بدر الالبد
03-24-2005, 03:29 PM
بعث خالد بن الوليد إلى العراق
لما فرغ خالد بن الوليد من اليمامة بعث إليه الصديق أن يسير إلى العراق، وأن يبدأ بفرج الهند، وهي الأبلة ويأتي العراق من أعاليها، وأن يتألف الناس ويدعوهم إلى الله عز وجل، فإن أجابوا وإلا أخذ منهم الجزية، فإن امتنعوا من ذلك كله قاتلهم في الله، وأمره أن لا يكره أحدا على المسير معه، ولا يستعين بمن ارتد عن الإسلام، وإن كان قد عاد إليه، وأمره أن يستصحب كل امرئ مر به من المسلمين، وشرع أبو بكر في تجهيز السرايا والبعوث والجيوش إمدادا لخالد، رضي الله عنه.
قال الواقدي: اختلف في خالد، فقائل يقول: مضى من وجهه ذلك من اليمامة إلى العراق. وقائل يقول: رجع من اليمامة إلى المدينة ثم سار إلى العراق من المدينة فمر على طريق الكوفة حتى انتهى إلى الحيرة . قلت: والمشهور الأول.
وقد ذكر المدائني بإسناده أن خالدا توجه إلى العراق في المحرم سنة اثنتي عشرة، فجعل طريقه البصرة وفيها قطبة بن قتادة، وعلى الكوفة المثنى بن حارثة الشيباني.
وقال محمد بن إسحاق عن صالح بن كيسان إن أبا بكر كتب إلى خالد أن يسير إلى العراق، فمضى خالد يريد العراق حتى نزل بقريات من السواد يقال لها: بانقيا، وباروسما، وأليس وصاحبها جابان، فصالحه أهلها.
قلت: وقد قتل منهم المسلمون قبل الصلح خلقا كثيرا، وكان الصلح على ألف درهم، وقيل: دينار. في رجب، وكان الذي صالحه بصبهري بن صلوبا، ويقال: صلوبا بن بصبهري. فقبل منهم خالد، وكتب لهم كتابا، ثم أقبل حتى نزل الحيرة فخرج إليه أشرافها مع قبيصة بن إياس بن حية الطائي، وكان أمره عليها كسرى بعد النعمان بن المنذر، فقال لهم خالد: أدعوكم إلى الله وإلى الإسلام، فإن أجبتم إليه فأنتم من المسلمين، لكم ما لهم وعليكم ما عليهم، فإن أبيتم فالجزية، فإن أبيتم الجزية فقد أتيتكم بأقوام هم أحرص على الموت منكم على الحياة؛ جاهدناكم حتى يحكم الله بيننا وبينكم. فقال له قبيصة: ما لنا بحربك من حاجة، بل نقيم على ديننا ونعطيكم الجزية. فقال لهم خالد: تبا لكم! إن الكفر فلاة مضلة، فأحمق العرب من سلكها، فلقيه منهم رجلان؛ أحدهما عربي والآخر أعجمي، فتركه واستدل بالعجمي. ثم صالحهم على تسعين ألفا. وفي رواية: مائتي ألف درهم. فكانت أول جزية أخذت من العراق وحملت إلى المدينة هي والقريات قبلها التي صالح عليها ابن صلوبا.
قلت: وقد كان مع نائب كسرى على الحيرة ممن وفد إلى خالد عبد المسيح بن عمرو بن حيان بن بقيلة، وكان من نصارى العرب، فقال له خالد: من أين أثرك؟ قال: من ظهر أبي. قال: ومن أين خرجت؟ قال: من بطن أمي. قال: ويحك! على أي شيء أنت؟ قال: على الأرض. قال: ويلك! وفي أى شيء أنت؟ قال: في ثيابي. قال: ويحك! تعقل؟! قال: نعم وأقيد. قال: إنما أسألك. قال: وأنا أجيبك. قال: أسلم أنت أم حرب؟ قال: بل سلم. قال: فما هذه الحصون التي أرى؟ قال: بنيناها للسفيه نحبسه حتى يجيء الحليم فينهاه. ثم دعاهم إلى الإسلام أو الجزية أو القتال، فأجابوا إلى الجزية بتسعين أو مائتي ألف، كما تقدم.
