عادل مساعد العبيلي
09-14-2005, 02:14 PM
وسائل التربية الإسلامية ::
--------------------------------------------------------------------------------
وسائل التربية الإسلامية ::
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد تميّزت التربية الإسلامية بوسائل فذّة، تنسجم مع خصائص النفس البشرية وتتعدّد وتتنوّع لتستوعب جميع مداخلها ومختلف أطباعها. ومن تلك الوسائل:
1 ـ التربية بالقدوة: فقد أجمع المربُّون المسلمون على أهمية ووجوب اتباع قدوة شرّعها الإسلام متمثلة بشخصية الرسول صلى الله عليه وسلّم.
وهنا يتبادر للذهن سؤال، وهو: لماذا شخص الرسول بالذات؟
الجواب: أن الإسلام هو خاتم الأديان، ودين الكمال، وصاحب النهج الشامل المعجز، وقد أراد مُنزل هذا الدين أن يجتمع بشخص رسوله كل صفات الكمال وسمات العظمات الموجودة على الأرض وذلك ليكون قدوة للناس في واقع الأرض. فمن المعروف أن الرسول صلى الله عليه وسلّم كان خلقه القرآن فلذلك أراد الإسلام للمسلمين أن يلمسوا هذه الصفات الأخلاقية ويَرَوْها من خلال قدوة تتمثّل ببشر مثلهم، فيصدقون هذه المبادىء الحية لأنهم يَرَوْنها رأي العين ولا يقرؤونها في كتاب! ولأنهم يَرَوْنها في بشر مثلهم، فتتحرك لها نفوسهم وتهفو مشاعرهم فيحاولون تقليده واقتباس صفاته.
والمتتبّع لصفات الرسول يجد أن شخصيته الكريمة صلى الله عليه وسلّم متعددة الجوانب بشكل يجعله منفرداً عن الرسل بميزات عديدة، فشخصية الرسول تمثّلت بها كل جوانب الحياة وما كل رسول كان له مثل هذا: فالرسول عليه الصلاة والسلام كان أباً وما كل رسول كان أباً، وكان زوجاً وما كل رسول تزوّج، وبُعث للإنسانية عامة ولم يُبعث رسول قط للإنسانية عامة غيره.
فنحن نرى أن البشر فيهم الأب والابن والزوج، وفيهم السياسي والاقتصادي ورجل الشورى، وفيهم المحارب والمسالم، وفيهم المبتلى والمعافى، وفيهم الراعي والرعية، وفيهم العامل والتاجر، ونعجب لكون حياة الرسول صلى الله عليه وسلّم تستوعب كل جوانب حياة البشر لتكون قدوة لهم في هذا كله. كما أننا نجد هذا الشمول والاستيعاب في صفاته عليه السلام، فمثلاً إذا أخذنا مواقف الصبر عنده فإننا نجد أنها استوعبت كل مواقف الصبر التي قد تمر بالناس فقد ابتُلي ببلاء الخروج من وطنه، وبلاء من مات له ولد وأولاد وأحفاد، ومن ماتت له زوجة وعم وأبناء عم بعضهم قتلى، وبلاء من أُوذي، ومن فشل بالمعركة واستُهزىء به، ومن شُمِت فيه، ومن اتهم بعرض أحب الخلق إليه، وبلاء من مرض وجاع وجرح وعطش وغير ذلك من أنواع البلاء التي يعتبرها الناس مصائب بحيث لا تصيب إنساناً إلا ويجد أن الرسول صلى الله عليه وسلّم قد أُصيب بمثلها. وبالطبع فالرسول في كل موقف من هذه المواقف وفي كل حال من الأحوال كان المثل الأعلى للبشر والقدوة العليا والوحيدة لهم. ومن هنا كان الأجدر بالمربِّين أن يقتدوا بأوامر وصفات رسولهم وعلى أساسها يقوموا بتربية أولادهم. فالقدوة هي من أفضل الوسائل وأقربها إلى النجاح، لأن الكائن البشري يمر بمراحل عمريّة يتأثر بالقائد المشرف عليه؛ فالطفل يتأثر ويقتدي بوالديه، والفتى يتأثر بمثله الأعلى ويمكن أن يعتبره أستاذه أو والده أو حتى شخصية تلفزيونية مشهورة، والناشىء يتأثر ويقتدي بالشخصيات البارزة على صعيد المجتمع. وعلى كلٍّ فالتربية تفشل عند عدم اتباع القائد أو المربي للتوجيهات التي يوجهها للطفل ويطبقها على شخصه كما أن النظريات والأقوال تبقى حبراً على ورق ما لم تتحوّل إلى حقيقة واقعة تتحرك في واقع الأرض.
