معتز الشمالي
12-13-2010, 05:36 PM
في المستشفى..أحضر الى عملي مبكراً كعادتي..لم أعتد الحضور في وقتٍ متأخرً..فلقد دأبت منذ بداية تعييني على ان أكون أول الحاضرين..ليس بحثاً عن السمعة..وعن الذين يقولون : ما شاء الله عليك يا مُحمد..كل يوم تجي بدري..لا..ليس لهذا السبب..بل إنها عادة اعتدت القيام بها منذ أن كنت في المرحلة الابتدائية..يومها كنت اتسابق مع (( عايد)) فراش المدرسة..وكم سبقته مراراً..حتى غسل يديه مني..وتركني على حالتي اسبقه وافتح بوابة المدرسة مبكراً..شعور جميل حينها ممزوجٌ بالغرابة..ماعلينا..
لنرجع الى ردهات المستشفى..
عقاربُ الساعة تُشير الى السابعة والنصف..بدأ المرضى والمراجعين بالتسلسل الينا..سبحان الله..قبل قليل كانت الأسياب خاوية على عروشها..خالية ..إلا من صوت جر عربة (( شيراز)) عامل النظافة..كنت أقطع صمتي بالإستماع الى صوت صرير عجلاتها حين يهُمُ بتحريكها..تذكرت دجاجتي حينما كنت صغيراً..وتذكرت فراخها حين يمشون خلفها..ياه..هُيئ الي بأن شيراز كدجاجتي..وفراخه تسير خلفه..إلا إنني لم أمسك بسلتي وأتجه الى قِنِّ الدجاج لأجمع البيض..فلا أتوقع بأني سأجد بيضاً في مستودع النظافة..دلفت الى قسمي..هاهي طاولتي وقد رقد عليها معطفي الأبيض..ذهبت اليه..وكأني أوقظه..هيا..قم..لديك شخصٌ سيرتديك..بدأ مسلسل المراجعين بالبث المباشر..وانا ممسكٌ قلبي بيدي : اللهم سلم..فلا أعلم عن عقلية المراجعين لهذا اليوم وأخلاقهم..هاهو أولهم..الحمد لله..مُراجعٌ دائم ٌعندي..يقوده إمام مسجدهم -لله دره- داوود..كهل ضرير..يبلُغ من العمر 100..مصاب بداء السكري..أتذكر بأني حين أسأله عن عمره يقول لي: عمري حول الثمانين..وملفه يصرخ بوجهي يقول: لا..لا تصدقه..عمره 100.. نظرت اليه بعد أن جلس على الكرسي : صبحك الله بالخير ياعم..كيفك اليوم ان شاء الله بخير.؟؟..هلا والله يا وليدي..بخير وانا ابوك..نظرت الى نتيجة تحليل سكره..أجريت له اختباراً سريعاً..دائماً ما اجد سكر دمه بين 60mg/dl وبين 65 إذا كان صائماً ولكنه يغازل المئتين اذا تناول طعامه ..انظر اليه..سبحان الله..تقفز الى ذهني آيات الله(( ومن نعمره ننكسه في الخلق))..ولكني..حقيقة.ً.لم أُلاحظ هذا على داوود..شُعور غريب يرتابني كلما يأتيني .لاأدري..هل هي سمة الخير في محياه..؟.هل هو كلامه الحلو بحلاوة دمه؟..لم أستغرب بأنه مصاب بالسكري..ما دام أن لسانه يقُطر شهداً..أُمسكُ بيديه..أتعمدُ أن أضغط عليها..لا يسألني ما ذا تفعل؟..بل هو مستسلمٌ لي..وكأنه يقول: اعمل مابدا لك..امسكها..قلبها..تأمل بقايا 100 سنة خلت..كنتُ مثلك يا محمد..شابٌ يافع..لاتكاد أن تطأ رجلي الأرض من همتي ونشاطي..100 سنة ..مضت من عمري..وكأنها 10 سنين..تحاملت شهورها وايامها..شربت من حلوها وارتويت من علقمها..احتميت من حرها وتدفأت من زمهريرها..كُنا بُسطاء يا محمد..لم نعرف من الحياة ماتعرفونه..ليتني أستطيع أن أسـأله..ولكن ربما شعوري بالخوف من أن أرى عصاه تسير على هامة رأسي بسرعة 200 كلم\س هو سبب عدم سؤالي أياه..