ثم بعث خالد بن الوليد كتابا إلى أمراء كسرى بالمدائن ومرازبته ووزرائه، كما قال هشام بن الكلبي عن أبي مخنف، عن مجالد، عن الشعبي قال: أقرأني بنو بقيلة كتاب خالد بن الوليد إلى أهل المدائن من خالد بن الوليد إلى مرازبة أهل فارس سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فالحمد لله الذي فض خدمتكم وسلب ملككم، ووهن كيدكم، وإنه من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ما لنا وعليه ما علينا، أما بعد، فإذا جاءكم كتابي فابعثوا إلي بالرهن، واعتقدوا مني الذمة، وإلا فوالذي لا إله غيره لأبعثن إليكم قوما يحبون الموت كما تحبون أنتم الحياة. فلما قرأوا الكتاب أخذوا يتعجبون.
وقال سيف بن عمر عن طلحة الأعلم، عن المغيرة بن عتيبة، وكان قاضي أهل الكوفة قال: فرق خالد مخرجه من اليمامة إلى العراق، جنده ثلاث فرق، ولم يحملهم على طريق واحدة، فسرح المثنى قبله بيومين ودليلة ظفر، وسرح عدي بن حاتم وعاصم بن عمرو ودليلاهما مالك بن عباد وسالم بن نصر، أحدهما قبل صاحبه بيوم، وخرج خالد - يعني في آخرهم - ودليله رافع، فواعدهم جميعا الحفير ليجتمعوا به، ويصادموا عدوهم، وكان فرج الهند أعظم فروج فارس شأنا وأشدها شوكة، وكان صاحبه يحارب العرب في البر، والهند في البحر، وهو هرمز فكتب إليه خالد، فبعث هرمز بكتاب خالد إلى شيرى بن كسرى، وأردشير بن شيرى، وجمع هرمز وهو نائب كسرى، جموعا كثيرة، وسار بهم إلى كاظمة وعلى مجنبتيه قباذ وأنوشجان - وهما من بيت الملك - وقد تقرن الجيش في السلاسل؛ لئلا يفروا، وكان هرمز هذا من أخبث الناس طوية وأشدهم كفرا، وكان شريفا في الفرس، وكان الرجل كلما ازداد شرفا زاد في حليته، فكانت قلنسوة هرمز بمائة ألف، وقدم خالد ومن معه من الجيش، وهم ثمانية عشر ألفا فنزل تجاههم على غير ماء، فشكى إليه أصحابه ذلك، فقال: جالدوهم حتى تجلوهم عن الماء، فإن الله جاعل الماء لأصبر الطائفتين. فلما استقر بالمسلمين المنزل وهم ركبان على خيولهم، بعث الله سحابة فأمطرتهم حتى صار لهم غدران من ماء، فقوي المسلمون بذلك، وفرحوا فرحا شديدا فلما تواجه الصفان وتقابل الفريقان، ترجل هرمز ودعا إلى البراز، فترجل خالد وتقدم إلى هرمز فاختلفا ضربتين واحتضنه خالد، وجاءت حامية هرمز فما شغله عن قتله، وحمل القعقاع بن عمرو على حامية هرمز فأناموهم، وانهزم أهل فارس وركب المسلمون أكتافهم إلى الليل، واستحوذ خالد على أمتعتهم وسلاحهم، فبلغ وقر ألف بعير، وسميت هذه الغزوة ذات السلاسل؛ لكثرة من سلسل بها من فرسان فارس وأفلت قباذ وأنوشجان، ولما رجع الطلب نادى منادي خالد بالرحيل، فسار بالناس وتبعته الأثقال حتى نزل بموضع الجسر الأعظم من البصرة اليوم، وبعث بالفتح والبشارة والخمس، مع زر بن كليب، إلى الصديق، وبعث معه بفيل، فلما رآه نسوة أهل المدينة جعلن يقلن: أمن خلق الله هذا أم شيء مصنوع؟! فرده الصديق مع زر وبعث أبو بكر لما بلغه الخبر إلى خالد، فنفله سلب هرمز وكانت قلنسوته بمائة ألف، وكانت مرصعة بالجوهر، وبعث خالد الأمراء يمينا وشمالا يحاصرون حصونا هنالك، ففتحوها عنوة وصلحا، وأخذوا منها أموالا جمة، ولم يكن خالد يتعرض للفلاحين - من لم يقاتل منهم - ولا لأولادهم، بل للمقاتلة من أهل فارس .