2 ـ التربية بالموعظة: تتأثر النفس الإنسانية بالكلام الموجَّه إليها، إلا أن هذا التأثر يتفاوت بين القبول والرفض لسببين.
أولهما: طريقة الكلام أو الوعظ الموجّه إليها.
ثانيهما: أن النفس بطبيعتها تميل إلى السهل دون الصعب، واللذيذ دون المؤلم، وتحب الانطلاق وتكره القيود.
فالواعظ يجب أن يتمتع بصفات تساعده على التأثير: من لباقة في اللسان، ووجه ضاحك هادىء يوحي بالصفاء والارتياح، مع الأخذ بعين الاعتبار النفس البشرية بكل
أطباعها وما لها من تأثير على الموعوظ فهي طبعت على الميل إلى الحرية والواعظ يقيّدها، وعلى الانطلاق وراء الأمور والواعظ يمسكها. ومثل الموعوظ كمثل الصخرة الراسية بأعلى الجبل لا تحتاج إلا إلى زحزحتها، وإمالتها، حتى تتدحرج وتهوي، بلا مشقة ولا تعب. فإذا أردنا أن نُرجعها لاقَيْنا المتاعب والمشاق.
وهذا هو مثال الإنسان يأتي رفاق السوء يدفعونه نحو الهاوية فإذا جاء الواعظ صعب عليه الاستجابة إليه، ومقاومة ميول نفسه. ذلك أن المعاصي لذيذة لأنها توافق طبيعة النفس، فالإنسان يجد لذة في سماع الغِبة والمشاركة فيها، لأنه يشعر أنه خير من هذا الذي يذكرونه بالسوء وأفضل، والغش في الامتحان لذيذ لأنه يوصل إلى النجاح بلا جهد وهو ما تهواه النفس وتتمنّاه. إلا أنه لا بد من الوعظ والقيد، ولو تركنا النفس تأتي ما تريد وتنطلق في حريتها كما تشاء لصار المجتمع (مارستاناً) كبيراً، لأن الحرية المطلقة للمجانين. لذلك يجب أن تكون الموعظة "موعظة مؤثرة تفتح طريقها إلى النفس مباشرة عن طريق الوجدان وتهزّه هزّاً، وتثير كوامنه لحظة من الوقت، كالسائل الذي تُقلِّب رواسبه فتملأ كيانه ولكنها إذا تركت تترسّب من جديد. لذك لا تكفي الموعظة وحدها في التربية إذا لم يكن بجانبها القدوة والوسط الذي يسمح بتقليد القدوة ويشجع على الأسوة بها فتصبح الموعظة بذلك ذات أثر بالغ في النفس وتصبح دافعاً من أعظم الدوافع في تربية النفوس".
