ابو انس
12-21-2004, 09:33 PM
من الظواهر السيئة التي ينبغي الحديث عنها ظاهرة الغلو في الدين, وظاهرة التنطع كما سماها الشارع الحكيم وظاهرة التعمق والتكلف والمبالغة, ويقابل ذلك ما اتصف به هذا الدين العظيم من التيسير ومن السهولة والسماحة كما نص على ذلك ايضا الشارع الحكيم ففي حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله غداة جَمعٍ: (هلُمَّ القط لي الحصى) فلقطت له حصيات من حصى الخذف, فلما وضعتهن في يده قال: (نعم بأمثال هؤلاء, واياكم والغلو في الدين, فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين) (1) هذا الحديث العظيم الصحيح يحذرنا فيه النبي المصطفى من الغلو في الدين, ويبين لنا أنه من اسباب الهلاك, وان الامم السابقة انما اهلكها الغلو, لنتعظ ونعتبر.
قال تعالى في أهل الكتاب: {قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله الا الحق إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته القاها الى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة}.
قال الإمام المناوي رحمه الله: (الغلو: المجاوزة في الحد. والغلو في الدين: التصلب والتشدد فيه). وقال شيخ الاسلام رحمه الله: (نهى الشارع عن الغلو والتشدد نهياً عاماً في الاعتقادات والاعمال).
وتأمل قول الرسول : (يحمل هذا العلم من كل خَلفٍ عُدولُه ينفون عنه تحريف الغالين, وانتحال المبطلين) (2) وهذا الحدث يبين فيه النبي انه يحمل هذا العلم من كل خلَف (يعني من الذين يأتون بعد النبي ) (عدوله: المعتدلين الذين يفهمونه بالاعتدال والوسطية, فجاء ديننا عدلا وسطا ثم قال: (ينفون عنه تحريف الغالين) فكأن الغلو يقود الى الانحراف, وكأن الغلو تحريف للقرآن والسنة وتغيير وتبديل, فالعلماء هم الذين ينفون هذا التحريف, ينفون عنه تحريف الغالين الذين يغالون ويبالغون ويتعمقون في دين الله عز وجل مالم يأمرهم الله به, ومالم يكلفهم وما لم يطلب منهم (وانتحال المبطلين) والعياذ بالله عز وجل الذين ينتحلون ويفترون ويكذبون (وتأويل الجاهلين) جاهل لم يتعلم ولم يجلس في مجالس العلماء, ولم يقرأ الكتب, ولم يسهر الليالي ثم بعد ذلك يفسر القرآن على هواه, ويفسر حديث النبي برأيه.
وعن ابي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي : (ان الدين يسر ولن يشادّ الدين أحد الا غلبه فسددوا وقاربوا وابشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة, والقصد القصد تبلغوا)(3) قال ابن حجر رحمه الله في معنى قوله (ولن يشاد الدين أحدٌ الا غلبه) قال: والمعنى لا يتعمق احد في الاعمال الدينية ويترك الرفق الا عجز وانقطع فينغلب بعد ذلك. انظر الى هذا الحديث: (ان الدين يسر) أي: صفة هذا الدين اليسر, وكأنه عليه الصلاة والسلام يذكرنا بالاديان من قبلنا, أي ان دين الاسلام يسر وليس كما كانت الاديان من قبلكم, الذين كانت توبة الواحد منهم القتل, بينما توبة المسلم ان يستغفر ويتوب ويندم ويرجع الى الله تبارك وتعالى ولا يقتل نفسه ولا يضرب نفسه ولا يهلك نفسه (ان الدين يسر) وهو موافق لقوله تعالى: {ماجعل عليكم في الدين من حرج} فلا يوجد في دين الله أي مشقة او حرج, فإذا وجدت مشقة او حرج فهي من الناس وليست من الدين, فمثلا: ازدحام الناس واقتتالهم في رمي الجمار, هل هذا من الدين?! هذا ليس من الدين, من الدين ان تُقبل الحجر الاسود, وليس منه ان نتقاتل حتى نقبله, فهذا من عمل الناس وليس من دين الله.
