اشراقة الدعوة
06-10-2010, 05:53 AM
خطبة : حتى تغيروا ما بأنفسكم
فضيلة الشيخ : عبد الوهاب الطريري
الحمدُ لله معزِ من أطاعَه ومذلِ من عصاه.
وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريك له، لا ربَ غيرُه ولا معبودَ بحقٍ سواه.
وأشهد أن محمدا عبدُه ورسوله أفضلَ نبي وأشرفَه وأزكاه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن أتبعَ سنتَه واهتدى بهداه.
أما بعد أيها الناس اتقوا اللهَ حق التقوى.
أمة الإسلامِ وحملةِ الرسالة وأبناءَ العقيدة:
إن وضعَ هذه الأمة وما تعانيه من فواجعَ ومواجعَ، وما تعايشُه من نكباتٍ وإحباطات، والتعثرُ الذي يصاحبُ خطاها، كلُ ذلك أمرُ يشرَحُه الحالُ بأبلغِ من كلِ مقال، ويحسُه كلُ من يعرفُ حقيقةَ هذه الأمةَ وهويتَها ورسالتَها والموقعَ الذي بوئها اللهُ إياه بين الأمم.
أما من كان التقويمُ عندَه متعةَ الأكلِ ولذةُ الرفاهية فله حساباتُه الخاصةَ ونتائجُه الخاصةُ من هذه الحسابات.
وبكلِ حالٍ فإن الحاجةَ إلى تغيير هذا الوضع، وزحزحةَ الأمةَ عن هذه الهاوية، مطلبُ حقُ مُلح لا يحتملُ الانتظارَ ولا التأخير، ولكن هذا التغييرَ لا يهبطُ من السماء، ولا يستوردُ من الأرض ولا يتمُ في أروقةِ الأممِ المتحدة، ولا يستجدىَ بالمساوماتِ التنازلات.
إن التغييرَ خاضعُ لقانونِ إلهي : ( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ).
فالذي يريدُ التغييرَ، ويريدُ إحداثَ التغيير عليه أن يغيرَ هو من داخلِه، عليه أن يغيرَ من نفسه حتى يغير اللهُ ما به.
إن التغيير المطلوبَ في ذواتِ الأنفسِ هو انقلاب، انقلابُ يعيدُ بناء النفوسِ بالإيمان ليحدثَ هذا الإيمانُ أثرَه في التغيير.
ولنُشرف على مثلينِ خالدينِ يريانِ ما يصنع التغييرُ بالإيمانِ في واقعِ الحياة:
أما المثلُ الأول فالقصةُ العجب في قصةِ السحرةِ مع فرعون:
هذه القصةُ التي لا تفنى عجائبُها، السحرةُ الذينَ أتوا إلى فرعونَ باستجداءٍ يقولونَ له:
(أَإِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ).
ويخاطبونَ فرعونَ بعبوديةٍ فيقولون: (وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ).
فلما استبانَ لهم الحقَ وأشرقت لهم الرسالةَ، وآمنت قلوبُهم بعبوديةِ الله، فخالطَ الإيمانُ بشاشةَ القلوب حدثَ تغيرُ عجيبُ وانقلابُ غريبُ فإذا الذين كانوا يقولون بعزةِ فرعون إنا لنحنُ الغالبون، إذا بهم يقولون: (قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ).
وإذا الذينَ كانوا يقولونَ باستجداءٍ: (أَإِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ).
إذا بهم يقولون لفرعونَ باستعلاء : ( فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا).
وإذا بهم يستقبلونَ تهديدَه ووعيدَه: ( لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ).
إذا بهم يستقبلونه قائلين: (قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقلِبُونَ * وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ).
