مشاهدة النسخة كاملة : الدرس الأول من دروس الحج
محمد مطلق المعيقلي
10-28-2010, 05:44 PM
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :
فسوف أضع بين أيديكم كتاب الحج من كتاب الملخص الفقهي لمعالي الشيخ العلامة صالح الفوزان حفظه الله وسأقسمه إلى عدة دروس ليسسهل القارئ .
كتاب الحج
باب في الحج وعلى من يجب
الحج هو أحد أركان الإسلام ومبانيه العظام.
قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} ، أي: لله على الناس فرض واجب هو حج البيت؛ لأن كلمة {على} للإيجاب، وقد أتبعه بقوله جل وعلا: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} ؛ فسمى الله تعالى تاركه كافرًا، وهذا مما يدل على وجوبه وآكديته، فمن لم يعتقد وجوبه؛ فهو كافر بالإجماع.
وقال تعالى لخليله: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجّ} .
وللترمذي وغيره وصححه عن علي رضي الله عنه مرفوعا: "من ملك زادًا وراحلة تبلغه إلى بيت الله، ولم يحج؛ فعليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا".
وقال صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا" ، والمراد ب "السبيل" توفر الزاد ووسيلة النقل التي توصله إلى البيت ويرجع بها إلى أهله.
والحكمة في مشروعية الحج هي كما بينها الله تعالى بقوله: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} إلى قوله: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} ؛ فالمنفعة من الحج ترجع للعباد ولا ترجع إلى الله تعالى ؛ لأنه {غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} ؛ فليس به حاجة إلى الحجاج كما يحتاج الخلوق إلى من يقصده ويعظمه، بل العباد بحاجة إليه؛ فهم يقدون إليه لحاجتهم إليه.
والحكمة في تأخير فريضة الحج عن الصلاة والزكاة والصوم؛ لأن الصلاة عماد الدين، ولتكررها في اليوم والليلة خمس مرات، ثم الزكاة لكونها قرينة لها في كثير من المواضع، ثم الصوم لتكرره كل سنة.
وقد فرض الحج في الإسلام سنة تسعة من الهجرة كما هو قول الجمهور، ولم يحج النبي صلى الله عليه وسلم إلا حجة واحدة هي حجة الوداع، وكانت سنة عشر من الهجرة، واعتمر صلى الله عليه وسلم أربع عمر.
والمقصود من الحج والعمرة عبادة الله في البقاع التي أمر الله بعبادته فيها، قال صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل رمي الجمار والسعي بين الصفا والمروة لإقامة ذكر الله".
والحج فرض بإجماع المسلمين، وركن من أركان الإسلام، وهو فرض في العمر مرة على المستطيع، وفرض كفاية على المسلمين كل عام، وما زاد على حج الفريضة في حق أفراد المسلمين؛ فهو تطوع.
وأما العمرة؛ فواجبة على قول كثير من العلماء؛ بدليل قوله صلى الله عليه وسلم لما سئل: هل على النساء من جهاد ؟ قال: "نعم؛ عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة" ، رواه أحمد وابن ماجه بإسناد صحيح.
وإذا ثبت وجوب العمرة على النساء فالرجال أولى.
وقال صلى الله عليه وسلم للذي سأله، فقال: أبي شيخ كبير، لا يستطيع الحج والعمرة ولا الظعن ؟ فقال: "حج عن أبيك واعتمر" ، رواه الخمسة وصححه الترمذي.
فيجب الحج والعمرة على المسلم مرة واحدة في العمر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "الحج مرة، فمن زاد فهو تطوع" ، ورواه أحمد وغيره.
وفي "صحيح مسلم" وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: "أيها الناس! قد فرض عليكم الحج، فحجوا"، فقال رجل: أكل عام ؟ فقال: "لو قلت: نعم؛ لوجبت، ولما استطعتم".
ويجب على المسلم أن يبادر بأداء الحج الواجب مع الإمكان، ويأثم إن أخره بلا عذر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "تعجلوا إلى الحج"يعني: الفريضة"، فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له" ، رواه أحمد.
وإنما يجب الحج بشروط خمسة: الإسلام، والعقل، والبلوغ، والحرية، والاستطاعة، فمن توفرت فيه هذه الشروط؛ وجب عليه المبادة بأداء الحج.
ويصح فعل الحج والعمرة من الصبي نفلاً؛ لحديث ابن عباس: أن امرأة رفعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم صبيا: ألهذا حج ؟ قال: "نعم، ولك أجر" ، رواه مسلم.
وقد أجمع أهل العلم على أن الصبي إذا حج قبل أن يبلغ؛ فعليه الحج إذا بلغ واستطاع، ولا تجزئه تلك الحجة عن حجة الإسلام، وكذا عمرته.
وإن كان الصبي دون التمييز؛ عقد عنه الإحرام وليه؛ بأن ينويه عنه، ويجنبه المحظورات، ويطوف ويسعى به محمولاً، ويستصحبه في عرفة ومزدلفة ومنى، ويرمي عنه الجمرات.
وإن كان الصبي مميزًا؛ نوى الإحرام بنفسه بإذن وليه، ويؤدي ما قد عليه من مناسك الحج، وما عجز عنه؛ يفعله عنه وليه؛ كرمي الجمرات، ويطاف به راكبا أو محمولاً إن عجز عن المشي.
وكل ما أمكن الصغير مميزًا كان أو دونه فعله كالوقوف والمبيت؛ لزمه فعله؛ بمعنى أنه لا يصح أن يفعل عنه؛ لعدم الحاجة لذلك، ويجتنب في حجه ما يجتنب الكبير من المحظورات.
والقادر على الحج هو الذي يتمكن من أدائه جسميا وماديّا؛ بأن يمكنه الركون، ويتحمل السفر، ويجد من المال بلغته التي تكفيه ذهابا وإيابا، ويجد أيضا ما يكفي أولاده ومن تلزمه نفقتهم إلى أن يعود إليهم، ولا بد أن يكون ذلك بعد قضاء الديون والحقوق التي عليه، وبشرط أن يكون طريقه إلى الحج آمنا على نفسه وماله.
فإن قدر بماله دون جسمه، بأن كان كبيرًا هرما أو مريضا مرضا مزمنا لا يرجى برؤه؛ لزمه أن يقيم من يحج عنه ويعتمر حجة وعمرة
الإسلام من بلده أو من البلد الذي أيسر فيه؛ لما رواه ابن عباس رضي الله عنهما؛ أن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله! إن أبي أدركته فريضة الله في الحج شيخا كبيرًا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة؛ أفأحج عنه ؟ قال: "حجي عنه"، متفق عليه.
ويشترط في النائب عن غيره في الحج أن يكون قد حج عن نفسه حجة الإسلام؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما ؛ أنه صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة، قال: "حججت عن نفسك؟" ، قال: لا، قال: "حج عن نفسك" ، إسناده جيد، وصححه البيهقي.
ويعطى النائب من المال ما يكفيه تكاليف السفر ذهابا وإيابا، ولا تجوز الإجارة على الحج، ولا أن يتخذ ذريعة لكسب المال، وينبغي أن يكون مقصود النائب نفع أخيه المسلم، وأن يحج بيت الله الحرام ويزور تلك المشاعر العظام، فيكون حجة لله لا لأجل الدنيا، فإن حج لقصد المال؛ فحجه غير صحيح.
نواف النجيدي
10-28-2010, 05:54 PM
كتب الله أجركم ..
ورفع الله قدركم ..
اشراقة الدعوة
10-28-2010, 10:12 PM
جزاكم الله خيرا.
محمد مطلق المعيقلي
10-29-2010, 09:09 PM
باب في شروط وجوب الحج على المرأة واحكام النيابة
الحج يجب على المسلم ذكرًا كان أم أنثى، لكن يشترط لوجوبه على المرأة زيادة عما سبق من الشروط وجود المحرم الذي يسافر معها لأدائه؛ لأنه لا يجوز لها السفر لحج ولا لغيره بدون محرم:
لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تسافر المرأة إلا مع محرم، ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم" ، رواه أحمد بإسناد صحيح.
وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: إني أريد أن أخرج في جيش كذا، وامرأتي تريد الحج؟ فقال: "اخرج معها" .
وفي "الصحيحين": إن امرأتي خرجت حاجة وإني اكتتبت في عزوة كذا ؟ قال:: "انطلق فحج مع امرأتك".
وفي "الصحيح" وغيره: "لا يحل لامرأة تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها محرم".
فهذه جملة نصوص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحرم على المرأة أن تسافر بدون محرم يسافر معها سواء كان السفر للحج أو لغيره، وذلك لأجل سد الذريعة عن الفساد والافتتان منها وبها.
قال الإمام أحمد رحمه الله: "المحرم من السليل، فمن لم يكن لها محرم؛ لم يلزمها الحج بنفسها ولا بنائبها".
ومحرم المرأة هو: زوجها، أو من يحرم عليه نحكاحها تحريما مؤبدًا بنسب؛ كأخيها وأبيها وعمها وابن أخيها وخالها، أو حرم عليه بسبب مباح؛ كأخ من رضاع أو مصاهرة كزوج أمها وابن زوجها؛ لما في "صحيح مسلم": "لا يحل لامرأة تؤمن بالله أن تسافر غلا ومعها أوبها أو ابنها أو زوجها أو ذو محرم منها".
ونفقة محرمها في السفر عليها، فيشترط لوجوب الحج عليها أن تملك ما ينفق عليها وعلى محرمها ذهابا وإيابا.
ومن وجدت محرما، وفرّطت بالتأخير حتى فقدته مع قدرتها المالية؛ انتظرت حصوله، فإن أيست من حصوله؛ استنابت من يحج عنها.
ومن وجب عليه الحج ثم مات قبل الحج؛ أخرج من تركته من رأس المال المقدار الذي يكفي للحج، واستنيب عنه من يؤديه عنه؛ لما روى البخاري عن ابن عباس؛ أن امرأة قالت: يا رسول الله! إن أمي نذرت أن تحج، فلم تحج حتى ماتت؛ أفأحج عنها ؟ قال: "نعم؛ حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته ؟ أقضوا الله؛ فالله أحق بالوفاء" ؛ فدل الحديث على أن من مات وعليه حج؛ وجب على ولده أو وليه أن يحج عنه أو يجهز من يحج عنه من رأس مال الميت، كما يجب على وليه قضاء ديونه، وقد أجمعوا على أن دين الآدمي يقضي من رأس ماله؛ فكذا ما شبه به في القضاء، وفي حديث آخر: "إن أختي نذرت أن تحج"، وفي "سنن الدارقطني": "إن أبي مات وعليه حجة الإسلام"، وظاهره أنه لا فرق بين الواجب بأصل الشرع والواجب بإيجابه على نفسه، سواء أوصى به أم لا.
والحج عن الغير يقع عن المحجوج عنه كأنه فعله بنفسه، ويكون الفاعل بمنزلة الوكيل، والنائب ينوي الإحرام عنه، ويلبي عنه، ويكفيه أن ينوي النسك عنه، ولو لم يسمه في اللفظ، وإن جهل اسمه أو نسبه؛ لبى عمن سلم إليه المال ليحج عنه به.
ويستحب للمسلم أن يحج عن أبويه إن كانا ميتين أو حيين عاجزين عن الحج، ويقدم أمه؛ لأنها أحق بالبر.
محمد مطلق المعيقلي
10-29-2010, 09:18 PM
باب في فضل الحج والاستعداد له
الحج فيه فضل عظيم وثواب جزيل:
روى الترمذي وصححه عن ابن مسعود مرفوعا: "تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحج المبرور ثواب إلا الجنة".
وفي "الصحيح" عن عائشة ح قالت: نرى الجهاد أفضل العمل؛ أفلا نجاهد؟ قال: "لكن أفضل الجهاد حج مبرور" .
والحج المبرور هو الذي لا يخالطه شيء من الإثم وقد كملت أحكامه، فوقع على الوجه الأكمل، وقيل: هو المتقبل.
فإذا استقر عزمه على الحج، فليتب من جميع المعاصي، ويخرج من المظالم بردها إلى أهلها، ويرد الودائع والعواري والديون التي عنده للناس، ويستحل من بينه وبينه ظلامة، ويكتب وصيته، ويوكل من يقضي ما لم يتمكن من قضائه من الحقوق التي عليه، ويؤمن لأولاده ومن تحت يده ما يكفيهم من النفقة إلى حين رجوعه، ويحرص أن تكون نفقته حلالاً، ويأخذ من الزاد والنفقة ما يكفيه؛ ليستغني عن الحاجة إلى غيره ويكون زاده طيبا، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُم} ، ويجتهد في تحصيل رفيق صالح عونا له على سفره وأداء نسكه؛ يهديه إذا ضل، ويذكره إذا نسي.
ويجب تصحيح النية بأن يريد بحجه وجه الله، ويستعمل الرفق وحسن الخلق، ويجتنب المخاصمة ومضايقة الناس في الطريق، ويصون لسانه عن الشتم والغيبة وجميع ما لا يرضاه الله ورسوله.
باب في مواقيت الحج
المواقيت: جمع ميقات، وهو لغة: الحد، وشرعا: هو موضع العبادة أو زمنها.
وللحج مواقيت زمنية ومكانية:
فالزمنية: ذكرها الله بقوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجّ} ، وهذه الأشهر هي: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة؛ أي: من أحرم بالحج في هذه الأشهر؛ فعليه أن يتجنب ما يخل بالحج من الأقوال والأفعال الذميمة، وأن يشتغل في أفعال الخير، ويلازم التقوى.
وأما المواقيت المكانية: فهي الحدود التي لا يجوز للحاج أن يتعداها إلى مكة بدون إحرام.
وقد بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم، هن لهن ولمن أتى ليهن من غير أهلن ممن أراد الحج أو العمرة، ومن كان دون ذلك؛ فمن حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة" ، متفق عليه، ولمسلم من حديث جابر: "ومهل أهل العراق ذات عرق".
والحكمة من ذلك: أنه لما كان بيت الله الحرام معظما مشرفا؛ جعل الله له حصنا وهو مكة، وحمى وهو الحرم، وللحرم حرم وهو المواقيت التي لا يجوز تجاوزها إليه إلا بإحرام؛ تعظيما لبيت الله الحرام.
وأبعد هذه المواقيت: ذو الحليفة، ميقات أهل المدينة، فبينه وبين مكة مسيرة عشرة أيام.
وميقات أهل الشام ومصر والمغرب: الجحفة، قرب رابغ، وبينها وبن مكة ثلاث مراحل، وبعضهم يقول أكثر من ذلك.
وميقات أهل اليمن: يلملم، بينه وبين مكة مرحلتان، وميقات أهل نجد قرن المنازل، ويعرف الآن بالسيل، وهو مرحلتان عن مكة.
وميقات أهل العراق وأهل المشرق: ذات عرق، بينه وبين مكة مرحلتان.
فهذه المواقيت يحرم منها أهلها المذكورون، ويحرم منها من مر بها من غيرهم وهو يريد حجّاً أو عمرة.
ومن كان منزله دون المواقيت؛ فإنه يحرم من منزله للحج والعمرة، ومن حج من أهل مكة؛ فإنه يحرم من مكة، فلا يحتاجون إلى الخروج للميقات للإحرام منه بالحج، وأما العمر؛ فيخرجون لإحرام بها من أدنى الحل.
ومن لم يمر بميقات في طريقه من تلك المواقيت؛ أحرم إذا علم انه حاذى أقربها منه، يقول عمر رضي الله عنه: "انظروا إلى حذوها من طريقكم" رواه البخاري.