كما قال النبي ثم قال: (سددوا وقاربوا وابشروا) ومعنى سددوا كما قال العلماء: التسديد يعني اصابة الكمال والمقاربة تعني: بذل الوسع فإذا لم تستطع ان تقوم الليل كله او ان تصلي اثنتي عشرة ركعة فلا اقل من ان تصلي ركعتين (سددوا وقاربوا وابشروا) يعني: حتى لو قاربتم ولم تفعلوا ما امركم الله بالكامل من النوافل والعبادات فأبشروا ايضا بالاجر وابشروا بالفضل, وابشروا بالثواب (واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة) الغدوة يعني المشي في الصباح والروحة المشي بعد الزوال والدلجة المشي في الليل وهكذا المسافر العاقل يختار الوقت المناسب الذي تكون فيه النفس نشيطة والجسم نشيطا فيسافر ويتحرك, ولا يتحرك في كل وقت فيهلك نفسه, وكذلك المسلم اذا وجد في نفسه نشاطا قام وتعبد الله عز وجل اما اذا وجد في نفسه تعباً ومشقة فلا يشدد على نفسه ولا يرهق نفسه, وهذا انما يكون في السنن والمستحبات بخلاف الفرائض, فالتيسير لا يعني ترك الفرائض وفعل المحرمات كما يظن بعض الناس, بأن التيسير معناه ترك الدين فتأتي الى انسان وتأمره بالصلاة مثلا فيقول: يا اخي يسر ولا تعسر, سبحان الله يسِّر حتى في الفرائض, وإنسان يشرب الخمر او يرتكب المحرمات تأتي وتنصحه: يا اخي هذا حرام من المحرمات التي حرمها الله ورسوله. فيقول: يا أخي يسر ولا تعسر وبشر ولا تنفر. الدين يأمرك بأداء الواجبات وترك المحرمات ولا يأمر بعكس ذلك.
وروى البخاري في صحيحه ايضا عن النبي : قال: (أحب الدين الى الله الحنيفية السمحة) والحنيفية السمحة: هي ملة ابراهيم لأنه كان حنيفاً مائلا عن الباطل وعن الشرك, والسمحة يعني: السهلة. هذه احب الاعمال -أحب الدين- الى الله تبارك وتعالى ليس أحب الدين أشده واهلكه, لا وانما ايسره احب الى الله سبحانه وتعالى, ولذلك كان أحب العمل الى النبي والى الله ادومه وان قَلَّ, فلو صليت في كل ليلة ركعتين فقط قياماً لليل, وواظبت على ذلك, فهو خير لك واحب الى الله من صلاة ليلة كاملة الى الفجر ثم تنقطع بعدها عن قيام الليل, (ولن يشاد الدين احد الا غلبه) قال: ابن المُنيِّر رحمه الله: في هذا الحديث عَلَمٌ من اعلام النبوة: فقد رأينا ورأى الناس قبلنا أن كل متنطع في الدين ينقطع -لا يستطيع ان يواصل وانما ينقطع وينتهي- وليس المراد منه طلب الاكمل في العبادة فإنه من الامور المحمودة- الذي يطلب الاكمل في الصلاة والقرآن وفي الذكر- بل منع الافراط المؤدي الى الملال, او المبالغة في التطوع المفضي الى ترك الافضل. يبالغ الانسان في قيام الليل ويسهر. ثم ينام ويضيع الفجر, او يصوم ويترك صلة الارحام, او يقوم بسنة ونافلة ويترك بر الوالدين, يضيع فرضا ليفعل سنة.
وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله : (هلك المتنطعون هلك المتنطعون هلك المتنطعون) (4) والمتنطعون: المغالون المتعمقون في الاقوال والافعال.