ما الذي نفخ في هذه الروح فاشرأبت واستعلت؟
بل ما المطرُ الذي نزلَ على هذه الأرضِ الهامدةِ فاهتزت وربت وأنبتت من كلِ زوجٍ بهيج؟ إنه الإيمان، الإيمانُ الذي لا يفزعُ ولا يتزعزعُ، الإيمانُ الذي لا يخضعُ ولا يخنعُ، الإيمانُ الذي يطمأنُ إلى النهايةِ فيرضاها، ويستيقنُ من الرجعةِ إلى ربهِ فيطمأنُ إلى جواره، ويقفُ الطغيانُ عاجزا أمام الإيمان، وأمام الوعي، وأمام الاطمئنان.
يقفُ الطغيانُ الفرعونيُ عاجزا أمام القلوبُ التي خُيّل إليه أنه يملكُ الولايةَ عليها كما يملكُ الولايةَ على الرقاب، وأنه يملكُ التصرفَ فيها كما يملكُ التصرفَ في الأجسام، فإذا هي مستعصيةُ عليه.
وماذا يملكُ الطغيانُ إذا رغبتِ القلوبُ في جوارِ الله، وماذا يملكُ الجبروت إذا اعتصمتِ القلوبُ بالله.
واشرف على مثالٍ آخر:
أشرف على مثالٍ خالدٍ يبينُ لك ماذا يحدثُه التغيرُ الإيمانيُ في القلوبِ والنفوس والأممِ والشعوب.
قبلَ بعثةِ النبي (صلى الله عليه وسلم) بثلاثً وستينَ سنةً أرسلَ القيصرُ من الشامِ إلى عملائِه في الحبشة يكلفُهم أن يكلفوا عملائَهم في اليمن بهدمِ الكعبة.
اليمن كانت دولةً عميلةً للحبشة، والحبشةُ كانت دولةً عميلةً للروم، ومر الأمرُ من القيصرِ بهذا المسار كلِه، وسارت الأفيالُ من اليمنِ إلى مكةَ تطأُ أوديةَ العربِ و وِهادَها وشعوبَها وبلادَها لا يردُها رادُ ولا يصُدوها صاد حتى وصِلت إلى منى.
أما أهلُ مكةَ فاستجمعوا كلَ قواهم للفرار إلى رؤؤسَ الجبالِ إلا رجلاً واحدا جاء إلى أبرهةَ يقول: إبلي، أعطوني إبلي، أنا ربُ الإبل وللبيتِ ربُ يحميه.
وبعد سبعين سنةً من هذا الحادثِ انتفضت مكةُ برجالٍ غيروا الجزيرةَ كلَها، فإذا بهم يسيرونَ من الجزيرةِ لا إلى اليمن، فاليمنُ قد فُتحت برسالة، ولا إلى الحبشةَ، ولكن ذهبوا إلى القيصرِ ذاتهِ في بلاده في الشام ليدكوا عرشَه ويقوضوا قوتَه.
ما الذي تغيرَ؟
هل اكتشفَ العربُ سلاحا جديدا؟
أم هل دخلوا في حلفٍ جديد؟
ما الذي جعل الذينَ كانوا يفرونَ أمامَ عملاءَ القيصرِ يغزونَ القيصرَ في عقرِ داره ويقوضونَ قوتَه، وإذا مكةَ التي أنقذتها من أقدامِ الفيلَة معجزةُ إلهيةُ تصبحُ أمنعَ مدينةُ في العالم، ما الذي تغيرَ ؟
لقد تغير العربُ فمات ذلك الإنسانُ الجاهليُ وولد ذاك الإنسانُ المسلمُ، فتغير كلُ شيء: هل تطلبونَ من المختارِ معجزةً..... يكفيه شعبُ من الأجداثِ أحياهم
غيّر العربُ ما بأنفسِهم فغّير اللهُ ما بهم.
إن الوضوحَ في هذين المثلين الخالدين لا يحتاجُ إلى إسهابٍ وشرح.
ولكن ما مدى هدايتِنا نحن إلى هذا التغييرِ على مستوى الأمة ليس على مستوى دولةٍ ولا على مستوى إقليم.