وكذا من ركب طائرة؛ فإنه يحرم إذا حاذى أحد هذه المواقيت من الجو؛ فينبغي له أن يتهيأ بالاغتسال والتنظف قبل ركوب الطائرة؛ فإذا حاذى الميقات؛ نوى الإحرام، ولبى وهو في الجو، ولا يجوز له تأخير الإحرام إلى أن يهبط في مطار جدة، فيحرم من جدة أو من بحرة كما يفعل بعض الحجاج؛ فإن جدة ليس ميقاتا محلاً للإحرام؛ إلا لأهلها أو من نوى الحج أو العمرة منها، فمن أحرم منها من غيرهم؛ فقد ترك واجبا هو الإحرام من الميقات، فيكون عليه فدية.
وهذا مما يخطىء فيه كثير من الناس، فيجب التنبيه عليه، فبعضهم يظن أنه لابد من الاغتسال للإحرام، فيقول: أنا لا أتمكن من الاغتسال في الطائرة، ولا أتمكن من كذا وكذا...
والواجب أن يعلم هؤلاء بأن الإحرام معناه نية الدخول في المناسك مع تجنب محظورات الإحرام حسب الإمكان، والاغتسال والتطيب ونحوهما إنما هي سنن، وبإمكان المسلم أن يفعلها قبل ركوب الطائرة، وإن أحرم بدونها؛ فلا بأس فينوي الإحرام، ويلبي وهو على مقعده في الطائرة إذا حاذى الميقات أو قبله بقليل، ويعرف ذلك بسؤال الملاحين والتحري والتقدير، فإذا فعل ذلك؛ فقد أدى ما يستطيع، لكن إذا تساهل ولم يبال؛ فقد أخطأ وترك الواجب من غير عذر؛ وهذا ينقص حجه وعمرته.
ويجب على من تعدى الميقات بدون إحرام أن يرجع إليه ويحرم منه؛ لأنه واجب يمكنه تداركه؛ فلا يجوز تركه، فإن لم يرجع؛ فأحرم من دونهم جدة أو غيرها؛ فعليه فدية؛ بأن يذبح شاة، أو يأخذ سبع بدنة، أو سبع بقرة، ويوزع ذلك على مساكين الحرم، ولا يأكل منه شيئا.
فيجب على المسلم أن يهتم بأمور دينه؛ بأن يؤدي كل عبادة على الوجه المشروع، ومن ذلك الإحرام للحج والعمرة، يجب أن يكون من المكان الذي عيّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيتقيد به المسلم، ولا يتعداه غير محرم.
محمد مطلق المعيقلي
10-29-2010, 09:25 PM
باب في كيفية الإحرام
أول مناسك الحج هو الإحرام، وهو نية الدخول في النسك، سمى بذلك لأن المسلم يحرم على نفسه بنيته ما كان مباحا له قبل الإحرام من النكاح والطيب وتقليم الأظافر وحلق الرأس وأشياء من اللباس.
قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله: "لا يكون الرجل محرما بمجرد ما في قلبه من قصد الحج ونيته؛ فإن القصد ما زال في القلب منذ خرج من بلده، بل لا بد من قول أو عمل يصير به محرما" انتهى.
وقبل الإحرام يستحب التهيؤ له بفعل أشياء يستقبل بها تلك العبادة العظيمة، وهى:
أولاً: الاغتسال بجميع بدنه؛ فإنه صلى الله عليه وسلم اغتسل لإحرامه، ولأن ذلك أعم وأبلغ في التنظيف وإزالة الرائحة، والاغتسال عند الإحرام مطلوب، حتى من الحائض والنفساء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أسماء بنت عميس وهي نفساء أن تغتسل، رواه مسلم، وأمر صلى الله عليه وسلم عائشة أن تغتسل للإحرام وهي حائض، والحكمة في هذا الاغتسال هي التنظيف وقطع الرائحة الكريهة وتخفيف الحدث من الحائض والنفساء.
ثانيا: يستحب لمن يريد الإحرام التنظيف؛ بأخذ ما يشرع أخذه من الشعر؛ كشعر الشارب والإبط والعانة؛ مما يحتاج إلى أخذه؛ لئلا يحتاج إلى أخذه في إحرامه فلا يتمكن منه، فإن لم يحتج إلى أخذ شيء من ذلك؛ لم يأخذه؛ لأنه إنما يفعل عند الحاجة، وليس هو من خصائص الإحرام، لكنه مشروع بحسب الحاجة.
ثالثا: يستحب لمن الإحرام أن يتطيب في بدنه بما تيسر من أنواع الطيب؛ كالمسك، والبخور، وماء الورد، والعود؛ لقول عائشة رضي الله عنها: "كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطرف بالبيت".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إن شاء المحرم أن يتطيب في بدنه؛ فهو حسن، ولا يؤمر المحرم قبل الإحرام بذلك؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم فعله ولم يأمر به الناس".
رابعا: يستحب للذكر قبل الإحرام أن يتجرد من المخيط، وهو كل ما يخاط على قدر الملبوس عليه أو على بعضه كالقميص والسراويل؛ لأنه صلى الله عليه وسلم تجرّد لإهلاله، ويستبدل الملابس المخيطة بإزار ورداء أبيضين نظيفين، ويجوز بغير الأبيضين مما جرت عادة الرجال بلبسه.
والحكمة في ذلك أنه يبتعد عن الترفه، ويتصف بصفة الخاشع الذليل، وليتذكر بذلك أنه محرم في وقت، فيتجنب محظورات الإحرام، وليتذكر الموت، ولباس الأكفان، ويتذكر البعث والنشور... إلى غير ذلك من الحكم.
والتجرد عن المخيط قبل نية الإحرام سنة، أما بعد نية الإحرام؛ فهو واجب.
ولو نوى الإحرام وعليه ثيابه المخيطة؛ صح إحرامه ووجب عليه نزع المخيط.
فإذا أتم هذه الأعمال؛ فقد تهيأ للإحرام، وليس فعل هذه الأمور إحراما كما يظن كثير من العوام؛ لأن الإحرام هو نية الدخول والشروع في النسك؛ فلا يصير محرما بمجرد التجرد من المخيط ولبس ملابس الإحرام من غير نية الدخول في النسك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات".
أما الصلاة قبل الإحرام؛ فالأصح أنه ليس للإحرام صلاة تخصه، لكن إن صادف وقت فريضة؛ أحرم بعدها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أهل دبر الصلاة، وعن أنس أنه صلى الظهر ثم ركب راحلته.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: "ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى للإحرام ركعتين غير فرض الظهر".
وهنا تنبيه لا بد منه:
وهو أن كثيرًا من الحجاج يظنون أنه لا بد أن يكون الإحرام من المسجد المبني في الميقات، فتجدهم يهرعون إليه رجالاً ونساءً، ويزدحمون فيه، وربما يخلعون ثيابهم ويلبسون ثياب الإحرام فيه، وهذا لا أصل له، والمطلوب من المسلم أن يحرم من الميقات، في أي بقعة منه، لا في محل معين، بل يحرم حيث تيسر له، وما هو أرفق به وبمن معه، وفيما هو أستر له وأبعد عن مزاحمة الناس، وهذه المساجد التي في المواقيت لم تكن موجودة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم تبن لأجل الإحرام منها، وإنما بنيت لإقامة الصلاة فيها ممن هو ساكن حولها، هذا ما أردنا التنبيه عليه، والله الموفق.
ويخبر أن يحرم بما شاء من الأنساك الثلاثة، وهي: التمتع، والقرآن، والإفراد: ف "التمتع": أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج، ويفرغ منها، ثم يحرم بالحج في عامه.
و "الإفراد": أن يحرم بالحج فقط من الميقات، ويبقى على إحرامه حتى يؤدي أعمال الحج.
و "القرآن": أن يحرم بالعمرة والحج معا، أو يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج قبل شروعه في طوافها، فينوي العمرة والحج من الميقات أو قبل الشروع في طواف العمرة، ويطوف لهما ويسعى.