وفي الصحيحين ان النبي لما بعث معاذ بن جبل وابا موسى الاشعري لليمن قال لهما: (يسرا ولا تعسرا, وبشرا ولا تنفرا) (5) هذا كلام النبي الذي نسعى كلنا للاقتداء به, وللاهتداء بهديه. قال النووي رحمه الله في شرح قوله (يسروا ولا تعسروا): فيه تأليف مَن قَرُب اسلامه وترك التشديد عليهم, وكذلك من قارب البلوغ من الصبيان, ومن بلغ, ومن تاب من المعاصي, كلهم يتلطف بهم ويدرَّجون في انواع الطاعة قليلا قليلا, وقد كانت امور الاسلام في التكليف على التدريج, فمتى يسر على الداخل في الطاعة او المريد للدخول فيها سهلت عليه وكانت عاقبته غالبا التزايد منها, ومتى عسَّرتَ عليه أو شك الا يدخل فيها, وإن دخل اوشك الا يدوم او لا يستحليها. أ.هـ (6).
وعن ابي هريرة رضي الله عنه قال: قام اعرابي فبال في المسجد فتناوله الناس. فقال لهم النبي : (دعوه وهريقوا على بوله سجلا من ماء او ذنوباً من ماء فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين) (7) أنتم مبعوثون بالتيسير ولم تبعثوا للتعسير, ان التيسير اصل من اصول الاسلام, ومن يسير على التيسير إنما يسير على هدي النبي.
وفي الصحيحين ان النبي لما بلغه ان عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما يقرأ القرآن كل ليلة قال له: (اقرأ القرآن في كل شهر) قال: قلت: يا نبي الله! اني اطيق افضل من ذلك. قال: (فاقرأه في كل عشرين) قال: قلت: يا نبي الله! اني اطيق افضل من ذلك, قال: (فاقرأه في كل عشر) قال: قلت: يا نبي الله! اني اطيق افضل من ذلك. قال: (فاقرأه في كل سبع, ولا تزد على ذلك, فإن لزوجك عليك حقا ولزورك عليك حقاً, ولجسدك عليك حقا).
وفي رواية: قال: فشدَّدت فشُدَّد عليّ, وقال لي النبي : (إنك لا تدري لعلك يطول بك عمر) قال: فصرت الى الذي قال لي النبي, فلما كبرت وددت اني كنت قبلت رخصة نبي الله)(8).
وعن سعد بن ابي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله : (ان أعظم المسلمين في المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يُحرَّم على الناس فحُرًّم من أجل مسألته) (9).
وعن جابر بن عبدالله الانصاري رضي الله عنهما انه قال: قال رسول الله : (ألا إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق فإن المُنبَتَّ لا ارضاً قطع ولا ظهراً أبقى) (10) الذي يركب على دابته ويسير عليها في الليل والنهار ستهلك عليه الدابة, ولا يصل الى البلد الذي يريد أن يصل اليها, كذلك الانسان الذي يغالي ويبالغ في العبادة لن يستطيع ان يؤدي العبادة, وسيهلك جسده الذي به يعبد الله عز وجل.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: صَنَعَ النبي شيئاً فرخص فيه فتنزه عنه قومٌ فبلغ ذلك النبي, فخطب فحمد الله عز وجل ثم قال: (ما بال اقوام يتنزهون عن الشيء اصنعه فوالله اني لاعلمهم بالله واشدهم له خشية) (11).
وقال ابن عباس رضي الله عنهما في وصف بني اسرائيل لما طلب منهم موسى عليه السلام ان يذبحوا بقرة وتشددوا قالوا بقرة كذا وبقرة كذا وبقرة لونها كذا ولا زالوا يسألون ويتعمقون. قال ابن عباس: لو اخذوا أدنى بقرة لاكتفوا بها ولكنهم شددوا على انفسهم فَشُدِّد عليهم. فكلما سألوا وتعمقوا كلما شدد الله تبارك وتعالى عليهم.
اذاً الواجب علينا خاصة كما ذكر الامام النووي مع الصبيان والصغار وحديثي التوبة ان نتدرج معهم, وان نتلطف معهم, حتى يتمكنوا في دين الله تبارك وتعالى شيئاً فشيئاً, أما ان نأخذ الامور هكذا بالغلو والتشدد فلن يشادّ هذا الدين أحد الا غلبه, سيأتي عليه يوم ويخرج من الدين والعياذ بالله فمن شدد على نفسه وارهقها, اوشك ان ينقطع ويترك العمل.
