موسى بن ربيع البلوي
01-17-2003, 02:27 PM
هذا الفصل من روائع ما قرأت ..
وجدير بالمسلم أن يعيد قراءته مرات تلو المرات
وجدير به أن يتدارسه مع غيره ، ويذكر به سواه ..
حتى تستقر هذه المعاني الراقية في قلبه لتثمر سلوكا وواقعا ..
والله الهادي إلى وساء السبيل .. اقرأ متأملا متدبرا ..
==
( وقال:إني ذاهب إلى ربي سيهدين). .
هكذا ... . إني ذاهب إلى ربي . . إنها الهجرة .
وهي هجرة نفسية قبل أن تكون هجرة مكانية
. هجرة يترك وراءه فيها كل شيء من ماضي حياته .
يترك أباه وقومه وأهله وبيته ووطنه وكل ما يربطه بهذه الأرض , وبهؤلاء الناس .
ويدع وراءه كذلك كل عائق وكل شاغل . ويهاجر إلى ربه متخففاً من كل شيء ,
طارحاً وراءه كل شيء , مسلماً نفسه لربه لا يستبقي منها شيئاً .
موقن أن ربه سيهديه , وسيرعى خطاه , وينقلها في الطريق المستقيم .
إنها الهجرة الكاملة من حال إلى حال , ومن وضع إلى وضع ,
ومن أواصر شتى إلى آصرة واحدة لا يزحمها في النفس شيء .
إنه التعبير عن التجرد والخلوص والاستسلام والطمأنينة واليقين .
وكان إبراهيم حتى هذه اللحظة وحيداً لا عقب له ;
وهو يترك وراءه أواصر الأهل والقربى , والصحبة والمعرفة .
وكل مألوف له في ماضي حياته , وكل ما يشده إلى الأرض التي نشأ فيها ,
والتي انحسم ما بينه وبين أهلها الذين ألقوه في الجحيم !
فاتجه إلى ربه الذي أعلن أنه ذاهب إليه .
اتجه إليه يسأله الذرية المؤمنة والخلف الصالح:
(رب هب لي من الصالحين). .
واستجاب الله دعاء عبده الصالح المتجرد , الذي ترك وراءه كل شيء ,
وجاء إليه بقلب سليم . .
( فبشرناه بغلام حليم). .
هو إسماعيل - كما يرجح سياق السيرة والسورة –
وسنرى آثار حلمه الذي وصفه ربه به وهو غلام .
ولنا أن نتصور فرحة إبراهيم الوحيد المفرد المهاجر المقطوع من أهله وقرابته
. لنا أن نتصور فرحته بهذا الغلام , الذي يصفه ربه بأنه حليم .
والآن آن أن نطلع على الموقف العظيم الكريم الفريد في حياة إبراهيم .
بل في حياة البشر أجمعين .
وآن أن نقف من سياق القصة في القرآن أمام المثل الموحي
الذي يعرضه الله للأمة المسلمة من حياة أبيها إبراهيم . .
( فلما بلغ معه السعي . قال: يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك ,
فانظر ماذا ترى . قال: يا أبت افعل ما تؤمر ،
ستجدني إن شاء الله من الصابرين). .
يالله ! ويالروعة الإيمان والطاعة والتسليم . .
هذا إبراهيم الشيخ . المقطوع من الأهل والقرابة . المهاجر من الأرض والوطن .
ها هو ذا يرزق في كبرته وهرمه بغلام . طالما تطلع إليه .
فلما جاءه جاء غلاماً ممتازاً يشهد له ربه بأنه حليم .
وها هو ذا ما يكاد يأنس به , وصباه يتفتح , ويبلغ معه السعي , ويرافقه في الحياة
. . ها هو ذا ما يكاد يأنس ويستروح بهذا الغلام الوحيد , حتى..
حتى يرى في منامه أنه يذبحه . ويدرك أنها إشارة من ربه بالتضحية .
فماذا ?
إنه لا يتردد , ولا يخالجه إلا شعور الطاعة , ولا يخطر له إلا خاطر التسليم . .