ثم كانت وقعة المذار في صفر من هذه السنة. ويقال لها: وقعة الثني. وهو النهر. قال ابن جرير ويومئذ قال الناس: صفر الأصفار، فيه يقتل كل جبار، على مجمع الأنهار. وكان سببها أن هرمز كان قد كتب إلى أردشير وشيرى بقدوم خالد نحوه من اليمامة فبعث إليه كسرى بمدد مع أمير يقال له: قارن بن قريانس. فلم يصل إلى هرمز حتى كان من أمره مع خالد ما تقدم، وفر من فر من الفرس، فتلقاهم قارن، فالتفوا عليه فتذامروا واتفقوا على العود إلى خالد: فساروا إلى موضع يقال له: المذار . وعلى مجنبتي قارن قباذ وأنوشجان، فلما انتهى الخبر إلى خالد، قسم ما كان معه من أربعة أخماس غنيمة يوم ذات السلاسل، وأرسل إلى الصديق بخبره مع الوليد بن عقبة وسار خالد بمن معه من الجيوش حتى نزل على المذار وهو على تعبئته، فاقتتلوا قتال حنق وحفيظة، وخرج قارن يدعو إلى البراز، فبرز إليه خالد، وابتدره الشجعان من الأمراء، فقتل معقل بن الأعشى بن النباش قارن، وقتل عدي بن حاتم قباذ، وقتل عاصم أنوشجان، وفرت الفرس، وركبهم المسلمون في ظهورهم، فقتلوا منهم يومئذ ثلاثين ألفا وغرق كثير منهم في الأنهار والمياه، وأقام خالد بالمذار، وسلم الأسلاب إلى من قتل - وكان قارن قد انتهى شرفه في أبناء فارس - وجمع بقية الغنيمة وخمسها، وبعث بالخمس والفتح والبشارة إلى الصديق مع سعيد بن النعمان، أخي بني عدي بن كعب، وأقام خالد هناك حتى قسم أربعة الأخماس وسبى ذراري من حضره من المقاتلة، دون الفلاحين؛ فإنه أقرهم بالجزية، وكان في هذا السبي حبيب أبو الحسن البصري، وكان نصرانيا، ومافنة مولى عثمان، وأبو زياد مولى المغيرة بن شعبة ثم أمر على الجند سعيد بن النعمان وعلى الجزية سويد بن مقرن، وأمره أن ينزل الحفير، ليجبي إليه الأموال، وأقام خالد يتحسس الأخبار عن الأعداء.
ثم كان أمر الولجة في صفر أيضا من هذه السنة، فيما ذكره ابن جرير، وذلك لأنه لما انتهى الخبر بما كان بالمذار من قتل قارن وأصحابه، إلى أردشير، وهو ملك الفرس يومئذ بعث أميرا شجاعا يقال له: الأندرزغر. وكان من أبناء السواد ولد بالمدائن ونشأ بها، وأمده بجيش آخر مع أمير يقال له: بهمن جاذويه. فساروا حتى بلغوا مكانا يقال له: الولجة . فسمع بهم خالد فسار بمن معه من الجنود، ووصى من استخلفه هنالك بالحذر وقلة الغفلة، فنازل أندرزغر ومن تأشب معه، واجتمع عنده بالولجة، فاقتتلوا قتالا شديدا هو أشد مما قبله، حتى ظن الفريقان أن الصبر قد فرغ، واستبطأ كمينه؛ الذي كان قد أرصدهم وراءه في موضعين، فما كان إلا يسير حتى خرج الكمينان من هاهنا ومن هاهنا، ففرت صفوف الأعاجم، فأخذهم خالد من أمامهم، والكمينان من ورائهم، فلم يعرف رجل منهم مقتل صاحبه، وهرب الأندرزغر من الوقعة فمات عطشا، وقام خالد في الناس خطيبا فرغبهم في بلاد الأعاجم، وزهدهم في بلاد العرب وقال: ألا ترون ما هاهنا من الأطعمات؟ وبالله لو لم يلزمنا الجهاد في سبيل الله والدعاء إلى الإسلام، ولم يكن إلا المعاش، لكان الرأي أن نقاتل على هذا الريف حتى نكون أولى به، ونولي الجوع والإقلال من تولاه ممن أثاقل عما أنتم عليه. ثم خمس الغنيمة، وقسم أربعة أخماسها بين الغانمين، وبعث الخمس إلى الصديق، وأسر من أسر من ذراري المقاتلة، وأقر الفلاحين بالجزية.
وقال سيف بن عمر عن عمرو، عن الشعبي قال: بارز خالد يوم الولجة رجلا من الأعاجم يعدل بألف رجل، فقتله، ثم اتكأ عليه وأتي بغدائه فأكله وهو متكئ عليه. يعني بين الصفين.
