقة زميلتها أيضاً ، أخبرت زوجته أن تَدَخّل الدكتورة عائشة الصالح ، هو الذي جعلها تقبل أن تكون مريضتها ، وتقوم بتوليدها ، بالرغم من أن جدولها مزدحم بمريضات أخريات ، وهي ليست من المراجعات المنتظمات للمستشفى ثم أضافت :
- هل تعرفين ماذا كان يقول زوجك عن الدكتورة عائشة والطبيبات ؟
استحت ولم ترد ! لا يخفاها ما اعتاد زوجها أن يقول عن الطبيبات ، والعاملات في القطاعات الصحية ، مقــــــولته التي دائــــــــــــماً يـــــرددها : " بــــــــــنات ( الحمايل ) لا يشتغلن هذه الشغله " بعد أن انصرفت الدكتورة ، اتصلت زوجته بعائشة وشكرتها بشدة ، واعتذرت عن مواقفه وتصرفاته :
- أنا متأكدة أنه سيشــعر بالخجل من كلامه السابق
في المساء حين عادت عائشة إلى البيت ، أخبرت أمها أن مشكلة زوجة فهد اللاوي ، تم حَلّها ، وأنها الآن ربما ، في غرفة الولادة ، تحت إشراف إحدى زميلاتها سعادة والدتها كانت كبيرة ، ليس من أجل أم فهد اللاوي لكن لأن تصرف عائشة ، يعبّر عن شهامة ، وسيخرس لسان ولدها ، الذي نال ابنتها منه الشيء الكثير لم تفوّت الفرصة ، فسارعت للاتصال بأم فهد اللاوي :
- أبشرك يا أم فهد الدكتورة عائشة ، جزاها الله خيراً ، توسطت لــــزوجة ولدك ، عند واحدة من زميلاتها الدكتورات
- جزاها الله ألف خير ، وجعل ما قامت به ، في ميزان أعمالها
- هذه عائشة ، التي لم يبق شيء لم يقله فهد فيها ، وفي زميلاتها !
- لا عليك منه يا أم أحمد سفيه عائشة تاج رأسه
كانت قد تعمدّت ، أن تجعل جهاز الهاتف على وضع السماعة الخارجية ، لكي تسمع عائشة الحوار حين قالت الأم عن ولدها أنه سفيه ، وأن عائشة تاج رأسه ، ابتسمت ابتسامة عريضة ، والتفتت نحو عائشة ، وغمزت لها بعينها هزت عائشة رأسها ، وردت على ابتسامة أمها ، بابتسامة خفيفة لم تكن تفضل أن تشمت أمها بالرجل أمام والدته لكنها قدرت شعور والدتها تجاهها ودفاعها عنها
أحياناً تبدو الأمور ، وكأن الأحداث تجري وفق مصادفات مرتبة لم يمر عليها أسبوع من قبل ، بمثل هذه الصدف الغريبة اليوم الأحد يوم عمل مزدحم لديها عملية في بداية اليوم ، ثم جولة ميدانية على المرضى وبعد الظهر عيادة في آخر النهار كانت منهكة جداً قبل أن تعود إلى البيت ، مرّت على مكتب ، تشترك فيه مع بعض الزميلات ، وأخذت بعض الأوراق وجوّالها ، الذي تركته الصباح ، لأنها في هذا اليوم بالذات ، لا تحتاجه أبداً في طريق العودة ، أجرت اتصالاً مع والدتها تطمئنها على نفسها ، كما اعتادت أن تفعل ، في نهاية كل يوم عـــــمل فــــوجئت برد والـــــدتها الذي تأخر ، وكـــان مجرد ( نعم ) جافة ، بدلاً من : ( هلا بروحي وعــيوني ) ، التي اعتادت أن تسمعها منها ، كلما ردت على اتصالها سلمت وقبل أن تستوعب المفاجأة من ردها البارد ، بادرتها أمها :
