فايز ابن رويحل
06-10-2005, 01:00 AM
الجمعة 14/3/1884 انطلقنا مع شروق الشمس، واستمر سيرنا مدة أربع ساعات متتالية عبر سهل اللبيدة المكتظ بالصخور الرملية الصغيرة والمخيفة في الوقت نفسه، حيث أخذت تلك الصخور أشكالا عجيبة بفعل هبوب الرياح الرملية التي أدت نتيجة لقوتها إلى تآكل طبقات الصخور الرقيقة، بينما تحولت القاسية منها إلى صفائح وأشكال تبعث على الغرابة.
عند الظهر مررنا بمنطقة الدغش التي رسم على صفحات جبالها البنية العديد من أشكال الحيوانات والكتابات الثمودية، ولكننا لم نتمكن من البقاء هناك طويلا بسبب خطورة المنطقة، كما أن شدة الرياح جعلت من الصعب استنساخ تلك الكتابات، وعند غروب الشمس ومع تزايد شدة الرياح اقتربنا من منطقة يوجد فيها موقعان للماء: أحدهما يتكون من 12 بئرا ويسمى رحيان، والثاني يقع خلف جبل رسوبي يسمى العشر، وهو عبارة عن بئر لها ثلاث فتحات، وتعلوها زرانيق تسمى الثمايل، وهنا استرحنا لإعداد بعض الطعام، ولكي تتمتع الجمال بالعشب الوفير، وحيث كان من الخطورة بمكان المبيت بالقرب من موقع المياه، لذلك قررنا أن نواصل السير خلال الليل عدة ساعات، حيث امتد أمامنا أحد المنخفضات المكون سطحه من الأحجار الرملية الملساء، وخلال وقت قصير ازدادت قتامة الليل، فالقمر لم يظهر إلا بعد التاسعة والنصف، على أي حال يمكن للمرء أن يتوقع- كما قيل لي في حائل- أن تكون تلك الصفائح الجبلية الملساء والمتعامدة مكتظة بالنقوش والرسوم الصخرية، وحيث لم يكن بمقدوري عمل أي شيء حاولت أن أقنع نفسي بافتعال بعض الأسباب الآتية:
1- عدم توافر الضوء خلال ذلك الظلام الدامس.
2- عدم استحسان نزول المرء في المناطق الخطرة.
3- يمكن عد التعب الذي أصابنا من جراء سير اثنتي عشر ساعة واحدا من هذه الأعذار.
وعند الساعة الثانية عشرة ليلا، نزلنا عن رواحلنا، وتجمعنا مدة نصف ساعة حول نار هادئة، كي لا يراها أحد، ويكتشف مكاننا، ثم استلقينا ونحن متعبون للنوم.
السبت 15/3/1884 قبل شروق الشمس بنصف ساعة كنا نجلس بالفعل على أشدة الجمال، وبينما كان طريقنا ينحدر عبر ممر واسع إلى الأسفل شاهدنا فجأة إلى اليسار أمامنا بدويا يحمل بندقية، وحينما ناديناه لم يتوقف، بل صعد إلى قمة أحد الجبال وأشار بيده نحو الشرق، فقمنا بتجهيز السلاح، وأرسلنا في الوقت نفسه نومان على قدميه بدون سلاح، لكي يخبره بحسن نوايانا، وقد اتضح أنه من معارف نومان، وينتمي إلى قبيلة الفقراء تلك القبيلة التي لم تخضع لسلطة أمير حائل إلا قبل وقت قصير، ولا يزال ولاؤهم له غير موثوق به، وفي محاولة منا لتشجيعه على النزول وعدم إرهابه انطلقنا في هدوء نحو الأمام، حيث نزل مع نومان