نعم إنها إشارة . مجرد إشارة . وليست وحياً صريحاً , ولا أمراً مباشراً .
ولكنها إشارة من ربه . . وهذا يكفي . .
هذا يكفي ليلبي ويستجيب . ودون أن يعترض . ودون أن يسأل ربه . .
لماذا يا ربي أذبح ابني الوحيد ?!
ولكنه لا يلبي في انزعاج , ولا يستسلم في جزع , ولا يطيع في اضطراب . .
كلا إنما هو القبول والرضى والطمأنينة والهدوء . يبدو ذلك في كلماته لابنه
وهو يعرض عليه الأمر الهائل في هدوء وفي اطمئنان عجيب:
( قال:يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك . فانظر ماذا ترى ). .
فهي كلمات المالك لأعصابه , المطمئن للأمر الذي يواجهه ,
والواثق بأنه يؤدي واجبه
. وهي في الوقت ذاته كلمات المؤمن , الذي لا يهوله الأمر فيؤديه ,
في اندفاع وعجلة ليخلص منه وينتهي , ويستريح من ثقله على أعصابه !
والأمر شاق - ما في ذلك شك - فهو لا يطلب إليه أن يرسل بابنه الوحيد إلى معركة .
ولا يطلب إليه أن يكلفه أمراً تنتهي به حياته . . إنما يطلب إليه :
أن يتولى هو بيده . يتولى ماذا ? يتولى ذبحه . . !!
وهو - مع هذا - يتلقى الأمر هذا التلقي , ويعرض على ابنه هذا العرض ;
ويطلب إليه أن يتروى في أمره , وأن يرى فيه رأيه !
إنه لا يأخذ ابنه على غرة لينفذ إشارة ربه . وينتهي .
إنما يعرض الأمر عليه كالذي يعرض المألوف من الأمر .
فالأمر في حسه هكذا :
ربه يريد . فليكن ما يريد . على العين والرأس . وابنه ينبغي أن يعرف .
وأن يأخذ الأمر طاعة وإسلاماً , لا قهراً واضطراراً .
لينال هو الآخر أجر الطاعة , وليسلم هو الآخر ويتذوق حلاوة التسليم !
إنه يحب لابنه أن يتذوق لذة التطوع التي ذاقها ;
وأن ينال الخير الذي يراه هو أبقى من الحياة وأقنى . .
فماذا يكون من أمر الغلام , الذي يعرض عليه الذبح , تصديقاً لرؤيا رآها أبوه ?
إنه يرتقي إلى الأفق الذي ارتقى إليه من قبل أبوه:
( قال:يا أبت افعل ما تؤمر . ستجدني - إن شاء الله - من الصابرين ). .
إنه يتلقى الأمر لا في طاعة واستسلام فحسب . ولكن في رضى كذلك وفي يقين . .!!
( يا أبت ). . في مودة وقربى . ..!
فشبح الذبح لا يزعجه ولا يفزعه ولا يفقده رشده . بل لا يفقده أدبه ومودته .
( افعل ما تؤمر ). . فهو يحس ما أحسه من قبل قلب أبيه . يحس أن الرؤيا إشارة .
وأن الإشارة أمر . وأنها تكفي لكي يلبي وينفذ بغير لجلجة ولا تمحل ولا ارتياب .
ثم هو الأدب مع الله , ومعرفة حدود قدرته وطاقته في الاحتمال ;
والاستعانة بربه على ضعفه ونسبة الفضل إليه في إعانته على التضحية ,
ومساعدته على الطاعة:
(ستجدني إن شاء الله من الصابرين ). .
ولم يأخذها بطولة . ولم يأخذها شجاعة . ولم يأخذها اندفاعاً إلى الخطر دون مبالاة
. ولم يظهر لشخصه ظلاً ولا حجماً ولا وزناً . .
إنما أرجع الفضل كله لله إن هو أعانه على ما يطلب إليه , وأصبره على ما يراد به:
(ستجدني - إن شاء الله - من الصابرين)
يا للأدب مع الله ! ويالروعة الإيمان . ويالنبل الطاعة . ويالعظمة التسليم !