وعلى المتمتع والقارن فدية إن لم يكن من حاضري المسجد الحرام.
وأفضل هذه الأنساك الثلاثة التمتع؛ لأدلة كثيرة.
فإذا أحرم هذه الأنساك، لبى عقب إحرامه، فيقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، يكثر من التلبية، ويرفع بها صوته.
باب في محظورات الإحرام
محظورات الإحرام هي المحرمات التي يجب على المحرم تجنبها بسبب الإحرام.
وهذه المحظورات تسعة أشياء:
المحظور الأول: حلق الشعر: فيحرم على المحرم إزالته من جميع بدنه بلا عذر بحلق أو نتف أو قلع؛ لقوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّه} ؛ فنص تعالى على حلق الرأس، ومثله شعر البدن وفاقا؛ لأنه في معناه، ولحصول الترفه بإزالته؛ فإن حلق الشعر يؤذن بالرفاهية، وهي تنافي الإحرام؛ لأن المحرم يكون أشعث أغبر، فإن خرج بعينه شعر؛ أزاله ولا فدية عليه؛ لأنه شعر في غير محله، ولأنه أزال مؤذيا.
المحظور الثاني: تقليم الأظافر أو قصها من يد أو رجل بلا عذر: فإن انكسر ظفره فأوالها أو زال مع جلد؛ فلا فدية علية؛ لأنه زال بالتبعية لغيره، والتابع لا يفرد بحكم.
بخلاف ما إذا حلق شعره لقمل أو صدع؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}،ولحديث كعب ابن عجرة؛ قال: بي أذى من رأسي، فحملت إلى صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهه، فقال: "ما كنت أرى الجهد يبلغ بك ما أرى، تجد شاة ؟" ، قلت: لا، فنزلت: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} ، قال: "هو صوم ثلاثة أيام أو طعام ستة مساكين أو ذبح شاة" ، متفق عليه، وذلك الأذى حصل من غير الشعر، وهو القمل.
ويباح للمحرم غسل شعره بسدر ونحوه؛ ففي "الصحيحين" عنه صلى الله عليه وسلم أنه غسل رأسه وهو محرم، ثم حرك رأسه بيديه، فأقبل بهما وأدبر.
قال الشيخ تقي الدين رحمه الله: "له أن يغتسل من الجنابة بالاتفاق [يعني: إذا احتلم وهو محرم]، وكذا لغير الجنابة".
المحظور الثالث: تغطية رأس الذكر؛ لنهيه صلى الله عليه وسلم عن لبس العمائم والبرانس.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: "كل متصل ملامس يراد لستر الرأس كالعمامة والقبعة والطاقية وغيرها ممنوع بالاتفاق" انتهى.
وسواء كان الغطاء معتادًا كعمامة أم لا كقرطاس وطين وحناء أو عصابة.
وله أن يستظل بخيمة أو شجرة أو بيت؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ضربت له خيمه فنزل بها وهو محرم، وكذا يجوز للمحرم الاستظلال بالشمسية عند الحاجة، ويجوز له ركوب السيارة المسقوفة، ويجوز له أن يحمل على رأسه متاعا لا يقصد به التغطية.
المحظور الرابع: لبس الذكر المخيط على بدنه أو بعضه من قميص أو عمامة أو سراويل، وما عمل قدر العضو؛ كالخفين والقفازين والجوارب؛ لما في "الصحيحين"، أنه صلى الله عليه وسلم سئل: ما يلبس المحرم ؟ قال: "لا يلبس القميص، ولا العمامة، ولا البرانس، ولا السراويل، ولا ثوبا مسه ورس ولا زعفران، ولا الخفين".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "النبي صلى الله عليه وسلم نهى المحرم أن يلبس القميص والبرانس والسراويل والخف والعمامة، ونهاهم أن يغطوا رأس المحرم بعد الموت، وأمر من أحرم في جبة أن ينزعها عنه، فما كان من هذا الجنس؛ فهو ذريعة في معنى ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فما كان في معنى القميص؛ فهو مثله، وليس له أن يلبس القميص بكم ولا بغير كم، وسواء أدخل يديه أو لم يدخلها، وسواء كان سليما أو مخروقا، وكذلك لا يلبس الجبة ولا العباء الذي يدخل فيه يديه...".
إلى أن قال: "وهذا معنى قول الفقهاء: لا يلبس المخيط، والمخيط ما كان من اللباس على قدر العضو، ولا يلبس ما كان في معنى السروايل؛ كالتبان ونحوه" انتهى.
وإذا لم يجد المحرم نعلين؛ لبس خفين، أو لم يجد إزارًا؛ لبس السراويل، إلى أن يجده، فإذا وجد إزارًا؛ نزع السراويل، ولبس الإزار؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في عرفات لبس السراويل لمن لم يجد إزارًا.
وأما المرأة؛ فتلبس من الثياب ما شاءت حال الإحرام؛ لحاجتها إلى الستر إلا أنها لا تلبس البرقع، وهو لباس تغطي به المرأة وجهها فيه نقبان على العينين؛ فلا تلبسه المحرمة وتغطي وجهها بغيره من الخمار والجلباب، ولا تلبس القفازين على كفيها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تنتقب المرأة، ولا تلبس القفازين" ، رواه البخاري وغيره.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "نهيه أن تنتقب المرأة وتلبس القفازين دليل على أن وجهها كبدن الرجل لا كرأسه، فيحرم عليها فيه ما وضع وفصل على قدر الوجه كالنقاب والبرقع، لا على عدم ستره بالمقنعة والجلباب ونحوهما، وهذا أصح القولين" انتهى.
والقفازان شيء يعمل لليدين يدخلان فيه يسترهما من البرد.
وتغطي وجهها عن الرجال وجوبا بغير البرقع؛ لقول عائشة رضي الله عنها: "كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا حاذونا؛ سدلت إحدانا جلبابها على وجهها، فإذا جاوزونا؛ كشفناه"، رواه أحمد وأبو داود وغيرهما.
ولا يضر مس المسدول بشرة وجهها؛ لأنها إنما منعت من البرقع والنقاب فقط، لا من ستر الوجه بغيرهما.
قال شيخ الإسلام: "لا تكلف المرأة أن تجافي سترتها عن الوجه لا بعود ولا بيدها ولا بغير ذلك؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم سوى بين وجهها ويديها، وكلاهما كبدن الرجل لا كرأسه، وأزواجه صلى الله عليه وسلم يسدلن على وجوههن من غير مراعاة المجافاة".
وقال: "يجوز لها تغطية وجهها بملاصق؛ خلا النقاب والبرقع" انتهى.
الخامس من محظورات الإحرام: الطيب، فيحرم على المحرم تناول الطيب واستعماله في بدنه أو ثوبه، أو استعماله في أكل أو شرب؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أمر يعلى بن أمية يغسل الطيب ونزع الجبة،وقال في المحرم الذي وقصته راحلته: "ولا تحنطوه" ، متفق عليهما، ولمسلم: "ولا تمسوه بطيب".
والحكمة في منع المحرم من الطيب: أن يبتعد عن الترفه وزينه الدنيا وملاذها، ويتجه إلى الآخرة.
ولا يجوز للمحرم قصد شم الطيب ولا الادّهان بالمواد المطيبة.
السادس من محظروات الإحرام: قتل صيد البر واصطياده؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُم} ، أي: محرمون بالحج أو العمرة، وقوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} ، أي يحرم عليكم الاصطياد من صيد البر ما دمتم محرمين؛ فالمحرم لا يصطاد صيدًا بريا، ولا يعين على صيد، ولا يذبحه.
ويحرم على المحرم الأكل مما صاده أو صيد لأجله أو أعان على صيده؛ لأنه كالميتة.
ولا يحرم صيد البحر؛ لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ}.
ولا يحرم عليه ذبح الحيوان الإنسي كالدجاج وبهيمة الأنعام؛ لأنه ليس بصيد.