أتخيله يقول لي: سل ما بدا لك..صدقوني..ستعتريني الفرحة..ربما سأقفز بحجره أقبل رأسه..يا الله..كمٌ هائلٌ من الأسئلة أريد أن أسألها إياه..ليتني أسأله..داوود..أين موضع أعرابنا قبل 100 سنة..هل كنا في الماضي كحاضرنا الآن؟..هل كنا نضارع أفعالنا؟..هل كنا نحلم في المستقبل..؟
أتخيله يرد علي بقوله..: بُني..إن الحياة رحلة..صعبةٌ مسالكها..وعرةٌ طرقها..لها في نفس كل شخصٍ ذكرى..قلما يستنهضُ العقل منها متفكراً متدبرا..ولكن يا بُني..مع كثرة السالكين..وقلة الناجين..تسطع في كل وقتٍ ثُلة..يعرفون كيف يستفيدون من حياتهم..كلماتهم ستصبح نبراساً يُستضاء به في دُلجة ليلنا المُظلم..رياً يسقي ظمأ أجوافنا..فكم شُرب من عبق عقولهم..وكم رُشف من رحيق إيمانهم..
نعم..كُنا في أفعالنا ماضين بالماضي..نعرف رسولنا باسمه..نعرف انه ببدرٍ انتصر..وأنه بأحدٍ خذله الرماة..نعرف أن القوة في الرمي..ونحن نرمي بتاريخنا خلف أظهرنا بكل قوتنا..سمعنا يا بُني حديث الصخرة..وكيف أن الرسول كبّر وبشّر..نعرف انه هاجر الى المدينة..رددنا طلع البدر علينا..يا الله يا بني..كم كنتُ أرددها مع أقراني حينما كُنا صبية..جميلٌ وقعها ..اليس كذلك..؟؟
ااهٍ.. يا محمد..أذكُر أول مرةٍ ذهبنا فيها الى مكة..كم كانت رحلةً شاقة..نعرف الكثير يا بُني..ولكن..أقولها صدقاً..لم نكن مثلكم..
آآه يا داوود..ليتنا مثلكم..ليتني في عمرك.عشت وقتك ..عاصرت أحلامك..شربت من ماء العزة المتبقي حينها..لم نجد له طعماً في أيامنا هذه..نسمعُ عن العزة فلا نعرفها..نعرف أننا كُنا نجوب الأرض طولاً وعرضاً..لم نأبه للسحابة حين تمُر من فوقنا..فسيأتينا خراجها..آآهٍ يا عماه..كيف هي العزةُ في وقتكم..؟؟!! ..عماه..قل لي بربك يا عماه!!..ليتني لم أُبصر واقعنا المظلم..ليتني استطيع أن أُغمض عيني سأُغمضها..لست الوحيد..فالكل هنا يُغمض عينيه..ويلوي عنقه..ويدير برأسه..لم يقف هذا الأمر علي مطلقاً..
أغمضتها..ومازلت أغمضها..في وقتٍ أصبح المبصر فيه عمياناً..وإن إزرقّت يمامتي على حدبة عيني..فلن أُبصر..وكأن الله قد جعل علينا الليل سرمدا..(( قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً الى يوم القيامة))..فسأغمض عيني..نعم..أستطيع أن أُغمض عيني..فإن الله لم يأمر بأمرٍ إلا وللشيطان فيه نزغتان..إما الى تفريط..وإما الى إفراط..ولا يبالي بأيهما ظفر..وحسبي أنه قد ظفر بنا..فلن يترك لنا مجالاً للإبصار..فسأغمض عيني..نعم..صدقني ياعماه..أني مغمضها الآن..وسأغمضها..فأشلاءنا ممزقة على قارعة هوان أمتنا..فأفغاننا يحتضر..وعراقنا تتناهشه الضباع الخامنائية..وشيشاننا توسد مضجعه في مقبرة الكرملين. .وصراخ من انتهك عرضها يدوي في أذني. وغيرنا يرقع غشاء عفتها الممزق بديباجةٍ من ذله وهوانه.. وكانه يجيز لهم انتهاكه مرة واخرى..فهل تريدينني أن أبصر..؟؟!! لا والله..والله لن أبصر..والله لن أبصر..فانتهكوها كما تريدون..فسأغمض عيني..يااعماااه..
وإن شعرتُ بيدك الجافة التي امسكها..فنحن المتيبسون على حالتنا..انظر اليه..اقرأ في عينيه احفورة مجدٍ قديم..منحوتةٍ على جبهته التي أخذت من السجود وسماً لها..شعورٌ غريب..تاريخٌ بأكمله يجلس امامي..حكاية قديمة..كقدم مجدنا التليد المفقود..أنهيت فحصه المعتاد..قلت له: يا عم..سكرك زين..بس انتبه من الحلى الزايد..خلك على علاجك اللي تاخذه..وان شاء الله امورك تمام..