ليلحقا بنا، ثم سار معنا مسافة قصيرة، وقد كان يرتدي ثوبا ومعطفا جلديا وغترة ويحمل بندقية من نوع (لونتن)، وبدلا من الرمح استعاض بخطاف خشبي. بعد ذلك بوقت قصير شاهدنا من خلال الصخور ومن مسافة 3- 4 أكيال في اتجاه الشرق خيام قبيلة الفقراء وسط قطيع من الإبل يزيد عددها على الألف، وما هي إلا برهة من الوقت حتى ظهر علينا ثلاثة منهم لدعوتنا إلى النزول عندهم، ولكننا رفضنا تلك الدعوة شاكرين. وبعد . أن أشبعوا فضولهم وتمكنوا من رؤية أسلحتنا، انصرفوا بعد ربع ساعة تقريبا، وهم بلا شك نادمون على عدم قدرتهم على السطو علينا، وسلب هؤلاء الموسرين كما يعتقدون، ولم يكن يمنعهم من ذلك سوى مرافقة نومان لنا الذي ينتمي إلى قبيلة شمر المتآخية مع قبيلتهم. وحيث إننا نملك من الأسباب ما يخولنا بعدم الثقة بهم اضطررنا من أجل إيهامهم لسلوك طريق غير مباشر يتجه نحو اليسار، وينحدر بقوة نحو الأسفل آخذا في الارتفاع مرة أخرى عبر تل رملي في سفح أحد الجبال، ثم سرنا مدة خمس ساعات متتالية خلال صحراء ترتفع جبالها إلى حوالي 150 مترا، وهي بمثابة منطقة جبلية رائعة تكثر فيها المراعي الوفيرة بالأعشاب، ولو قدر لهذا المكان أن يكون في أوربا لأصبح مكتظا بالسياح. على أي حال لقد ضيعنا هنا الكثير من الوقت، بسبب مسيرنا عبر طريق خاطئ، مما اضطرنا إلى النزول من خلال منخفض خطير إلى أحد الشعبان، وبينما كانت الجمال تهبط عبر ذلك المنخفض نزل رفاقنا من على ظهور جمالهم حذرا من السقوط، أما أنا بوزني الذي لا يتعدى 99 رطلا فقد تجرأت على البقاء فوق ظهر الناقة، وحينما وصلت إلى الأسفل كان الشداد والأمتعة قد مالت نحو الأمام مما اضطرني إلى إنزالها وإعادتها من جديد بصورة معتدلة على ظهر الناقة.
كنا نسير عبر تلك الشعاب الموحشة والمملوءة بالرمال المتلألئة بألوانها الذهبية الصفراء والأسلحة بأيدينا على أهبة الاستعداد، ولم نكن نشاهد فيها سوى بعض الغربان الجائعة التي كانت تحوم فوقنا بين الفينة والأخرى، وهي تنعق بأصواتها المفجعة كما لو كانت تطمع بنقر أعين أحدنا. منذ غروب شمس أمس لم نأكل شيئا قط، لذلك سعدنا كثيرا حينما قال لنا نومان، ونحن نخرج من الشعيب، هنا ليس هناك ما يخشاه المرء، فكان بمقدورنا النزول، وعمل قرص جمر (خبز)؟ لنأكله مع ما بحوزتنا من تمر. وفي هذه الأثناء بشرتنا الطيور الكثيرة هناك بقربنا من الحجر والعلا اللتين اشتهرتا بكثرة طيورهما، وفي حوالي العصر انطلقنا عبر ذلك السهل الذي تظهر في وسطه قلعة الحجاج الحديثة في مدائن صالح بنخيلها الثلاث، ومن خلفها إلى اليسار تبدو الصخور المخروطية الشكل والمقابر وغيرها من بقايا مدينة الحجر القديمة.