لقد أنهكتِ الأمةُ وهي تجُرجرُ بين إحباطاتِ التجاربُ الشرقيةِ والغربية حتى أصيبتُ الشعوبُ الإسلاميةُ بالدوار دون أن يظهرَ في الأفقِ توجه جادُ ليحدثَ التغييرَ في الأنفسِ وليكونَ التغييرُ إلى الإسلام:
( أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).
جُرجرتِ الأمةُ وامتُحِنت وسُخِرت وقهِرت لتطبقَ عليها أنواعا من النظرياتِ والأيديولوجيات المستوردةَ التي ليست على مقاسِها أبدا.
إنها –أمتي- متاهاتُ من المساراتِ المعوجة، والحلولِ المفلسة، والآمالِ الدنيويةِ التافهة، وصدق الله: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
هذا التذبذبُ في إيديولوجيةِ الحياة أنتجَ تخبطاً وتذبذبا في إستراتيجيةِ التعاملِ مع الأعداء، والعدو المتفقُ عليه هو إسرائيل.
وإن الإحباطَ والتقلباتِ في التعاملِ مع العدو هي نتيجةُ تلقائيةُ للتخبطِ في مناهجِ الحياةِ للأمة.
هُزمتِ الأمةُ في المواجهاتِ العسكرية، لأنهَا كانت مهزومةً في داخلِها، مهزومةً في فكِرها، مهزومةً في وجدانِها، أمةُ مضللةُ مغرّبة.
كانت أحلامُ اليهودِ تقصر عن الواقعِ الذي تحقق، نعم إن الأممَ لا تهزمُ عند خط النار، ولكن تعلنُ هزيمتَها هناك لأنها هُزمت قبل الصدامِ المسلح، هزمت قبلَه بسنوات وبعيدا عن ميدانِ القتال. ( وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ).
إن إنسانَ الهزيمة لا يقوى إلا على وضعِ المزيدِ من الهزائمِ مهما تمنى ومهما ادعى.
إن إنسانَ الهزيمة الذي يتحدثُ عن التغييرِ في كلِ شيء إلا في ذاتِه لا يغيرُ شيئا على الإطلاق، وإن الأمةَ التي تفتشُ عن الخلاصِ في كلِ مكان إلا في ذاتِها تهوي من هزيمةِ إلى هزيمة.
ولذا فإن الحاجةَ ماسةُ إلى الجديةِ في التحولِ إلى منهجٍ إسلاميٍ حقٍ حي، يعيدُ بناءَ الذات، وترميمَ النفسِ، ورصدُ منهجٍ متكاملٍ للحياة له خصوصيتُه وله شموليتُه حَتَّى لاتَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ.
وعندما توجدُ الدعوةُ للإسلام والعودةُ إليه وتحقيقه وتحكيمه فليست تلك دعوةً إلى الدروشةِ والعزلة والسلبيةِ في مواجهةِ الحياةِ والناس، ولكنها الدعوةُ إلى أن نعيشَ حيتَنا ونحنُ نمدُ أعينَنا لمصيرٍ نؤمنُ به يقينا وهو الخلودُ بعد الموت، فإذا هذا الإيمانُ يضبطُ حياتَنا وسلوكياتِنا ومعاملاتِنا.
وأن تعيشَ الأمةُ كي تكونَ على مستوى دينَها، وكي تنجحَ في المحافظةِ عليه، وكي تستطيعَ إفهامَه للآخرين وتقديمَه للأمم.
فلا بد أن تكونَ راسخةَ القدمِ في شؤون الحياةِ كلِها، بل سباقةُ في كل الميادين مسموعةَ الكلمةِ في آفاقِ العلم.
إن الدعوةَ إلى العودةِ إلى الإسلام حقيقةً تعني الدعوةَ إلى التخلصِ من إرثِ التخلفِ الذي تعيشُه الأمة، والذي هو خطيئةُ ترتكبُها الأمةُ في حق نفسِها وحقِ دينِها.
