هو أبوعبد الرحمن موسى بن نصير بن عبد الرحمن زيد اللخمى البلوي ، فاتح الأندلس. ولد موسى بن نصير فى خلافة عمربن الخطاب -رضى الله عنه- سنة (19هـ)، وأصله من وادى القرى بالحجاز، وكان أبوه على حرس معاوية -رضى الله عنه-. ونشأ موسى فى دمشق، وولى غزو البحر لمعاوية، فغزا قبرص، وبنى بها حصونًا، وخدم بنى مروان ونبه شأنه، وولى لهم الأعمال، فكان على خراج البصرة فى عهد الحجاج، وغزا إفريقيا فى عهد ولاية عبد العزيز بن مروان. ولما آلت الخلافة إلى الوليد بن عبد الملك ولاّه إفريقيا الشمالية وما وراءها من المغرب سنة (88هـ)، فأقام فى القيروان، واستعمل مولاه طارق بن زياد على طنجة، وتعاون مع مولاه طارق فى فتح الأندلس إلى أن وصلا إلى جبل طارق وسفوح جبال البرانس. وكانت نفسه طوَّاقة لفتح بلاد فرنسا، وإيطاليا، ولكن الخليفة الوليد بن عبد الملك قلق على الجيش وخاف من عواقب الإيغال، فكتب إلى موسى يأمره بالعودة إلى دمشق فأطاع موسى الأمر، واستصحب طارقًا معه، واستخلف ابنه عبد العزيز على قرطبة، وكان موسى بن نصير عاقلاً شجاعًا كريمًا تقيًا لم يُهزم له جيش قط.. وكانت سياسته فى البلاد التى تم له فتحها قائمة على إطلاق الحرية الدينية لأهلها، وإبقاء أملاكهم وقضائهم فى أيديهم ومنحهم الاستقلال الداخلى على أن يؤدوا الجزية. وتوفى موسى بن نصير سنة (97هـ)، بعد حياة مليئة بالكفاح والجهاد والفتوحات الإسلامية.
الخليفة الأموي يرفض عودة طارق للأندلس ويعينه مستشارا في قصر الخلافة
طاقة البشر وما هو فوق الاحتمال وكثيرا ما يشعر عظماء التاريخ بالظلم رغم ما قدموه من تضحيات تفوق الأساطير.. ولكن التاريخ دائما ينصفهم، وتذكرهم مختلف الاجيال، مهما كانت الصعاب ومهما كانت أشواك الطريق!
لقد قرر الخليفة الأموي الوليد بن عبدالملك أن يستدعي موسي بن نصير وطارق بن زياد من الأندلس وبسرعة العودة إلي دمشق عاصمة الخلافة الأموية.
ولم يكن يتصور موسي بن نصير القائد العظيم الذي أخضع المغرب العربي لسلطان الدولة الأموية، أنه سوف يذهب إلي دمشق ولن يعود إلي حبه في الجهاد، ويكمل الفتوحات التي قام بها في شبه الجزيرة الأبيرية وجنوب فرنسا.
ولم يتصور أيضا طارق بن زياد أن هذه الزيارة إلي دمشق هي نهاية المطاف لجهاده العظيم، وأنه سوف يقبع بعيدا عن ميادين الجهاد.
ويحار المؤرخون بهذا الموقف الذي وقفه الخليفة ضد البطلين العظيمين بلا مبرر من منطق سياسي أو غير سياسي..
فقد حالفت الانتصارات المذهلة كلا البطلين بل أن طموحات موسي بن نصير فاقت كل التوقعات عندما أراد أن يغزو جنوب أوربا كلها، ويحاصر القسطنطينية، ويصل إلي دمشق عن طريق أوربا؟!
ولكن الخليفة حال بينه وبين هذه الطموحات..
ربما لأنه خشي من هذه التوسعات الهائلة التي لم تحدث طوال عصور مختلفة!
وربما خوفا من طموحات موسي بن نصير رغم أن أيام عمره كانت تقترب من الثمانين!!
لم يقابل البطلان بالابتهاج، ولا برفع لافتات الترحيب، ولا بالهتافات الجماهيرية بالنصر الذي تحقق علي يد البطلين.. ولكن قوبل بالصمت.. المخيف.
كانا يسوقان أمامهما مئات الأسري، ومئات الجواري، ومنضدة سليمان.. وهي لاتمت بصلة إلي سيدنا سليمان.. وهي المنضدة المطعمة بالذهب واللأليء والتي كانت اعجوبة من الأعاجيب التي تدل علي ما كانت تنعم به الأندلس من ثراء.. فما السر وراء تعنت الخليفة سليمان بن عبدالملك الذي خلف أخاه الوليد مع هذين البطلين؟
بعض المؤرخين يقول أن السبب يرجع إلي أن سليمان طلب منهما التريث في دخول دمشق إلي أن تنتقل السلطة له، ويفوز بكل هذه الهدايا لأن أخاه كان يعاني من مرض الموت! لكن هذا الرأي بعيد عن الحقيقة، فكل هذه الأموال ستؤول إلي خزينة الدولة أو بيت مال المسلمين سواء أكان الخليفة هو الوليد أو سليمان!