والقرآن الكريم حث على الموعظة من خلال الكثير من آياته الكريمة، منها: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ * وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ}
3 ـ التربية بالعقوبة: من الأمور التي تتدرج بها التربية الإسلامية هي العقاب. فبعد القدوة والموعظة الحسنة والصبر الطويل وعندما لا ينتج عنها أي تقدم أو تحسن كان لزاماً على المربي العلاج الحاسم وهو العقاب، والعقاب نفسه يندرج ضمن أساليب مختلفة؛ فقد يعمد المربي إلى حرمان الولد من شيء يحبه أو قد يعاقبه بوضعه في غرفة خالية دون أن يكلم أحداً، أو يحرمه من نزهة... إلخ. وعندما لا يفلح كل ذلك كان لا بدّ من الضرب غير المبرِّح تأديباً للولد وإرشاداً، والولد لا يعاقب في جميع أخطائه وهفواته السلوكية وإلاّ بات لا يخشى شيئاً والضرب لا يؤتي نتيجة معه.
والإسلام عندما يأمر المربي بعقاب الولد يضعه ضمن حدود وهي الضرب على غير الوجه، وأن يضربه ضرباً لا يؤذي، وأن لا يستعمل الضرب بشكل دائم لأن العنف والشدة دائماً قد يُشعلان قلب الطفل بالكراهية. محو مربِّيه، وهذا ما يفسِّر رفض الطلاب في المدارس لقوانين الإدارة واتهامها بالظلم لأن الإدارة حسب مفهوم التلميذ هي السلطة. أما التربية اللطيفة الحانية الرقيقة كثيراً ما تفلح في تربية الأطفال على استقامة واستواء مع الانتباه إلى أن التربية التي تزيد من الرقة واللطف والحنو تضرّ ضرراً بالغاً لأنها تُنشىء كياناً ليس له قوام.
ومن هنا كان لا بد من شيء من الحزم مع اللطف والحنو وذلك لصلح الأطفال والكبار على السواء.
والأمر في كل ذلك يرجع إلى النفس التي يتعامل معها المربي وهو مكلَّف بدراستها ومعرفة كيفية التعامل معها. فمن هذه النفوس من تكتفي بالقدوة ومنها من تكتفي بالموعظة أو الترغيب ومنها ما ينفع معها التهديد ومنها بعد ذلك من لا بد لها أن تحس بلذع العقوبة على جسمها لكي تستقيم.
4 ـ التربية بالقصة: للقصة تأثير عظيم في الأولاد والكبار على حد سواء، ومن مارس مهنة التربية لا ينكر ذلك، فالولد عند سماعه لقصة جميلة ينتبه إليها انتباهاً نادر المثال، مسحوراً بها خاصة إذا كان المربي يقوم بتمثيل القصة وإلقائها مع تغيير لهجة الصوت عند اللزوم.
والإسلام يدرك هذا الميل الفطري للقصة ويدرك ما لها من تأثير ساحر على القلوب فيستغلّها لتكون وسيلة من وسائل التربية والتقويم.
وهو يستخدم كل أنواع القصة: "القصة التاريخية الواقعية المقصودة بأماكنها وأشخاصها وحوادثها، والقصة الواقعية التي تعرض نموذجاً لحالة بشرية فيستوي أن تكون بأشخاصها الواقعين أو بأي شخص يتمثل فيه ذلك النموذج، والقصة التمثيلية التي لا تمثل واقعة بذاتها ولكنها يمكن أن تقع في أية لحظة من اللحظات وفي أي عصر من العصور."
والقرآن الكريم عند عرضه للقصص يكون هدفه الرئيس الاستفادة من الناحية الدينية والتربوية والتوجيهية. وهو حين يعرض الفتنة التي يتعرض لها الأنبياء لا يقف عندها طويلاً بل يسارع ليسلّط الأضواء على لحظة تغلّبهم على هذه الفتنة وهو أسلوب رائع في القصة يبين فيها لحظة الضعف وكيفية التغلب عليها. فالإنسان معرّض لفتن كثيرة ولكنه لا يقف مكتوف اليدين تجاهها بل يَعْتبر من قصص الأنبياء ليتلغب عليها وينجو بدينه منها.