ولا يحرم عليه قتل محرم الأكل؛ كالأسد والنمر مما فيه أذي للناس، ولا يحرم عليه قتل الصائل دفعا عن نفسه أو ماله.
وإذا احتاج المحرم إلى فعل محظور من محظورات الإحرام؛ فعله، وفدى؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}.
السابع من محظورات الإحرام: عقد النكاح، فلا يعقد النكاح لنفسه ولا لغيره بالولاية أو الوكالة؛ لما روى مسلم عن عثمان: "لا ينكح المحرم ولا ينكح".
الثامن من محظورات الإحرام: الوطء؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ} ، قال ابن عباس: "هو الجماع".
فمن جامع قبل التحلل الأول؛ فسد نسكه، ويلزم المضي فيه وإكمال مناسكه؛ لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} ، ويلزمه أيضا أن يقضيه ثاني عام، وعليه ذبح بدنة، وإن كان الوطء بعد التحلل الأول؛ لم يفسد نسكه، وعليه ذبح شاه.
التاسع من محظورات الإحرام: المباشرة دون الفرج، فلا يجوز للمحرم مباشرة المرأة؛ لأنه وسيلة إلى الوطء المحرم، والمراد بالمباشرة ملامسة المرأة بشهوة.
فعلى المحرم أن يتجنب الرفث والفسوق والجدال، قال الله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجّ}.
والمراد بالرفث: الجماع، ويطلق أيضا على دواعي الجماع من المباشرة والتقبيل والغمز والكلام الذي فيه ذكر الجماع.
والفسوق هو: المعاصي؛ لأن المعاصي في حال الإحرام أشد وأقبح؛ لأنه في حالة تضرع.
والجدال هو المماراة فيما لا يعني والخصام مع الرفقة والمنازعة والسباب، أما الجدال لبيان الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فهو مأمور به، قال تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} .
ويسن للمحرم قلة الكلام إلا فيما ينفع، وفي "الصحيحين" عن أبي هريرة: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فليقل خيرًا أو ليصمت"، وعنه مرفوعا: "من حسن إسلام المرأة تركه ما لا يعنيه".
ويستحب للمحرم أن يشتغل بالتلبية، وذكر الله، وقراءة القرآن، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وحفظ وقته عما يفسده، وأن يخلص النية لله، ويرغب فيما عند الله؛ في حالة إحرام واستقبال عبادة عظيمة، وقادم على مشاعر مقدسة ومواقف مباركة.
فإذا وصل إلى مكة، فإن كان محرما بالتمتع؛ فإنه يؤدي مناسك العمرة:
فيطوف بالبيت سبعة أشواط.
ويصلي بعدها ركعتين، والأفضل أداؤها عند مقام إبراهيم إن أمكن، وإلا؛ أداهما في أي مكان من المسجد.
ثم يخرج إلى الصفا لأداء السعي بينه وبين المروة، فيسعى بينهما سبعة أشواط، يبدؤها بالصفا ويختمها بالمروة، ذهابه سعية ورجوعه سعية.
ويشتغل أثناء الأشواط في الطواف والسعي بالدعاء والتضرع إلى الله سبحانه.
فإذا فرغ من الشوط السابع؛ قصر الرجل شعر رأسه، وتقص الأنثى من رؤوس شعر رأسها قدر أنملة.
وبذلك تتم مناسك العمرة، فيحل من إحرامه، ويباح له ما كان محرما عليه بالإحرام من النساء والطيب ولبس المخيط وتقليم الأظافر وقص الشارب ونتف الآباط إذا احتاج إلى ذلك، ويبقى حلالاً إلى يوم التروية ثم يحرم بالحج على ما يأتي تفصيله إن شاء الله.
وأما الذي يقدم مكة قارنا أو مفردًا؛ فإنه يطوف طواف القدوم، وإن شاء قدم بعده سعي الحج، ويبقى على إحرامه إلى يوم النحر؛ كما يأتي تفصيله إن شاء الله.
محمد مطلق المعيقلي
10-30-2010, 05:10 PM
باب في أعمال يوم التروية ويوم عرفة
إن الإنسان التي يحرم بها القادم عندما يصل إلى الميقات ثلاثة:
الإفراد: وهو أن ينوي الإحرام بالحج فقط، ويبقى على إحرامه إلى أن يرمي الجمرة يوم العيد، ويحلق رأسه، ويطوف طواف الإفاضة، ويسعى بين الصفا والمروة إن لم يكن سعى بعد طواف القدوم.
والقران: وهو أن ينوي الإحرام بالعمرة والحج معا من الميقات، وهذا عمله كعمل المفرد؛ إلا أنه يجب عليه هدي التمتع.
والتمتع: وهو أن يحرم بالعمرة من الميقات، ويتحلل منها إذا وصل إلى مكة بأداء أعمالها من طواف وسعي وحلق أو تقصير، ثم يتحلل من إحرامه، ويبقى حلالاً إلى أن يحرم بالحج.
وأفضل الأنساك هو التمتع؛ فيستحب لمن أحرم مفردًا أو قارنا ولم يسق الهدي أن يحول نسكه إلى التمتع، ويعمل عمل المتمتع.
ويستحب لمتمتع أو مفرد أو قارن تحول إلى متمتع وحل عمرته ولغيره من المحلين بمكة أو قربها: الإحرام بالحج يوم التروية، وهو اليوم الثامن من ذي الحجة؛ لقول جابر رضي الله عنه في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم: "فحل الناس كلهم وقصروا؛ إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدي، فلما كان يوم التروية؛ توجهوا إلى منى، فأهلوا بالحج".
ويحرم بالحج من مكانه الذي هو نازل فيه، سواء كان في مكة، أو خارجها، أو في منى، ولا يذهب بعد إحرامه فيطوف بالبيت.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فإذا كان يوم التروية أحرم، فيفعل كما فعل عند الميقات؛ إن شاء أحرم من مكة، وإن شاء من خارج مكة، هذا هو الصواب، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إنما أحرموا كما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم من البطحاء، والسنة أن يحرم من الموضع الذي هو نازل فيه، وكذلك المكي يحرم من أهله؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من كان منزله دون مكة؛ فمهله من أهله، حتى أهل مكة يهلون من مكة" انتهى.
وقال ابن القيم رحمه الله: "فلما كان يوم الخميس ضحى؛ توجه [يعني: النبي صلى الله عليه وسلم] بمن معه من المسلمين إلى منى، بل أحرموا ومكة خلف ظهورهم" انتهى.
وبعد الإحرام يشتغل بالتلبية، فيلبي عند عقد الإحرام، ويلبي بعد ذلك في فترات، ويرفع صوته بالتلبية، إلى أن يرمي جمرة العقبة يوم العيد.
ثم يخرج إلى منى من كان بمكة محرما يوم التروية، والأفضل أن يكون خروجه قبل الزوال، فيصلي بها الظهر وبقية الأوقات إلى الفجر، ويبيت ليلة التاسع؛ لقول جابر رضي الله عنه: "وركب النبي صلى الله عليه وسلم إلى منى، فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس" ، وليس ذلك واجبا بل سنة، وكذلك الإحرام يوم التروية ليس واجبا، فلو أحرم بالحج قبله أو بعده؛ جاز ذلك.
وهذا المبيت بمنى ليلة التاسع، وأداء الصلوات الخمس فيها: سنة، وليس بواجب.
ثم يسيرون صباح اليوم التاسع بعد طلوع الشمس من منى إلى عرفة، وعرفة كلها موقف؛ إلا بطن عرنة؛ ففي أي مكان حصل الحاج من ساحات عرفة؛ أجزأه الوقوف فيه، ما عدا ما استثناه النبي صلى الله عليه وسلم، وهو بطن عرنه؛ وقد بينت حدود عرفة بعلامات وكتابات توضح عرفة من غيرها، فمن كان داخل الحدود الموضحة؛ فهو في عرفة، ومن كان خارجها؛ فيخشى أنه ليس في عرفة؛ فعلى الحاج أن يتأكد من ذلك، وأن يتعرف على تلك الحدود؛ ليتأكد من حصوله في عرفة.