ثم كانت وقعة أليس في صفر أيضا، وذلك أن خالدا كان قد قتل يوم الولجة طائفة من بكر بن وائل، من نصارى العرب ممن كان مع الفرس، فاجتمع عشائرهم، وأشدهم حنقا عبد الأسود العجلي، وكان قد قتل له ابن بالأمس، فكاتبوا الأعاجم فأرسل إليهم أردشير جيشا مددا، فاجتمعوا بمكان يقال له: أليس . فبينما هم قد نصبوا لهم سماطا فيه طعام يريدون أكله، إذ غافلهم خالد بجيشه، فلما رأوه أشار من أشار منهم بأكل الطعام وعدم الاعتناء بخالد، وقال أمير كسرى، واسمه جابان: بل ننهض إليه. فلم يسمعوا منه. فلما نزل خالد تقدم بين يدي جيشه ونادى بأعلى صوته لشجعان من هنالك من الأعراب: أين فلان، أين فلان؟ فكلهم نكلوا عنه إلا رجلا يقال له: مالك بن قيس، من بني جذرة، فإنه برز إليه، فقال له خالد: يا بن الخبيثة، ما جرأك علي من بينهم وليس فيك وفاء؟! فضربه فقتله. ونفرت الأعاجم عن الطعام، وقاموا إلى السلاح، فاقتتلوا قتالا شديدا جدا، والمشركون يرقبون قدوم بهمن مددا من جهة الملك إليهم، فهم في قوة وشدة وكلب في القتال، وصبر المسلمون صبرا بليغا، وقال خالد: اللهم لك علي إن منحتنا أكتافهم أن لا أستبقي منهم أحدا أقدر عليه حتى أجري نهرهم بدمائهم. ثم إن الله عز وجل منح المسلمين أكتافهم فنادى منادي خالد: الأسر، الأسر، لا تقتلوا إلا من امتنع من الأسر. فأقبلت الخيول بهم أفواجا يساقون سوقا، وقد وكل بهم رجالا يضربون أعناقهم في النهر، ففعل ذلك بهم خالد يوما وليلة، ويطلبهم في الغد ومن بعد الغد، وكلما حضر منهم أحد ضربت عنقه في النهر، وقد صرف ماء النهر إلى موضع آخر، فقال له بعض الأمراء: إن النهر لا يجري بدمائهم حتى ترسل الماء على الدم فيجري معه، فتبر يمينك، فأرسله فسال النهر دما عبيطا، فلذلك سمي نهر الدم، إلى اليوم، فدارت الطواحين بذلك الماء المختلط بالدم العبيط ما كفى العسكر بكماله ثلاثة أيام، وبلغ عدد القتلى سبعين ألفا، ولما هزم خالد الجيش ورجع من رجع من الناس، عدل خالد إلى الطعام الذي كانوا قد وضعوه ليأكلوه، فقال للمسلمين: هذا نفل فانزلوا فكلوا. فنزل الناس فأكلوا عشاء. وقد جعل الأعاجم على طعامهم جردقا كثيرا، فجعل من يراه من أهل البادية من الأعراب يقولون: ما هذه الرقع؟ يحسبونها ثيابا. فيقول لهم من يعرف ذلك من أهل الأرياف والمدن: أما سمعتم برقيق العيش؟ قالوا: بلى. قالوا: فهذا رقيق العيش. فسموه يومئذ رقاقا، وإنما كانت العرب تسميه القرن.
وقد قال سيف بن عمر عن عمرو بن محمد، عن الشعبي، عمن حدث عن خالد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفل الناس يوم خيبر الخبز والطبيخ والشواء وما أكلوا غير ذلك غير متأثليه.
وكان كل من قتل بهذه الوقعة يوم أليس من بلدة يقال لها: أمغيشيا فعدل إليها خالد وأمر بخرابها، واستولى على ما بها، فوجدوا بها مغنما عظيما، فقسم بين الغانمين فأصاب الفارس بعد النفل ألفا وخمسمائة، غير ما تهيأ له مما قبله. وبعث خالد إلى الصديق بالبشارة والفتح والخمس من الأموال والسبي مع رجل يقال له: جندل. من بني عجل، وكان دليلا صارما، فلما بلغ الصديق الرسالة، وأدى الأمانة، أثنى عليه وأجازه جارية من السبي، وقال الصديق: يا معشر قريش، إن أسدكم قد عدا على الأسد، فغلبه على خراذيله، عجزت النساء أن تلدن مثل خالد بن الوليد ثم جرت أمور طويلة لخالد في أماكن متعددة يمل سماعها، وهو مع ذلك لا يكل ولا يمل ولا يهن ولا يحزن، بل كل ما له في قوة وصرامة وشدة وشهامة، ومثل هذا إنما خلقه الله عز وجل، عزا للإسلام وأهله، وذلا للكفر وشتات شمله.