جزاك الله خير يا محمد..الله يكثر من امثالك..قالها..وأخذ يرددها..الى ان خرج من عندي..وانا اتذكر نتيجة اختبار سكره..وبين حلاوة سكره القديم..ومرارة علقمنا الحاضر..يكمن الفرق بيني وبينه..
(معتز الشمالي)
لنرجع الى ردهات المستشفى..
عقاربُ الساعة تُشير الى السابعة والنصف..بدأ المرضى والمراجعين بالتسلسل الينا..سبحان الله..قبل قليل كانت الأسياب خاوية على عروشها..خالية ..إلا من صوت جر عربة (( شيراز)) عامل النظافة..كنت أقطع صمتي بالإستماع الى صوت صرير عجلاتها حين يهُمُ بتحريكها..تذكرت دجاجتي حينما كنت صغيراً..وتذكرت فراخها حين يمشون خلفها..ياه..هُيئ الي بأن شيراز كدجاجتي..وفراخه تسير خلفه..إلا إنني لم أمسك بسلتي وأتجه الى قِنِّ الدجاج لأجمع البيض..فلا أتوقع بأني سأجد بيضاً في مستودع النظافة..دلفت الى قسمي..هاهي طاولتي وقد رقد عليها معطفي الأبيض..ذهبت اليه..وكأني أوقظه..هيا..قم..لديك شخصٌ سيرتديك..بدأ مسلسل المراجعين بالبث المباشر..وانا ممسكٌ قلبي بيدي : اللهم سلم..فلا أعلم عن عقلية المراجعين لهذا اليوم وأخلاقهم..هاهو أولهم..الحمد لله..مُراجعٌ دائم ٌعندي..يقوده إمام مسجدهم -لله دره- داوود..كهل ضرير..يبلُغ من العمر 100..مصاب بداء السكري..أتذكر بأني حين أسأله عن عمره يقول لي: عمري حول الثمانين..وملفه يصرخ بوجهي يقول: لا..لا تصدقه..عمره 100.. نظرت اليه بعد أن جلس على الكرسي : صبحك الله بالخير ياعم..كيفك اليوم ان شاء الله بخير.؟؟..هلا والله يا وليدي..بخير وانا ابوك..نظرت الى نتيجة تحليل سكره..أجريت له اختباراً سريعاً..دائماً ما اجد سكر دمه بين 60mg/dl وبين 65 إذا كان صائماً ولكنه يغازل المئتين اذا تناول طعامه ..انظر اليه..سبحان الله..تقفز الى ذهني آيات الله(( ومن نعمره ننكسه في الخلق))..ولكني..حقيقة.ً.لم أُلاحظ هذا على داوود..شُعور غريب يرتابني كلما يأتيني .لاأدري..هل هي سمة الخير في محياه..؟.هل هو كلامه الحلو بحلاوة دمه؟..لم أستغرب بأنه مصاب بالسكري..ما دام أن لسانه يقُطر شهداً..أُمسكُ بيديه..أتعمدُ أن أضغط عليها..لا يسألني ما ذا تفعل؟..بل هو مستسلمٌ لي..وكأنه يقول: اعمل مابدا لك..امسكها..قلبها..تأمل بقايا 100 سنة خلت..كنتُ مثلك يا محمد..شابٌ يافع..لاتكاد أن تطأ رجلي الأرض من همتي ونشاطي..100 سنة ..مضت من عمري..وكأنها 10 سنين..تحاملت شهورها وايامها..شربت من حلوها وارتويت من علقمها..احتميت من حرها وتدفأت من زمهريرها..كُنا بُسطاء يا محمد..لم نعرف من الحياة ماتعرفونه..ليتني أستطيع أن أسـأله..ولكن ربما شعوري بالخوف من أن أرى عصاه تسير على هامة رأسي بسرعة 200 كلم\س هو سبب عدم سؤالي أياه..
أتخيله يقول لي: سل ما بدا لك..صدقوني..ستعتريني الفرحة..ربما سأقفز بحجره أقبل رأسه..يا الله..كمٌ هائلٌ من الأسئلة أريد أن أسألها إياه..ليتني أسأله..داوود..أين موضع أعرابنا قبل 100 سنة..هل كنا في الماضي كحاضرنا الآن؟..هل كنا نضارع أفعالنا؟..هل كنا نحلم في المستقبل..؟
أتخيله يرد علي بقوله..: بُني..إن الحياة رحلة..صعبةٌ مسالكها..وعرةٌ طرقها..لها في نفس كل شخصٍ ذكرى..قلما يستنهضُ العقل منها متفكراً متدبرا..ولكن يا بُني..مع كثرة السالكين..وقلة الناجين..تسطع في كل وقتٍ ثُلة..يعرفون كيف يستفيدون من حياتهم..كلماتهم ستصبح نبراساً يُستضاء به في دُلجة ليلنا المُظلم..رياً يسقي ظمأ أجوافنا..فكم شُرب من عبق عقولهم..وكم رُشف من رحيق إيمانهم..