ويخطو المشهد خطوة أخرى وراء الحوار والكلام . . يخطو إلى التنفيذ:
( فلما أسلما وتله للجبين ). .
ومرة أخرى يرتفع نبل الطاعة . وعظمة الإيمان . وطمأنينة الرضى
وراء كل ما تعارف عليه بنو الإنسان . .
إن الرجل يمضي فيكب ابنه على جبينه استعداداً .
وإن الغلام يستسلم فلا يتحرك امتناعاً . وقد وصل الأمر إلى أن يكون عياناً .
لقد أسلما فهذا هو الإسلام . هذا هو الإسلام في حقيقته .
ثقة وطاعة وطمأنينة ورضى وتسليم . . وتنفيذ . .
وكلاهما لا يجد في نفسه إلا هذه المشاعر التي لا يصنعها غير الإيمان العظيم .
إنها ليست الشجاعة والجراءة . وليس الاندفاع والحماسة .
لقد يندفع المجاهد في الميدان , يقتل و يقتل .
ولقد يندفع الفدائي وهو يعلم أنه قد لا يعود .
ولكن هذا كله شيء والذي يصنعه إبراهيم وإسماعيل هنا شيء آخر . .
ليس هنا دم فائر , ولا حماسة دافعة ولا اندفاع في عجلة
تخفي وراءها الخوف من الضعف والنكوص !
إنما هو الاستسلام الواعي المتعقل القاصد المريد , العارف بما يفعل ,
المطمئن لما يكون . لا بل هنا الرضى الهادى ،
المستبشر المتذوق للطاعة وطعمها الجميل !
وهنا كان إبراهيم وإسماعيل قد أديا . كان قد أسلما . كانا قد حققا الأمر والتكليف
. ولم يكن باقياً إلا أن يذبح إسماعيل , ويسيل دمه , وتزهق روحه . .
وهذا أمر لا يعني شيئاً في ميزان الله ,
بعدما وضع إبراهيم وإسماعيل في هذا الميزان من روحهما وعزمهما
ومشاعرهما كل ما أراده منهما ربهما . .
كان الابتلاء قد تم . والامتحان قد وقع . ونتائجه قد ظهرت .
وغاياته قد تحققت . ولم يعد إلا الألم البدني . والإ الدم المسفوح . والجسد الذبيح .
والله لا يريد أن يعذب عباده بالابتلاء . ولا يريد دماءهم وأجسادهم في شيء .
ومتى خلصوا له واستعدوا للأداء بكلياتهم فقد أدوا , وقد حققوا التكليف ,
وقد جازوا الامتحان بنجاح .
وعرف الله من إبراهيم وإسماعيل صدقهما . فاعتبرهما قد أديا وحققا وصدقا:
( وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا . إنا كذلك نجزي المحسنين .
إن هذا لهو البلاء المبين . وفديناه بذبح عظيم). .
قد صدقت الرؤيا وحققتها فعلاً
. فالله لا يريد إلا الإسلام والاستسلام
بحيث لا يبقى في النفس ما تكنه عن الله أو تعزه عن أمره أو تحتفظ به دونه ,
ولو كان هو الابن فلذة الكبد . ولو كانت هي النفس والحياة .
وأنت - يا إبراهيم - قد فعلت . جدت بكل شيء . وبأعز شيء .
وجدت به في رضى وفي هدوء وفي طمأنينة وفي يقين .
فلم يبق إلا اللحم والدم . وهذا ينوب عنه ذبح . أي ذبح من دم ولحم !
ويفدي الله هذه النفس التي أسلمت وأدت . يفديها بذبح عظيم .
وقيل له: (إنا كذلك نجزي المحسنين). .
نجزيهم باختيارهم لمثل هذا البلاء . ونجزيهم بتوجيه قلوبهم ورفعها
إلى مستوى الوفاء . ونجزيهم بإقدارهم وإصبارهم على الأداء .
ونجزيهم كذلك باستحقاق الجزاء !
