موسى بن ربيع البلوي
10-02-2010, 08:42 AM
لغتنا الجميلة (6)
إذا اعترضَت طريقَ العبد عَقَبةٌ كَؤودٌ، أو استَعصى عليه أمرٌ من أمور الدُّنيا، فسبيلُه الصَّبرُ والالتجاءُ إلى الله بالدعاء، وقد علَّمَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم دعاءً تُذلَّل به الصِّعابُ، وتيسَّر به المشاقُّ، وهو قوله: ((اللهُمَّ لا سَهْلَ إلا ما جَعَلتَهُ سَهْلاً، وأنت تَجعَلُ الحَزْنَ إذا شئتَ سَهْلاً)) [أخرجه ابن حبان من حديث أنس]، فالله وَحدَه القادرُ على تَفريج الكُروب، وتيسير العَسير.
والحَزْنُ (بفتح الحاء، وسكون الزاي): ما غَلُظَ من الأرض وخَشُنَ وارتَفَع.
ومعناهُ في هذا الحديث: كلُّ أمر شاقٍّ وَعْر مُتَصَعِّب، وهو ضدُّ السَّهْل الهيِّن.
وما أكثرَ ما يُخطئ الخطباءُ والكَتَبَةُ فيضبطونها: الحَزَن (بفتح الحاء والزاي)، فيُحيلون المعنى عن وجهه المراد؛ لأن الحَزَن كالحُزْن، وهو: الهَمُّ والغَمُّ، ومنه قوله تعالى:{الحَمدُ لله الَّذي أذْهَبَ عنَّا الحَزَن}[فاطر / 34].
ومما يقعُ الوَهَمُ في ضبطه من حديث النبيِّ صلى الله عليه وسلم: قولُه: ((مَطْلُ الغَنيِّ ظُلمٌ)) [متفق عليه من حديث أبي هريرة]، فيقولون: مُطْل (بضم الميم)، والصواب: مَطْل (بفتحها)، والمَطْلُ: هو تأجيلُ مَوعِد الوَفاء بالحقِّ وتَسويفُه مرَّة بعد أُخرى.
وقد عدَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فاعلَ ذلك - مع قُدرته على أداء الحقِّ (من دَيْن، أو أُجْرة، أو مُكافَأة ...) - ظالـمًا، وقد حرَّم الله سبحانه الظُّلمَ على نفسه، وجعَلَه بين الناس مُحرَّمًا، فيا لسوء عاقبة الظَّلَمة من الأثرياء المُوسِرين الذين يَمطُلونَ عمَّالهم وموظَّفيهم حقوقَهم !!
ومنه أيضًا: قولُه صلى الله عليه وسلم: ((لا رُقْيَةَ إلاَّ مِن عَينٍ أو حُمَة)) [أخرجه أحمد من حديث عِمرانَ بن حُصَين] فيضبطونها: حُمَّة (بتشديد الميم)، والحُمَّةُ والحُمَّى بمعنًـى واحد، وهو: ارتفاعُ حرارة الجسم من مَرَضٍ وعِلَّة [من الجذر (ح م م)]، وليس هذا المرادَ في حديثنا، والصوابُ فيها: تخفيفُ الميم، حُمَة [من الجذر (ح م ي)]، وهي: سَمُّ كلِّ ما يَلدَغُ ويَلسَعُ، وتُطلَق أيضًا على الإبْرَة التي بها يُلدَغ ويُلسَع.
- نشرت في مجلَّة الرسالة التي تصدرها الشؤون الدينيَّة بمجموعة الجريسي بالرياض، العدد (26) ، شهر جمادى الآخرة 1425 هـ .
- ونشرت في مجلَّة منارات السعوديَّة، العدد (7)، شهر ربيع الآخر 1426 هـ .
لغتنا الجميلة (7)
تقدَّم في حَلَقات سابقة التنبيهُ على مجموعة من الأخطاء والأوهام التي تقعُ في ضبط بعض ألفاظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبيَّـنَّا خطورةَ الخطأ فيها، وما قد يترتَّب على ذلك من خَلط في المعنى وفساد.
ونَعرضُ في هذه الحَلْقَة لخطأ يقعُ فيه خواصُّ طلبة العلم، بَلْهَ العامَّة، وهو: ضبطُ الفعل (تعجز) في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((المؤمنُ القَويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى الله منَ المؤمن الضَّعيف، وفي كُلٍّ خيرٌ، احرِصْ على ما ينفَعُك، واستعِنْ بالله ولا تَعْجِز، وإن أصابَكَ شيءٌ فلا تقُل: لو أنِّي فعَلتُ كان كذا وكذا، ولكنْ قُل: قَدَرُ الله وما شاءَ فعَل؛ فإنَّ لو تفتحُ عملَ الشيطان)) [أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة].
