متى نخرج من شرك الاقتصاد الريعي؟
كتب الدكتور. مقبل صالح أحمد الذكير
استاذ الاقتصاد . جامعة الملك عبدالعزيز
يدلنا التاريخالاقتصادي أن القرن التاسع عشر كان قرن "بريطانيا العظمى" كقوة اقتصادية عالميةرائدة. وقد بلغت بريطانيا تلك المنزلة آنذاك لتوافرها على مورد طبيعي مهم "الفحم"ولسبقها في تقنية ذاك الزمان "الآلة البخارية، دولاب الغزل، وفرن بسمر للصلب"، لكنبريطانيا لم تحافظ على المقدمة مع بداية القرن العشرين، لأنها تجاهلت حقيقةالانحسار العام في منتجاتها من الصناعات التحويلية، ولم تحفل كثيرا بما يفعلهالمنافسون الجدد في بقية أنحاء العالم.
وسيذكر التاريخ أن القرن العشرين هو قرنالولايات المتحدة كقوة اقتصادية رائدة، لتمتعها بموارد طبيعية هائلة ورخيصة،ولسلامة أصولها الرأسمالية من آثار الحربين العالميتين الأولى والثانية، ولبنائهاواستحواذها على أعظم النظم التعليمية! مما جعل الدخل الفردي الحقيقي فيها هو الأعلىفي العالم خلال القرن العشرين، على الرغم من المنافسة الجادة التي أبدتهما ألمانياواليابان في العقود الأخيرة.
لكن ما كان صحيحا في الماضي لا يشترط أن يظل كذلكفي الحاضر، إذ لم يعد توافر الموارد الطبيعية طريقا مضمونا للثراء لأي مجتمع، بلحتى التقنية انقلبت فيها الأمور رأسا على عقب، إذ ما عادت القدرة على تصنيعمنتجات جديدة هي العامل الأول في المنافسة، بل الثاني. ومع أن الدول اليوم تتنافسعلى تسويق المعرفة المكثفة التي تحول الموارد الطبيعية إلى منتجات ذات قيمة مضافةعالية، إلا أن العامل الأول والحاسم في المنافسة أصبح هو المنهج التقني "التكنولوجي" أو تطوير العمليات التكنولوجية.
لقد أضحى جليا يوما بعد آخر أنمستوى التعليم ونوعية المهارات المكتسبة ستقوم بالدور الحاسم في مسألة التنافسالعالمي في القرن الحادي والعشرين. والمراقبون يعتقدون أن الصناعات المربحةوالرائدة في القرن الحالي ستنحصر تقريبا في سبع مجالات: الإلكترونيات الدقيقة،التكنولوجيا الحيوية، صناعة المواد الجديدة، الاتصالات السلكية واللاسلكية، الطيرانالمدني، الإنسان الآلي والآلات الصناعية، الحاسبات الآلية وبرامج التشغيل. والناظريرى أن هذه الصناعات تعتمد في استحواذها على "العقل" وليس على توافر المواردالطبيعية. ليس هذا فقط، بل إن النجاح اليوم لن يكون من نصيب من يبتكر منتجات جديدةبقدر ما سيكون لمن يملك ناصية المنهج التكنولوجي أو القدرة على تطوير عملياتالتكنولوجيا.
خلال العقود الخمسة الماضية أنفق الأمريكان ثلثي أموال البحثوالتطوير على "المنتجات" الجديدة، والثلث فقط على "العمليات" الجديدة. وقاماليابانيون بعمل العكس تماما، إذ أنفقوا الثلث على "المنتجات" الجديدة والثلثين على "العمليات" التكنولوجية الجديدة.
كانت استراتيجية أمريكا ناجحة قبل 50 عاما،لأنها امتلكت الريادة في تقنية المنتجات الجديدة ولم يكن هناك منافسون أقوياء، لكنعندما دخلت اليابان ساحة المنافسة ركزت جهودها على بحوث تطوير العمليات التكنولوجيةوهذا مكّنها الآن من كسب السباق. انظر مثلا إلى ثلاثة منتجات جديدة دخلت إلىالأسواق الاستهلاكية في العقدين الأخيرين مثل: كاميرات ومسجلات الفيديو، الفاكس،والأسطوانات المدمجة CD.
لقد اخترع الأمريكان الفيديو والفاكس، بينما اخترعالهولنديون الأسطوانات المدمجة، لكن جميع هذه المنتجات الثلاثة أصبحت منتجاتيابانية سواء من حيث المبيعات أو العمالة أو الأرباح.
وحدث الشيء ذاته بينأمريكا واليابان في صناعة الصلب، فالأمريكان لم يستثمروا قبل 30 عاما في أفرانالأوكسجين وعمليات الصب المستمر ولا في إدخال المراقبة بالحاسبات الآلية، بينما فعلاليابانيون ذلك، لذلك يرى المراقبون أن صناعة الصلب اليابانية أصبحت متقدمة علىالأمريكية بنحو سبع سنوات، ما كلف الأمريكان فقد جزء كبير من السوق.
والمغزىواضح: من يستطع أن يطور بحوث العمليات لينتج السلع بتكلفة أقل سيكون بمقدورهانتزاعها من مخترعها.
