موسى بن ربيع البلوي
03-07-2003, 03:15 PM
بقلم: فهمـي هـويـــدي
http://www.ahram.org.eg/Index.asp?CurFN=OP...N1.HTM&DID=7684 (http://www.ahram.org.eg/Index.asp?CurFN=OPIN1.HTM&DID=7684)
لأن الفلسطيني أصبح مخلوق الله المستباح, فان وقائع إبادته وتدمير حياته وإذلاله, التي تطالعنا بكثافة وبوتيرة يومية منذ اشهر, باتت أخبارا عادية لاتثير الانتباه فضلا عن أنها لا تحرك الشعور. ولئن حدث ذلك في غمرة انشغال الناس بأخبار الحرب التي لم تقع, فما بالك به لو وقعت!
(1)
يوم الأحد الماضي(2/23) نشرت الصحف خبرا من روما يقول إن ألفي شخص نظموا مظاهرة طافت بشوارع المدينة, رفعوا خلالها لافتات طالبت بحماية كرامة القطط. وقال منظمو المظاهرة من ممثلي جماعات الدفاع عن القطط إن في المدينة150 ألف قطة شاردة, لا يعاملها سكان المدينة بطريقة لائقة, في حين أنها أحوج ماتكون إلي الرعاية خصوصا في أجواء الصقيع التي تعيشها أوروبا الآن.
في اليوم ذاته نشرت الصحف تقريرا من نابلس عن الاجتياح الإسرائيلي لأحياء المدينة القديمة, بما استصحبه من إطلاق عشوائي للنيران وتفجير البعض لستة بيوت, الأمر الذي أدي إلي تشريد14 أسرة, وخروج الأمهات والأطفال وهم يرتجفون إلي الشوارع المغطاة بالثلوج والأوحال. الرجال اختطفوا واخذوا تحت جنح الظلام إلي مكان مجهول وهم مقيدون بالحبال. أما النساء والأطفال, فقد هاموا علي وجوههم بحثا عن مكان يؤويهم من البرد والفزع.
حين طويت الصحيفة لاحقتني فكرة المقارنة بين حظوظ القطط في روما, وحظوظ الفلسطينيين في الأرض المحتلة, وبدت المفارقة كاشفة ومروعة بين قطط شاردة وجدت من يدافع عن كرامتها وحقها في الحياة هناك, وبين رجال يساقون إلي الموت تحت جنح الظلام, ونسوة وأطفال في فلسطين يواجهون مشكلة التشرد, ولا أحد في العالم يعيرهم التفاتا أو يدرك أن لهم كرامة أو حقا في الحياة.
المذهل في الأمر أن عملية الإبادة والتدمير اليومي للبيوت والمرافق والإنسان الفلسطيني أصبحت جزءا من نمط الحياة في الأرض المحتلة, حيث كتب علي سكانها أن يعانقوا الموت والذل والخراب طوال الوقت. ولأن العملية لم تتوقف منذ بدأت الانتفاضة( في عام ألفين) فإن أحداثها ووقائعها تحولت في الخطاب الإعلامي والسياسي إلي أرقام. وصرنا ونحن في الخارج نقرأ أن كذا شهيد قتلوا وكذا جريح سقطوا, وكذا بيتا تهدم, ومع اعتياد الناس علي تلك الأرقام, فإن كثيرين اصبحوا يقرأونها كما يقرأون أخبار الصعود والهبوط في اسهم البورصة. يرفعون حواجبهم اذا ارتفعت قيمتها, ويقلبون شفاههم اذا ما انخفضت. لكن هذا وذاك لايغير كثيرا من مزاجهم وهم يحتسون قهوة الصباح.
(2)
في غزة وحدها هدم الإسرائليون منذ بدء الانتفاضة نحو800 منزل تسكنها1100 عائلة تضم ستة آلاف شخص, حسب إحصاءات وكالة غوث اللاجئين. وهذه المنازل سويت بالأرض, ولم يعد فيها حجر فوق حجر. ومذبحة المنازل هذه جديدة في تعامل الإسرائيليين مع الفلسطينيين, والهدف منها يتراوح بين الانتقام والترويع. في السابق كانت اسرائيل تهدم بيتا أو اثنين كل عدة اشهر, كما ذكرت كارين أبو زيد, إحدي موظفات وكالة الغوث. ولكن حين أصابت الانتفاضة اسرائيل بالوجع, خصوصا من خلال العمليات الاستشهادية, فان لوثة أصابت ساستها وعسكرييها الذين أطلقوا عنان الدبابات والجرافات التي أصبحت تهدم البيوت بالعشرات. ولم يكن ذلك مقصورا علي غزة وحدها بطبيعة الحال, وإنما انطبق بذات القدر علي الضفة. وهدم البيت ليس مجرد تقويض لمبني, ولكنه في حقيقة الأمر تدمير لحياة أسرة كاملة, وإعادتها إلي نقطة الصفر, بلا مأوي أو أثاث أو حتي ثياب, الأمر الذي ينسف كل مادبرته ووفرته في حياتها, ويحول من بقي علي قيد الحياة منهم إلي مشردين ومتسولين. ناهيك عن كونه جريمة غير إنسانية لانظير لها, بمقتضاه تعاقب الأسرة بمختلف أجيالها المكدسة في البيت, من جراء فعل منسوب إلي أحد أفرادها, وهو في العادة أحد عناصر مقاومة الاحتلال.