وقلَّما يُضبَط هذا الفعلُ على الصَّواب، وأكثرُ ما يُضبَط في الكتب رَسمًا، ويَنطِقُ به الخطباءُ والمتكلِّمون لفظًا: (تَعْجَز) بفتح الجيم، وهو خطأٌ مخالفٌ لما نصَّ عليه غيرُ إمام من شُرَّاح كتب السنَّة؛ من أنها: بكسر الجيم؛ لأن الفعلَ (عجز) هنا من العَجْز الذي هو: الضَّعفُ وانقطاعُ الحيلَة دونَ الأمر، فهو بوزن ضَرَبَ، أي: عَجَزَ يَعْجِزُ (بفتح الجيم في الماضي، وكسرها في المضارع).
وأما إذا كان بوزن فَرِحَ، أي: عَجِزَ يَعْجَزُ (بكسر الجيم في الماضي، وفتحها في المضارع) فيكون من العَجيزَة، وهي: مُؤخَّرُ المرأة، يقال: عَجِزَت المرأةُ تَعْجَزُ: إذا عَظُمَت عَجيزَتُـها.
وذهب الفرَّاء إلى أن الفعلَ عَجِزَ (بالكسر) من العَجْز: لغةٌ لبعض قَيْس عَيْلان (قبيلة عربية)، وذهب غيرُه إلى أنها لغةٌ رديئةٌ.
قال الفيُّومي: وهذه اللغةُ غيرُ معروفة عند قَيْس عَيْلان، ونقل عن ابن الأعرابيِّ (وهو أحدُ أئمَّة العربيَّة ورواتها المتقدِّمين) قولَه: لا يُقال عَجِزَ الإنسانُ بالكسر: إلا إذا عَظُمَت عَجيزَتُه.
- نشرت في مجلَّة الرسالة التي تصدرها الشؤون الدينيَّة بمجموعة الجريسي بالرياض، العدد ( 28 ) ، شهر شعبان 1425 هـ .
- ونشرت في مجلَّة منارات السعوديَّة، العدد (9)، شهر جمادى الآخرة 1426 هـ .
لغتنا الجميلة (8)
صَعِدَ خطيبٌ المنبرَ في أول جُمُعةٍ من رمضانَ، وألقى خُطبةً بليغةً عصماءَ، عن فضل شهر الصَّوم، يرغِّب فيها المسلمين باغتنام الشَّهر الكريم بالعبادة والطاعات، ويَحُثُّهُم على الإكثار من النَّوافل والقُرُبات.
وكان مما استشهَدَ به الخطيبُ على فضيلة الصِّيام، قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم : ((الصِّيامُ جُنَّة)) [متفق عليه من حديث أبي هريرة]، ولكنه أخطأ في ضَبطه، وصحَّف نُطقَه، فجعلَه: (جَنَّة) بفتح الجيم، ولم يَفتأ يكرِّر الحديثَ، ويعيدُه مَلحونًا محرَّفًا، يقول: الصِّيامُ جَنَّة، نعم أيها الأُخْوَة، الصِّيامُ جَنَّةٌ عَرضُها السماواتُ والأرضُ، الصِّيامُ جَنَّةٌ فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أُذُنٌ سمعت، ولا خَطَرَ على قلب بشَر. كلُّ هذا وهو يفتح الجيم؛ متوهِّمًا أن المراد في الحديث: الجَنَّة، التي هي دارُ النعيم التي أعدَّها الله في الحياة الآخرة لأهل طاعَته من عباده المؤمنين، جَزاءً وِفاقًا؛ لإحسانهم في الحياة الدُّنيا.
وما إن نزلَ الخطيبُ عن المنبر حتى بادَرَه أحدُ المصلِّين بقوله: ولكنَّ الحديثَ يا شيخنا: ((الصِّيامُ جُنَّة)) بضم الجيم، أي: أنه وِقايَةٌ وسَتْر. فأُسقِطَ في يد الخطيب المسكين، وانقطَعَت دونه مسالكُ الاعتذار، وعَقَدَ لسانَه الاستحياءُ من هذا الموقف الحَرِج العَصيب، الذي لا يُحسَد عليه البتَّة.