وتكررت القصة نفسها في صناعة برامج الكومبيوتر Software Industry،فقد نجحت الهند وهي ذات متوسط دخل فردى منخفض من مزاحمة دهاقنة هذهالصناعة في العالم. وأصبحت كبرى الشركات العالمية تتسابق صوب قريتي "بنجالور"و"بونا" في الهند للحصول على هذه الخدمات بدلا من ضاحية وادي السيلكون فيكاليفورنيا. والعلة واضحة مرة أخرى، فإن تدافع الشركات العالمية صوب القريةالإلكترونية الهندية سببه أن العاملين في هذه القرية تخرجوا من جامعات هندية رفيعةالمستوى، يجيد المتخرج منها علوم التقنية الحديثة ويفهم اللغة العالمية السائدة،والأهم أنهم أرخص تكلفة من نظرائهم في الدول الصناعية. وهذا ما حدا بالمتحدث باسمشركة الخطوط السويسرية هانس كرومر للقول: إن سبب ذهابنا للهند هو أننا بالأجر الذيندفعه للسويسري نستطيع تشغيل ثلاثة هنود لإنجاز أعمالنا.
كان ولا يزالهدفنا القديم والمتكرر في كل خطط التنمية الثمانية هو تنويع مصادر الدخل.
إن منأهم طرق تنويع مصادر الدخل على الأمد الطويل الاستثمار في التعليم من خلال برامجمحددة وموصوفة بدقة، وليس فقط من خلال اعتماد نفقات إضافية سنوية لمؤسسات تعليميةتقليدية قائمة. إن الاستثمار في التعليم يقتضى أن تكون لدينا رؤية واضحة لنوعيةالتعليم المناسب لعالمنا المعاصر. ومن يتأمل صناعات المنافسة العالمية السبعالمذكورة أعلاه، يرى كم نحن بحاجة إلى مؤسسات تعليمية تكنولوجية راقية تستطيع أنتستقطب أفضل خريجي الثانوية العامة من أبنائنا. بحيث تركز برامجها التعليمية علىمواد التكنولوجيا الحديثة دون الغث مما تحفل به برامج التعليم العالي في جامعاتنا،وأن تتم الدراسة فيها باللغة العالمية، وأن تدار بكفاءة عالية وبشفافية وبصورةمستقلة عن الروتين الحكومي، من خلال اتفاقيات تعاون مع أرقى المعاهد والجامعاتالتكنولوجية العالمية، وأن تستقطب لها الكفاءات العالية جدا، محلية كانت أمأجنبية.
وعند إعادة النظر في نظامنا التعليمي يمكن أن نستفيد من تجربة اليابانالتي تملك أفضل نظام تعليمي للصفوف الـ 12 الأولى "التعليم العام"، ومن تجربةأمريكا التي لديها أفضل نظام تعليمي جامعي.
لقد أدركت بعض دول الجوار الأهميةالقصوى لمسألة الاستثمار في التعليم فعمدت إلى استثمار عوائد النفط المتزايدة فيالفترة الأخيرة في برامج طموحة من هذا القبيل، فهي تخطط لإقامة مدن تعليمية وأخرىصحية كبيرة لتسوق الفائض من هذه الخدمات للراغبين من سكان دول المنطقة. وهو مشروعطموح وخلاق، فبالإضافة لتأهيل القادرين من أبنائها فإن تسويق خدمات هذه المدنالتعليمية والصحية سيعمل على تنويع مصادر دخلها جنبا إلى جنب مع مشروعها الطموحالآخر في مجال الغاز الطبيعي، ما سيجعل من هذه الإمارة الصغيرة منطقة جذب تعليميوصحي.
وفي العقود الأخيرة لاحظنا تراخي في نوعية برامج التعليم الطموحة فيبلادنا، على الرغم من أننا كنا السباقين في هذا المجال في منتصف الستينيات ميلاديمن القرن العشرين من خلال كلية البترول والمعادن. وكأن مسألة التعليم أضحت قضيةترفيهية كمالية تتأخر عندنا في ترتيب أولويات خطط الإنفاق العام، بل إن عوائقالبيروقراطية الحكومية كبّلت حتى محاولات القطاع الخاص ولوج هذا القطاع الحيويالمهم.
لذا فإن هذه البرامج التعليمية النوعية يجب أن تحظى بعناية خاصة في خططالتنمية لدينا.
أما في الأجل القصير فيجب إعادة إحياء برامج الابتعاث التي لمسالجميع فوائدها وأثرها المفيد على المجتمع خلال العقود الأربعة الماضية، لتسيرمتوازية وداعمة لهذه الخطة.
لقد بدأت كوريا الجنوبية طريق التنمية في أوائلالستينيات ميلادي من القرن الماضي من اقتصاد زراعي بسيط ومتوسط دخل فردى متدن (230دولارا في السنة)، وأصبحت اليوم الدولة الثالثة عشر من حيث مستوى مساهمتها في حجمالتجارة الدولية. وقد نحت عدد من دول شرق آسيا على المنوال نفسه، وإن كان بدرجاتمتفاوتة، لكنها جميعها حققت نجاحا ملحوظا في ظرف أربعة عقود حتى أطلق عليهاالمراقبون مسمى النمور الآسيوية.
إن الصورة التي عليها دول العالم اليوم لن تبقىكما هي، لأن الصورة التي كانت سائدة قبل 50 عاما ليست هي السائدة اليوم. أين كانتالصين والهند في الترتيب العالمي قبل 40 سنة؟ وأين هما الآن؟
لو حكم الناس علىمستقبلهم من خلال حاضرهم ما تقدمت أمة قيد أنملة! إن طريق الألف ميل يبدأ بخطوةمدروسة واحدة.
تحياتي واطيب امنياتي
سحاب
المفضلات