لما فرغ خالد بن الوليد من اليمامة بعث إليه الصديق أن يسير إلى العراق، وأن يبدأ بفرج الهند، وهي الأبلة ويأتي العراق من أعاليها، وأن يتألف الناس ويدعوهم إلى الله عز وجل، فإن أجابوا وإلا أخذ منهم الجزية، فإن امتنعوا من ذلك كله قاتلهم في الله، وأمره أن لا يكره أحدا على المسير معه، ولا يستعين بمن ارتد عن الإسلام، وإن كان قد عاد إليه، وأمره أن يستصحب كل امرئ مر به من المسلمين، وشرع أبو بكر في تجهيز السرايا والبعوث والجيوش إمدادا لخالد، رضي الله عنه.
قال الواقدي: اختلف في خالد، فقائل يقول: مضى من وجهه ذلك من اليمامة إلى العراق. وقائل يقول: رجع من اليمامة إلى المدينة ثم سار إلى العراق من المدينة فمر على طريق الكوفة حتى انتهى إلى الحيرة . قلت: والمشهور الأول.
وقد ذكر المدائني بإسناده أن خالدا توجه إلى العراق في المحرم سنة اثنتي عشرة، فجعل طريقه البصرة وفيها قطبة بن قتادة، وعلى الكوفة المثنى بن حارثة الشيباني.
وقال محمد بن إسحاق عن صالح بن كيسان إن أبا بكر كتب إلى خالد أن يسير إلى العراق، فمضى خالد يريد العراق حتى نزل بقريات من السواد يقال لها: بانقيا، وباروسما، وأليس وصاحبها جابان، فصالحه أهلها.
قلت: وقد قتل منهم المسلمون قبل الصلح خلقا كثيرا، وكان الصلح على ألف درهم، وقيل: دينار. في رجب، وكان الذي صالحه بصبهري بن صلوبا، ويقال: صلوبا بن بصبهري. فقبل منهم خالد، وكتب لهم كتابا، ثم أقبل حتى نزل الحيرة فخرج إليه أشرافها مع قبيصة بن إياس بن حية الطائي، وكان أمره عليها كسرى بعد النعمان بن المنذر، فقال لهم خالد: أدعوكم إلى الله وإلى الإسلام، فإن أجبتم إليه فأنتم من المسلمين، لكم ما لهم وعليكم ما عليهم، فإن أبيتم فالجزية، فإن أبيتم الجزية فقد أتيتكم بأقوام هم أحرص على الموت منكم على الحياة؛ جاهدناكم حتى يحكم الله بيننا وبينكم. فقال له قبيصة: ما لنا بحربك من حاجة، بل نقيم على ديننا ونعطيكم الجزية. فقال لهم خالد: تبا لكم! إن الكفر فلاة مضلة، فأحمق العرب من سلكها، فلقيه منهم رجلان؛ أحدهما عربي والآخر أعجمي، فتركه واستدل بالعجمي. ثم صالحهم على تسعين ألفا. وفي رواية: مائتي ألف درهم. فكانت أول جزية أخذت من العراق وحملت إلى المدينة هي والقريات قبلها التي صالح عليها ابن صلوبا.
قلت: وقد كان مع نائب كسرى على الحيرة ممن وفد إلى خالد عبد المسيح بن عمرو بن حيان بن بقيلة، وكان من نصارى العرب، فقال له خالد: من أين أثرك؟ قال: من ظهر أبي. قال: ومن أين خرجت؟ قال: من بطن أمي. قال: ويحك! على أي شيء أنت؟ قال: على الأرض. قال: ويلك! وفي أى شيء أنت؟ قال: في ثيابي. قال: ويحك! تعقل؟! قال: نعم وأقيد. قال: إنما أسألك. قال: وأنا أجيبك. قال: أسلم أنت أم حرب؟ قال: بل سلم. قال: فما هذه الحصون التي أرى؟ قال: بنيناها للسفيه نحبسه حتى يجيء الحليم فينهاه. ثم دعاهم إلى الإسلام أو الجزية أو القتال، فأجابوا إلى الجزية بتسعين أو مائتي ألف، كما تقدم.