إن أي دعوةِ لإعادةِ بناءِ الذات والعودةِ إلى الهويةِ وتحكيمِ الشريعة، والشموليةَ في تناولِ الدين بعيدا عن أخذِه انتقاءً، وإنما أخذُه كلا، إن الدعوةَ حينئذٍ ينبغي أن يحتفى بها وأن ينظرَ لها على أنها دعوةُ لعصمةِ الأمةِ من الهلاك، وعلى أنها دعوةُ لانتشالِ الأمةِ من الهاوية.
ينبغي أن تسمى الأمورُ بمسميتِها، فهي دعواتُ للإصلاح وليست دعواتِ لزعزعتِ الأمنِ، وليست دعواتِ تنتجُ القيامَ بالأعمالِ التخريبية.
إن الإرجافَ بهذا النوعِ من المسميات هو إرجافُ فرعونيُ سبق إليه فرعونُ يومَ اتهمَ موسى قائلاً: ( إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ).
موسى الذي يأتي بالفساد، ما الفسادُ الذي يعنيه فرعون، إنه فسادُ كيانِه وطغيانِه واستبدادِه وجبروتِه.
يجبُ أن ينظرَ إلى دعواتِ الإصلاح، ودعواتِ تحكيمِ الشريعةِ على أنها دعواتُ تمد طوقَ النجاةِ للأمة، وينبغي أن ينتهيَ ترديدُ العباراتِ الساذجةِ التي استُهلِكت يومَ يُنظرُ إلى كلِ دعوةِ إصلاحٍ أو حركةٍ إلى تحيكمِ الشريعة على أنه اكتُشفت محاولةُ لقلب نظامِ الحكم.
ألم نسأم بعدُ من هذه التهمِ السامجة؟
الدعوةُ إلى تحكيمِ الشريعة يعبرُ عنها باكتشافِ محاولةُ لقلب نظام الحكم، لقد اسُتهلكت هذه الدعاوى، انتهت مدةُ صلاحيتِها، ملتُ الأذنُ من ترديدِها، مجتها الآذانُ وعافتها النفوس، ولكن الخزيَ أن تروجَ هذه التهمٌ الكاسدةِ الفاسدةِ في صحافتنا.
خزيُ تصفعنا به صحافتُنا يوم تكرر ُ التهمةَ الفرعونيةَ مرةً أخرى التي قال فيها فرعونُ لموسى: ( أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ ).
جئتَ يا موسى لقلبِ نظام الحكم، هذه التهمةُ سنظل نرددُها إلى متى، إلى متى توصفُ التوجهاتُ في البلادِ الإسلامية لتحكيمِ الشريعةَ على أنها محاولاتُ لقلب نظامِ الحكم.
إن الدعواتَ إلى تحكيمِ الشريعةَ ينبغي أن تكونَ محل الحفاوة، ومحل الاحترام، وكلُ محاولةٍ بتحكيمِ شرعِ الله ينبغي أن تكون صادرةً من كل قلب، وناطقا بها كلُ لسان:
( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً).
أما هذه السلسلةُ من التهمِ الفاسدةُ الكاسدة، والتي بدأت صحافتُنا تقطرُها علينا تارةً وتغمُرَنا بها حينا، فإننا نردُها إلى الصحافةِ مع التحيةِ ونقولُ انتهت مدةُ صلاحيتِها، فقد جُربت في الستينات والخمسينات أما اليومُ في الناسُ غير الناس والوعي غير الوعي.
اللهم أمبرم لهذه الأمةِ أمر رشدٍ يعزُ فيه أهلُ طاعتِك ويذلُ فيه أهلُ معصيتِك ويؤمرُ فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكرِ وتقالُ فيه كلمةُ الحقِ لا يخشى قائلُها في اللهِ لومةَ لائم وأستغفرُ الله لي ولكم.