5 ـ ملء الفراغ: نشأت مشكلة الفراغ أساساً بسبب انعدام الهدف في الحياة الذي يعاني منه الكثير من الناس. كما أن هذه المشكلة باتت منتشرة انتشاراً واسعاً لديهم وهي تصبح مشكلة خطيرة إذ قام الناشىء بتبديد الوقت الضائع في الأمور غير المشروعة. وهذه المشكلة ليست واردة لدى المجتمعات الإسلامية لأنها تربّي الإنسان على أن ينظر إلى كل ساعات الحياة ولحظاتها على أنها أمانة في عنقه، عليه أن يشغلها في الخير، وتربّيه على أن يجد لذة نفسية عظيمة كلما ساهم وسابق في عمل الخير أو دَفْعِ الشرّ عن نفسه وأمته.
والتربية الإسلامية تؤقت للإنسان يومه وتحثه على اغتنام جميع أوقات العمر فيما أمر الله تعالى وهي تقسم الحياة إلى قسمين {وجعلنا الليل لباساً. وجعلنا النهار معاشاً}. فالليل للسكون النفسي والراحة والهدوء والنهار للسعي والجد وطلب العلم. وخلال النهار على الإنسان أن يملأ وقته بالأمور المتوجِّبة عليه أولاً كالعبادات والتحصيل العلمي أو السعي لاكتساب المعاش وإذا شعر بفراغ عليه بالقراءة أو الرياضة أو الصحبة البريئة وأعظم من ذلك شغل الوقت بما ينفع الناس من دعوة إلى الخير أو هداية أو إصلاح على أن يكون هدف ذلك كله طاعة الله عزّ وجلّ.
6 ـ التربية بالعبرة: تمر بالإنسان أحداث عديدة يتفاعل معها ويتأثر بها ويعتبر منها. وقد تكون نتيجة تصرفه الخاص أو لأسباب خارجة عن إرادته. والمربي البارع لا يترك الأحداث تذهب سدى بغير عبرة ولا توجيه، وإنما يستغلّها لتربية النفوس وتهذيبها، فلا يكون أثرها موقوتاً سرعان ما يضيع، إذ عند وقوع شخص ما بحادثة خطيرة تكون نفسه طرية العود قابلة لأي توجيه وتحذير حيث يكون في حالة ذهول وندم شديدين يريد السبيل لمعرفة كيفية عدم الوقوع بالخطأ مرة أخرى. فتتفاعل النفس عند الصدمة على عكس عند كونها مرتاحة مطمئنّة لا تريد شغل بالها. والمثل يقول: اضرب والحديد ساخن! لأن الضرب حينئذ يسهل معه الطرق والتشكيل. أما إذا تُرك ليبرد فيهيهات أن يتشكل منه شيء ولو بُذلت أكبر الجهود. ولقد اهتم القرآن بأسلوب التربية هذا حيث كان من نتيجته تلك الأمة العجيبة الفريدة في التاريخ كله، إذ أن الله سبحانه وتعالى عند انصهار نفوس الصحابة يطبع من خلال القرآن الكريم ما يريده من التوجيهات والتهذيبات.
والمعروف أن العرب كانت لديهم الكثير من المعتقدات والتقاليد الجاهلية فجاء الإسلام ومحاها بالأساليب التربوية المختلفة، وهدفه الرئيس بذلك تخليص النفوس من أدرانها وتعلّقاتها حتى إن المسلمين يوم أعجبتهم كثرتهم في غزوة حنين، كان الرد قاسياً عليهم فكان التوجيه والإرشاد هو ردهم إلى الله ليعتزوا به وحده. والنفس ذا طبعت على طاعة الله وخشيته ارتكزت على ركيزة لا تهتز ولا تختل وتكون قد توازنت فلا يفسدها الضعف ولا تفسدها القوة.
وبعد، فتلك أهم وسائل التربية الإسلامية ـ ملخَّصة من كتاب الأستاذ الكبير محمد قطب "منهج التربية الإسلامية" ـ نضعها بين يَدَيْ كلِّ داعية ومربٍّ ـ وخاصة المرأة سواء كانت أمّاً أو داعيةُ أو معلَّمة ـ ليُستفاد منها. والله من وراء القصد وهو يهدي إلى سوء السبيل.