ثم بعث خالد بن الوليد كتابا إلى أمراء كسرى بالمدائن ومرازبته ووزرائه، كما قال هشام بن الكلبي عن أبي مخنف، عن مجالد، عن الشعبي قال: أقرأني بنو بقيلة كتاب خالد بن الوليد إلى أهل المدائن من خالد بن الوليد إلى مرازبة أهل فارس سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فالحمد لله الذي فض خدمتكم وسلب ملككم، ووهن كيدكم، وإنه من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ما لنا وعليه ما علينا، أما بعد، فإذا جاءكم كتابي فابعثوا إلي بالرهن، واعتقدوا مني الذمة، وإلا فوالذي لا إله غيره لأبعثن إليكم قوما يحبون الموت كما تحبون أنتم الحياة. فلما قرأوا الكتاب أخذوا يتعجبون.
وقال سيف بن عمر عن طلحة الأعلم، عن المغيرة بن عتيبة، وكان قاضي أهل الكوفة قال: فرق خالد مخرجه من اليمامة إلى العراق، جنده ثلاث فرق، ولم يحملهم على طريق واحدة، فسرح المثنى قبله بيومين ودليلة ظفر، وسرح عدي بن حاتم وعاصم بن عمرو ودليلاهما مالك بن عباد وسالم بن نصر، أحدهما قبل صاحبه بيوم، وخرج خالد - يعني في آخرهم - ودليله رافع، فواعدهم جميعا الحفير ليجتمعوا به، ويصادموا عدوهم، وكان فرج الهند أعظم فروج فارس شأنا وأشدها شوكة، وكان صاحبه يحارب العرب في البر، والهند في البحر، وهو هرمز فكتب إليه خالد، فبعث هرمز بكتاب خالد إلى شيرى بن كسرى، وأردشير بن شيرى، وجمع هرمز وهو نائب كسرى، جموعا كثيرة، وسار بهم إلى كاظمة وعلى مجنبتيه قباذ وأنوشجان - وهما من بيت الملك - وقد تقرن الجيش في السلاسل؛ لئلا يفروا، وكان هرمز هذا من أخبث الناس طوية وأشدهم كفرا، وكان شريفا في الفرس، وكان الرجل كلما ازداد شرفا زاد في حليته، فكانت قلنسوة هرمز بمائة ألف، وقدم خالد ومن معه من الجيش، وهم ثمانية عشر ألفا فنزل تجاههم على غير ماء، فشكى إليه أصحابه ذلك، فقال: جالدوهم حتى تجلوهم عن الماء، فإن الله جاعل الماء لأصبر الطائفتين. فلما استقر بالمسلمين المنزل وهم ركبان على خيولهم، بعث الله سحابة فأمطرتهم حتى صار لهم غدران من ماء، فقوي المسلمون بذلك، وفرحوا فرحا شديدا فلما تواجه الصفان وتقابل الفريقان، ترجل هرمز ودعا إلى البراز، فترجل خالد وتقدم إلى هرمز فاختلفا ضربتين واحتضنه خالد، وجاءت حامية هرمز فما شغله عن قتله، وحمل القعقاع بن عمرو على حامية هرمز فأناموهم، وانهزم أهل فارس وركب المسلمون أكتافهم إلى الليل، واستحوذ خالد على أمتعتهم وسلاحهم، فبلغ وقر ألف بعير، وسميت هذه الغزوة ذات السلاسل؛ لكثرة من سلسل بها من فرسان فارس وأفلت قباذ وأنوشجان، ولما رجع الطلب نادى منادي خالد بالرحيل، فسار بالناس وتبعته الأثقال حتى نزل بموضع الجسر الأعظم من البصرة اليوم، وبعث بالفتح والبشارة والخمس، مع زر بن كليب، إلى الصديق، وبعث معه بفيل، فلما رآه نسوة أهل المدينة جعلن يقلن: أمن خلق الله هذا أم شيء مصنوع؟! فرده الصديق مع زر وبعث أبو بكر لما بلغه الخبر إلى خالد، فنفله سلب هرمز وكانت قلنسوته بمائة ألف، وكانت مرصعة بالجوهر، وبعث خالد الأمراء يمينا وشمالا يحاصرون حصونا هنالك، ففتحوها عنوة وصلحا، وأخذوا منها أموالا جمة، ولم يكن خالد يتعرض للفلاحين - من لم يقاتل منهم - ولا لأولادهم، بل للمقاتلة من أهل فارس .