ناهض الحلو من أبناء غزة لم يكن من هؤلاء ومع ذلك نسف بيته في إحدي الحملات الإسرائيلية المجنونة علي القطاع. بل وقتل ابناه علاء وسعيد مع ابن خالتهم تامر درويش, حين انهار المبني فوق رؤوسهم, واختلطت أشلاؤهم بالركام كما اختلطت دماؤهم بالوحل الذي غمر المكان.
في مخيم المغازي بالقطاع, حاصرت القوات الإسرائيلية منزل سلامة بن سعيد, والد الشهيد بهاء, الذي كان قد نجح في اقتحام إحدي المستعمرات, واعتقلت ثلاثة من اخوة الشهيد, ثم قامت بتفجير المبني الذي انهار فوق أم الأولاد كاملة سليمان بن سعيد(65 سنة) ـ ووقع الحادث عقب تفجير مبني آخر في بيت لاهيا سقط فوق مالكه الذي كان عجوزا في السبعين من عمره.
في غزة أيضا جلست عجوز كفيفة في التسعين من عمرها فوق أنقاض منزلها الذي دمر في حياتها خمس مرات, في حين قتل الإسرائيليون أبناءها الأربعة واحدا تلو الآخر. لم يبق في عين العجوز ـ أم عابد الزريعي ـ دمع تذرفه, ولا أمل في الدنيا تتعلق به, حتي أرادت أن تدفن مع الأنقاض وحدها. الأمطار الغزيرة اضطرتها إلي مغادرة المكان والاحتماء بجدار نجا من التدمير.
في قرية النبي الياس القريبة من قلقيلية, فوجيء محمد حنون, أبو شادي, بالجرافات الإسرائيلية وهي تنهش أشجار الزيتون التي تعتاش منها أسرته, أذهلته المفاجأة, ولم يصدق أن كل ما زرعته عائلته ورعته عبر مئات السنين قد اقتلع وسوي بالأرض, فلم يتمالك نفسه, وسقط علي الأرض بغير حراك. وحين نقلوه إلي المستشفي قال الأطباء إن جلطة قلبية داهمته فأصابته بفقدان النطق والشلل.
في مخيم بلاطة بمدينة نابلس اقتحم الإسرائيليون بيت محمد مسيمي لاعتقال ابنه الناشط في كتائب الأقصي. وحين لم يجدوا الابن, أمروا العائلة بمغادرة المبني, فانصاعوا بطبيعة الحال, لكنهم حين عادوا إليه بعد حين صدمهم الخراب الذي حل به, فسقط الأب علي الأرض من هول ما رأي, حيث أصابته نوبة قلبية أودت بحياته.
هذه مجرد نماذج للأحداث اليومية التي أصبحت تقع علي هامش عمليات الاجتياح وتجريف الأرض والقتل المتعمد, الذي يستهدف الناشطين أو ذلك العشوائي الذي يراد به الترويع والتركيع.
(3)
هدم البشر وإذلالهم لا يقل خطورة, وربما كان الأخطر, لأنه يراكم المرارة والحزن, ويحول الناس بمختلف أعمارهم إلي قنابل غضب موقوتة تمشي علي الأرض. وذلك وجه للمشهد الفلسطيني لا يراه كثيرون. لأن التقارير الصحفية ووسائل الإعلام تركز علي الصفحات المكتوبة بالدم في السجل الفلسطيني, ولا تتوقف كثيرا عند تلك المكتوبة بالدمع والتي ترسمها الزفرات والشهقات والمرارات.
