منقول
على أطلال بغداد :
أطلقت خيالي فيما لو حصلت الحرب على العراق ، و كتبت هذه القصة :
صلاح .. صلاح .. ألا تسمع ..
أطلقت فاطمة تلك الصيحات على أخيها و هي تقترب من باب شيء كان يدعى قديما منزل .. و الآن هو عبارة عن مجموعة من الحصى تراكبت فوق بعضها ، متماسكة بنوع من التنافر الذي يجعلها آيلة للسقوط في أي وقت ..
يا صلاح .. أين أنت ؟ .. ها أنت بالخارج .. لماذا لم تجبني ؟ ألم تسمع صوتي ؟؟
التفت إليها : نعم سمعتك ، لكن كنت أفكر .. كان بالي مشغولاً بموضوع ما ..
فاطمة : ما هو ؟ أجابها : لا شيء .. لا شيء .. فقط أخبريني ماذا أردت ؟
فاطمة : كنت أريد إخبارك أن الماء نفد من عندنا و لابد من إحضار المزيد ..
أجابها : سأعمل على ذلك إن شاء الله .. و خرج من عندها ..
نظرت إليه وهو يبتعد .. أدركت كم هو مهموم .. تكالبت عليه الأحزان على صغر سنة الذي لم يتجاوز الثانية عشر .. كان يصغرها بثلاث سنوات .. و هاهو قد تولى مسؤولية العناية بها و بنفسه بعد موت والديها و أخيها الكبير قبل فترة .. .. آه .. كان الله في عونه ..
خرج صلاح متوجها صوب الطرف الشمالي من قريته حيث يوجد هناك بئر لا يزال بها شيء من الماء .. أخذ يسير و يقلب نظره فيما حوله .. إنه مشهد قد اعتاد عليه .. البيوت المهدمة .. المزارع أو بالأصح بقايا المزارع حيث أضحت مساحات فارغة لا تسكنها البذور إلا لتموت بها فتضحي مقابر لها .. الناس الذين بدا على ملامحهم الضعف و الهزال ..
لا يزال يتذكر ذلك اليوم الرهيب حينما حلقت فوقهم أسراب الموت التي يسمونها طائرات .. لقد اجتاحت السماء بسرعات رهيبة .. و ألقت على ديارهم قنابل لم تدع شيئا إلا دكته .. لا بيت .. لا مسجد .. لا مستشفى .. جميعها استهدفتها أسلحة الكفار ..
لا يزال يذكر حينما حلقت فوقهم هلع الناس .. و احتمائهم بأي شيء .. لكن هؤلاء القساة تفننوا في أساليب قتل الناس .. قنابلهم هدمت الدور على من فيها .. من الرجال و النساء و الصبيان .. و من نجا من القنابل لم ينج من الخوف .. سبحان الله .. أي جنس من البشر هذا الذي لا يأبه إلا بنفسه ..
لا يزال يذكر أباه الذي خرج لإسعاف أمه المصابة بجراح من أثر تساقطت جزء من السقف عليها .. خرج و معه أخاه الأكبر ينقلانها على أيديهما فأصلبتهم صنيعة الكفار في مقتل .. أمام عينيه ..
ما أمر أن تفقد أباك و أمك أمام عينيك .. ما أشده أن تسلب من كنت تعتمد عليه بعد الله .. و هكذا فجأة .. و تترك في هذا الدنيا لا معين لك و لا نصير إلا الله ..
السلام عليكم .. كيف حالك يا صلاح ؟؟
قطع عليه هذا السؤال حبل أفكاره .. رد عليه : و عليك السلام و رحمة الله .. بخير ، و أنت يا أحمد ؟؟
أجابه : الحمد لله ..
صلاح : كيف جرحك هل تحسن ؟؟ ..
أحمد : نوعا ما ، لكن لا يزال هناك بعض الألم .. إلى أين أنت ذاهب ؟؟
صلاح : .. إلى البئر لإحضار بعض الماء ..
أحمد : إذن أسرع حيث أنه قد بدأ في النضوب و قد تنتهي اليوم أو غدا ..
وصل صلاح إلى البئر ووجد حولها بعض الزحام .. الكل يريد الماء ، حيث أنه لم يعد في القرية سوى هذا البئر و بئر أخرى .. بينما نضبت الآبار الأخرى ..
سبحان الله .. قبل فتره لم تكن تستخدم كثيرا هذه الآبار .. لكن لما قطعت التمديدات إبان الحرب .. و تعطلت المحطة التي تغذي البلاد بالكهرباء .. صاحب ذلك شل لكثير من القطاعات الحيوية الرئيسية .. و كان منها محطة ضخ الماء للقرى و المدن ..