**
ومضت بذلك سنة النحر في الأضحى ..
ذكرى لهذا الحادث العظيم الذي يرتفع منارة لحقيقة الإيمان .
وجمال الطاعة . وعظمة التسليم .
والذي ترجع إليه الأمة المسلمة لتعرف فيه حقيقة أبيها إبراهيم , الذي تتبع ملته ,
والذي ترث نسبه وعقيدته . ولتدرك طبيعة العقيدة التي تقوم بها أو تقوم عليها
ولتعرف أنها الاستسلام لقدر الله في طاعة راضية واثقة ملبية لا تسأل ربها لماذا ?
ولا تتلجلج في تحقيق إرادته عند أول إشارة منه وأول توجيه .
ولا تستبقي لنفسها في نفسها شيئا , ولا تختار فيما تقدمه لربها هيئة ولا طريقة
لتقديمه إلا كما يطلب هو إليها أن تقدم !
ثم لتعرف أن ربها لا يريد أن يعذبها بالابتلاء , ولا أن يؤذيها بالبلاء ,
إنما يريد أن تأتيه طائعة ملبية وافية مؤدية . مستسلمة لا تقدم بين يديه , ولا تتألى عليه
, فإذا عرف منها الصدق في هذا أعفاها من التضحيات والآلام
. واحتسبها لها وفاء وأداء . وقبل منها وفدّاها . وأكرمها كما أكرم أباها . .
( وتركنا عليه في الآخرين ). .
فهو مذكور على توالي الأجيال والقرون . وهو أمة . وهو أبو الأنبياء .
وهو أبو هذه الأمة المسلمة . وهي وارثة ملته .
وقد كتب الله لها وعليها قيادة البشرية على ملة إبراهيم .
فجعلها الله له عقباً ونسباً إلى يوم الدين .
( سلام على إبراهيم ). .
سلام عليه من ربه . سلام يسجل في كتابه الباقي . ويرقم في طوايا الوجود الكبير .
( كذلك نجزي المحسنين ). .
المصدر :
http://www.alwahah.net/aalawi60/qr37.htm
وجدير بالمسلم أن يعيد قراءته مرات تلو المرات
وجدير به أن يتدارسه مع غيره ، ويذكر به سواه ..
حتى تستقر هذه المعاني الراقية في قلبه لتثمر سلوكا وواقعا ..
والله الهادي إلى وساء السبيل .. اقرأ متأملا متدبرا ..
==
( وقال:إني ذاهب إلى ربي سيهدين). .
هكذا ... . إني ذاهب إلى ربي . . إنها الهجرة .
وهي هجرة نفسية قبل أن تكون هجرة مكانية
. هجرة يترك وراءه فيها كل شيء من ماضي حياته .
يترك أباه وقومه وأهله وبيته ووطنه وكل ما يربطه بهذه الأرض , وبهؤلاء الناس .
ويدع وراءه كذلك كل عائق وكل شاغل . ويهاجر إلى ربه متخففاً من كل شيء ,
طارحاً وراءه كل شيء , مسلماً نفسه لربه لا يستبقي منها شيئاً .
موقن أن ربه سيهديه , وسيرعى خطاه , وينقلها في الطريق المستقيم .
إنها الهجرة الكاملة من حال إلى حال , ومن وضع إلى وضع ,
ومن أواصر شتى إلى آصرة واحدة لا يزحمها في النفس شيء .
إنه التعبير عن التجرد والخلوص والاستسلام والطمأنينة واليقين .
وكان إبراهيم حتى هذه اللحظة وحيداً لا عقب له ;
وهو يترك وراءه أواصر الأهل والقربى , والصحبة والمعرفة .
وكل مألوف له في ماضي حياته , وكل ما يشده إلى الأرض التي نشأ فيها ,
والتي انحسم ما بينه وبين أهلها الذين ألقوه في الجحيم !
فاتجه إلى ربه الذي أعلن أنه ذاهب إليه .
اتجه إليه يسأله الذرية المؤمنة والخلف الصالح:
(رب هب لي من الصالحين). .