فضيلة الشيخ : عبد الوهاب الطريري
الحمدُ لله معزِ من أطاعَه ومذلِ من عصاه.
وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريك له، لا ربَ غيرُه ولا معبودَ بحقٍ سواه.
وأشهد أن محمدا عبدُه ورسوله أفضلَ نبي وأشرفَه وأزكاه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن أتبعَ سنتَه واهتدى بهداه.
أما بعد أيها الناس اتقوا اللهَ حق التقوى.
أمة الإسلامِ وحملةِ الرسالة وأبناءَ العقيدة:
إن وضعَ هذه الأمة وما تعانيه من فواجعَ ومواجعَ، وما تعايشُه من نكباتٍ وإحباطات، والتعثرُ الذي يصاحبُ خطاها، كلُ ذلك أمرُ يشرَحُه الحالُ بأبلغِ من كلِ مقال، ويحسُه كلُ من يعرفُ حقيقةَ هذه الأمةَ وهويتَها ورسالتَها والموقعَ الذي بوئها اللهُ إياه بين الأمم.
أما من كان التقويمُ عندَه متعةَ الأكلِ ولذةُ الرفاهية فله حساباتُه الخاصةَ ونتائجُه الخاصةُ من هذه الحسابات.
وبكلِ حالٍ فإن الحاجةَ إلى تغيير هذا الوضع، وزحزحةَ الأمةَ عن هذه الهاوية، مطلبُ حقُ مُلح لا يحتملُ الانتظارَ ولا التأخير، ولكن هذا التغييرَ لا يهبطُ من السماء، ولا يستوردُ من الأرض ولا يتمُ في أروقةِ الأممِ المتحدة، ولا يستجدىَ بالمساوماتِ التنازلات.
إن التغييرَ خاضعُ لقانونِ إلهي : ( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ).
فالذي يريدُ التغييرَ، ويريدُ إحداثَ التغيير عليه أن يغيرَ هو من داخلِه، عليه أن يغيرَ من نفسه حتى يغير اللهُ ما به.
إن التغيير المطلوبَ في ذواتِ الأنفسِ هو انقلاب، انقلابُ يعيدُ بناء النفوسِ بالإيمان ليحدثَ هذا الإيمانُ أثرَه في التغيير.
ولنُشرف على مثلينِ خالدينِ يريانِ ما يصنع التغييرُ بالإيمانِ في واقعِ الحياة:
أما المثلُ الأول فالقصةُ العجب في قصةِ السحرةِ مع فرعون:
هذه القصةُ التي لا تفنى عجائبُها، السحرةُ الذينَ أتوا إلى فرعونَ باستجداءٍ يقولونَ له:
(أَإِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ).
ويخاطبونَ فرعونَ بعبوديةٍ فيقولون: (وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ).
فلما استبانَ لهم الحقَ وأشرقت لهم الرسالةَ، وآمنت قلوبُهم بعبوديةِ الله، فخالطَ الإيمانُ بشاشةَ القلوب حدثَ تغيرُ عجيبُ وانقلابُ غريبُ فإذا الذين كانوا يقولون بعزةِ فرعون إنا لنحنُ الغالبون، إذا بهم يقولون: (قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ).
وإذا الذينَ كانوا يقولونَ باستجداءٍ: (أَإِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ).
إذا بهم يقولون لفرعونَ باستعلاء : ( فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا).
وإذا بهم يستقبلونَ تهديدَه ووعيدَه: ( لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ).
إذا بهم يستقبلونه قائلين: (قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقلِبُونَ * وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ).