ولو أنَّ الخطيبَ اطَّلَع على الروايات الأُخرى للحديث، لكان سَلِمَ مما وَقَعَ فيه، ومن تلك الروايات روايةٌ صريحةٌ بيِّنة، وهي بلفظ: ((الصَّومُ جُنَّةٌ منَ النَّار))، ومن هنا قال الإمامُ ابن العربيِّ المالكيُّ في تفسير الحديث: إنما كانَ الصَّومُ جُنَّةً من النار؛ لأنه إمساكٌ عن الشَّهَوات، والنارُ مَحفوفَةٌ بالشَّهَوات، فالحاصِلُ أنه إذا كَفَّ نفسَه عن الشَّهَوات في الدُّنيا، كان ذلكَ ساتِرًا له من النار في الآخِرة.
- نشرت في مجلَّة الرسالة التي تصدرها الشؤون الدينيَّة بمجموعة الجريسي بالرياض، العدد (29) ، شهر رمضان 1425 هـ .
- ونشرت في مجلَّة منارات السعوديَّة، العدد (12)، شهر رمضان 1426 هـ .
لغتنا الجميلة (9)
حثَّنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على أن نُتبعَ شهرَ الصوم رمضانَ، بصيام ستَّة أيام من شَوَّال، وبيَّن الأجرَ العظيم الذي أعدَّه الله لصائمي تلك الأيام بقوله: ((مَن صامَ رمضانَ، ثم أتبَعَهُ ستًّا من شَوَّالٍ، كانَ كصيامِ الدَّهْرِ)) [أخرجه مسلم من حديث أبي أيوبَ الأنصاري].
ولقد أطلقَ العامَّةُ على هذه الأيام اسمَ: الأيامِ البِيْضِ، وهو خلطٌ منهم ووَهَم؛ ذلك أن الأيامَ الستةَ من شَوَّالٍ لا تسمَّى الأيامَ البِيْضَ، وهذا كغلطهم في إطلاقهم اسمَ صلاة الأوَّابين على ركَعات يُتَنَفَّل بها بين المغرب والعشاء، مع أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم بيَّن لنا في أحاديثَ صريحةٍ: أن صلاةَ الضُّحى هي صلاةُ الأوَّابين.
والصواب: أن أيامَ البِيْضِ التي رغَّبَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في صومها هي: ثلاثةُ أيام محدَّدة من كلِّ شَهر، فعن أبي ذَرٍّ رضي الله عنه قال: أمَرَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن نصومَ من الشهر ثلاثةَ أيامِ البِيْضِ؛ ثلاثَ عشرةَ، وأربعَ عشرةَ، وخمسَ عشرةَ. [أخرجه ابن حبان]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((صيامُ ثلاثةِ أيامٍ من كلِّ شهرٍ صيامُ الدَّهْر، أيامِ البِيْضِ؛ صبيحةَ ثلاثَ عشرةَ، وأربعَ عشرةَ، وخمسَ عشرةَ)) [أخرجه النَّسائي من حديث جَرير بن عبد الله].
وجعلُهم البيضَ صفةً للأيام، في قولهم: الأيامُ البيضُ، غلطٌ أيضًا، والصواب: أيامُ البيضِ، والمراد: أيامُ الليالي البيضِ، وهي الأيامُ الثلاثةُ المذكورةُ في الحديث. وسمِّيت لياليها بيضًا؛ لأن القمرَ يطلُعُ فيها من أوَّلها إلى آخرها.
قال الجَواليقيُّ: من قال: الأيامُ البيضُ، فجعل البيضَ صفةَ الأيام، فقد أخطأ.
قال ابن الأثير: وأكثرُ ما تجيءُ الرواية: الأيامُ البيضُ، والصواب: أيامُ البيضِ بالإضافة؛ لأن البيضَ من صفةِ الليالي.
وقال النَّوويُّ: ويقعُ في كثير من كتب الفقه وغيرها: الأيامُ البيضُ، وهو خطأٌ عند أهل العربيَّة، معدودٌ في لحن العامَّة؛ لأن الأيامَ كلَّها بيضٌ، وإنما صوابه: أيامُ البيضِ.
- نشرت في مجلَّة الرسالة التي تصدرها الشؤون الدينيَّة بمجموعة الجريسي بالرياض، العدد (30)، شهر شوال 1425 هـ.
- ونشرت في مجلَّة منارات السعوديَّة، العدد (13)، شهر شوَّال 1426 هـ.