في2002/11/16 قدم التليفزيون الإسرائيلي برنامجا تضمن شهادات لجنود خدموا في الضفة الغربية, ذكروا أن قادتهم سمحوا لهم بالرهان فيما بينهم علي إطلاق النار علي الفلسطينيين لمجرد التسلية وقتل الوقت. وشهد الجنود بأن عددا من قادتهم أمروهم بأن ينهالوا بالضرب المبرح علي كل من يصادفونه من الذكور في أثناء مداهمة بيوت الفلسطينيين. أحدهم قال إنه رأي ثلاثة من زملائه في نابلس أوسعوا ثلاثة شبان فلسطينيين ضربا حتي نزفت الدماء منهم. ثم قاموا برسم شعار لواء المظليين الذي ينتمون إليه علي الحائط بتلك الدماء النازفة. آخرون من لواء المشاه هناحل قالوا أنهم قاموا بنتف لحي ثلاثة من الشيوخ الفلسطينيين في إحدي خرائب بلدة دوروا شرق مدينة الخليل. شهد بعضهم أيضا بأنهم رأوا زملاءهم وهم يطلقون النار عامدين علي الدواب والماشية الفلسطينية. وفي إحدي المرات قتلوا15 رأس ماشية دفعة واحدة. في البرنامج أقرت الشرطة العسكرية بأنها سجلت250 حالة قام فيها جنود الاحتلال بنهب وسرقة البيوت الفلسطينية في أثناء الاقتحام.
فاطمة النجار زوجة أحد صيادي الأسماك الفلسطينيين الذين يسكنون منطقة المواصي الساحلية غرب خان يونس, ذهبت إلي المدينة لشراء مادة كيماوية تستخدم في صيانة السفن, وأثناء عودتها أوقفها حاجز عسكري. وحين عرف الجنود الإسرائيليون طبيعة المادة التي تحملها, أمرتها إحدي المجندات بأن تشرب المادة الكيماوية. رفضت فاطمة فانقضت عليها ثلاث مجندات وقمن بتقييدها, ثم وضعن المادة الكيماوية في فمها رغما عنها. الأمر الذي أدي الي انهيارها, وحين نقلت الي المستشفي الأوروبي تبين أن المادة الكيماوية أحدثت مشاكل صحية في الحنجرة والمعدة, نتج عنها سوء هضم وصعوبة في الكلام, ولاتزال تحت العلاج حتي الآن.
(4)
تحولت الحواجز إلي مذبح للكرامة الفلسطينية, وساحة لتوزيع جرعات المذلة والهوان علي الجميع بلا تمييز. علي حاجز عين عريك المقام علي طريق رام الله ـ بيرزيت اصطف أكثر من ثلاثين رجلا فلسطينيا بينهم فتاة واحدة اسمها مريم, لم يسمح الجنود للرجال بالعودة إلي منازلهم, وأجبروهم علي جلوس القرفصاء وطأطأة رؤوسهم, وكل من احتج أو رفع رأسه ضرب وانهال عليه الجنوب صفعا وركلا. أما مريم فقد سمعت من الكلمات الفاحشة والحركات البذيئة مالم تسمعه في حياتها. وحين وصل الي الحاجز سائق سيارة أجرة اسمه إبراهيم ـ قبل ربع ساعة من رفع حظر التجوال عن المدينة, فانه عوقب بانتزاعه من وراء مقوده, وتناوب أربعة جنود مدججين بالسلاح علي ضربه إلي أن سقط فاقدا وعيه. وحينئذ التفت الجنود إلي سيارته, وانهالوا عليها بأعقاب بنادقهم حتي هشموها. وبدل أن يوصل إبراهيم ركاب سيارته إلي المدينة, فان الركاب هم الذين تولوا أمر نقله إلي المستشفي.
قسم الإسرائيليون الضفة الغربية إلي300 منطقة احتلالية تفصل بينها الحواجز, الأمر الذي فرض علي الفلسطينيين طقوسا خاصة, من قبيل التأكد من احتشام ملابسهم الداخلية, بعدما باتت تعرية الشبان فضلا عن كبار السن, جزءا لا يتجزأ من متطلبات اجتياز الحواجز. ولا يقف الأمر عند ذلك الحد, وإنما كثيرا مايطلب من كبار السن ـ إمعانا في إذلالهم ـ أن يأتوا بحركات ساخرة معينة أو أن يرقصوا أمام الجنود, قبل أن يسمح لهم بالمرور!
ذات يوم خرج الفتي وسام عشراوي لشراء بعض حاجياته في الخليل, فـأوقفته دورية تابعة لحرس الحدود, وصرخ في وجهه أحدهم قائلا إنه خالف نظام حظر التجوال, ولابد من عقابه. وكانت عقوبة اليانصيب تنتظره, حيث أمر بالاختيار بين أوراق أربع مطويات كتبت في كل واحدة منها إحدي عقوبات اليوم, وحين مد يده وهي ترتعش ليأخذ واحدة منها, قام الجندي الإسرائيلي بعد قراءتها بانتزاع يد وسام, ثم كسر إصبعه ومضي! تكرر المشهد مع فلسطيني آخر اسمه حجازي أبو ستيتة, الذي ماأن التقط واحدة من الأوراق التي عرضت عليه, حتي انهال الجنود عليه بالضرب علي الساقين واليدين والظهر, ثم ألقوا به في حوض للمياه, تنفيذا للعقوبة التي اختارها.