ثم كانت وقعة المذار في صفر من هذه السنة. ويقال لها: وقعة الثني. وهو النهر. قال ابن جرير ويومئذ قال الناس: صفر الأصفار، فيه يقتل كل جبار، على مجمع الأنهار. وكان سببها أن هرمز كان قد كتب إلى أردشير وشيرى بقدوم خالد نحوه من اليمامة فبعث إليه كسرى بمدد مع أمير يقال له: قارن بن قريانس. فلم يصل إلى هرمز حتى كان من أمره مع خالد ما تقدم، وفر من فر من الفرس، فتلقاهم قارن، فالتفوا عليه فتذامروا واتفقوا على العود إلى خالد: فساروا إلى موضع يقال له: المذار . وعلى مجنبتي قارن قباذ وأنوشجان، فلما انتهى الخبر إلى خالد، قسم ما كان معه من أربعة أخماس غنيمة يوم ذات السلاسل، وأرسل إلى الصديق بخبره مع الوليد بن عقبة وسار خالد بمن معه من الجيوش حتى نزل على المذار وهو على تعبئته، فاقتتلوا قتال حنق وحفيظة، وخرج قارن يدعو إلى البراز، فبرز إليه خالد، وابتدره الشجعان من الأمراء، فقتل معقل بن الأعشى بن النباش قارن، وقتل عدي بن حاتم قباذ، وقتل عاصم أنوشجان، وفرت الفرس، وركبهم المسلمون في ظهورهم، فقتلوا منهم يومئذ ثلاثين ألفا وغرق كثير منهم في الأنهار والمياه، وأقام خالد بالمذار، وسلم الأسلاب إلى من قتل - وكان قارن قد انتهى شرفه في أبناء فارس - وجمع بقية الغنيمة وخمسها، وبعث بالخمس والفتح والبشارة إلى الصديق مع سعيد بن النعمان، أخي بني عدي بن كعب، وأقام خالد هناك حتى قسم أربعة الأخماس وسبى ذراري من حضره من المقاتلة، دون الفلاحين؛ فإنه أقرهم بالجزية، وكان في هذا السبي حبيب أبو الحسن البصري، وكان نصرانيا، ومافنة مولى عثمان، وأبو زياد مولى المغيرة بن شعبة ثم أمر على الجند سعيد بن النعمان وعلى الجزية سويد بن مقرن، وأمره أن ينزل الحفير، ليجبي إليه الأموال، وأقام خالد يتحسس الأخبار عن الأعداء.
ثم كان أمر الولجة في صفر أيضا من هذه السنة، فيما ذكره ابن جرير، وذلك لأنه لما انتهى الخبر بما كان بالمذار من قتل قارن وأصحابه، إلى أردشير، وهو ملك الفرس يومئذ بعث أميرا شجاعا يقال له: الأندرزغر. وكان من أبناء السواد ولد بالمدائن ونشأ بها، وأمده بجيش آخر مع أمير يقال له: بهمن جاذويه. فساروا حتى بلغوا مكانا يقال له: الولجة . فسمع بهم خالد فسار بمن معه من الجنود، ووصى من استخلفه هنالك بالحذر وقلة الغفلة، فنازل أندرزغر ومن تأشب معه، واجتمع عنده بالولجة، فاقتتلوا قتالا شديدا هو أشد مما قبله، حتى ظن الفريقان أن الصبر قد فرغ، واستبطأ كمينه؛ الذي كان قد أرصدهم وراءه في موضعين، فما كان إلا يسير حتى خرج الكمينان من هاهنا ومن هاهنا، ففرت صفوف الأعاجم، فأخذهم خالد من أمامهم، والكمينان من ورائهم، فلم يعرف رجل منهم مقتل صاحبه، وهرب الأندرزغر من الوقعة فمات عطشا، وقام خالد في الناس خطيبا فرغبهم في بلاد الأعاجم، وزهدهم في بلاد العرب وقال: ألا ترون ما هاهنا من الأطعمات؟ وبالله لو لم يلزمنا الجهاد في سبيل الله والدعاء إلى الإسلام، ولم يكن إلا المعاش، لكان الرأي أن نقاتل على هذا الريف حتى نكون أولى به، ونولي الجوع والإقلال من تولاه ممن أثاقل عما أنتم عليه. ثم خمس الغنيمة، وقسم أربعة أخماسها بين الغانمين، وبعث الخمس إلى الصديق، وأسر من أسر من ذراري المقاتلة، وأقر الفلاحين بالجزية.
وقال سيف بن عمر عن عمرو، عن الشعبي قال: بارز خالد يوم الولجة رجلا من الأعاجم يعدل بألف رجل، فقتله، ثم اتكأ عليه وأتي بغدائه فأكله وهو متكئ عليه. يعني بين الصفين.