واستجاب الله دعاء عبده الصالح المتجرد , الذي ترك وراءه كل شيء ,
وجاء إليه بقلب سليم . .
( فبشرناه بغلام حليم). .
هو إسماعيل - كما يرجح سياق السيرة والسورة –
وسنرى آثار حلمه الذي وصفه ربه به وهو غلام .
ولنا أن نتصور فرحة إبراهيم الوحيد المفرد المهاجر المقطوع من أهله وقرابته
. لنا أن نتصور فرحته بهذا الغلام , الذي يصفه ربه بأنه حليم .
والآن آن أن نطلع على الموقف العظيم الكريم الفريد في حياة إبراهيم .
بل في حياة البشر أجمعين .
وآن أن نقف من سياق القصة في القرآن أمام المثل الموحي
الذي يعرضه الله للأمة المسلمة من حياة أبيها إبراهيم . .
( فلما بلغ معه السعي . قال: يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك ,
فانظر ماذا ترى . قال: يا أبت افعل ما تؤمر ،
ستجدني إن شاء الله من الصابرين). .
يالله ! ويالروعة الإيمان والطاعة والتسليم . .
هذا إبراهيم الشيخ . المقطوع من الأهل والقرابة . المهاجر من الأرض والوطن .
ها هو ذا يرزق في كبرته وهرمه بغلام . طالما تطلع إليه .
فلما جاءه جاء غلاماً ممتازاً يشهد له ربه بأنه حليم .
وها هو ذا ما يكاد يأنس به , وصباه يتفتح , ويبلغ معه السعي , ويرافقه في الحياة
. . ها هو ذا ما يكاد يأنس ويستروح بهذا الغلام الوحيد , حتى..
حتى يرى في منامه أنه يذبحه . ويدرك أنها إشارة من ربه بالتضحية .
فماذا ?
إنه لا يتردد , ولا يخالجه إلا شعور الطاعة , ولا يخطر له إلا خاطر التسليم . .
نعم إنها إشارة . مجرد إشارة . وليست وحياً صريحاً , ولا أمراً مباشراً .
ولكنها إشارة من ربه . . وهذا يكفي . .
هذا يكفي ليلبي ويستجيب . ودون أن يعترض . ودون أن يسأل ربه . .
لماذا يا ربي أذبح ابني الوحيد ?!
ولكنه لا يلبي في انزعاج , ولا يستسلم في جزع , ولا يطيع في اضطراب . .
كلا إنما هو القبول والرضى والطمأنينة والهدوء . يبدو ذلك في كلماته لابنه
وهو يعرض عليه الأمر الهائل في هدوء وفي اطمئنان عجيب:
( قال:يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك . فانظر ماذا ترى ). .
فهي كلمات المالك لأعصابه , المطمئن للأمر الذي يواجهه ,
والواثق بأنه يؤدي واجبه
. وهي في الوقت ذاته كلمات المؤمن , الذي لا يهوله الأمر فيؤديه ,
في اندفاع وعجلة ليخلص منه وينتهي , ويستريح من ثقله على أعصابه !
والأمر شاق - ما في ذلك شك - فهو لا يطلب إليه أن يرسل بابنه الوحيد إلى معركة .
ولا يطلب إليه أن يكلفه أمراً تنتهي به حياته . . إنما يطلب إليه :
أن يتولى هو بيده . يتولى ماذا ? يتولى ذبحه . . !!
وهو - مع هذا - يتلقى الأمر هذا التلقي , ويعرض على ابنه هذا العرض ;
ويطلب إليه أن يتروى في أمره , وأن يرى فيه رأيه !
إنه لا يأخذ ابنه على غرة لينفذ إشارة ربه . وينتهي .
إنما يعرض الأمر عليه كالذي يعرض المألوف من الأمر .
فالأمر في حسه هكذا :
ربه يريد . فليكن ما يريد . على العين والرأس . وابنه ينبغي أن يعرف .
وأن يأخذ الأمر طاعة وإسلاماً , لا قهراً واضطراراً .