استقبلنا في القلعة بترحاب نائب قائدها المدعو حميد، والحاج مبروك والحاج حسن والحاج مصطفى، وهم من المغرب العربي وبالتحديد من الجزائر وتونس وطرابلس، أما قائد القلعة المدعو محمد علي الذي سطا على داوتي أثناء إقامته هنا، وسلب منه بندقيته فقد كان في أثناء ذلك في دمشق. إضافة إلى أولئك كان هناك أيضا بدوي يدعى محمدا الأزرق من قبيلة الفقراء. بعد ذلك قدم للجمال العلف الوفير، وذبح لنا. أما أنا فقد كنت أتحرق شوقا لرؤية تلك المقابر المنحوتة في الصخر، والتي لا يبعد بعضها عنا سوى بضع مئات الخطا. وقد كنت قد قرأت كل ما جمعه الرحالة عنها من معلومات ولم يفتني شيء، سوى أنني لم أتنبه للخط و اللغة التي كتبت بها النقوش هناك. لقد ذهبت إلى الموضع برفقة شخصين لحمايتي، وقد شعرت بارتياح يفوق الوصف حينما عرفت أن تلك النقوش كتبها الأنباط الذين تبوأوا مكانة تجارية كبيرة في العالم القديم. لم يمض سوى أقل من نصف ساعة حتى كنا قد انتهينا من جولتنا، وعدنا والشمس تميل نحو الغروب إلى فناء القلعة التي كنا نسمع من داخل حجراتها أصوات بكاء الأطفال وثغاء الضأن ومأمأة التيوس الجائعة. وبينما كنا ننتظر قدوم الأكل ظل أحد أقرباء الحاج مصطفى، وهو من أتباع الطريقة السنوسية يتسلى بملاعبة سبحته بين أصابع يديه محركا إياها مئات المرات بالشكل والأسلوب نفسه، وخلال الليل عاود الكرة مرتين مع ذلك التسبيح الذي اعتبرته عادة سيئة ونوعا من العبث، وهنا لم يكن أمامي بد من الثناء على مسابح أهل التبت الأقل إزعاجا.
بسبب الحرارة والثرثرة حول النار، وكذلك فقدان الأمل بأن يتزحزح الحاج مصطفى من مكانه لم أفرش فراشي في قاعة الأقواس التي اتخذت كديوان (مجلس)، ولكنني فرشته في ممر القلعة.
وفي هذه المنطقة ينمو نبات الطرثوث بكثرة، وهو عبارة عن نبات غليظ ذي جذور عميقة تتخللها خيوط ذات ألوان أرجوانية غامقة، ولها سيقان يصل ارتفاعها قدمين. الأحد 16/3/1884انطلقنا من شروق الشمس دون أن نآخذ ذلك السلم الذي ظللنا نسحبه معنا طوال تسعة أشهر متتالية، حيث رأى هوبر أن لا ضرورة له في العلا. كان يرافقنا خلال هذه المسيرة الحاج حسن والحاج مصطفى ومحمد الأزرق، وبدوي آخر انتظر مدة ليرافقنا خلال الطريق الذي يتطلب ثلاث ساعات من المسير كيلا يتعرض بمفرده للسلب. ونظرا لخشيتنا من أن يكون أفراد قبيلة بلي قد لاحظوا وصولنا في عصر يوم أمس قلعة مدائن صالح اخترنا الذهاب عبر طريق غير مباشر ويزيد مسافة ساعة عن الطريق المعتاد، حيث سرنا عبر شعيب يمكن للأطلال الموجودة فيه أن توفر مخبأ مناسبا للصوص وقطاع الطريق، ثم اتجهنا بشكل قوس نحو الشرق، وفي هذه الأثناء كان مرافقونا يتقدمون أمامنا حاملين بنادقهم قبل كل مرتفع لكي يراقبوا الطريق ويتأكدوا من أنه آمن. بعد أن تجاوزت الساعة العاشرة وصلنا والسعادة تغمرنا نهاية الشعيب الذي اجتزناه كما ينبغي. وقد قيل لنا فيما بعد: إن مجموعة من الغلمان ترصدوا ليلة البارحة منتظرين قدومنا كي يهجموا علينا، ولكنهم لم يوفقوا ولله الحمد. وبعد ربع ساعة لمحنا بساتين بلدة العلا تتوسطها أكوام حجرية تمثل أطلال المدينة القديمة، أما على صفحات الجبال الواقعة على يسارنا فكان يوجد بعض المقابر المنحوتة في الصخر تعلوها النقوش القديمة. في حوالي الساعة العاشرة والنصف وصلنا بلدة العلا الواقعة في واد منخفض