ثم كانت وقعة أليس في صفر أيضا، وذلك أن خالدا كان قد قتل يوم الولجة طائفة من بكر بن وائل، من نصارى العرب ممن كان مع الفرس، فاجتمع عشائرهم، وأشدهم حنقا عبد الأسود العجلي، وكان قد قتل له ابن بالأمس، فكاتبوا الأعاجم فأرسل إليهم أردشير جيشا مددا، فاجتمعوا بمكان يقال له: أليس . فبينما هم قد نصبوا لهم سماطا فيه طعام يريدون أكله، إذ غافلهم خالد بجيشه، فلما رأوه أشار من أشار منهم بأكل الطعام وعدم الاعتناء بخالد، وقال أمير كسرى، واسمه جابان: بل ننهض إليه. فلم يسمعوا منه. فلما نزل خالد تقدم بين يدي جيشه ونادى بأعلى صوته لشجعان من هنالك من الأعراب: أين فلان، أين فلان؟ فكلهم نكلوا عنه إلا رجلا يقال له: مالك بن قيس، من بني جذرة، فإنه برز إليه، فقال له خالد: يا بن الخبيثة، ما جرأك علي من بينهم وليس فيك وفاء؟! فضربه فقتله. ونفرت الأعاجم عن الطعام، وقاموا إلى السلاح، فاقتتلوا قتالا شديدا جدا، والمشركون يرقبون قدوم بهمن مددا من جهة الملك إليهم، فهم في قوة وشدة وكلب في القتال، وصبر المسلمون صبرا بليغا، وقال خالد: اللهم لك علي إن منحتنا أكتافهم أن لا أستبقي منهم أحدا أقدر عليه حتى أجري نهرهم بدمائهم. ثم إن الله عز وجل منح المسلمين أكتافهم فنادى منادي خالد: الأسر، الأسر، لا تقتلوا إلا من امتنع من الأسر. فأقبلت الخيول بهم أفواجا يساقون سوقا، وقد وكل بهم رجالا يضربون أعناقهم في النهر، ففعل ذلك بهم خالد يوما وليلة، ويطلبهم في الغد ومن بعد الغد، وكلما حضر منهم أحد ضربت عنقه في النهر، وقد صرف ماء النهر إلى موضع آخر، فقال له بعض الأمراء: إن النهر لا يجري بدمائهم حتى ترسل الماء على الدم فيجري معه، فتبر يمينك، فأرسله فسال النهر دما عبيطا، فلذلك سمي نهر الدم، إلى اليوم، فدارت الطواحين بذلك الماء المختلط بالدم العبيط ما كفى العسكر بكماله ثلاثة أيام، وبلغ عدد القتلى سبعين ألفا، ولما هزم خالد الجيش ورجع من رجع من الناس، عدل خالد إلى الطعام الذي كانوا قد وضعوه ليأكلوه، فقال للمسلمين: هذا نفل فانزلوا فكلوا. فنزل الناس فأكلوا عشاء. وقد جعل الأعاجم على طعامهم جردقا كثيرا، فجعل من يراه من أهل البادية من الأعراب يقولون: ما هذه الرقع؟ يحسبونها ثيابا. فيقول لهم من يعرف ذلك من أهل الأرياف والمدن: أما سمعتم برقيق العيش؟ قالوا: بلى. قالوا: فهذا رقيق العيش. فسموه يومئذ رقاقا، وإنما كانت العرب تسميه القرن.
وقد قال سيف بن عمر عن عمرو بن محمد، عن الشعبي، عمن حدث عن خالد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفل الناس يوم خيبر الخبز والطبيخ والشواء وما أكلوا غير ذلك غير متأثليه.
وكان كل من قتل بهذه الوقعة يوم أليس من بلدة يقال لها: أمغيشيا فعدل إليها خالد وأمر بخرابها، واستولى على ما بها، فوجدوا بها مغنما عظيما، فقسم بين الغانمين فأصاب الفارس بعد النفل ألفا وخمسمائة، غير ما تهيأ له مما قبله. وبعث خالد إلى الصديق بالبشارة والفتح والخمس من الأموال والسبي مع رجل يقال له: جندل. من بني عجل، وكان دليلا صارما، فلما بلغ الصديق الرسالة، وأدى الأمانة، أثنى عليه وأجازه جارية من السبي، وقال الصديق: يا معشر قريش، إن أسدكم قد عدا على الأسد، فغلبه على خراذيله، عجزت النساء أن تلدن مثل خالد بن الوليد ثم جرت أمور طويلة لخالد في أماكن متعددة يمل سماعها، وهو مع ذلك لا يكل ولا يمل ولا يهن ولا يحزن، بل كل ما له في قوة وصرامة وشدة وشهامة، ومثل هذا إنما خلقه الله عز وجل، عزا للإسلام وأهله، وذلا للكفر وشتات شمله.