ما الذي نفخ في هذه الروح فاشرأبت واستعلت؟
بل ما المطرُ الذي نزلَ على هذه الأرضِ الهامدةِ فاهتزت وربت وأنبتت من كلِ زوجٍ بهيج؟ إنه الإيمان، الإيمانُ الذي لا يفزعُ ولا يتزعزعُ، الإيمانُ الذي لا يخضعُ ولا يخنعُ، الإيمانُ الذي يطمأنُ إلى النهايةِ فيرضاها، ويستيقنُ من الرجعةِ إلى ربهِ فيطمأنُ إلى جواره، ويقفُ الطغيانُ عاجزا أمام الإيمان، وأمام الوعي، وأمام الاطمئنان.
يقفُ الطغيانُ الفرعونيُ عاجزا أمام القلوبُ التي خُيّل إليه أنه يملكُ الولايةَ عليها كما يملكُ الولايةَ على الرقاب، وأنه يملكُ التصرفَ فيها كما يملكُ التصرفَ في الأجسام، فإذا هي مستعصيةُ عليه.
وماذا يملكُ الطغيانُ إذا رغبتِ القلوبُ في جوارِ الله، وماذا يملكُ الجبروت إذا اعتصمتِ القلوبُ بالله.
واشرف على مثالٍ آخر:
أشرف على مثالٍ خالدٍ يبينُ لك ماذا يحدثُه التغيرُ الإيمانيُ في القلوبِ والنفوس والأممِ والشعوب.
قبلَ بعثةِ النبي (صلى الله عليه وسلم) بثلاثً وستينَ سنةً أرسلَ القيصرُ من الشامِ إلى عملائِه في الحبشة يكلفُهم أن يكلفوا عملائَهم في اليمن بهدمِ الكعبة.
اليمن كانت دولةً عميلةً للحبشة، والحبشةُ كانت دولةً عميلةً للروم، ومر الأمرُ من القيصرِ بهذا المسار كلِه، وسارت الأفيالُ من اليمنِ إلى مكةَ تطأُ أوديةَ العربِ و وِهادَها وشعوبَها وبلادَها لا يردُها رادُ ولا يصُدوها صاد حتى وصِلت إلى منى.
أما أهلُ مكةَ فاستجمعوا كلَ قواهم للفرار إلى رؤؤسَ الجبالِ إلا رجلاً واحدا جاء إلى أبرهةَ يقول: إبلي، أعطوني إبلي، أنا ربُ الإبل وللبيتِ ربُ يحميه.
وبعد سبعين سنةً من هذا الحادثِ انتفضت مكةُ برجالٍ غيروا الجزيرةَ كلَها، فإذا بهم يسيرونَ من الجزيرةِ لا إلى اليمن، فاليمنُ قد فُتحت برسالة، ولا إلى الحبشةَ، ولكن ذهبوا إلى القيصرِ ذاتهِ في بلاده في الشام ليدكوا عرشَه ويقوضوا قوتَه.
ما الذي تغيرَ؟
هل اكتشفَ العربُ سلاحا جديدا؟
أم هل دخلوا في حلفٍ جديد؟
ما الذي جعل الذينَ كانوا يفرونَ أمامَ عملاءَ القيصرِ يغزونَ القيصرَ في عقرِ داره ويقوضونَ قوتَه، وإذا مكةَ التي أنقذتها من أقدامِ الفيلَة معجزةُ إلهيةُ تصبحُ أمنعَ مدينةُ في العالم، ما الذي تغيرَ ؟
لقد تغير العربُ فمات ذلك الإنسانُ الجاهليُ وولد ذاك الإنسانُ المسلمُ، فتغير كلُ شيء: هل تطلبونَ من المختارِ معجزةً..... يكفيه شعبُ من الأجداثِ أحياهم
غيّر العربُ ما بأنفسِهم فغّير اللهُ ما بهم.
إن الوضوحَ في هذين المثلين الخالدين لا يحتاجُ إلى إسهابٍ وشرح.
ولكن ما مدى هدايتِنا نحن إلى هذا التغييرِ على مستوى الأمة ليس على مستوى دولةٍ ولا على مستوى إقليم.