تحيط به جبال الصخور الرملية العالية من كل جهة. والبلدة غنية بالنخيل وتكثر فيها المياه، لذلك فهي مرتع للحمى، كما يكثرفيها الذباب بشكل يفوق التصور، وذلك نتيجة لضيق بيوتها والتصاق بعضها ببعض، ومن الطبيعي والحال كذلك أن تكثر فيها الأتربة والأوساخ، أما منازلها فتتكون من طابقين يصل المرء الطابق الثاني من خلال سلم في القهوة (الديوان)، ومنه يصعد المرء إلى سطح صغير. وفي وسط البلدة تقع هضبة صخرية شيدت فوقها قلعة قديمة، وحينما يصعد المرء إليها سيرى أن بيوت المدينة مبنية من ثلاثة طوابق، الأسفل بمثابة الطابق الأرضي، وفوقه الطابق الثاني، ثم السطوح التي تبدو كأنها متلاصقة مع بعضها البعض وخاصة أن أكثر أزقة البلدة مسقوفة، أما البيوت فيتم بناؤها عادة من الحجارة التي من بينها أحجار مهذبة تعلوها الزخارف والنقوش مما يؤكد أن هذه الأحجار تعود إلى العصور القديمة أعيد استخدامها في بناء المنازل الحديثة، وقد تمكنت هناك من بصم ونسخ اثني عشر نقشا كلها حميرية، ماعدا نقشا واحدا فهو نبطي.
يتراوح عدد سكان البلدة ما بين 1000- 1200 نسمة من بينهم العديد من السود، وهو أيضا لون نائب الأمير المدعو سعيد، ومن كبار رجال البلدة هناك القاضي موسى، وشخص يدعى عبد الله وهو مولود في دمشق ويمارس التجارة، ثم شخص كثير القراءة حدثني عن حملات هرقل وعن القياصرة والقسطنطينية. ويلاحظ المرء هناك أن عادة سكان البلدة السود المتمثلة بولعهم بالزينة والنظافة قد أثرت في لباس الرجال والنساء هناك، فالرجال يرتدون ثيابا زرقاء لا تختلف عن ملابس النساء سوى أن لها فتحة طويلة من الأمام ذات أزارير نحاسية، ويرتدون فوقها عباءة ذات ألوان زرقاء وبيضاء ومخايطها حمراء، أما النساء فيزين أنوفهن وآذانهن بحلقات معدنية رائعة، بعضها تدلى منها قطع العملة، وغطاء رؤوسهن مزين بقطع كثيرة من الصدف. أما بالنسبة إلى السكان فهم في العادة وحسب المستطاع مسلحون، نظرا لخوفهم من أفراد قبيلة بلي الذين يترصدون أمام أبواب البلدة مباشرة متحينين الفرصة لسلب كل مقتنياتها، حقا لقد سمعنا اليوم عن امرأة ذهبت عند الساعة الثالثة عصرا لتحضر بعض العلف من صدر أحد بساتين النخيل، وهناك سلب منها كل شيء حتى ثيابها، وآخر تسبب كيس التمر الذي يمتلكه بقتله ضربا حتى الموت من قبل قطاع الطرق، ليس ذلك فحسب، فقد حدثني هوبر أنه رأى خلال زيارته الأولى للعلا أحد أبناء شيوخ البلدة، والبالغ من العمر اثني عشر عاما يحمل سيفه ويلعب مع أقرانه أمام الباب لعبة تسمى (13 خطوة)، وحينما غابت الشمس انصرف الأطفال إلى بيوتهم، أما ابن الشيخ فقد تأخر عنهم بضع خطوات، وعلى حين فجأة هاجمه غلامان أملا في أخذ سيفه، وحيث كان ممسكا به في يده، قام أحدهم بعض إصبعه حتى انفصل اللحم عن العظم، وسلبوا منه السيف، وجردوه حتى من ملابسه.
فيما يخص الضريبة فليس هناك من يدفعها سوى سكان البلدة نفسها، أما أفراد قبيلة الفقراء القاطنون إلى الشرق منها، فهم منقسمون إلى جزأين: جزء يدفع الضريبة. والقسم الآخر لا يزالون غير خاضعين لسلطة الأمير، أما أفراد قبيلة بلي القاطنون غرب البلدة فسيتوجه الأمير لاحقا لإخضاعهم، بعد أن أتم إخضاع جيرانهم الشماليين بني عطية،
وبالنسبة لأفراد عشيرة العليدة المنتمين لقبيلة بني وهب القاطنين جنوب المدينة فقد تم نهبهم، واخضاعهم قبل عامين.