لينال هو الآخر أجر الطاعة , وليسلم هو الآخر ويتذوق حلاوة التسليم !
إنه يحب لابنه أن يتذوق لذة التطوع التي ذاقها ;
وأن ينال الخير الذي يراه هو أبقى من الحياة وأقنى . .
فماذا يكون من أمر الغلام , الذي يعرض عليه الذبح , تصديقاً لرؤيا رآها أبوه ?
إنه يرتقي إلى الأفق الذي ارتقى إليه من قبل أبوه:
( قال:يا أبت افعل ما تؤمر . ستجدني - إن شاء الله - من الصابرين ). .
إنه يتلقى الأمر لا في طاعة واستسلام فحسب . ولكن في رضى كذلك وفي يقين . .!!
( يا أبت ). . في مودة وقربى . ..!
فشبح الذبح لا يزعجه ولا يفزعه ولا يفقده رشده . بل لا يفقده أدبه ومودته .
( افعل ما تؤمر ). . فهو يحس ما أحسه من قبل قلب أبيه . يحس أن الرؤيا إشارة .
وأن الإشارة أمر . وأنها تكفي لكي يلبي وينفذ بغير لجلجة ولا تمحل ولا ارتياب .
ثم هو الأدب مع الله , ومعرفة حدود قدرته وطاقته في الاحتمال ;
والاستعانة بربه على ضعفه ونسبة الفضل إليه في إعانته على التضحية ,
ومساعدته على الطاعة:
(ستجدني إن شاء الله من الصابرين ). .
ولم يأخذها بطولة . ولم يأخذها شجاعة . ولم يأخذها اندفاعاً إلى الخطر دون مبالاة
. ولم يظهر لشخصه ظلاً ولا حجماً ولا وزناً . .
إنما أرجع الفضل كله لله إن هو أعانه على ما يطلب إليه , وأصبره على ما يراد به:
(ستجدني - إن شاء الله - من الصابرين)
يا للأدب مع الله ! ويالروعة الإيمان . ويالنبل الطاعة . ويالعظمة التسليم !
ويخطو المشهد خطوة أخرى وراء الحوار والكلام . . يخطو إلى التنفيذ:
( فلما أسلما وتله للجبين ). .
ومرة أخرى يرتفع نبل الطاعة . وعظمة الإيمان . وطمأنينة الرضى
وراء كل ما تعارف عليه بنو الإنسان . .
إن الرجل يمضي فيكب ابنه على جبينه استعداداً .
وإن الغلام يستسلم فلا يتحرك امتناعاً . وقد وصل الأمر إلى أن يكون عياناً .
لقد أسلما فهذا هو الإسلام . هذا هو الإسلام في حقيقته .
ثقة وطاعة وطمأنينة ورضى وتسليم . . وتنفيذ . .
وكلاهما لا يجد في نفسه إلا هذه المشاعر التي لا يصنعها غير الإيمان العظيم .
إنها ليست الشجاعة والجراءة . وليس الاندفاع والحماسة .
لقد يندفع المجاهد في الميدان , يقتل و يقتل .
ولقد يندفع الفدائي وهو يعلم أنه قد لا يعود .
ولكن هذا كله شيء والذي يصنعه إبراهيم وإسماعيل هنا شيء آخر . .
ليس هنا دم فائر , ولا حماسة دافعة ولا اندفاع في عجلة
تخفي وراءها الخوف من الضعف والنكوص !
إنما هو الاستسلام الواعي المتعقل القاصد المريد , العارف بما يفعل ,
المطمئن لما يكون . لا بل هنا الرضى الهادى ،
المستبشر المتذوق للطاعة وطعمها الجميل !
وهنا كان إبراهيم وإسماعيل قد أديا . كان قد أسلما . كانا قد حققا الأمر والتكليف
. ولم يكن باقياً إلا أن يذبح إسماعيل , ويسيل دمه , وتزهق روحه . .
وهذا أمر لا يعني شيئاً في ميزان الله ,
بعدما وضع إبراهيم وإسماعيل في هذا الميزان من روحهما وعزمهما
ومشاعرهما كل ما أراده منهما ربهما . .