نسأل الله تبارك وتعالى الهداية لنا ولأبنائنا وبناتنا وازواجنا ولجميع المسلمين انه على كل شيء قدير نفعني الله واياكم بهدي كتابه
قال تعالى في أهل الكتاب: {قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله الا الحق إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته القاها الى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة}.
قال الإمام المناوي رحمه الله: (الغلو: المجاوزة في الحد. والغلو في الدين: التصلب والتشدد فيه). وقال شيخ الاسلام رحمه الله: (نهى الشارع عن الغلو والتشدد نهياً عاماً في الاعتقادات والاعمال).
وتأمل قول الرسول : (يحمل هذا العلم من كل خَلفٍ عُدولُه ينفون عنه تحريف الغالين, وانتحال المبطلين) (2) وهذا الحدث يبين فيه النبي انه يحمل هذا العلم من كل خلَف (يعني من الذين يأتون بعد النبي ) (عدوله: المعتدلين الذين يفهمونه بالاعتدال والوسطية, فجاء ديننا عدلا وسطا ثم قال: (ينفون عنه تحريف الغالين) فكأن الغلو يقود الى الانحراف, وكأن الغلو تحريف للقرآن والسنة وتغيير وتبديل, فالعلماء هم الذين ينفون هذا التحريف, ينفون عنه تحريف الغالين الذين يغالون ويبالغون ويتعمقون في دين الله عز وجل مالم يأمرهم الله به, ومالم يكلفهم وما لم يطلب منهم (وانتحال المبطلين) والعياذ بالله عز وجل الذين ينتحلون ويفترون ويكذبون (وتأويل الجاهلين) جاهل لم يتعلم ولم يجلس في مجالس العلماء, ولم يقرأ الكتب, ولم يسهر الليالي ثم بعد ذلك يفسر القرآن على هواه, ويفسر حديث النبي برأيه.
وعن ابي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي : (ان الدين يسر ولن يشادّ الدين أحد الا غلبه فسددوا وقاربوا وابشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة, والقصد القصد تبلغوا)(3) قال ابن حجر رحمه الله في معنى قوله (ولن يشاد الدين أحدٌ الا غلبه) قال: والمعنى لا يتعمق احد في الاعمال الدينية ويترك الرفق الا عجز وانقطع فينغلب بعد ذلك. انظر الى هذا الحديث: (ان الدين يسر) أي: صفة هذا الدين اليسر, وكأنه عليه الصلاة والسلام يذكرنا بالاديان من قبلنا, أي ان دين الاسلام يسر وليس كما كانت الاديان من قبلكم, الذين كانت توبة الواحد منهم القتل, بينما توبة المسلم ان يستغفر ويتوب ويندم ويرجع الى الله تبارك وتعالى ولا يقتل نفسه ولا يضرب نفسه ولا يهلك نفسه (ان الدين يسر) وهو موافق لقوله تعالى: {ماجعل عليكم في الدين من حرج} فلا يوجد في دين الله أي مشقة او حرج, فإذا وجدت مشقة او حرج فهي من الناس وليست من الدين, فمثلا: ازدحام الناس واقتتالهم في رمي الجمار, هل هذا من الدين?! هذا ليس من الدين, من الدين ان تُقبل الحجر الاسود, وليس منه ان نتقاتل حتى نقبله, فهذا من عمل الناس وليس من دين الله.