--------------------------------------------------------------------------------
وسائل التربية الإسلامية ::
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد تميّزت التربية الإسلامية بوسائل فذّة، تنسجم مع خصائص النفس البشرية وتتعدّد وتتنوّع لتستوعب جميع مداخلها ومختلف أطباعها. ومن تلك الوسائل:
1 ـ التربية بالقدوة: فقد أجمع المربُّون المسلمون على أهمية ووجوب اتباع قدوة شرّعها الإسلام متمثلة بشخصية الرسول صلى الله عليه وسلّم.
وهنا يتبادر للذهن سؤال، وهو: لماذا شخص الرسول بالذات؟
الجواب: أن الإسلام هو خاتم الأديان، ودين الكمال، وصاحب النهج الشامل المعجز، وقد أراد مُنزل هذا الدين أن يجتمع بشخص رسوله كل صفات الكمال وسمات العظمات الموجودة على الأرض وذلك ليكون قدوة للناس في واقع الأرض. فمن المعروف أن الرسول صلى الله عليه وسلّم كان خلقه القرآن فلذلك أراد الإسلام للمسلمين أن يلمسوا هذه الصفات الأخلاقية ويَرَوْها من خلال قدوة تتمثّل ببشر مثلهم، فيصدقون هذه المبادىء الحية لأنهم يَرَوْنها رأي العين ولا يقرؤونها في كتاب! ولأنهم يَرَوْنها في بشر مثلهم، فتتحرك لها نفوسهم وتهفو مشاعرهم فيحاولون تقليده واقتباس صفاته.
والمتتبّع لصفات الرسول يجد أن شخصيته الكريمة صلى الله عليه وسلّم متعددة الجوانب بشكل يجعله منفرداً عن الرسل بميزات عديدة، فشخصية الرسول تمثّلت بها كل جوانب الحياة وما كل رسول كان له مثل هذا: فالرسول عليه الصلاة والسلام كان أباً وما كل رسول كان أباً، وكان زوجاً وما كل رسول تزوّج، وبُعث للإنسانية عامة ولم يُبعث رسول قط للإنسانية عامة غيره.
فنحن نرى أن البشر فيهم الأب والابن والزوج، وفيهم السياسي والاقتصادي ورجل الشورى، وفيهم المحارب والمسالم، وفيهم المبتلى والمعافى، وفيهم الراعي والرعية، وفيهم العامل والتاجر، ونعجب لكون حياة الرسول صلى الله عليه وسلّم تستوعب كل جوانب حياة البشر لتكون قدوة لهم في هذا كله. كما أننا نجد هذا الشمول والاستيعاب في صفاته عليه السلام، فمثلاً إذا أخذنا مواقف الصبر عنده فإننا نجد أنها استوعبت كل مواقف الصبر التي قد تمر بالناس فقد ابتُلي ببلاء الخروج من وطنه، وبلاء من مات له ولد وأولاد وأحفاد، ومن ماتت له زوجة وعم وأبناء عم بعضهم قتلى، وبلاء من أُوذي، ومن فشل بالمعركة واستُهزىء به، ومن شُمِت فيه، ومن اتهم بعرض أحب الخلق إليه، وبلاء من مرض وجاع وجرح وعطش وغير ذلك من أنواع البلاء التي يعتبرها الناس مصائب بحيث لا تصيب إنساناً إلا ويجد أن الرسول صلى الله عليه وسلّم قد أُصيب بمثلها. وبالطبع فالرسول في كل موقف من هذه المواقف وفي كل حال من الأحوال كان المثل الأعلى للبشر والقدوة العليا والوحيدة لهم. ومن هنا كان الأجدر بالمربِّين أن يقتدوا بأوامر وصفات رسولهم وعلى أساسها يقوموا بتربية أولادهم. فالقدوة هي من أفضل الوسائل وأقربها إلى النجاح، لأن الكائن البشري يمر بمراحل عمريّة يتأثر بالقائد المشرف عليه؛ فالطفل يتأثر ويقتدي بوالديه، والفتى يتأثر بمثله الأعلى ويمكن أن يعتبره أستاذه أو والده أو حتى شخصية تلفزيونية مشهورة، والناشىء يتأثر ويقتدي بالشخصيات البارزة على صعيد المجتمع. وعلى كلٍّ فالتربية تفشل عند عدم اتباع القائد أو المربي للتوجيهات التي يوجهها للطفل ويطبقها على شخصه كما أن النظريات والأقوال تبقى حبراً على ورق ما لم تتحوّل إلى حقيقة واقعة تتحرك في واقع الأرض.