إذا اعترضَت طريقَ العبد عَقَبةٌ كَؤودٌ، أو استَعصى عليه أمرٌ من أمور الدُّنيا، فسبيلُه الصَّبرُ والالتجاءُ إلى الله بالدعاء، وقد علَّمَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم دعاءً تُذلَّل به الصِّعابُ، وتيسَّر به المشاقُّ، وهو قوله: ((اللهُمَّ لا سَهْلَ إلا ما جَعَلتَهُ سَهْلاً، وأنت تَجعَلُ الحَزْنَ إذا شئتَ سَهْلاً)) [أخرجه ابن حبان من حديث أنس]، فالله وَحدَه القادرُ على تَفريج الكُروب، وتيسير العَسير.
والحَزْنُ (بفتح الحاء، وسكون الزاي): ما غَلُظَ من الأرض وخَشُنَ وارتَفَع.
ومعناهُ في هذا الحديث: كلُّ أمر شاقٍّ وَعْر مُتَصَعِّب، وهو ضدُّ السَّهْل الهيِّن.
وما أكثرَ ما يُخطئ الخطباءُ والكَتَبَةُ فيضبطونها: الحَزَن (بفتح الحاء والزاي)، فيُحيلون المعنى عن وجهه المراد؛ لأن الحَزَن كالحُزْن، وهو: الهَمُّ والغَمُّ، ومنه قوله تعالى:{الحَمدُ لله الَّذي أذْهَبَ عنَّا الحَزَن}[فاطر / 34].
ومما يقعُ الوَهَمُ في ضبطه من حديث النبيِّ صلى الله عليه وسلم: قولُه: ((مَطْلُ الغَنيِّ ظُلمٌ)) [متفق عليه من حديث أبي هريرة]، فيقولون: مُطْل (بضم الميم)، والصواب: مَطْل (بفتحها)، والمَطْلُ: هو تأجيلُ مَوعِد الوَفاء بالحقِّ وتَسويفُه مرَّة بعد أُخرى.
وقد عدَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فاعلَ ذلك - مع قُدرته على أداء الحقِّ (من دَيْن، أو أُجْرة، أو مُكافَأة ...) - ظالـمًا، وقد حرَّم الله سبحانه الظُّلمَ على نفسه، وجعَلَه بين الناس مُحرَّمًا، فيا لسوء عاقبة الظَّلَمة من الأثرياء المُوسِرين الذين يَمطُلونَ عمَّالهم وموظَّفيهم حقوقَهم !!
ومنه أيضًا: قولُه صلى الله عليه وسلم: ((لا رُقْيَةَ إلاَّ مِن عَينٍ أو حُمَة)) [أخرجه أحمد من حديث عِمرانَ بن حُصَين] فيضبطونها: حُمَّة (بتشديد الميم)، والحُمَّةُ والحُمَّى بمعنًـى واحد، وهو: ارتفاعُ حرارة الجسم من مَرَضٍ وعِلَّة [من الجذر (ح م م)]، وليس هذا المرادَ في حديثنا، والصوابُ فيها: تخفيفُ الميم، حُمَة [من الجذر (ح م ي)]، وهي: سَمُّ كلِّ ما يَلدَغُ ويَلسَعُ، وتُطلَق أيضًا على الإبْرَة التي بها يُلدَغ ويُلسَع.
- نشرت في مجلَّة الرسالة التي تصدرها الشؤون الدينيَّة بمجموعة الجريسي بالرياض، العدد (26) ، شهر جمادى الآخرة 1425 هـ .
- ونشرت في مجلَّة منارات السعوديَّة، العدد (7)، شهر ربيع الآخر 1426 هـ .
لغتنا الجميلة (7)
تقدَّم في حَلَقات سابقة التنبيهُ على مجموعة من الأخطاء والأوهام التي تقعُ في ضبط بعض ألفاظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبيَّـنَّا خطورةَ الخطأ فيها، وما قد يترتَّب على ذلك من خَلط في المعنى وفساد.
ونَعرضُ في هذه الحَلْقَة لخطأ يقعُ فيه خواصُّ طلبة العلم، بَلْهَ العامَّة، وهو: ضبطُ الفعل (تعجز) في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((المؤمنُ القَويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى الله منَ المؤمن الضَّعيف، وفي كُلٍّ خيرٌ، احرِصْ على ما ينفَعُك، واستعِنْ بالله ولا تَعْجِز، وإن أصابَكَ شيءٌ فلا تقُل: لو أنِّي فعَلتُ كان كذا وكذا، ولكنْ قُل: قَدَرُ الله وما شاءَ فعَل؛ فإنَّ لو تفتحُ عملَ الشيطان)) [أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة].