نعم..كُنا في أفعالنا ماضين بالماضي..نعرف رسولنا باسمه..نعرف انه ببدرٍ انتصر..وأنه بأحدٍ خذله الرماة..نعرف أن القوة في الرمي..ونحن نرمي بتاريخنا خلف أظهرنا بكل قوتنا..سمعنا يا بُني حديث الصخرة..وكيف أن الرسول كبّر وبشّر..نعرف انه هاجر الى المدينة..رددنا طلع البدر علينا..يا الله يا بني..كم كنتُ أرددها مع أقراني حينما كُنا صبية..جميلٌ وقعها ..اليس كذلك..؟؟
ااهٍ.. يا محمد..أذكُر أول مرةٍ ذهبنا فيها الى مكة..كم كانت رحلةً شاقة..نعرف الكثير يا بُني..ولكن..أقولها صدقاً..لم نكن مثلكم..
آآه يا داوود..ليتنا مثلكم..ليتني في عمرك.عشت وقتك ..عاصرت أحلامك..شربت من ماء العزة المتبقي حينها..لم نجد له طعماً في أيامنا هذه..نسمعُ عن العزة فلا نعرفها..نعرف أننا كُنا نجوب الأرض طولاً وعرضاً..لم نأبه للسحابة حين تمُر من فوقنا..فسيأتينا خراجها..آآهٍ يا عماه..كيف هي العزةُ في وقتكم..؟؟!! ..عماه..قل لي بربك يا عماه!!..ليتني لم أُبصر واقعنا المظلم..ليتني استطيع أن أُغمض عيني سأُغمضها..لست الوحيد..فالكل هنا يُغمض عينيه..ويلوي عنقه..ويدير برأسه..لم يقف هذا الأمر علي مطلقاً..
أغمضتها..ومازلت أغمضها..في وقتٍ أصبح المبصر فيه عمياناً..وإن إزرقّت يمامتي على حدبة عيني..فلن أُبصر..وكأن الله قد جعل علينا الليل سرمدا..(( قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً الى يوم القيامة))..فسأغمض عيني..نعم..أستطيع أن أُغمض عيني..فإن الله لم يأمر بأمرٍ إلا وللشيطان فيه نزغتان..إما الى تفريط..وإما الى إفراط..ولا يبالي بأيهما ظفر..وحسبي أنه قد ظفر بنا..فلن يترك لنا مجالاً للإبصار..فسأغمض عيني..نعم..صدقني ياعماه..أني مغمضها الآن..وسأغمضها..فأشلاءنا ممزقة على قارعة هوان أمتنا..فأفغاننا يحتضر..وعراقنا تتناهشه الضباع الخامنائية..وشيشاننا توسد مضجعه في مقبرة الكرملين. .وصراخ من انتهك عرضها يدوي في أذني. وغيرنا يرقع غشاء عفتها الممزق بديباجةٍ من ذله وهوانه.. وكانه يجيز لهم انتهاكه مرة واخرى..فهل تريدينني أن أبصر..؟؟!! لا والله..والله لن أبصر..والله لن أبصر..فانتهكوها كما تريدون..فسأغمض عيني..يااعماااه..
وإن شعرتُ بيدك الجافة التي امسكها..فنحن المتيبسون على حالتنا..انظر اليه..اقرأ في عينيه احفورة مجدٍ قديم..منحوتةٍ على جبهته التي أخذت من السجود وسماً لها..شعورٌ غريب..تاريخٌ بأكمله يجلس امامي..حكاية قديمة..كقدم مجدنا التليد المفقود..أنهيت فحصه المعتاد..قلت له: يا عم..سكرك زين..بس انتبه من الحلى الزايد..خلك على علاجك اللي تاخذه..وان شاء الله امورك تمام..
جزاك الله خير يا محمد..الله يكثر من امثالك..قالها..وأخذ يرددها..الى ان خرج من عندي..وانا اتذكر نتيجة اختبار سكره..وبين حلاوة سكره القديم..ومرارة علقمنا الحاضر..يكمن الفرق بيني وبينه..
(معتز الشمالي)