عند الظهر مررنا بمنطقة الدغش التي رسم على صفحات جبالها البنية العديد من أشكال الحيوانات والكتابات الثمودية، ولكننا لم نتمكن من البقاء هناك طويلا بسبب خطورة المنطقة، كما أن شدة الرياح جعلت من الصعب استنساخ تلك الكتابات، وعند غروب الشمس ومع تزايد شدة الرياح اقتربنا من منطقة يوجد فيها موقعان للماء: أحدهما يتكون من 12 بئرا ويسمى رحيان، والثاني يقع خلف جبل رسوبي يسمى العشر، وهو عبارة عن بئر لها ثلاث فتحات، وتعلوها زرانيق تسمى الثمايل، وهنا استرحنا لإعداد بعض الطعام، ولكي تتمتع الجمال بالعشب الوفير، وحيث كان من الخطورة بمكان المبيت بالقرب من موقع المياه، لذلك قررنا أن نواصل السير خلال الليل عدة ساعات، حيث امتد أمامنا أحد المنخفضات المكون سطحه من الأحجار الرملية الملساء، وخلال وقت قصير ازدادت قتامة الليل، فالقمر لم يظهر إلا بعد التاسعة والنصف، على أي حال يمكن للمرء أن يتوقع- كما قيل لي في حائل- أن تكون تلك الصفائح الجبلية الملساء والمتعامدة مكتظة بالنقوش والرسوم الصخرية، وحيث لم يكن بمقدوري عمل أي شيء حاولت أن أقنع نفسي بافتعال بعض الأسباب الآتية:
1- عدم توافر الضوء خلال ذلك الظلام الدامس.
2- عدم استحسان نزول المرء في المناطق الخطرة.
3- يمكن عد التعب الذي أصابنا من جراء سير اثنتي عشر ساعة واحدا من هذه الأعذار.
وعند الساعة الثانية عشرة ليلا، نزلنا عن رواحلنا، وتجمعنا مدة نصف ساعة حول نار هادئة، كي لا يراها أحد، ويكتشف مكاننا، ثم استلقينا ونحن متعبون للنوم.
السبت 15/3/1884 قبل شروق الشمس بنصف ساعة كنا نجلس بالفعل على أشدة الجمال، وبينما كان طريقنا ينحدر عبر ممر واسع إلى الأسفل شاهدنا فجأة إلى اليسار أمامنا بدويا يحمل بندقية، وحينما ناديناه لم يتوقف، بل صعد إلى قمة أحد الجبال وأشار بيده نحو الشرق، فقمنا بتجهيز السلاح، وأرسلنا في الوقت نفسه نومان على قدميه بدون سلاح، لكي يخبره بحسن نوايانا، وقد اتضح أنه من معارف نومان، وينتمي إلى قبيلة الفقراء تلك القبيلة التي لم تخضع لسلطة أمير حائل إلا قبل وقت قصير، ولا يزال ولاؤهم له غير موثوق به، وفي محاولة منا لتشجيعه على النزول وعدم إرهابه انطلقنا في هدوء نحو الأمام، حيث نزل مع نومان ليلحقا بنا، ثم سار معنا مسافة قصيرة، وقد كان يرتدي ثوبا ومعطفا جلديا وغترة ويحمل بندقية من نوع (لونتن)، وبدلا من الرمح استعاض بخطاف خشبي. بعد ذلك بوقت قصير شاهدنا من خلال