عقوبة اليانصيب لم تختلف عن فكرة التعذيب بالقرعة, التي كان من ضحاياها علي الطرايرة, عامل الدباغة في الخليل, الذي خرج ليتسلم عمله ذات صباح, فاعترضته سيارة لحرس الحدود الإسرائيلي, وأمرته بعدم التحرك من مكانه. وحين امتثل احضروا دلوا بلاستيكيا وفيه مجموعة من الأوراق, وقال أحدهم: في كل واحدة من هذه الأوراق هناك اسلوب تعذيب مختلف, وعليك أن تختار مايروق لك.
فهناك تكسير أصابع القدم, أو إطلاق الرصاص علي القدم, أو الضرب أثناء الرقص, غير مفاجآت أخري.
طبقا لما نشر في الشرق الأوسط( عدد1/10 الماضي) فان الطرايرة لم يجد مفرا من الاستجابة, وحين التقط إحدي الأوراق, تناولها أحد الجنود, وعرضها علي رفاقه, فإذا بهم يتصايحون بشكل هستيري, وقام أحدهم بعرضها عليه, وفوجيء بأن كتب عليها: تكسير اليدين والرجلين. ولم يضيع الجنود دقيقة من الوقت, حيث انهالوا عليه بالضرب المبرح وبأعقاب البنادق حتي سقط أرضا ـ وصف الطرايرة ماجري قائلا: بعد وجبة الضرب المتواصل والمبرح أمسك اثنان من الجنود بإحدي ذراعي وقام ثالث بالضرب عليها بقضيب حديدي كبير, عندها فقط شعرت أنهم جادون في تحطيم عظامي. وانتقلوا بعد تكسير الذراع الأولي إلي الذراع الأخري. وبعد الانتهاء من هذه المهمة راحوا يوجهون الضرب وبشكل جنوني إلي كل أنحاء الجسم. غاب الشاب عن الوعي ولم يعد يدري بعدها ماحدث له, ولم يستيقظ إلا وهو في المستشفي, بعد أن نقلته عائلة فلسطينية مرت في المكان الذي غادره الجنود وتركوه فيه ليلاقي حتفه.
للتنكيل درجات أخري أشد وأفظع, تتحدث عنها روايات سكان المناطق النائية في الجنوب الشرقي للضفة, حيث ذكر أحد القرويين أن الجنود عرضوا عليه أن يختار إحدي الأوراق, فإذا قرعته تقضي بقطع العضو الذكري, وبالفعل كما يقول اجبره الجنود علي التعري, لكن مرور مجموعة من الصحفيين الأجانب في المكان حال دون قيام الجنود بما كانوا ينوون القيام به, وأطلقوا سراحه.
في منطقة رام الله ووسط الضفة الغربية هناك أساليب تنكيل وإهانة أخري. فمثلا يقول زهير حداد من بلدة دير دبوان, انه كان عائدا من مدرسته في سيارة أجرة, عندما استوقفها حاجز طيار للاحتلال علي مشارف القرية, فطلب أحد أفراد الدورية الإسرائيلية من حداد أن يترجل من السيارة, وطلبوا منه أن يرقص, فرفض فانهالوا عليه بالضرب المبرح, لكنه بعد أن أخذ منه الألم مأخذه وجه نفسه يرقص, بينما كان الجنود يصورونه بكاميرا فيديو!
(5)
احتفظ بملف حافل بوقائع الاعتداءات الوحشية علي زوجات المعتقلين, ومحاولة النيل من شرفهن, لإذلال الأزواج وإجبارهم علي الاعتراف. وهذه الاعتداءات طالت الأطفال الذين أودعوا السجون وخضعوا لعمليات تعذيب وتشويه بشعة. ومن أسف أن الحيز المتاح لا يسمح بعرض تلك الوقائع. لكن مايهمني في هذا السياق أن نتأمل ذلك الوجه المسكوت عليه, ونتدبر شهادة لأحد المعلقين الإسرائيليين, حيمي شليف, الذي كتب في صحيفة معاريف مقالا تحت عنوان سحر القاتل, قال فيه: إن الجمهور الإسرائيلي وان مال إلي تسوية مع الفلسطينيين, إلا أنه يريد زعيما لا يطيقهم, ويملك قدرة ممكنة ومحتملة لضرب العرب حتي نحورهم ـ إلي أن قال: ان الاندفاع والهرولة خلف القاتل منقوشة في طباعنا. وهذا الأمر لم يبدأ مع الانتفاضة, ولا مع اندفاع الموجات الإرهابية!