وقال البعض الآخر:
أن الخليفة كان يخشي أن يستغل أي منهما بالأندلس، ويتنصل عن الخلافة، وهذا الكلام أيضا بعيد عن الواقع لأن الدولة الأموية كانت في أوج قوتها ومن الصعوبة بمكان أن يفكر أحد الولاة من الانفصال عنها.
والأمر محير في كل الأحوال
وكأني بموسي بن نصير يتذكر ما مضي من أيام عمره.. لقد ولد في خلافة عمربن الخطاب، وكان والده أحد أسري خالدبن الوليد، وأنه انتقل من خدمة سيد إلي أخر حتي انتهي به المطاف لأن يكون حارسا من حرس معاوية في الشام، ولاعتداده بنفسه، وسعة صدر معاوية رفض أن يحارب ضد الامام علي، ورفض معاوية أن يرغمه أن يعمل ضد ارادته، وقد تأثر ابنه موسي به، فدرس الحديث بعد أن حفظ القرآن الكريم، فكان بليغا فصيحا، وجاء مع عبدالعزيز بن مروان والد عمربن عبدالعزيز إلي مصر عندما أصبح واليا عليها، وشفع له إلي أن يصبح واليا علي افريقية حيث استطاع اخماد ثورة البربر، وأصبح الوالي القوي المهيمن علي الشمال الافريقي كله حتي المغرب الأقصي، وفي ولايته دخل الكثير من البربر الاسلام لحسن سياسته، وحرصه علي أن ينشر الاسلام بين الناس بالحسني، واستطاع أن يبعث بمولاه طارق بن زياد ليدق أبواب أوربا، ويتوغل داخل الأراضي الأوربية، ويخضعها لراية الاسلام..
وها هو مكبل كالأسد الأسير في قفص.
وكأني بطارق بن زياد هو الآخر وقد حوصرت مواهبه، وقيدت رغباته، وحوصر بين جدران صماء في دمشق، وموقعة ليس في قصر من قصور الخلافة الأموية مستشارا أو غير مستشار، ولكن موقعه هو ميدان القتال،
حيث الجهاد في سبيل الله، وحيث النصر أو الشهادة!
لقد استطاع طارق أن يحقق معجزة بلاشك عندما استطاع بعدد قليل من البربر والعرب أن يجابه قوي القوط، وأن ينتصر عليهم، رغم صعوبة الأراضي الأسبانية، ووعورة جغرافيتها، وكان يسير وفق خطة عسكرية وسياسية رائعة..
واكتملت منظومة الفتح عندما قرر الشيخ الوقور موسي بن نصير بعبقريته العسكرية ودهائه السياسي أن يسيطر علي باقي الأقاليم، وأن يتجاوز أسبانيا إلي جنوب فرنسا..
وها هو طارق بن زياد يشعر بالأسي والحزن، فقد قال بعض الرواة أنه عين مستشارا للخليفة سليمان بن عبدالملك.. أي أنه فقد دوره المؤثر في الفتوحات، وأصبح مجرد مستشار في قصر الخلافة رغم أن ميدانه الحقيقي هو ميادين الجهاد لا الجلوس بين حجرات صماء في قصر الخلافة، ثم سرعان ما نسيه الناس!!
وقال بعض الرواة الأخرين:
لقد أنصفه الخليفة وأمر أن يعود إلي الأندلس.. ولكن هذه رواية حقيقية لأنه لم يظهر له أي دور تاريخي بعد أن ذهب إلي دمشق، بل أن الذي أخذ يسير الأمور في الأندلس، هو عبدالعزيز بن موسي.. الحاكم الثاني للاندلس بعد طارق بن زياد.
وهكذا انزوت سيرة طارق بن زياد بعد أن كان مليء السمع والبصر، وبعد أن كان مجرد ذكر اسمه في ميدان القتال يربك العدو ويجعله يحسب للمعركة التي يخوضها ضده ألف حساب!
لم يقدر طارق بن زياد!
ولم يكافيء علي دوره العظيم في الفتوحات سواء في الجبهة الأسبانية، أو جبهة الشمال الافريقي.
و.. مات في خمول!!
أما مأساة موسي بن نصير فهي مأساة تثير الأسي، وتثير الشجن..
كان موسي يؤمن بأن طاقات الانسان لاتحد، وأن العجز الانساني هو حالة من الخوف لو استسلم لها الانسان توقفت حياته، ولهذا أبي أن يستسلم لأي ألوان المرض أو العجز، بل جعل من ساقه العرجاء ركيزة لأن تدفعه إلي أن يحفر لنفسه طريقا، ويبني مجدا للاسلام.. لكن طموحاته لم تجد من الوليدبن عبدالملك الحماس الكافي، بل أرسل في استدعائه، ربما لخشيته أن تتحول هذه الأمبراطورية المترامية الأطراف إلي امبراطورية يصعب السيطرة عليها والتحكم فيها، كما أنه كان يري أن الاسلام ليس فتحا، ولكن يجب أن تثبت دعائمه في البلاد المفتوحة.