2 ـ التربية بالموعظة: تتأثر النفس الإنسانية بالكلام الموجَّه إليها، إلا أن هذا التأثر يتفاوت بين القبول والرفض لسببين.
أولهما: طريقة الكلام أو الوعظ الموجّه إليها.
ثانيهما: أن النفس بطبيعتها تميل إلى السهل دون الصعب، واللذيذ دون المؤلم، وتحب الانطلاق وتكره القيود.
فالواعظ يجب أن يتمتع بصفات تساعده على التأثير: من لباقة في اللسان، ووجه ضاحك هادىء يوحي بالصفاء والارتياح، مع الأخذ بعين الاعتبار النفس البشرية بكل
أطباعها وما لها من تأثير على الموعوظ فهي طبعت على الميل إلى الحرية والواعظ يقيّدها، وعلى الانطلاق وراء الأمور والواعظ يمسكها. ومثل الموعوظ كمثل الصخرة الراسية بأعلى الجبل لا تحتاج إلا إلى زحزحتها، وإمالتها، حتى تتدحرج وتهوي، بلا مشقة ولا تعب. فإذا أردنا أن نُرجعها لاقَيْنا المتاعب والمشاق.
وهذا هو مثال الإنسان يأتي رفاق السوء يدفعونه نحو الهاوية فإذا جاء الواعظ صعب عليه الاستجابة إليه، ومقاومة ميول نفسه. ذلك أن المعاصي لذيذة لأنها توافق طبيعة النفس، فالإنسان يجد لذة في سماع الغِبة والمشاركة فيها، لأنه يشعر أنه خير من هذا الذي يذكرونه بالسوء وأفضل، والغش في الامتحان لذيذ لأنه يوصل إلى النجاح بلا جهد وهو ما تهواه النفس وتتمنّاه. إلا أنه لا بد من الوعظ والقيد، ولو تركنا النفس تأتي ما تريد وتنطلق في حريتها كما تشاء لصار المجتمع (مارستاناً) كبيراً، لأن الحرية المطلقة للمجانين. لذلك يجب أن تكون الموعظة "موعظة مؤثرة تفتح طريقها إلى النفس مباشرة عن طريق الوجدان وتهزّه هزّاً، وتثير كوامنه لحظة من الوقت، كالسائل الذي تُقلِّب رواسبه فتملأ كيانه ولكنها إذا تركت تترسّب من جديد. لذك لا تكفي الموعظة وحدها في التربية إذا لم يكن بجانبها القدوة والوسط الذي يسمح بتقليد القدوة ويشجع على الأسوة بها فتصبح الموعظة بذلك ذات أثر بالغ في النفس وتصبح دافعاً من أعظم الدوافع في تربية النفوس".
والقرآن الكريم حث على الموعظة من خلال الكثير من آياته الكريمة، منها: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ * وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ}
3 ـ التربية بالعقوبة: من الأمور التي تتدرج بها التربية الإسلامية هي العقاب. فبعد القدوة والموعظة الحسنة والصبر الطويل وعندما لا ينتج عنها أي تقدم أو تحسن كان لزاماً على المربي العلاج الحاسم وهو العقاب، والعقاب نفسه يندرج ضمن أساليب مختلفة؛ فقد يعمد المربي إلى حرمان الولد من شيء يحبه أو قد يعاقبه بوضعه في غرفة خالية دون أن يكلم أحداً، أو يحرمه من نزهة... إلخ. وعندما لا يفلح كل ذلك كان لا بدّ من الضرب غير المبرِّح تأديباً للولد وإرشاداً، والولد لا يعاقب في جميع أخطائه وهفواته السلوكية وإلاّ بات لا يخشى شيئاً والضرب لا يؤتي نتيجة معه.