وقلَّما يُضبَط هذا الفعلُ على الصَّواب، وأكثرُ ما يُضبَط في الكتب رَسمًا، ويَنطِقُ به الخطباءُ والمتكلِّمون لفظًا: (تَعْجَز) بفتح الجيم، وهو خطأٌ مخالفٌ لما نصَّ عليه غيرُ إمام من شُرَّاح كتب السنَّة؛ من أنها: بكسر الجيم؛ لأن الفعلَ (عجز) هنا من العَجْز الذي هو: الضَّعفُ وانقطاعُ الحيلَة دونَ الأمر، فهو بوزن ضَرَبَ، أي: عَجَزَ يَعْجِزُ (بفتح الجيم في الماضي، وكسرها في المضارع).
وأما إذا كان بوزن فَرِحَ، أي: عَجِزَ يَعْجَزُ (بكسر الجيم في الماضي، وفتحها في المضارع) فيكون من العَجيزَة، وهي: مُؤخَّرُ المرأة، يقال: عَجِزَت المرأةُ تَعْجَزُ: إذا عَظُمَت عَجيزَتُـها.
وذهب الفرَّاء إلى أن الفعلَ عَجِزَ (بالكسر) من العَجْز: لغةٌ لبعض قَيْس عَيْلان (قبيلة عربية)، وذهب غيرُه إلى أنها لغةٌ رديئةٌ.
قال الفيُّومي: وهذه اللغةُ غيرُ معروفة عند قَيْس عَيْلان، ونقل عن ابن الأعرابيِّ (وهو أحدُ أئمَّة العربيَّة ورواتها المتقدِّمين) قولَه: لا يُقال عَجِزَ الإنسانُ بالكسر: إلا إذا عَظُمَت عَجيزَتُه.
- نشرت في مجلَّة الرسالة التي تصدرها الشؤون الدينيَّة بمجموعة الجريسي بالرياض، العدد ( 28 ) ، شهر شعبان 1425 هـ .
- ونشرت في مجلَّة منارات السعوديَّة، العدد (9)، شهر جمادى الآخرة 1426 هـ .
لغتنا الجميلة (8)
صَعِدَ خطيبٌ المنبرَ في أول جُمُعةٍ من رمضانَ، وألقى خُطبةً بليغةً عصماءَ، عن فضل شهر الصَّوم، يرغِّب فيها المسلمين باغتنام الشَّهر الكريم بالعبادة والطاعات، ويَحُثُّهُم على الإكثار من النَّوافل والقُرُبات.
وكان مما استشهَدَ به الخطيبُ على فضيلة الصِّيام، قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم : ((الصِّيامُ جُنَّة)) [متفق عليه من حديث أبي هريرة]، ولكنه أخطأ في ضَبطه، وصحَّف نُطقَه، فجعلَه: (جَنَّة) بفتح الجيم، ولم يَفتأ يكرِّر الحديثَ، ويعيدُه مَلحونًا محرَّفًا، يقول: الصِّيامُ جَنَّة، نعم أيها الأُخْوَة، الصِّيامُ جَنَّةٌ عَرضُها السماواتُ والأرضُ، الصِّيامُ جَنَّةٌ فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أُذُنٌ سمعت، ولا خَطَرَ على قلب بشَر. كلُّ هذا وهو يفتح الجيم؛ متوهِّمًا أن المراد في الحديث: الجَنَّة، التي هي دارُ النعيم التي أعدَّها الله في الحياة الآخرة لأهل طاعَته من عباده المؤمنين، جَزاءً وِفاقًا؛ لإحسانهم في الحياة الدُّنيا.
وما إن نزلَ الخطيبُ عن المنبر حتى بادَرَه أحدُ المصلِّين بقوله: ولكنَّ الحديثَ يا شيخنا: ((الصِّيامُ جُنَّة)) بضم الجيم، أي: أنه وِقايَةٌ وسَتْر. فأُسقِطَ في يد الخطيب المسكين، وانقطَعَت دونه مسالكُ الاعتذار، وعَقَدَ لسانَه الاستحياءُ من هذا الموقف الحَرِج العَصيب، الذي لا يُحسَد عليه البتَّة.