الصخور ومن مسافة 3- 4 أكيال في اتجاه الشرق خيام قبيلة الفقراء وسط قطيع من الإبل يزيد عددها على الألف، وما هي إلا برهة من الوقت حتى ظهر علينا ثلاثة منهم لدعوتنا إلى النزول عندهم، ولكننا رفضنا تلك الدعوة شاكرين. وبعد . أن أشبعوا فضولهم وتمكنوا من رؤية أسلحتنا، انصرفوا بعد ربع ساعة تقريبا، وهم بلا شك نادمون على عدم قدرتهم على السطو علينا، وسلب هؤلاء الموسرين كما يعتقدون، ولم يكن يمنعهم من ذلك سوى مرافقة نومان لنا الذي ينتمي إلى قبيلة شمر المتآخية مع قبيلتهم. وحيث إننا نملك من الأسباب ما يخولنا بعدم الثقة بهم اضطررنا من أجل إيهامهم لسلوك طريق غير مباشر يتجه نحو اليسار، وينحدر بقوة نحو الأسفل آخذا في الارتفاع مرة أخرى عبر تل رملي في سفح أحد الجبال، ثم سرنا مدة خمس ساعات متتالية خلال صحراء ترتفع جبالها إلى حوالي 150 مترا، وهي بمثابة منطقة جبلية رائعة تكثر فيها المراعي الوفيرة بالأعشاب، ولو قدر لهذا المكان أن يكون في أوربا لأصبح مكتظا بالسياح. على أي حال لقد ضيعنا هنا الكثير من الوقت، بسبب مسيرنا عبر طريق خاطئ، مما اضطرنا إلى النزول من خلال منخفض خطير إلى أحد الشعبان، وبينما كانت الجمال تهبط عبر ذلك المنخفض نزل رفاقنا من على ظهور جمالهم حذرا من السقوط، أما أنا بوزني الذي لا يتعدى 99 رطلا فقد تجرأت على البقاء فوق ظهر الناقة، وحينما وصلت إلى الأسفل كان الشداد والأمتعة قد مالت نحو الأمام مما اضطرني إلى إنزالها وإعادتها من جديد بصورة معتدلة على ظهر الناقة.
كنا نسير عبر تلك الشعاب الموحشة والمملوءة بالرمال المتلألئة بألوانها الذهبية الصفراء والأسلحة بأيدينا على أهبة الاستعداد، ولم نكن نشاهد فيها سوى بعض الغربان الجائعة التي كانت تحوم فوقنا بين الفينة والأخرى، وهي تنعق بأصواتها المفجعة كما لو كانت تطمع بنقر أعين أحدنا. منذ غروب شمس أمس لم نأكل شيئا قط، لذلك سعدنا كثيرا حينما قال لنا نومان، ونحن نخرج من الشعيب، هنا ليس هناك ما يخشاه المرء، فكان بمقدورنا النزول، وعمل قرص جمر (خبز)؟ لنأكله مع ما بحوزتنا من تمر. وفي هذه الأثناء بشرتنا الطيور الكثيرة هناك بقربنا من الحجر والعلا اللتين اشتهرتا بكثرة طيورهما، وفي حوالي العصر انطلقنا عبر ذلك السهل الذي تظهر في وسطه قلعة الحجاج الحديثة في مدائن صالح بنخيلها الثلاث، ومن خلفها إلى اليسار تبدو الصخور المخروطية الشكل والمقابر وغيرها من بقايا مدينة الحجر القديمة.