http://www.ahram.org.eg/Index.asp?CurFN=OP...N1.HTM&DID=7684 (http://www.ahram.org.eg/Index.asp?CurFN=OPIN1.HTM&DID=7684)
لأن الفلسطيني أصبح مخلوق الله المستباح, فان وقائع إبادته وتدمير حياته وإذلاله, التي تطالعنا بكثافة وبوتيرة يومية منذ اشهر, باتت أخبارا عادية لاتثير الانتباه فضلا عن أنها لا تحرك الشعور. ولئن حدث ذلك في غمرة انشغال الناس بأخبار الحرب التي لم تقع, فما بالك به لو وقعت!
(1)
يوم الأحد الماضي(2/23) نشرت الصحف خبرا من روما يقول إن ألفي شخص نظموا مظاهرة طافت بشوارع المدينة, رفعوا خلالها لافتات طالبت بحماية كرامة القطط. وقال منظمو المظاهرة من ممثلي جماعات الدفاع عن القطط إن في المدينة150 ألف قطة شاردة, لا يعاملها سكان المدينة بطريقة لائقة, في حين أنها أحوج ماتكون إلي الرعاية خصوصا في أجواء الصقيع التي تعيشها أوروبا الآن.
في اليوم ذاته نشرت الصحف تقريرا من نابلس عن الاجتياح الإسرائيلي لأحياء المدينة القديمة, بما استصحبه من إطلاق عشوائي للنيران وتفجير البعض لستة بيوت, الأمر الذي أدي إلي تشريد14 أسرة, وخروج الأمهات والأطفال وهم يرتجفون إلي الشوارع المغطاة بالثلوج والأوحال. الرجال اختطفوا واخذوا تحت جنح الظلام إلي مكان مجهول وهم مقيدون بالحبال. أما النساء والأطفال, فقد هاموا علي وجوههم بحثا عن مكان يؤويهم من البرد والفزع.
حين طويت الصحيفة لاحقتني فكرة المقارنة بين حظوظ القطط في روما, وحظوظ الفلسطينيين في الأرض المحتلة, وبدت المفارقة كاشفة ومروعة بين قطط شاردة وجدت من يدافع عن كرامتها وحقها في الحياة هناك, وبين رجال يساقون إلي الموت تحت جنح الظلام, ونسوة وأطفال في فلسطين يواجهون مشكلة التشرد, ولا أحد في العالم يعيرهم التفاتا أو يدرك أن لهم كرامة أو حقا في الحياة.
المذهل في الأمر أن عملية الإبادة والتدمير اليومي للبيوت والمرافق والإنسان الفلسطيني أصبحت جزءا من نمط الحياة في الأرض المحتلة, حيث كتب علي سكانها أن يعانقوا الموت والذل والخراب طوال الوقت. ولأن العملية لم تتوقف منذ بدأت الانتفاضة( في عام ألفين) فإن أحداثها ووقائعها تحولت في الخطاب الإعلامي والسياسي إلي أرقام. وصرنا ونحن في الخارج نقرأ أن كذا شهيد قتلوا وكذا جريح سقطوا, وكذا بيتا تهدم, ومع اعتياد الناس علي تلك الأرقام, فإن كثيرين اصبحوا يقرأونها كما يقرأون أخبار الصعود والهبوط في اسهم البورصة. يرفعون حواجبهم اذا ارتفعت قيمتها, ويقلبون شفاههم اذا ما انخفضت. لكن هذا وذاك لايغير كثيرا من مزاجهم وهم يحتسون قهوة الصباح.
(2)
في غزة وحدها هدم الإسرائليون منذ بدء الانتفاضة نحو800 منزل تسكنها1100 عائلة تضم ستة آلاف شخص, حسب إحصاءات وكالة غوث اللاجئين. وهذه المنازل سويت بالأرض, ولم يعد فيها حجر فوق حجر. ومذبحة المنازل هذه جديدة في تعامل الإسرائيليين مع الفلسطينيين, والهدف منها يتراوح بين الانتقام والترويع. في السابق كانت اسرائيل تهدم بيتا أو اثنين كل عدة اشهر, كما ذكرت كارين أبو زيد, إحدي موظفات وكالة الغوث. ولكن حين أصابت الانتفاضة اسرائيل بالوجع, خصوصا من خلال العمليات الاستشهادية, فان لوثة أصابت ساستها وعسكرييها الذين أطلقوا عنان الدبابات والجرافات التي أصبحت تهدم البيوت بالعشرات. ولم يكن ذلك مقصورا علي غزة وحدها بطبيعة الحال, وإنما انطبق بذات القدر علي الضفة. وهدم البيت ليس مجرد تقويض لمبني, ولكنه في حقيقة الأمر تدمير لحياة أسرة كاملة, وإعادتها إلي نقطة الصفر, بلا مأوي أو أثاث أو حتي ثياب, الأمر الذي ينسف كل مادبرته ووفرته في حياتها, ويحول من بقي علي قيد الحياة منهم إلي مشردين ومتسولين. ناهيك عن كونه جريمة غير إنسانية لانظير لها, بمقتضاه تعاقب الأسرة بمختلف أجيالها المكدسة في البيت, من جراء فعل منسوب إلي أحد أفرادها, وهو في العادة أحد عناصر مقاومة الاحتلال.