لقد أنهكتِ الأمةُ وهي تجُرجرُ بين إحباطاتِ التجاربُ الشرقيةِ والغربية حتى أصيبتُ الشعوبُ الإسلاميةُ بالدوار دون أن يظهرَ في الأفقِ توجه جادُ ليحدثَ التغييرَ في الأنفسِ وليكونَ التغييرُ إلى الإسلام:
( أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).
جُرجرتِ الأمةُ وامتُحِنت وسُخِرت وقهِرت لتطبقَ عليها أنواعا من النظرياتِ والأيديولوجيات المستوردةَ التي ليست على مقاسِها أبدا.
إنها –أمتي- متاهاتُ من المساراتِ المعوجة، والحلولِ المفلسة، والآمالِ الدنيويةِ التافهة، وصدق الله: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
هذا التذبذبُ في إيديولوجيةِ الحياة أنتجَ تخبطاً وتذبذبا في إستراتيجيةِ التعاملِ مع الأعداء، والعدو المتفقُ عليه هو إسرائيل.
وإن الإحباطَ والتقلباتِ في التعاملِ مع العدو هي نتيجةُ تلقائيةُ للتخبطِ في مناهجِ الحياةِ للأمة.
هُزمتِ الأمةُ في المواجهاتِ العسكرية، لأنهَا كانت مهزومةً في داخلِها، مهزومةً في فكِرها، مهزومةً في وجدانِها، أمةُ مضللةُ مغرّبة.
كانت أحلامُ اليهودِ تقصر عن الواقعِ الذي تحقق، نعم إن الأممَ لا تهزمُ عند خط النار، ولكن تعلنُ هزيمتَها هناك لأنها هُزمت قبل الصدامِ المسلح، هزمت قبلَه بسنوات وبعيدا عن ميدانِ القتال. ( وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ).
إن إنسانَ الهزيمة لا يقوى إلا على وضعِ المزيدِ من الهزائمِ مهما تمنى ومهما ادعى.
إن إنسانَ الهزيمة الذي يتحدثُ عن التغييرِ في كلِ شيء إلا في ذاتِه لا يغيرُ شيئا على الإطلاق، وإن الأمةَ التي تفتشُ عن الخلاصِ في كلِ مكان إلا في ذاتِها تهوي من هزيمةِ إلى هزيمة.
ولذا فإن الحاجةَ ماسةُ إلى الجديةِ في التحولِ إلى منهجٍ إسلاميٍ حقٍ حي، يعيدُ بناءَ الذات، وترميمَ النفسِ، ورصدُ منهجٍ متكاملٍ للحياة له خصوصيتُه وله شموليتُه حَتَّى لاتَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ.
وعندما توجدُ الدعوةُ للإسلام والعودةُ إليه وتحقيقه وتحكيمه فليست تلك دعوةً إلى الدروشةِ والعزلة والسلبيةِ في مواجهةِ الحياةِ والناس، ولكنها الدعوةُ إلى أن نعيشَ حيتَنا ونحنُ نمدُ أعينَنا لمصيرٍ نؤمنُ به يقينا وهو الخلودُ بعد الموت، فإذا هذا الإيمانُ يضبطُ حياتَنا وسلوكياتِنا ومعاملاتِنا.
وأن تعيشَ الأمةُ كي تكونَ على مستوى دينَها، وكي تنجحَ في المحافظةِ عليه، وكي تستطيعَ إفهامَه للآخرين وتقديمَه للأمم.
فلا بد أن تكونَ راسخةَ القدمِ في شؤون الحياةِ كلِها، بل سباقةُ في كل الميادين مسموعةَ الكلمةِ في آفاقِ العلم.
إن الدعوةَ إلى العودةِ إلى الإسلام حقيقةً تعني الدعوةَ إلى التخلصِ من إرثِ التخلفِ الذي تعيشُه الأمة، والذي هو خطيئةُ ترتكبُها الأمةُ في حق نفسِها وحقِ دينِها.