والإسلام عندما يأمر المربي بعقاب الولد يضعه ضمن حدود وهي الضرب على غير الوجه، وأن يضربه ضرباً لا يؤذي، وأن لا يستعمل الضرب بشكل دائم لأن العنف والشدة دائماً قد يُشعلان قلب الطفل بالكراهية. محو مربِّيه، وهذا ما يفسِّر رفض الطلاب في المدارس لقوانين الإدارة واتهامها بالظلم لأن الإدارة حسب مفهوم التلميذ هي السلطة. أما التربية اللطيفة الحانية الرقيقة كثيراً ما تفلح في تربية الأطفال على استقامة واستواء مع الانتباه إلى أن التربية التي تزيد من الرقة واللطف والحنو تضرّ ضرراً بالغاً لأنها تُنشىء كياناً ليس له قوام.
ومن هنا كان لا بد من شيء من الحزم مع اللطف والحنو وذلك لصلح الأطفال والكبار على السواء.
والأمر في كل ذلك يرجع إلى النفس التي يتعامل معها المربي وهو مكلَّف بدراستها ومعرفة كيفية التعامل معها. فمن هذه النفوس من تكتفي بالقدوة ومنها من تكتفي بالموعظة أو الترغيب ومنها ما ينفع معها التهديد ومنها بعد ذلك من لا بد لها أن تحس بلذع العقوبة على جسمها لكي تستقيم.
4 ـ التربية بالقصة: للقصة تأثير عظيم في الأولاد والكبار على حد سواء، ومن مارس مهنة التربية لا ينكر ذلك، فالولد عند سماعه لقصة جميلة ينتبه إليها انتباهاً نادر المثال، مسحوراً بها خاصة إذا كان المربي يقوم بتمثيل القصة وإلقائها مع تغيير لهجة الصوت عند اللزوم.
والإسلام يدرك هذا الميل الفطري للقصة ويدرك ما لها من تأثير ساحر على القلوب فيستغلّها لتكون وسيلة من وسائل التربية والتقويم.
وهو يستخدم كل أنواع القصة: "القصة التاريخية الواقعية المقصودة بأماكنها وأشخاصها وحوادثها، والقصة الواقعية التي تعرض نموذجاً لحالة بشرية فيستوي أن تكون بأشخاصها الواقعين أو بأي شخص يتمثل فيه ذلك النموذج، والقصة التمثيلية التي لا تمثل واقعة بذاتها ولكنها يمكن أن تقع في أية لحظة من اللحظات وفي أي عصر من العصور."
والقرآن الكريم عند عرضه للقصص يكون هدفه الرئيس الاستفادة من الناحية الدينية والتربوية والتوجيهية. وهو حين يعرض الفتنة التي يتعرض لها الأنبياء لا يقف عندها طويلاً بل يسارع ليسلّط الأضواء على لحظة تغلّبهم على هذه الفتنة وهو أسلوب رائع في القصة يبين فيها لحظة الضعف وكيفية التغلب عليها. فالإنسان معرّض لفتن كثيرة ولكنه لا يقف مكتوف اليدين تجاهها بل يَعْتبر من قصص الأنبياء ليتلغب عليها وينجو بدينه منها.