ولو أنَّ الخطيبَ اطَّلَع على الروايات الأُخرى للحديث، لكان سَلِمَ مما وَقَعَ فيه، ومن تلك الروايات روايةٌ صريحةٌ بيِّنة، وهي بلفظ: ((الصَّومُ جُنَّةٌ منَ النَّار))، ومن هنا قال الإمامُ ابن العربيِّ المالكيُّ في تفسير الحديث: إنما كانَ الصَّومُ جُنَّةً من النار؛ لأنه إمساكٌ عن الشَّهَوات، والنارُ مَحفوفَةٌ بالشَّهَوات، فالحاصِلُ أنه إذا كَفَّ نفسَه عن الشَّهَوات في الدُّنيا، كان ذلكَ ساتِرًا له من النار في الآخِرة.
- نشرت في مجلَّة الرسالة التي تصدرها الشؤون الدينيَّة بمجموعة الجريسي بالرياض، العدد (29) ، شهر رمضان 1425 هـ .
- ونشرت في مجلَّة منارات السعوديَّة، العدد (12)، شهر رمضان 1426 هـ .
لغتنا الجميلة (9)
حثَّنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على أن نُتبعَ شهرَ الصوم رمضانَ، بصيام ستَّة أيام من شَوَّال، وبيَّن الأجرَ العظيم الذي أعدَّه الله لصائمي تلك الأيام بقوله: ((مَن صامَ رمضانَ، ثم أتبَعَهُ ستًّا من شَوَّالٍ، كانَ كصيامِ الدَّهْرِ)) [أخرجه مسلم من حديث أبي أيوبَ الأنصاري].
ولقد أطلقَ العامَّةُ على هذه الأيام اسمَ: الأيامِ البِيْضِ، وهو خلطٌ منهم ووَهَم؛ ذلك أن الأيامَ الستةَ من شَوَّالٍ لا تسمَّى الأيامَ البِيْضَ، وهذا كغلطهم في إطلاقهم اسمَ صلاة الأوَّابين على ركَعات يُتَنَفَّل بها بين المغرب والعشاء، مع أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم بيَّن لنا في أحاديثَ صريحةٍ: أن صلاةَ الضُّحى هي صلاةُ الأوَّابين.
والصواب: أن أيامَ البِيْضِ التي رغَّبَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في صومها هي: ثلاثةُ أيام محدَّدة من كلِّ شَهر، فعن أبي ذَرٍّ رضي الله عنه قال: أمَرَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن نصومَ من الشهر ثلاثةَ أيامِ البِيْضِ؛ ثلاثَ عشرةَ، وأربعَ عشرةَ، وخمسَ عشرةَ. [أخرجه ابن حبان]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((صيامُ ثلاثةِ أيامٍ من كلِّ شهرٍ صيامُ الدَّهْر، أيامِ البِيْضِ؛ صبيحةَ ثلاثَ عشرةَ، وأربعَ عشرةَ، وخمسَ عشرةَ)) [أخرجه النَّسائي من حديث جَرير بن عبد الله].
وجعلُهم البيضَ صفةً للأيام، في قولهم: الأيامُ البيضُ، غلطٌ أيضًا، والصواب: أيامُ البيضِ، والمراد: أيامُ الليالي البيضِ، وهي الأيامُ الثلاثةُ المذكورةُ في الحديث. وسمِّيت لياليها بيضًا؛ لأن القمرَ يطلُعُ فيها من أوَّلها إلى آخرها.
قال الجَواليقيُّ: من قال: الأيامُ البيضُ، فجعل البيضَ صفةَ الأيام، فقد أخطأ.
قال ابن الأثير: وأكثرُ ما تجيءُ الرواية: الأيامُ البيضُ، والصواب: أيامُ البيضِ بالإضافة؛ لأن البيضَ من صفةِ الليالي.
وقال النَّوويُّ: ويقعُ في كثير من كتب الفقه وغيرها: الأيامُ البيضُ، وهو خطأٌ عند أهل العربيَّة، معدودٌ في لحن العامَّة؛ لأن الأيامَ كلَّها بيضٌ، وإنما صوابه: أيامُ البيضِ.
- نشرت في مجلَّة الرسالة التي تصدرها الشؤون الدينيَّة بمجموعة الجريسي بالرياض، العدد (30)، شهر شوال 1425 هـ.
- ونشرت في مجلَّة منارات السعوديَّة، العدد (13)، شهر شوَّال 1426 هـ.