ويقرر موسي العودة إلي دمشق.. إن الرحلة من الأندلس إلي دمشق رحلة طويلة وشاقة لرجل في عمره، ولكنه ليس له خيار فلابد من العودة، وليحمل معه من الهدايا ما يشعر الخليفة بعظمة العطاء الذي يثبت عظمة الانجازات التي حققها موسي للدولة الأموية، والأمجاد التي حققها في سبيل مد نور الاسلام إلي هذه الأماكن البعيدة جدا عن مركز الخلافة، والتي لم يكن يخطر علي بال أحد أنه يمكن أن تصل إليها جيوش الاسلام.
قرر موسي العودة، وخرج من اشبيليه في ذي الحجة سنة 95 ه، بعد أربع سنوات من الجهاد المرير في غرب أوربا، ومعه القائد العظيم طارق بن زياد، وقابله الخليفة الوليدبن عبدالملك مقابلة تليق بما قدمه من خدمات للدولة، وذهب رغم مرضه إلي المسجد وصلي لله شكرا عما أفاء الله به علي المسلمين في عهده من فتوحات،
وتولي سليمان بن عبدالملك الخلافة (96ه) ولأن بجهله المؤرخون قرر ألا يعود موسي بن نصير مرة ثانية للمغرب أو الاندلس.
وهناك رواية بأن سليمان أساء معاملته أو كما يقول الدكتور محمد رجب البيومي:
.. وأل الأمر بعده بعد الوليد بن عبدالملك إلي سليمان بن عبدالملك، فنكبه نكبة منكره وقسا عليه وأذله، اذ لم يتمهل في سيره قليلا حتي يموت الوليد ويعزي الفتح لعهده، ولقد قال سليمان هذا أكبر سخط من الناس في الدنيا وعقاب من الله في الآخرة، فعلي يده وبتدبيره صرع أبطال أفذاد فتحوا الممالك، ودوخوا الشعوب، وأنت حين تسأل عن نكبة موسي، ومصرع قتيبة بن مسلم، ومحمد بن القاسم الثقفي وغيرهم ممن يذكرهم أعداؤهم قبل ذويهم بالعظمة والبطولة والإكبار حين تسأل عن هؤلاء لانجد غير طائش أو لمن شاءت له الأقدار أن يتحكم في عمالقة أفذاذ فتحوا الدنيا، وحملوا نور الاسلام إلي حيث يبدد الغياهب، ويكتسح الظلمات، وكم في التاريخ من مهازل دامية تنفطر لها الأكباد!!
وقد قضي موسي أخر أيامه شريدا يسأل الناس! لماذا؟.. ليجمع أموالا فرضها عليه سليمان، اذ اتهمه بها في غير انصاف.. وهكذا كانت المسألة الذليلة خاتمة أدوار هذا الفاتح العربي الكبير.. فليعظ الناس'!
وهناك رواية أخري تقول أن الخليفة لم يسيء معاملته، بل أن الكثير من المؤرخين يتحدثون عن أيام موسي الأخير، وكيف اصطحبه سليمان بن عبدالملك معه لرحلة حج.
ويروي أن موسي بعد أن أدي الفريضة تداعي إلي ذهنه خاطر الح عليه، وهو أنه عندما فتح الأندلس دخل عليه رجل يدعي أنه علي علم بمعرفة النجوم، وأن هذا المنجم أخبره بأنه لن يموت علي أرض الأندلس، ولكنه سيموت في المشرق.. يومها طرده موسي بن نصير.
وها هو ذا يشعر بضعف جسده، وأنه عاد إلي الأرض التي ولد عليها، وكانت مهد طفولته، ومرتع أحلامه، ومهوي خيالاته وطموحاته.. انه قد أحس باقتراب الأجل.
وهمس لأحد أصدقائه بأنه سوف يموت عما قريب.. انسان حقق الكثير في المشرق والمغرب.
ويعرفه أهل المشرق والمغرب.. يومها ظن صاحبه أنه يقصد الخليفة، ولكن بعد أيام رحل موسي بن نصير إلي رحاب الله.
وردد صاحبه:
عادت الروح الطاهرة إلي بارئها ودفن موسي بن نصير في مهبط رأسه (وادي القري)..
ووسٌّد الجسد، وصعدت الروح إلي جوار رب كريم.. وبقيت أمجاده تورهداية لكل من يريد أن يضحي في سبيل العقيدة ولكل من أصيب في بدنه أو أعضائه لكنه تحدي إعاقته، فحقق ما لم يحققه الأصحاء..
تفتخر العلا برجالها امثال موسى بن نصير بن عبد الرحمن زيد اللخمى البلوي ،
المفضلات