كان الابتلاء قد تم . والامتحان قد وقع . ونتائجه قد ظهرت .
وغاياته قد تحققت . ولم يعد إلا الألم البدني . والإ الدم المسفوح . والجسد الذبيح .
والله لا يريد أن يعذب عباده بالابتلاء . ولا يريد دماءهم وأجسادهم في شيء .
ومتى خلصوا له واستعدوا للأداء بكلياتهم فقد أدوا , وقد حققوا التكليف ,
وقد جازوا الامتحان بنجاح .
وعرف الله من إبراهيم وإسماعيل صدقهما . فاعتبرهما قد أديا وحققا وصدقا:
( وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا . إنا كذلك نجزي المحسنين .
إن هذا لهو البلاء المبين . وفديناه بذبح عظيم). .
قد صدقت الرؤيا وحققتها فعلاً
. فالله لا يريد إلا الإسلام والاستسلام
بحيث لا يبقى في النفس ما تكنه عن الله أو تعزه عن أمره أو تحتفظ به دونه ,
ولو كان هو الابن فلذة الكبد . ولو كانت هي النفس والحياة .
وأنت - يا إبراهيم - قد فعلت . جدت بكل شيء . وبأعز شيء .
وجدت به في رضى وفي هدوء وفي طمأنينة وفي يقين .
فلم يبق إلا اللحم والدم . وهذا ينوب عنه ذبح . أي ذبح من دم ولحم !
ويفدي الله هذه النفس التي أسلمت وأدت . يفديها بذبح عظيم .
وقيل له: (إنا كذلك نجزي المحسنين). .
نجزيهم باختيارهم لمثل هذا البلاء . ونجزيهم بتوجيه قلوبهم ورفعها
إلى مستوى الوفاء . ونجزيهم بإقدارهم وإصبارهم على الأداء .
ونجزيهم كذلك باستحقاق الجزاء !
**
ومضت بذلك سنة النحر في الأضحى ..
ذكرى لهذا الحادث العظيم الذي يرتفع منارة لحقيقة الإيمان .
وجمال الطاعة . وعظمة التسليم .
والذي ترجع إليه الأمة المسلمة لتعرف فيه حقيقة أبيها إبراهيم , الذي تتبع ملته ,
والذي ترث نسبه وعقيدته . ولتدرك طبيعة العقيدة التي تقوم بها أو تقوم عليها
ولتعرف أنها الاستسلام لقدر الله في طاعة راضية واثقة ملبية لا تسأل ربها لماذا ?
ولا تتلجلج في تحقيق إرادته عند أول إشارة منه وأول توجيه .
ولا تستبقي لنفسها في نفسها شيئا , ولا تختار فيما تقدمه لربها هيئة ولا طريقة
لتقديمه إلا كما يطلب هو إليها أن تقدم !
ثم لتعرف أن ربها لا يريد أن يعذبها بالابتلاء , ولا أن يؤذيها بالبلاء ,
إنما يريد أن تأتيه طائعة ملبية وافية مؤدية . مستسلمة لا تقدم بين يديه , ولا تتألى عليه
, فإذا عرف منها الصدق في هذا أعفاها من التضحيات والآلام
. واحتسبها لها وفاء وأداء . وقبل منها وفدّاها . وأكرمها كما أكرم أباها . .
( وتركنا عليه في الآخرين ). .
فهو مذكور على توالي الأجيال والقرون . وهو أمة . وهو أبو الأنبياء .
وهو أبو هذه الأمة المسلمة . وهي وارثة ملته .
وقد كتب الله لها وعليها قيادة البشرية على ملة إبراهيم .
فجعلها الله له عقباً ونسباً إلى يوم الدين .
( سلام على إبراهيم ). .
سلام عليه من ربه . سلام يسجل في كتابه الباقي . ويرقم في طوايا الوجود الكبير .
( كذلك نجزي المحسنين ). .
المصدر :
http://www.alwahah.net/aalawi60/qr37.htm