إن أي دعوةِ لإعادةِ بناءِ الذات والعودةِ إلى الهويةِ وتحكيمِ الشريعة، والشموليةَ في تناولِ الدين بعيدا عن أخذِه انتقاءً، وإنما أخذُه كلا، إن الدعوةَ حينئذٍ ينبغي أن يحتفى بها وأن ينظرَ لها على أنها دعوةُ لعصمةِ الأمةِ من الهلاك، وعلى أنها دعوةُ لانتشالِ الأمةِ من الهاوية.
ينبغي أن تسمى الأمورُ بمسميتِها، فهي دعواتُ للإصلاح وليست دعواتِ لزعزعتِ الأمنِ، وليست دعواتِ تنتجُ القيامَ بالأعمالِ التخريبية.
إن الإرجافَ بهذا النوعِ من المسميات هو إرجافُ فرعونيُ سبق إليه فرعونُ يومَ اتهمَ موسى قائلاً: ( إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ).
موسى الذي يأتي بالفساد، ما الفسادُ الذي يعنيه فرعون، إنه فسادُ كيانِه وطغيانِه واستبدادِه وجبروتِه.
يجبُ أن ينظرَ إلى دعواتِ الإصلاح، ودعواتِ تحكيمِ الشريعةِ على أنها دعواتُ تمد طوقَ النجاةِ للأمة، وينبغي أن ينتهيَ ترديدُ العباراتِ الساذجةِ التي استُهلِكت يومَ يُنظرُ إلى كلِ دعوةِ إصلاحٍ أو حركةٍ إلى تحيكمِ الشريعة على أنه اكتُشفت محاولةُ لقلب نظامِ الحكم.
ألم نسأم بعدُ من هذه التهمِ السامجة؟
الدعوةُ إلى تحكيمِ الشريعة يعبرُ عنها باكتشافِ محاولةُ لقلب نظام الحكم، لقد اسُتهلكت هذه الدعاوى، انتهت مدةُ صلاحيتِها، ملتُ الأذنُ من ترديدِها، مجتها الآذانُ وعافتها النفوس، ولكن الخزيَ أن تروجَ هذه التهمٌ الكاسدةِ الفاسدةِ في صحافتنا.
خزيُ تصفعنا به صحافتُنا يوم تكرر ُ التهمةَ الفرعونيةَ مرةً أخرى التي قال فيها فرعونُ لموسى: ( أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ ).
جئتَ يا موسى لقلبِ نظام الحكم، هذه التهمةُ سنظل نرددُها إلى متى، إلى متى توصفُ التوجهاتُ في البلادِ الإسلامية لتحكيمِ الشريعةَ على أنها محاولاتُ لقلب نظامِ الحكم.
إن الدعواتَ إلى تحكيمِ الشريعةَ ينبغي أن تكونَ محل الحفاوة، ومحل الاحترام، وكلُ محاولةٍ بتحكيمِ شرعِ الله ينبغي أن تكون صادرةً من كل قلب، وناطقا بها كلُ لسان:
( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً).
أما هذه السلسلةُ من التهمِ الفاسدةُ الكاسدة، والتي بدأت صحافتُنا تقطرُها علينا تارةً وتغمُرَنا بها حينا، فإننا نردُها إلى الصحافةِ مع التحيةِ ونقولُ انتهت مدةُ صلاحيتِها، فقد جُربت في الستينات والخمسينات أما اليومُ في الناسُ غير الناس والوعي غير الوعي.
اللهم أمبرم لهذه الأمةِ أمر رشدٍ يعزُ فيه أهلُ طاعتِك ويذلُ فيه أهلُ معصيتِك ويؤمرُ فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكرِ وتقالُ فيه كلمةُ الحقِ لا يخشى قائلُها في اللهِ لومةَ لائم وأستغفرُ الله لي ولكم.