ناهض الحلو من أبناء غزة لم يكن من هؤلاء ومع ذلك نسف بيته في إحدي الحملات الإسرائيلية المجنونة علي القطاع. بل وقتل ابناه علاء وسعيد مع ابن خالتهم تامر درويش, حين انهار المبني فوق رؤوسهم, واختلطت أشلاؤهم بالركام كما اختلطت دماؤهم بالوحل الذي غمر المكان.
في مخيم المغازي بالقطاع, حاصرت القوات الإسرائيلية منزل سلامة بن سعيد, والد الشهيد بهاء, الذي كان قد نجح في اقتحام إحدي المستعمرات, واعتقلت ثلاثة من اخوة الشهيد, ثم قامت بتفجير المبني الذي انهار فوق أم الأولاد كاملة سليمان بن سعيد(65 سنة) ـ ووقع الحادث عقب تفجير مبني آخر في بيت لاهيا سقط فوق مالكه الذي كان عجوزا في السبعين من عمره.
في غزة أيضا جلست عجوز كفيفة في التسعين من عمرها فوق أنقاض منزلها الذي دمر في حياتها خمس مرات, في حين قتل الإسرائيليون أبناءها الأربعة واحدا تلو الآخر. لم يبق في عين العجوز ـ أم عابد الزريعي ـ دمع تذرفه, ولا أمل في الدنيا تتعلق به, حتي أرادت أن تدفن مع الأنقاض وحدها. الأمطار الغزيرة اضطرتها إلي مغادرة المكان والاحتماء بجدار نجا من التدمير.
في قرية النبي الياس القريبة من قلقيلية, فوجيء محمد حنون, أبو شادي, بالجرافات الإسرائيلية وهي تنهش أشجار الزيتون التي تعتاش منها أسرته, أذهلته المفاجأة, ولم يصدق أن كل ما زرعته عائلته ورعته عبر مئات السنين قد اقتلع وسوي بالأرض, فلم يتمالك نفسه, وسقط علي الأرض بغير حراك. وحين نقلوه إلي المستشفي قال الأطباء إن جلطة قلبية داهمته فأصابته بفقدان النطق والشلل.
في مخيم بلاطة بمدينة نابلس اقتحم الإسرائيليون بيت محمد مسيمي لاعتقال ابنه الناشط في كتائب الأقصي. وحين لم يجدوا الابن, أمروا العائلة بمغادرة المبني, فانصاعوا بطبيعة الحال, لكنهم حين عادوا إليه بعد حين صدمهم الخراب الذي حل به, فسقط الأب علي الأرض من هول ما رأي, حيث أصابته نوبة قلبية أودت بحياته.
هذه مجرد نماذج للأحداث اليومية التي أصبحت تقع علي هامش عمليات الاجتياح وتجريف الأرض والقتل المتعمد, الذي يستهدف الناشطين أو ذلك العشوائي الذي يراد به الترويع والتركيع.
(3)
هدم البشر وإذلالهم لا يقل خطورة, وربما كان الأخطر, لأنه يراكم المرارة والحزن, ويحول الناس بمختلف أعمارهم إلي قنابل غضب موقوتة تمشي علي الأرض. وذلك وجه للمشهد الفلسطيني لا يراه كثيرون. لأن التقارير الصحفية ووسائل الإعلام تركز علي الصفحات المكتوبة بالدم في السجل الفلسطيني, ولا تتوقف كثيرا عند تلك المكتوبة بالدمع والتي ترسمها الزفرات والشهقات والمرارات.