5 ـ ملء الفراغ: نشأت مشكلة الفراغ أساساً بسبب انعدام الهدف في الحياة الذي يعاني منه الكثير من الناس. كما أن هذه المشكلة باتت منتشرة انتشاراً واسعاً لديهم وهي تصبح مشكلة خطيرة إذ قام الناشىء بتبديد الوقت الضائع في الأمور غير المشروعة. وهذه المشكلة ليست واردة لدى المجتمعات الإسلامية لأنها تربّي الإنسان على أن ينظر إلى كل ساعات الحياة ولحظاتها على أنها أمانة في عنقه، عليه أن يشغلها في الخير، وتربّيه على أن يجد لذة نفسية عظيمة كلما ساهم وسابق في عمل الخير أو دَفْعِ الشرّ عن نفسه وأمته.
والتربية الإسلامية تؤقت للإنسان يومه وتحثه على اغتنام جميع أوقات العمر فيما أمر الله تعالى وهي تقسم الحياة إلى قسمين {وجعلنا الليل لباساً. وجعلنا النهار معاشاً}. فالليل للسكون النفسي والراحة والهدوء والنهار للسعي والجد وطلب العلم. وخلال النهار على الإنسان أن يملأ وقته بالأمور المتوجِّبة عليه أولاً كالعبادات والتحصيل العلمي أو السعي لاكتساب المعاش وإذا شعر بفراغ عليه بالقراءة أو الرياضة أو الصحبة البريئة وأعظم من ذلك شغل الوقت بما ينفع الناس من دعوة إلى الخير أو هداية أو إصلاح على أن يكون هدف ذلك كله طاعة الله عزّ وجلّ.
6 ـ التربية بالعبرة: تمر بالإنسان أحداث عديدة يتفاعل معها ويتأثر بها ويعتبر منها. وقد تكون نتيجة تصرفه الخاص أو لأسباب خارجة عن إرادته. والمربي البارع لا يترك الأحداث تذهب سدى بغير عبرة ولا توجيه، وإنما يستغلّها لتربية النفوس وتهذيبها، فلا يكون أثرها موقوتاً سرعان ما يضيع، إذ عند وقوع شخص ما بحادثة خطيرة تكون نفسه طرية العود قابلة لأي توجيه وتحذير حيث يكون في حالة ذهول وندم شديدين يريد السبيل لمعرفة كيفية عدم الوقوع بالخطأ مرة أخرى. فتتفاعل النفس عند الصدمة على عكس عند كونها مرتاحة مطمئنّة لا تريد شغل بالها. والمثل يقول: اضرب والحديد ساخن! لأن الضرب حينئذ يسهل معه الطرق والتشكيل. أما إذا تُرك ليبرد فيهيهات أن يتشكل منه شيء ولو بُذلت أكبر الجهود. ولقد اهتم القرآن بأسلوب التربية هذا حيث كان من نتيجته تلك الأمة العجيبة الفريدة في التاريخ كله، إذ أن الله سبحانه وتعالى عند انصهار نفوس الصحابة يطبع من خلال القرآن الكريم ما يريده من التوجيهات والتهذيبات.
والمعروف أن العرب كانت لديهم الكثير من المعتقدات والتقاليد الجاهلية فجاء الإسلام ومحاها بالأساليب التربوية المختلفة، وهدفه الرئيس بذلك تخليص النفوس من أدرانها وتعلّقاتها حتى إن المسلمين يوم أعجبتهم كثرتهم في غزوة حنين، كان الرد قاسياً عليهم فكان التوجيه والإرشاد هو ردهم إلى الله ليعتزوا به وحده. والنفس ذا طبعت على طاعة الله وخشيته ارتكزت على ركيزة لا تهتز ولا تختل وتكون قد توازنت فلا يفسدها الضعف ولا تفسدها القوة.
وبعد، فتلك أهم وسائل التربية الإسلامية ـ ملخَّصة من كتاب الأستاذ الكبير محمد قطب "منهج التربية الإسلامية" ـ نضعها بين يَدَيْ كلِّ داعية ومربٍّ ـ وخاصة المرأة سواء كانت أمّاً أو داعيةُ أو معلَّمة ـ ليُستفاد منها. والله من وراء القصد وهو يهدي إلى سوء السبيل.