- عيوش أنت غيرت رقم جوّالك ؟
- لا ليه يا أمي ؟
- أيش الرقم الجديد هذا ؟
أدركت أن ثمة خطأ ما وقع تأملت الجهاز ، فاكتشفت أنه يشبه جهازها شرحت لأمها ، أنها أخذت عن طريق الخطأ ، جوّال زميلة لها ، يشبه جهازها لم يكن من وسيلة لمعرفة صاحبة الجوّال ، إلا انتظار اتصالها عليه للسؤال ، أو مراجعة الاتصالات والرسائل الصادرة والمرسلة مر وقت بعد وصولها البيت ، ولم يرِدْ أي اتصال دفعها الفضول ، لاستعراض الاتصالات الصادرة لم تكن كثيرة ، وليس بينها مكرر ، إلا واحد تم الاتصال به مرتين لاحظت أنه الرقم الرديف ، لجوّال إحدى الزميلات شكّت أن يكون رقم زوجها أرادت أن تتثبت أكثر قبل الاتصال ، ففتحت صندوق الرسائل المرسلة كان فيها رسالة واحدة تحمل نفس الرقم المتصل به ، فتأكدت أنها هي رشا قرأت الرسالة :
" وددت أن أقول شيئاً كنت هذا النهار ، فارسي النبيل والجميل "
" كنت فارسي النبيل والجميل " الرسالة جميلة ما أعذبها ، أرسلتها لزوجها همست لنفسها ارتاحت أنها عرفت صاحبة الجوّال ، لكن الرسالة أثارت شجنها منذ سنوات ، وهي تنتظر ( فارسها ) ، الذي لم يأتِ ! لواعج حزنها ، التي صارت تتنامى ، جعلها تذكر الله خشيت أن تحسد صاحبتها التي لها ( فارس ) تؤوب إليه ، وتلوذ به يتمدد الحزن ، ويتناثر في أعماقنا ، مثل بقعة نفط ، تنتشر على سطح البحر لا نستطيع أن نحاصرها ، أو نسيطر عليها تماماً حين تكون سعادة الآخرين ، تثير دواعي شقائنا إذ كلما ظننّا أننا سلونا ، يفجؤنا وجودها مثيراً لذكرى ، أو محرضاً على ألم نجده يترصد لنا فـــرحهم ، لينكأ جرح أحزاننا : في رسالة جوّال ، أو حديث باسم أو أماكن غفت فيها الذكريات
أقفلت الجوّال ولم تشأ أن تتصل بزميلتها خشيت أن تسألها ، كيف عرفت أنه جوّالها فتضطرّ أن تقول لها ، أنها اطلعت على الرسالة المرسلة لا تريد أن تبدو فضولية ، تتجسس على خصوصيات الناس ، ولم تستحسن كذلك ، أن تعرف زميلتها أنها اطلعت على رسالة ، بينها وبين زوجها ، تحمل قدراً كبيراً وجميلاً ، من الحميمية ، والمشاعر الخاصة لو حصل وتكدرت علاقتهما ، لاتّهمتها أنها هي السبب وعزت ذلك لعينها هكذا يفكر كثير من الناس
من الغد ، أخذت الجوّال معها إلى العمل في فترة الاستراحة لصلاة الظهر ، وجدت بعض الزميلات مجتمعات في الكافتيريا سلمت ونادت عليهن :
- يا بنات أنا أمس أخذت جوّالاً ، ليس لي بالخطأ ، وأبحث عن جوّالي لم استطع أن أتصل بصاحبة الجوّال لأنه مغلق
صاحت الزميلات عليها ، وأخبرنها أن زميلتهم رشا ، هي أيضاً معها جوّال لا تدري من صاحبته ، وقد تركته في المكتب ، ويمكن أن يكون هو جوّالها ذهبت إلى المكتب وأخذت جوّالها ، ووضعت الجوال الذي معها ، في صندوق البريد الخاص برشا