في2002/11/16 قدم التليفزيون الإسرائيلي برنامجا تضمن شهادات لجنود خدموا في الضفة الغربية, ذكروا أن قادتهم سمحوا لهم بالرهان فيما بينهم علي إطلاق النار علي الفلسطينيين لمجرد التسلية وقتل الوقت. وشهد الجنود بأن عددا من قادتهم أمروهم بأن ينهالوا بالضرب المبرح علي كل من يصادفونه من الذكور في أثناء مداهمة بيوت الفلسطينيين. أحدهم قال إنه رأي ثلاثة من زملائه في نابلس أوسعوا ثلاثة شبان فلسطينيين ضربا حتي نزفت الدماء منهم. ثم قاموا برسم شعار لواء المظليين الذي ينتمون إليه علي الحائط بتلك الدماء النازفة. آخرون من لواء المشاه هناحل قالوا أنهم قاموا بنتف لحي ثلاثة من الشيوخ الفلسطينيين في إحدي خرائب بلدة دوروا شرق مدينة الخليل. شهد بعضهم أيضا بأنهم رأوا زملاءهم وهم يطلقون النار عامدين علي الدواب والماشية الفلسطينية. وفي إحدي المرات قتلوا15 رأس ماشية دفعة واحدة. في البرنامج أقرت الشرطة العسكرية بأنها سجلت250 حالة قام فيها جنود الاحتلال بنهب وسرقة البيوت الفلسطينية في أثناء الاقتحام.
فاطمة النجار زوجة أحد صيادي الأسماك الفلسطينيين الذين يسكنون منطقة المواصي الساحلية غرب خان يونس, ذهبت إلي المدينة لشراء مادة كيماوية تستخدم في صيانة السفن, وأثناء عودتها أوقفها حاجز عسكري. وحين عرف الجنود الإسرائيليون طبيعة المادة التي تحملها, أمرتها إحدي المجندات بأن تشرب المادة الكيماوية. رفضت فاطمة فانقضت عليها ثلاث مجندات وقمن بتقييدها, ثم وضعن المادة الكيماوية في فمها رغما عنها. الأمر الذي أدي الي انهيارها, وحين نقلت الي المستشفي الأوروبي تبين أن المادة الكيماوية أحدثت مشاكل صحية في الحنجرة والمعدة, نتج عنها سوء هضم وصعوبة في الكلام, ولاتزال تحت العلاج حتي الآن.
(4)
تحولت الحواجز إلي مذبح للكرامة الفلسطينية, وساحة لتوزيع جرعات المذلة والهوان علي الجميع بلا تمييز. علي حاجز عين عريك المقام علي طريق رام الله ـ بيرزيت اصطف أكثر من ثلاثين رجلا فلسطينيا بينهم فتاة واحدة اسمها مريم, لم يسمح الجنود للرجال بالعودة إلي منازلهم, وأجبروهم علي جلوس القرفصاء وطأطأة رؤوسهم, وكل من احتج أو رفع رأسه ضرب وانهال عليه الجنوب صفعا وركلا. أما مريم فقد سمعت من الكلمات الفاحشة والحركات البذيئة مالم تسمعه في حياتها. وحين وصل الي الحاجز سائق سيارة أجرة اسمه إبراهيم ـ قبل ربع ساعة من رفع حظر التجوال عن المدينة, فانه عوقب بانتزاعه من وراء مقوده, وتناوب أربعة جنود مدججين بالسلاح علي ضربه إلي أن سقط فاقدا وعيه. وحينئذ التفت الجنود إلي سيارته, وانهالوا عليها بأعقاب بنادقهم حتي هشموها. وبدل أن يوصل إبراهيم ركاب سيارته إلي المدينة, فان الركاب هم الذين تولوا أمر نقله إلي المستشفي.
قسم الإسرائيليون الضفة الغربية إلي300 منطقة احتلالية تفصل بينها الحواجز, الأمر الذي فرض علي الفلسطينيين طقوسا خاصة, من قبيل التأكد من احتشام ملابسهم الداخلية, بعدما باتت تعرية الشبان فضلا عن كبار السن, جزءا لا يتجزأ من متطلبات اجتياز الحواجز. ولا يقف الأمر عند ذلك الحد, وإنما كثيرا مايطلب من كبار السن ـ إمعانا في إذلالهم ـ أن يأتوا بحركات ساخرة معينة أو أن يرقصوا أمام الجنود, قبل أن يسمح لهم بالمرور!
ذات يوم خرج الفتي وسام عشراوي لشراء بعض حاجياته في الخليل, فـأوقفته دورية تابعة لحرس الحدود, وصرخ في وجهه أحدهم قائلا إنه خالف نظام حظر التجوال, ولابد من عقابه. وكانت عقوبة اليانصيب تنتظره, حيث أمر بالاختيار بين أوراق أربع مطويات كتبت في كل واحدة منها إحدي عقوبات اليوم, وحين مد يده وهي ترتعش ليأخذ واحدة منها, قام الجندي الإسرائيلي بعد قراءتها بانتزاع يد وسام, ثم كسر إصبعه ومضي! تكرر المشهد مع فلسطيني آخر اسمه حجازي أبو ستيتة, الذي ماأن التقط واحدة من الأوراق التي عرضت عليه, حتي انهال الجنود عليه بالضرب علي الساقين واليدين والظهر, ثم ألقوا به في حوض للمياه, تنفيذا للعقوبة التي اختارها.