و بعد جهد جهيد تمكن صلاح من أخذ جالون من الماء و بينما هو في طريق العودة .. استوقفه مشهد يتكرر يوميا .. كانت جنازة يحملها مجموعة من الناس و متوجهين لدفنها بعد أن صلوا عليها ..
لا يكاد يمر يوما إلا و تشاهد مثل هذه الجنائز ثلاث أو أربع أو ربما أكثر .. منهم من مات قتلا بالقنابل ، و منهم من مات بسبب الحطام ، و منهم من مات جوعا .. و كذلك بسبب المرض في ضل نقص الأدوية ..
اختنقت الصرخات في حلوق الناس .. بكوا و بكوا حتى ملوا من البكاء و مل منهم البكاء .. اللهم ارحم من مات منهم و صبر من بقي حتى يلقاك ..
وصل صلاح لبيته .. و دفع الباب و دخل .. يا فاطمة .. هاهو الماء قد أحضرته ..
خرجت أخته و قالت : جزاك الله خير .. شكلك متعب .. هل أحضر لك شيء تأكله ؟ .. بقي معنا قطع من الخبز ، هي يابسة قليلا ، لكن مع بلها بالماء تستطيع أكلها ..
أجابها : لا أريد شيء .. و خرج من المنزل ..
أخذ يمشي قليلا ثم رفع رأسه و نظر ..
الأطلال من كل مكان حوله .. أطلال مدينة عظيمة كانت يوما رأسا للإسلام .. أطلال مدينة ضيعها أهلها بعد أن ضيعوا أمر ربهم ..
اقترب من أحد البيوت المهدمة .. و جلس بجواره .. و أخذ يبكي ..
ما الذي أجرمناه حتى يحصل لنا كل ما حصل .. لم نؤذ أحد .. لم نقتل أي شخص ..
ما ذنبنا إن كان الحكام مجرمون .. أليسوا هم أولى بالعقوبة .. لماذا يقتل شعبنا و هو لم يقترف ذنبا ..
أبن المسلمون عنا.. أين العرب .. كيف لم يهرعوا لنجدتنا .. كيف أسلمونا إلى أيدي الكفرة .. كيف لم يهب أحد منهم لنجدتنا ..
هل صدقوا ادعاءات أمريكا .. هل صدقوا أنها جاءت لأجل الأسلحة الموهومة .. أولا يرونها تستهدف الإسلام .. أولا يبصرونها تترك إسرائيل و هي أم الإرهاب بل تدعمها و تأتي لشعب ضعيف أنهكه الحصار و الألم فتسومه العذاب ..
يا ربي إلى من ألجأ و ألتجيء غيرك .. ربي قد خذلنا الناس جميعا فكن معنا .. ربي إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي .. غير أن عافيتك هي أوسع لنا .. و لا حول و لا قوة إلا بك ..
اللهم أهلك الظالمين بالظالمين .. اللهم عليك بدول الكفر أجمعين .. اللهم إنهم قد تكالبوا علينا .. اللهم إنهم لم يرقبوا فينا إلا و لا ذمة فخذهم يا سميع يا مجيب .. يا من يجيب المضطر إذا دعاه و يكشف السوء .. يا سميع يا مجيب ..
جاءته أخته.. فجلست بجانبه و قالت ..
لا تبكي يا أخي قد قطعت قلبي .. لا ترق دمعك .. فربنا قريب مجيب يعلم حالنا و لن يضيعنا .. قم دعنا نعد للمنزل .. هاهي الشمس قد أوشكت على الغروب .. قام معها و عادا إلى منزلهما ..
و في طريقهما نحو المنزل أبصرا مجموعة من الناس على أكتافهم شيء .. أدركا أنه أحد إخوانهم من أبناء القرية و قد فارق الحياة .. و هم متجهون به نحو المقبرة لدفنه ..
همهم صلاح .. هذه نهاية كل حي .. كل نفس ذائقة الموت .. و نحن لابد سنفارق هذه الدار اليوم أم غدا .. لكن كم كان ودي أن أغادرها و أنا رافع رأسي مفتخر بأمتي معتز بديني ..
إذا كنا سنموت لا محالة .. فلا نموت إلا و نحن شامخون .. مادامت النهاية واحدة فلأمت في سبيل ديني .. في سبيل إعلاء لا إله إلا الله .. اللهم ارزقني الشهادة في سبيلك ..
و دخل بيته و أغلق الباب ..
انتهت
المفضلات