لم تمر الصدفة التي جعلتها تَطّلع على الرسالة ، في جوّال زميلتها بهدوء الرسالة أيقظت مشاعر كامنة ، وبعثت آمالاً توارت ، أمام دوّامة العمل ، ورتابة روتينه اليومي حين وصلت البيت ، صلت العصر ونامت ، لتستيقظ في المساء ، على الصدفة الثانية ، على حدث عائلي أثار جدلاً أختها أروى خطبت اليوم للمرة الثالثة ، ووالدها ووالدتها يرفضان تزويجها قبلها غضبت واحتجت ورفضت أن يربط مصير أروى بمصيرها :
- جاءها نصيبها لا تقفوا في طريقها ! أنا إذا جاء نصيبي سأتزوج
حديث خالتها أم شهاب الإسلام ، يوم حفلة تخرجها ، عن الفرحة الكبرى بها ، ما زال حياً في قلبها رسالة الجوّال التي قرأتها في جوّال زميلتها ، عن ( الفارس النبيل الجميل ) أحيت الأمل بــ ( الفارس ) الذي لابد أن يأتي ، ولكنه تأخر أي صــدفة جعلت أروى تُخطَب ، ويصر أهلها على أن تتزوج هي أولاً لحظة انبعث حلم الفارس من مرقده ، بعد طول سبُاَت تساءلت ؟
تمت الموافقة على زواج أروى ، وبدأت الاستعدادات له العطلة الصيفية على الأبواب ، لكن برنامجها المزدحم ، لا يسمح لها بمشاركة فاعلة في التجهيز قالت لأروى :
- حين تبدأ الإجازة ، يسافر الناس ، ويخف الضغط ، وسأكون إلى جانبك لو تدرين كم أنا سعيدة بك ولك
- لو تدرين كم أتطلع إلى الليلة ، التي أراك فيها عروساً يا سندريلا ، دون أن تضطري ، أن تفقدي فردة حذائك
ابتسمت عائشة فهمت أن أختها تلمح لحكاية الفتاة ( سندريلا ) ، في الأسطورة الشهيرة التي لم يأتها فارس أحلامها ، إلا بعد معاناة وطول انتظار
كانتا تتحدثان حين دخلت والدتهما ، فقالت مداعبة :
- هاه إن شاء الله فيه تبديل أدوار عائشة قررت أن تأخذ العريس هذا ؟
نظرت عائشة لوالدتها بعتاب فأضافت والدتها :
- قلبي عليك يا حبيبتي
ثم غيرت مجرى الحديث ، موجهة الخطاب لأروى لتفادي جرح مشاعر عائشة :
- خالتك نورة أخبرتني ، أنها اتصلت على جوّالك ، أكثر من مرة تريد أن تبارك لك قالت أنه مغلق
- أكلمها الآن
- أكدي عليها ، إن موعد اجتماعنا الأسبوعي الأربعاء ، صار في البيت ، وليس الاستراحة
اتجهت أروى لغرفتها ، واتصلت بخالتها كانت مرتبكة وبدا واضحاً ، أنه لم يكن هدف الاتصال الوحيد ، المباركة لها بالزواج أسرّت لها بأمر :
- أتـــدرين يا أروى تحدثت مع عبد السلام شهاب الإسلام ، قبل أيام عن الزواج ، واقترحت عليه عائشة ، لأتأكد من شعوره تجاهها قال لي : " عائشة والنعم لكن أنا ما يهمني نجاحـــها ، ودورها في المجتمع أنا لا يمكن أن أتزوج بنتاً ، تتفرج على عورات الرجال في غرفة التشريح
النهاية
عوده سليمان العصباني
09-05-2008, 02:04 PM
مشكوررررررر اخوي
على القصه الرائعه
vBulletin® v4.2.5, Copyright ©2000-2024, تصميم الوتين (عبدالمنعم البلوي )watein.com