فإذا زالت الشمس؛ صلوا الظهر والعصر قصرًا وجمعا بأذان وإقامتين، وكذلك يقصر الصلاة الرباعية في عرفة ومزدلفة ومنى، لكن في عرفة ومنى ومزدلفة يجمع ويقصر، وفي منى يقصر ولا يجمع، بل يصلي كل صلاة في وقتها؛ لعدم الحاجة إلى الجمع.
ثم بعدما يصلي الحجاج الظهر والعصر قصرًا وجمع تقديم في أول وقت الظهر؛ يتفرغون للدعاء والتضرع والابتهال إلى الله تعالى، وهم في منازلهم من عرفة، ولايلزمهم أن يذهبوا إلى جبل الرحمة، ولا يلزمهم أن يروه أو يشاهدون، ولا يستقبلونه حال الدعاء، وإنما يستقبلون الكعبة المشرفة.
وينبغي أن يجتهد في الدعاء والتضرع والتوبة في هذا الموقف العظيم، ويستمر في ذلك، وسواء دعا راكبا أو ماشيا أو واقفا أو جالسا أو مضجعا، على أي حال كان، ويختار الأدعية الواردة والجوامع؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا النبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير".
ويستمر في البقاء بعرفة والدعاء إلى غروب الشمس، ولا يجوز له أن ينصرف منها قبل غروب الشمس، فإن انصرف منها قبل الغروب؛ وجب عليه الرجوع؛ ليبقى فيها إلى الغروب، فإن لم يرجع؛ وجب عليه دم؛ لتركه الواجب، والدم ذبح شاة، يوزعها على المساكين في الحرم، أو سبع بقرة، أو سبع بدنة.
ووقت الوقوف يبدأ بزوال الشمس يوم عرفة على الصحيح، ويستمر إلى طلوع الفجر ليلة العاشر، فمن وقف نهارًا؛ وجب عليه البقاء إلى الغروب، ومن وقف ليلاً؛ أجزأه، ولو لحظة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من أدرك عرفات بليل، فقد أدرك الحج".
وحكم الوقوف بعرفة أنه ركن من أركان الحج، بل هو أعظم أركان الحج لقوله صلى الله عليه وسلم: "الحج عرفة" ، ومكان الوقوف هو عرفة بكامل مساحتها المحددة، فمن وقف خارجها؛ لم يصح وقوفه.
وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه من الأعمال والأقوال؛ إنه سميع مجيب.
محمد مطلق المعيقلي
10-30-2010, 05:17 PM
باب في الدفع إلى مزدلفة والمبيت فيها
والدفع من مزدلفة إلى منى وأعمال يوم العيد
بعد غروب الشمس يدفع الحجاج من عرفة إلى مزدلفة بسكينة ووقار؛ لقول جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لم يزل واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلاً حتى غاب القرص، وأردف أسامة خلفه، ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد شنق للقصواء " يعني: ناقته" الزمام، حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله، ويقول بيده اليمنى: أيها الناس! السكينة السكينة".
فهكذا ينبغي للمسلمين السكينة والرفق عند الانصراف من عرفة، وأن لا يضايقوا إخوانهم الحجاج في سيرهم، ويرهقوهم بمزاحمتهم، ويخيفوهم بسياراتهم، وأن يرحموا الضعفة وكبار السن والمشاة.
ويكون الحاج حال دفعه من عرفة إلى مزدلفة مستغفرًا؛ لقوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
وسميت مزدلفة بذلك من الازدلاف، وهو القرب لأن الحجاج إذا أفاضوا من عرفات؛ ازدلفوا إليها؛ أي: تقربوا ومضوا إليها، وتسمى أيضا جمعا؛ لاجتماع الناس بها، وتسمى بالمشعر الحرام.
قال في "المغنى": "وللمزدلفة ثلاثة أسماء: مزدلفة، وجمع، والمشعر الحرام".
ويذكر الله في مسيره إلى مزدلفة؛ لأنه في زمن السعي إلى مشاعر والتنقل بينها.
فإذا وصل إلى مزدلفة؛ صلى بها المغرب والعشاء جمعا مع قصر العشاء ركعتين بأذان واحد وإقامتين، لكل صلاة إقامة، وذلك قبل حط رحله؛ لقول جابر رضي الله عنه يصف فعل النبي صلى الله عليه وسلم: "حتى أتى المزدلفة، فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين".
ثم يبيت بمزدلفة حتى يصبح ويصلي؛ لقول جابر: "ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر، فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة".
ومزدلفة كلها يقال لها: المشعر الحرام، وهي ما بين مأزمي عرفة إلى بطن محسر، وقال صلى الله عليه وسلم: "ومزدلفة كلها موقف، وارفعوا عن بطن محسر".
والسنة أن يبيت بمزدلفة إلى أن يطلع الفجر، فيصلي بها الفجر في أول الوقت، ثم يقف بها ويدعوا إلى أن يسفر، ثم يدفع إلى منى قبل طلوع الشمس.
فإن كان من الضعفة كالنساء والصبيان ونحوهم؛ فإنه يجوز له أن يتعجل في الدفع من مزدلفة إلى منى إذا غاب القمر، وكذلك يجوز لمن يلي أمر الضعفة من الأقوياء أن ينصرف معهم بعد منتصف الليل، أما الأقوياء الذين ليس معهم ضعفة؛ فإنه ينبغي لهم أن لا يخرجوا من مزدلفة حتى يطلع الفجر، فيصلوا بها الفجر، ويقفوا بها إلى أن يسفروا.
فالمبيت بمزدلفة واجب من واجبات الحج، لا يجوز تركه لمن أتى إليها قبل منتصف الليل، أما من وصل إليها بعد منتصف الليل؛ فإنه يجزئه البقاء فيها ولو قليلاً، وإن كان الأفضل له أن يبقى فيها إلى طلوع الفجر، ويصلي فيها الفجر، ويدعوا بعد ذلك.
قال في "المغني": "ومن لم يواف مزدلفة إلا في النصف الأخير من الليل؛ فلا شيء عليه؛ لأنه لم يدرك جزءًا من النصف الأول، فلم يتعلق به حكمه".
ويجوز لأهل الأعذار ترك المبيت بمزدلفة؛ كالمريض الذي يحتاج إلى تمريضه في المستشفى، ومن يحتاج إليه المريض لخدمته، وكالسقاة والرعاة؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للرعاة في ترك المبيت.
فالحاصل أن المبيت بمزدلفة واجب من واجبات الحج لمن وافاها قبل منتصف الليل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بات بها، وقال: "لتأخذوا عني مناسككم" ، وإنما أبيح الدفع بعد منتصف الليل؛ لما ورد فيه من الرخصة.
ثم يدفع قبل طلوع الشمس إلى منى؛ لقول عمر: "كان أهل الجاهلية لا يفيضون من جمع حتى تطلع الشمس، ويقولون: أشرق ثبير كيما نغير [وثبير اسم جبل يطل على مزدلفة يخاطبونه؛ أي: لتطلع عليك الشمس حتى ننصرف]، فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم فأفاض قبل طلوع الشمس".
ويدفع وعليه السكينة، فإذا بلغ وادي محسر، وهو واد بين مزدلفة ومنى يفصل بينهما، وهو ليس منهما، فإذا بلغ هذا الوادي؛ أسرع قدر رمية حجر.
ويأخذ حصى الجمار من طريقة قبل أن يصل منى، هذا هو الأفضل، أو يأخذه من مزدلفة، أو من منى، ومن حيث أخذ الحصى؛ جاز؛ لقول ابن عباس رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة العقبة وهو على راحلته: "القط لي الحصا" . فلقطت له سبع حصيات، هي حصا الخذف1، فجعل ينفضهن في كفه، ويقول: "أمثال هؤلاء فارموا" ، ثم قال: "يا أيها الناس! إياكم والغلو في الدين؛ فإنما أهلك من كان من قبلكم الغلو في الدين" ، فتكون الحصاة من حصى الجمار بحجم حبة الباقلاء، أكبر من الحمص قليلاً.