كما قال النبي ثم قال: (سددوا وقاربوا وابشروا) ومعنى سددوا كما قال العلماء: التسديد يعني اصابة الكمال والمقاربة تعني: بذل الوسع فإذا لم تستطع ان تقوم الليل كله او ان تصلي اثنتي عشرة ركعة فلا اقل من ان تصلي ركعتين (سددوا وقاربوا وابشروا) يعني: حتى لو قاربتم ولم تفعلوا ما امركم الله بالكامل من النوافل والعبادات فأبشروا ايضا بالاجر وابشروا بالفضل, وابشروا بالثواب (واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة) الغدوة يعني المشي في الصباح والروحة المشي بعد الزوال والدلجة المشي في الليل وهكذا المسافر العاقل يختار الوقت المناسب الذي تكون فيه النفس نشيطة والجسم نشيطا فيسافر ويتحرك, ولا يتحرك في كل وقت فيهلك نفسه, وكذلك المسلم اذا وجد في نفسه نشاطا قام وتعبد الله عز وجل اما اذا وجد في نفسه تعباً ومشقة فلا يشدد على نفسه ولا يرهق نفسه, وهذا انما يكون في السنن والمستحبات بخلاف الفرائض, فالتيسير لا يعني ترك الفرائض وفعل المحرمات كما يظن بعض الناس, بأن التيسير معناه ترك الدين فتأتي الى انسان وتأمره بالصلاة مثلا فيقول: يا اخي يسر ولا تعسر, سبحان الله يسِّر حتى في الفرائض, وإنسان يشرب الخمر او يرتكب المحرمات تأتي وتنصحه: يا اخي هذا حرام من المحرمات التي حرمها الله ورسوله. فيقول: يا أخي يسر ولا تعسر وبشر ولا تنفر. الدين يأمرك بأداء الواجبات وترك المحرمات ولا يأمر بعكس ذلك.
وروى البخاري في صحيحه ايضا عن النبي : قال: (أحب الدين الى الله الحنيفية السمحة) والحنيفية السمحة: هي ملة ابراهيم لأنه كان حنيفاً مائلا عن الباطل وعن الشرك, والسمحة يعني: السهلة. هذه احب الاعمال -أحب الدين- الى الله تبارك وتعالى ليس أحب الدين أشده واهلكه, لا وانما ايسره احب الى الله سبحانه وتعالى, ولذلك كان أحب العمل الى النبي والى الله ادومه وان قَلَّ, فلو صليت في كل ليلة ركعتين فقط قياماً لليل, وواظبت على ذلك, فهو خير لك واحب الى الله من صلاة ليلة كاملة الى الفجر ثم تنقطع بعدها عن قيام الليل, (ولن يشاد الدين احد الا غلبه) قال: ابن المُنيِّر رحمه الله: في هذا الحديث عَلَمٌ من اعلام النبوة: فقد رأينا ورأى الناس قبلنا أن كل متنطع في الدين ينقطع -لا يستطيع ان يواصل وانما ينقطع وينتهي- وليس المراد منه طلب الاكمل في العبادة فإنه من الامور المحمودة- الذي يطلب الاكمل في الصلاة والقرآن وفي الذكر- بل منع الافراط المؤدي الى الملال, او المبالغة في التطوع المفضي الى ترك الافضل. يبالغ الانسان في قيام الليل ويسهر. ثم ينام ويضيع الفجر, او يصوم ويترك صلة الارحام, او يقوم بسنة ونافلة ويترك بر الوالدين, يضيع فرضا ليفعل سنة.
وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله : (هلك المتنطعون هلك المتنطعون هلك المتنطعون) (4) والمتنطعون: المغالون المتعمقون في الاقوال والافعال.
وفي الصحيحين ان النبي لما بعث معاذ بن جبل وابا موسى الاشعري لليمن قال لهما: (يسرا ولا تعسرا, وبشرا ولا تنفرا) (5) هذا كلام النبي الذي نسعى كلنا للاقتداء به, وللاهتداء بهديه. قال النووي رحمه الله في شرح قوله (يسروا ولا تعسروا): فيه تأليف مَن قَرُب اسلامه وترك التشديد عليهم, وكذلك من قارب البلوغ من الصبيان, ومن بلغ, ومن تاب من المعاصي, كلهم يتلطف بهم ويدرَّجون في انواع الطاعة قليلا قليلا, وقد كانت امور الاسلام في التكليف على التدريج, فمتى يسر على الداخل في الطاعة او المريد للدخول فيها سهلت عليه وكانت عاقبته غالبا التزايد منها, ومتى عسَّرتَ عليه أو شك الا يدخل فيها, وإن دخل اوشك الا يدوم او لا يستحليها. أ.هـ (6).