استقبلنا في القلعة بترحاب نائب قائدها المدعو حميد، والحاج مبروك والحاج حسن والحاج مصطفى، وهم من المغرب العربي وبالتحديد من الجزائر وتونس وطرابلس، أما قائد القلعة المدعو محمد علي الذي سطا على داوتي أثناء إقامته هنا، وسلب منه بندقيته فقد كان في أثناء ذلك في دمشق. إضافة إلى أولئك كان هناك أيضا بدوي يدعى محمدا الأزرق من قبيلة الفقراء. بعد ذلك قدم للجمال العلف الوفير، وذبح لنا. أما أنا فقد كنت أتحرق شوقا لرؤية تلك المقابر المنحوتة في الصخر، والتي لا يبعد بعضها عنا سوى بضع مئات الخطا. وقد كنت قد قرأت كل ما جمعه الرحالة عنها من معلومات ولم يفتني شيء، سوى أنني لم أتنبه للخط و اللغة التي كتبت بها النقوش هناك. لقد ذهبت إلى الموضع برفقة شخصين لحمايتي، وقد شعرت بارتياح يفوق الوصف حينما عرفت أن تلك النقوش كتبها الأنباط الذين تبوأوا مكانة تجارية كبيرة في العالم القديم. لم يمض سوى أقل من نصف ساعة حتى كنا قد انتهينا من جولتنا، وعدنا والشمس تميل نحو الغروب إلى فناء القلعة التي كنا نسمع من داخل حجراتها أصوات بكاء الأطفال وثغاء الضأن ومأمأة التيوس الجائعة. وبينما كنا ننتظر قدوم الأكل ظل أحد أقرباء الحاج مصطفى، وهو من أتباع الطريقة السنوسية يتسلى بملاعبة سبحته بين أصابع يديه محركا إياها مئات المرات بالشكل والأسلوب نفسه، وخلال الليل عاود الكرة مرتين مع ذلك التسبيح الذي اعتبرته عادة سيئة ونوعا من العبث، وهنا لم يكن أمامي بد من الثناء على مسابح أهل التبت الأقل إزعاجا.
بسبب الحرارة والثرثرة حول النار، وكذلك فقدان الأمل بأن يتزحزح الحاج مصطفى من مكانه لم أفرش فراشي في قاعة الأقواس التي اتخذت كديوان (مجلس)، ولكنني فرشته في ممر القلعة.
وفي هذه المنطقة ينمو نبات الطرثوث بكثرة، وهو عبارة عن نبات غليظ ذي جذور عميقة تتخللها خيوط ذات ألوان أرجوانية غامقة، ولها سيقان يصل ارتفاعها قدمين. الأحد 16/3/1884انطلقنا من شروق الشمس دون أن نآخذ ذلك السلم الذي ظللنا نسحبه معنا طوال تسعة أشهر متتالية، حيث رأى هوبر أن لا ضرورة له في العلا. كان يرافقنا خلال هذه المسيرة الحاج حسن والحاج مصطفى ومحمد الأزرق، وبدوي آخر انتظر مدة ليرافقنا خلال الطريق الذي يتطلب ثلاث ساعات من المسير كيلا يتعرض بمفرده للسلب. ونظرا لخشيتنا من أن يكون أفراد قبيلة بلي قد لاحظوا وصولنا في عصر يوم أمس قلعة مدائن صالح اخترنا الذهاب عبر طريق غير مباشر ويزيد مسافة ساعة عن الطريق المعتاد، حيث سرنا عبر شعيب يمكن للأطلال الموجودة فيه أن توفر مخبأ مناسبا للصوص وقطاع الطريق، ثم اتجهنا بشكل قوس نحو الشرق، وفي هذه الأثناء كان مرافقونا يتقدمون أمامنا حاملين بنادقهم قبل كل مرتفع لكي يراقبوا الطريق ويتأكدوا من أنه آمن. بعد أن تجاوزت الساعة العاشرة وصلنا والسعادة تغمرنا نهاية الشعيب الذي اجتزناه كما ينبغي. وقد قيل لنا فيما بعد: إن مجموعة من الغلمان ترصدوا ليلة البارحة منتظرين قدومنا كي يهجموا علينا، ولكنهم لم يوفقوا ولله الحمد. وبعد ربع ساعة لمحنا بساتين بلدة العلا تتوسطها أكوام حجرية تمثل أطلال المدينة القديمة، أما على صفحات الجبال الواقعة على يسارنا فكان يوجد بعض المقابر المنحوتة في الصخر تعلوها النقوش القديمة. في حوالي الساعة العاشرة والنصف وصلنا بلدة العلا الواقعة في واد منخفض تحيط به جبال الصخور الرملية العالية من كل جهة. والبلدة غنية بالنخيل وتكثر فيها المياه، لذلك فهي مرتع للحمى، كما يكثرفيها الذباب بشكل يفوق التصور، وذلك نتيجة لضيق بيوتها والتصاق بعضها ببعض، ومن الطبيعي والحال كذلك أن تكثر فيها الأتربة والأوساخ، أما منازلها فتتكون من طابقين يصل المرء الطابق الثاني من خلال سلم في القهوة (الديوان)، ومنه يصعد المرء إلى سطح صغير. وفي وسط البلدة تقع هضبة صخرية شيدت فوقها قلعة قديمة، وحينما يصعد المرء إليها سيرى أن بيوت المدينة مبنية من ثلاثة طوابق، الأسفل بمثابة الطابق الأرضي، وفوقه الطابق الثاني، ثم السطوح التي تبدو كأنها متلاصقة مع بعضها البعض وخاصة أن أكثر أزقة البلدة مسقوفة، أما البيوت فيتم بناؤها عادة من الحجارة التي من بينها أحجار مهذبة تعلوها الزخارف والنقوش مما يؤكد أن هذه الأحجار تعود إلى العصور القديمة أعيد استخدامها في بناء المنازل الحديثة، وقد تمكنت هناك من بصم ونسخ اثني عشر نقشا كلها حميرية، ماعدا نقشا واحدا فهو نبطي.