ولا يجزىء الرمي بغير الحصى، ولا بالحصى الكبار التي تسمى حجرًا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رمى بالحصى الصغار، وقال: "خذوا عني مناسككم".
فإذا وصل إلى منى وهي ما بين وادي محسر إلى جمرة العقبة؛ ذهب إلى جمرة العقية، وهي آخر الجمرات مما يلي مكة، وتسمى الجمرة الكبرى، فيرميها بسبع حصيات، واحدة بعد طلوع الشمس، ويمتد زمن الرمي إلى الغروب.
ولا بد أن تقع كل حصاة في حوض الجمرة، سواء استقرت فيه أو سقطت بعد ذلك، فيجب على الحاج أن يصوب الحصا إلى حوض الجمرة، لا إلى العمود الشاخص، فإن هذا العمود ما بنى لأجل أن يرمى، وليس هو موضع الرمي، وإنما بنى ليكون علامة على الجمرة، ومحل الرمي هو الحوض، فلو ضربت الحصاة في العمود، وطارت، ولم ترم على الحوض؛ لم تجزئه.
والضعفة ومن في حكمهم يرمونها بعد منتصف الليل، وإن رمى غير الضعفة بعد منتصف الليل؛ أجزأهم ذلك، وهو خلاف الأفضل في حقهم.
ويسن أن لا يبدأ بشيء حين وصوله إلى منى قبل رمى جمرة العقبة؛ لأنه تحية منى، ويستحب أن يكبر مع كل حصاة، ويقول: "اللهم اجعله حجا مبرورًا وذنبا مغفورًا" ، ولا يرمي في يوم النحر غير جمرة العقبة، وهذا مما اختصت به عن بقية الجمرات.
ثم بعد رمي جمرة العقبة الأفضل أن ينحر هديه إن كان يجب عليه هدي تمتع أو قران، فيشتريه، ويذبحه، ويوزع لحمه، ويأخذ منه قسما ليأكل منه.
ثم يحلق رأسه أو يقصره، والحلق أفضل؛ لقوله تعالى: {مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} ، ولحديث ابن عمر: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حلق رأسه في حجة الوداع" ، متفق عليه، ودعا صلى الله عليه وسلم للمحلقين ثلاث مرات، وللمقصرين مرة واحدة.
فإن قصر؛ وجب أن يعم جميع رأسه، ولا يجزئ الاقتصار على بعضه أو جانب منه فقط؛ لقوله تعالى: {مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} ، فأضاف الحلق والتقصير إلى جميع الرأس.
والمرأة يتعين في حقها التقصير، بأن تقص من كل ضفيرة قدر أنملة؛ لحديث ابن عباس مرفوعا: "ليس على النساء الحلق، إنما على النساء التقصير" ، رواه أبو داود والطبراني والدارقطني، ولأن الحلق في حق النساء مثله، وإن كان رأس المرأة غير مضفور؛ جمعته، وقصت من أطرافه قدر أنملة.
ويسن لمن حلق أو قصر اخذ أظفاره وشاربه وعانته وإبطه، ولا يجوز له أن يحلق لحيته أو يقص شيئا منها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتوفير اللحية، ونهى عن حلقها وعن أخذ شيء منها، والمسلم يمتثل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، ويجتنب ما نهى عنه، والحاج أولى بذلك؛ لأنه في عبادة.
ومن كان رأسه ليس فيه شعر كالحليق أو الذي لم ينبت له شعر أصلاً وهو الأصلع؛ فإنه يمر الموسى على رأسه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر؛ فأتوا منه ما استطعتم".
ثم بعد رمي جمرة العقبة وحلق رأسه أو تقصيره يكون قد حل له كل شيء حرم عليه بالإحرام من الطيب واللباس وغير ذلك؛ إلا النساء؛ لحديث عائشة رضي الله عنها: "إذا رميتم وحلقتم؛ فقد حل لكم الطيب والثياب وكل شيء؛ إلا النساء" ، رواه سعيد، وعنها: "كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يحرم ويوم النحر قبل أن يطوف بالبيت بطيب فيه مسك" ، متفق عليه.
وهذا هو التحلل الأول ويحصل باثنين من ثلاثة: رمي جمرة العقبة، وحلق أو تقصير، وطواف الإفاضة مع السعي بعده لمن عليه السعي.
ويحصل التحلل الثاني وهو التحلل الكامل بفعل هذه الثلاثة كلها، فإذا فعلها؛ حل له كل شيء حرم عليه بالإحرام، حتى النساء.
ثم بعد رمي جمرة العقبة ونحر هدية وحلقه أو تقصيره يفيض إلى مكة، فيطوف طواف الإفاضة، ويسعى بعده بين الصفا والمروة إن كان متمتعا أو قارنا أو مفردًا ولم يكن سعى بعد طواف القدوم؛ أما إن كان القارن أو المفرد سعى بعد طواف القدوم فإنه يكفيه ذلك السعي المقدم، فيقتصر على طواف الإفاضة.
وترتيب هذه الأمور الأربعة على هذا النمط:
رمي جمرة العقبة، ثم نحر الهدي، ثم الحلق أو التقصير ثم الطواف والسعي.
هذا الترتيب سنة، ولو خالفه، فقدم بعض هذه الأمور على بعض؛ فلا حرج عليه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ما سئل في هذا اليوم عن شيء قدم ولا أخر؛ إلا قال: "افعل ولا حرج" ، لكن ترتيبها أفضل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رتبها كذلك.
وصفة الطواف بالبيت أنه يبتدىء من الحجر الأسود، فيحاذيهن ويستلمه بيده؛ بأن يمسحه بيده اليمنى ويقبله إن أمكن، إن لم يمكنه الوصول إلى الحجر لشدة الزحمة؛ فإنه يكتفي بالإشارة إليه بيده، ولا يزاحم لاستلام الحجر أو تقبيله، ويجعل البيت على يساره، ثم يبدأ الشوط الأول، ويشتغل بالذكر والدعاء أو تلاوة القرآن، فإذا وصل إلى الركن اليماني؛ استلمه إن أمكن، ولا يقبله، ويقول بين الركن اليماني والحجر الأسود: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} ،
فإذا وصل إلى الحجر الأسود؛ فقد تم الشوط الأول، فيستلم الحجر، أو يشير إليه، ويبدأ الشوط الثاني... وهكذا حتى يكمل سبعة أشواط.
ويشترط لصحة الطواف ثلاثة عشر شرطا هي: الإسلام، والعقل، والنية، وستر العورة، والطهارة، وتكميل السبعة، وجعل البيت عن يساره، والطواف بجميع البيت؛ بأن لا يدخل مع الحجر أو يطوف على جداره، وأن يطوف ماشيا مع القدرة، والموالاة بن الأشواط؛ إلا إذا أقيمت الصلاة أو حضرت جنازة؛ فإنه يصلي، ثم يبني على ما مضى من طوافه بعد أن يستأنف الشوط الذي صلى في أثنائه، وأن يطوف داخل المسجد، وأن يبتدئ من الحجر الأسود ويختم به.
ثم بعد تمام الطواف يصلي ركعتين، والأفضل كونهما خلف مقام إبراهيم، ويجوز أن يصليهما في أي مكان في المسجد أو في غيره من الحرم، وهما سنة مؤكدة، يقرأ في الأولى بعد الفاتحة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وفي الثانية: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}.