عقوبة اليانصيب لم تختلف عن فكرة التعذيب بالقرعة, التي كان من ضحاياها علي الطرايرة, عامل الدباغة في الخليل, الذي خرج ليتسلم عمله ذات صباح, فاعترضته سيارة لحرس الحدود الإسرائيلي, وأمرته بعدم التحرك من مكانه. وحين امتثل احضروا دلوا بلاستيكيا وفيه مجموعة من الأوراق, وقال أحدهم: في كل واحدة من هذه الأوراق هناك اسلوب تعذيب مختلف, وعليك أن تختار مايروق لك.
فهناك تكسير أصابع القدم, أو إطلاق الرصاص علي القدم, أو الضرب أثناء الرقص, غير مفاجآت أخري.
طبقا لما نشر في الشرق الأوسط( عدد1/10 الماضي) فان الطرايرة لم يجد مفرا من الاستجابة, وحين التقط إحدي الأوراق, تناولها أحد الجنود, وعرضها علي رفاقه, فإذا بهم يتصايحون بشكل هستيري, وقام أحدهم بعرضها عليه, وفوجيء بأن كتب عليها: تكسير اليدين والرجلين. ولم يضيع الجنود دقيقة من الوقت, حيث انهالوا عليه بالضرب المبرح وبأعقاب البنادق حتي سقط أرضا ـ وصف الطرايرة ماجري قائلا: بعد وجبة الضرب المتواصل والمبرح أمسك اثنان من الجنود بإحدي ذراعي وقام ثالث بالضرب عليها بقضيب حديدي كبير, عندها فقط شعرت أنهم جادون في تحطيم عظامي. وانتقلوا بعد تكسير الذراع الأولي إلي الذراع الأخري. وبعد الانتهاء من هذه المهمة راحوا يوجهون الضرب وبشكل جنوني إلي كل أنحاء الجسم. غاب الشاب عن الوعي ولم يعد يدري بعدها ماحدث له, ولم يستيقظ إلا وهو في المستشفي, بعد أن نقلته عائلة فلسطينية مرت في المكان الذي غادره الجنود وتركوه فيه ليلاقي حتفه.
للتنكيل درجات أخري أشد وأفظع, تتحدث عنها روايات سكان المناطق النائية في الجنوب الشرقي للضفة, حيث ذكر أحد القرويين أن الجنود عرضوا عليه أن يختار إحدي الأوراق, فإذا قرعته تقضي بقطع العضو الذكري, وبالفعل كما يقول اجبره الجنود علي التعري, لكن مرور مجموعة من الصحفيين الأجانب في المكان حال دون قيام الجنود بما كانوا ينوون القيام به, وأطلقوا سراحه.
في منطقة رام الله ووسط الضفة الغربية هناك أساليب تنكيل وإهانة أخري. فمثلا يقول زهير حداد من بلدة دير دبوان, انه كان عائدا من مدرسته في سيارة أجرة, عندما استوقفها حاجز طيار للاحتلال علي مشارف القرية, فطلب أحد أفراد الدورية الإسرائيلية من حداد أن يترجل من السيارة, وطلبوا منه أن يرقص, فرفض فانهالوا عليه بالضرب المبرح, لكنه بعد أن أخذ منه الألم مأخذه وجه نفسه يرقص, بينما كان الجنود يصورونه بكاميرا فيديو!
(5)
احتفظ بملف حافل بوقائع الاعتداءات الوحشية علي زوجات المعتقلين, ومحاولة النيل من شرفهن, لإذلال الأزواج وإجبارهم علي الاعتراف. وهذه الاعتداءات طالت الأطفال الذين أودعوا السجون وخضعوا لعمليات تعذيب وتشويه بشعة. ومن أسف أن الحيز المتاح لا يسمح بعرض تلك الوقائع. لكن مايهمني في هذا السياق أن نتأمل ذلك الوجه المسكوت عليه, ونتدبر شهادة لأحد المعلقين الإسرائيليين, حيمي شليف, الذي كتب في صحيفة معاريف مقالا تحت عنوان سحر القاتل, قال فيه: إن الجمهور الإسرائيلي وان مال إلي تسوية مع الفلسطينيين, إلا أنه يريد زعيما لا يطيقهم, ويملك قدرة ممكنة ومحتملة لضرب العرب حتي نحورهم ـ إلي أن قال: ان الاندفاع والهرولة خلف القاتل منقوشة في طباعنا. وهذا الأمر لم يبدأ مع الانتفاضة, ولا مع اندفاع الموجات الإرهابية!