وعن ابي هريرة رضي الله عنه قال: قام اعرابي فبال في المسجد فتناوله الناس. فقال لهم النبي : (دعوه وهريقوا على بوله سجلا من ماء او ذنوباً من ماء فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين) (7) أنتم مبعوثون بالتيسير ولم تبعثوا للتعسير, ان التيسير اصل من اصول الاسلام, ومن يسير على التيسير إنما يسير على هدي النبي.
وفي الصحيحين ان النبي لما بلغه ان عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما يقرأ القرآن كل ليلة قال له: (اقرأ القرآن في كل شهر) قال: قلت: يا نبي الله! اني اطيق افضل من ذلك. قال: (فاقرأه في كل عشرين) قال: قلت: يا نبي الله! اني اطيق افضل من ذلك, قال: (فاقرأه في كل عشر) قال: قلت: يا نبي الله! اني اطيق افضل من ذلك. قال: (فاقرأه في كل سبع, ولا تزد على ذلك, فإن لزوجك عليك حقا ولزورك عليك حقاً, ولجسدك عليك حقا).
وفي رواية: قال: فشدَّدت فشُدَّد عليّ, وقال لي النبي : (إنك لا تدري لعلك يطول بك عمر) قال: فصرت الى الذي قال لي النبي, فلما كبرت وددت اني كنت قبلت رخصة نبي الله)(8).
وعن سعد بن ابي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله : (ان أعظم المسلمين في المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يُحرَّم على الناس فحُرًّم من أجل مسألته) (9).
وعن جابر بن عبدالله الانصاري رضي الله عنهما انه قال: قال رسول الله : (ألا إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق فإن المُنبَتَّ لا ارضاً قطع ولا ظهراً أبقى) (10) الذي يركب على دابته ويسير عليها في الليل والنهار ستهلك عليه الدابة, ولا يصل الى البلد الذي يريد أن يصل اليها, كذلك الانسان الذي يغالي ويبالغ في العبادة لن يستطيع ان يؤدي العبادة, وسيهلك جسده الذي به يعبد الله عز وجل.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: صَنَعَ النبي شيئاً فرخص فيه فتنزه عنه قومٌ فبلغ ذلك النبي, فخطب فحمد الله عز وجل ثم قال: (ما بال اقوام يتنزهون عن الشيء اصنعه فوالله اني لاعلمهم بالله واشدهم له خشية) (11).
وقال ابن عباس رضي الله عنهما في وصف بني اسرائيل لما طلب منهم موسى عليه السلام ان يذبحوا بقرة وتشددوا قالوا بقرة كذا وبقرة كذا وبقرة لونها كذا ولا زالوا يسألون ويتعمقون. قال ابن عباس: لو اخذوا أدنى بقرة لاكتفوا بها ولكنهم شددوا على انفسهم فَشُدِّد عليهم. فكلما سألوا وتعمقوا كلما شدد الله تبارك وتعالى عليهم.
اذاً الواجب علينا خاصة كما ذكر الامام النووي مع الصبيان والصغار وحديثي التوبة ان نتدرج معهم, وان نتلطف معهم, حتى يتمكنوا في دين الله تبارك وتعالى شيئاً فشيئاً, أما ان نأخذ الامور هكذا بالغلو والتشدد فلن يشادّ هذا الدين أحد الا غلبه, سيأتي عليه يوم ويخرج من الدين والعياذ بالله فمن شدد على نفسه وارهقها, اوشك ان ينقطع ويترك العمل.
نسأل الله تبارك وتعالى الهداية لنا ولأبنائنا وبناتنا وازواجنا ولجميع المسلمين انه على كل شيء قدير نفعني الله واياكم بهدي كتابه