يتراوح عدد سكان البلدة ما بين 1000- 1200 نسمة من بينهم العديد من السود، وهو أيضا لون نائب الأمير المدعو سعيد، ومن كبار رجال البلدة هناك القاضي موسى، وشخص يدعى عبد الله وهو مولود في دمشق ويمارس التجارة، ثم شخص كثير القراءة حدثني عن حملات هرقل وعن القياصرة والقسطنطينية. ويلاحظ المرء هناك أن عادة سكان البلدة السود المتمثلة بولعهم بالزينة والنظافة قد أثرت في لباس الرجال والنساء هناك، فالرجال يرتدون ثيابا زرقاء لا تختلف عن ملابس النساء سوى أن لها فتحة طويلة من الأمام ذات أزارير نحاسية، ويرتدون فوقها عباءة ذات ألوان زرقاء وبيضاء ومخايطها حمراء، أما النساء فيزين أنوفهن وآذانهن بحلقات معدنية رائعة، بعضها تدلى منها قطع العملة، وغطاء رؤوسهن مزين بقطع كثيرة من الصدف. أما بالنسبة إلى السكان فهم في العادة وحسب المستطاع مسلحون، نظرا لخوفهم من أفراد قبيلة بلي الذين يترصدون أمام أبواب البلدة مباشرة متحينين الفرصة لسلب كل مقتنياتها، حقا لقد سمعنا اليوم عن امرأة ذهبت عند الساعة الثالثة عصرا لتحضر بعض العلف من صدر أحد بساتين النخيل، وهناك سلب منها كل شيء حتى ثيابها، وآخر تسبب كيس التمر الذي يمتلكه بقتله ضربا حتى الموت من قبل قطاع الطرق، ليس ذلك فحسب، فقد حدثني هوبر أنه رأى خلال زيارته الأولى للعلا أحد أبناء شيوخ البلدة، والبالغ من العمر اثني عشر عاما يحمل سيفه ويلعب مع أقرانه أمام الباب لعبة تسمى (13 خطوة)، وحينما غابت الشمس انصرف الأطفال إلى بيوتهم، أما ابن الشيخ فقد تأخر عنهم بضع خطوات، وعلى حين فجأة هاجمه غلامان أملا في أخذ سيفه، وحيث كان ممسكا به في يده، قام أحدهم بعض إصبعه حتى انفصل اللحم عن العظم، وسلبوا منه السيف، وجردوه حتى من ملابسه.
فيما يخص الضريبة فليس هناك من يدفعها سوى سكان البلدة نفسها، أما أفراد قبيلة الفقراء القاطنون إلى الشرق منها، فهم منقسمون إلى جزأين: جزء يدفع الضريبة. والقسم الآخر لا يزالون غير خاضعين لسلطة الأمير، أما أفراد قبيلة بلي القاطنون غرب البلدة فسيتوجه الأمير لاحقا لإخضاعهم، بعد أن أتم إخضاع جيرانهم الشماليين بني عطية،
وبالنسبة لأفراد عشيرة العليدة المنتمين لقبيلة بني وهب القاطنين جنوب المدينة فقد تم نهبهم، واخضاعهم قبل عامين.