ثم يخرج إلى الصفا ليسعى بينه وبين المروة، فيرقى على الصفا، ويكبر ثلاثا، ويقول: "لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيى ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير" ،
ثم ينزل من الصفا متجها إلى المروة، ويكون بذلك قد بدأ الشوط الأول، ويسعى بين الميلين الأخضرين سعيا شديدًا، وفي خارج الميلين يمشي مشيا معتادًا، حتى يصل المروة، فيرقى عليها، ويقول ما قاله على الصفا، ويكون بذلك قد أنهى الشوط الأول، فينزل من المروة متجها إلى الصفا، ويكون بذلك قد بدأ الشوط الثاني؛ يمشي في موضع مشيه، ويسعى في موضع سعيه... وهكذا حتى يكمل سبعة أشواط؛ يبدؤها من الصفا، ويختمها بالمروة، ذهابه من الصفا إلى المروة سعية، ورجوعه من المروة إلى الصفا سعيه.
ويستحب أن يشتغل أثناء السعي بالدعاء والذكر أو تلاوة القرآن.
وليس للطواف والسعي دعاء مخصوص، بل يدعو بما تيسر له من الأدعية.
وشروط صحة السعي: النية، واستكمال ما بين الصفا والمروة، وتقدم الطواف عليه.
باب في أحكام الحج التي تفعل في أيام التشريق وطواف الوداع
وبعد طواف الإفاضة يوم العيد يرجع إلى منى، فيبيت بها وجوبا؛ لحديث ابن عباس؛ قال: "لم يرخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد يبيت بمكة؛ إلا للعباس لأجل سقايته" ، رواه ابن ماجه.
فيبيت بمنى ثلاث ليال إن لم يتعجل، وإن تعجل؛ بات ليلتين: ليلة الحادي عشر، وليلة الثاني عشر.
ويصلي الصلوات فيها قصرًا بلا جمع، بل كل صلاة في وقتها.
ويرمي الجمرات الثلاث كل يوم من أيام التشريق بعد الزوال؛ لحديث جابر رضي الله عنه: "رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمرة يوم النحر ضحى، وأما بعد؛ فإذا زالت الشمس" ، رواه الجماعة،
وقال ابن عمر: "كنا نتحين، فإذا زالت الشمس رمينا"، رواه البخاري وأبو داود، وقوله: "نتحين" أي: نراقب الوقت المطلوب، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "لتأخذوا عني مناسككم".
فالرمي في اليوم الحادي عشر وما بعده يبدأ وقته بعد الزوال، وقبله لا يجزئ؛ لهذه الأحاديث؛ حيث وقته النبي صلى الله عليه وسلم بذلك بفعله، وقال: "خذوا عني مناسككم" ؛ فكما لا تجوز الصلاة قبل وقتها؛ فإن الرمي لا يجوز قبل وقته، ولأن العبادات توقيفيه.
قال الإمام العلامة ابن القيم رحمه الله وهو يصف رمي النبي صلى الله عليه وسلم كما وردت به السنة المطهرة؛ قال: "ثم رجع صلى الله عليه وسلم بعد الإفاضة إلى منى من يومه ذلك فبات بها، فلما أصبح؛ انتظر زوال الشمس، فلما زالت؛ مشى من رحله إلى الجمار، ولم يركب، فبدا بالجمرة الأولى التي تلي مسجد الحيف، فرماها بسبع حصيات واحدة بعد واحدة، ويقول مع كل حصاة: الله أكبر، ثم يتقدم على الجمرة أمامها، حتى أسهل، فقام مستقبل القبلة، ثم رفع يديه، ودعا دعاءً طويلاً بقدر سورة البقرة، ثم أتى إلى الجمرة الوسطى، فرماها كذلكن ثم انحدر ذات اليسار مما يلي الوادي، فوقف مستقبل القبلة رافعا يديه، فاستبطن الوادي، واستعرض الجمرة، فجعل البيت عن يساره، ومنى عن يمينه، فرماها بسبع حصيات كذلك...".
إلى أن قال: "فلما أكمل الرمي؛ رجع من فوره، ولم يقف عندها [يعني: جمرة العقبة]، فقيل: لضيق المكان بالجبل، وقيل وهو أصح: إن دعاءه كان في نفس العبادة قبل الفراغ منها، فلما رمى جمرة العقبة؛ فرغ الرمي، والدعاء في صلب العبادة قبل الفراغ منها أفضل منه بعد الفراغ منها، وهذا كما كانت سنته في دعائه في الصلاة؛ إذ كان يدعو في صليها" انتهى.
ولا بد من ترتيب الجمرات على النحو التالي ك يبدأ بالجمرة الأولى، وهي التي تلي منى قرب مسجد الخيف، ثم الجمرة الوسطى، وهي التي تلي الأولى، ثم الجمرة الكبرى، وتسمى جمرة العقبة، وهي الخيرة مما يلي الكعبة، يرمي كل جمرة بسبع حصيات متوالية، يرفع مع كل حصوة يده، ويكبر، ولا بد أن تقع كل حصاة في الحوض، سواء استقرت فيه أو سقطت منه بعد ذلك فإن لم تقع في الحوض لم تجز.
ويجوز للمريض وكبير السن والمرأة الحامل أو التي يخاف عليها من شدة الزحمة في الطريق أو عند الرمي، يجوز لهؤلاء أن يوكلوا من يرمي عنهم.
ويرمي النائب كل جمرة عن مستنيبه في مكان واحد، ولا يلزمه أن يستكمل رمي الجمرات على نفسه، ثم يبدأ برميها عن مستنيبه؛ لما في
ذلك من المشقة والحرج في أيام الزحام، والله أعلم، وإن كان النائب يؤدي فرض حجه؛ فلا بد أن يرمي عن نفسه كل جمرة أولاً، ثم يرميها عن موكله.
ثم بعد رمي الجمرات الثلاث في اليوم الثاني عشر؛ إن شاء تعجل وخرج من منى قبل غروب الشمس، وإن شاء تأخر وبات ورمى الجمرات الثلاث بعد الزوال في اليوم الثالث عشر، وهو أفضل؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى}.
وغن غربت عليه الشمس قبل أن يرتحل من منى؛ لزمه التأخر والمبيت والرمي في اليوم الثالث عشر؛ لأن الله تعالى يقول: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} واليوم اسم للنهار، فمن أدركه الليل؛ فما تعجل في يومين.
والمرأة إذا حاضت أو نفست قبل الإحرام ثم أحرمت، أو أحرمت وهي طاهرة ثم أصابها الحيض أو النفاس وهي محرمة؛ فإنها تبقى في إحرامها، وتعمل ما يعمله الحاج من الوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفة ورمي الجمار والمبيت بمنى؛ إلا أنها لا تطوف بالبيت ولا تسعى بين الصفا والمروة حتى تطهر من حيضها أو نفاسها.
لكن لو قدر أنها طافت وهي طاهرة، ثم نزل عليها الحيض بعد الطواف؛ فإنها تسعى بين الصفا والمروة، ولا يمنعها الحيض من ذلك؛ لأن السعي لا يشترط الطهارة.
فإذا أراد الحاج السفر من مكة والرجوع إلى بلده أو غيره؛ لم يخرج حتى يطوف للوداع بالبيت سبعة أشواط إذا فرغ من كل أموره ولم يبق إلا الركوب للسفر؛ ليكون آخر عهده بالبيت؛ إلا المرأة الحائض؛ فإنها لا وداع عليها، فتسافر بدون وداع؛ كما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما ؛ قال: "أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت؛ إلا أنه خفف عن المرأة الحائض" ، متفق عليه، وفي رواية عنه؛ قال: كان الناس ينصرفون من كل وجه؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ينفر أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت" ، رواه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه. وعن ابن عباس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للحائض أن تصدر قبل أن تطوف بالبيت إذا كانت قد طافت للإفاضة" ، رواه أحمد. وعن عائشة رضي الله عنها؛ قالت: حاضت صفية بنت حيي بعدما أفاضت، قالت: فذكرت ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "أحابستنا هي ؟" قلت: يا رسول الله! إنها قد أفاضت وطافت بالبيت ثم حاضت بعد الإفاضة، قال: "فلتنفر إذًا" متفق عليه.
vBulletin® v4.2.5, Copyright ©2000-2024, تصميم الوتين (عبدالمنعم البلوي )watein.com