الحمد لله وحده ؛ والصلاة والسلام على من لا نبي بعده .
وبعد :
بادء ذي بدء ؛ سنأقل لكم كلام الإمام الألباني - رحمه الله - حول الحديث ؛ ثم أثني بالرد على بعض الشبه التي تشاع حول ضعف الحديث ؛ وفق الله الجميع التمسك بسنة نبيّه صلى الله عليه وسلم :
قال الإمام المحدث الألباني في ( أصل صفة الصلاة ) ( 1 / 215 ) :
( قوله: (على الصدر) هذا الذي ثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يثبت غيره؛ وفيه أحاديث :
الأول: عن وائل بن حجر:
أنه رأى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وضع يمينه على شماله، ثم وضعهما على صدره.
أخرجه {أبو الشيخ في " تاريخ أصبهان " (ص 125) } ، والبيهقي عن مُؤمَّل بن
إسماعيل عن الثوري عن عاصم بن كليب عن أبيه عنه.
وهذا إسناد رجاله ثقات، إلا أن مؤمل بن إسماعيل متكلم فيه؛ لسوء حفظه، وفي
" التقريب ":
" صدوق سيئ الحفظ ".
ثم أخرجه البيهقي من طريق أخرى عن وائل.
وسنده ضعيف. {وانظر " إرواء الغليل " (353) } .
والحديث أورده الحافظ الزيلعي في " نصب الراية " (1/314) ، وقال:
" رواه ابن خزيمة في " صحيحه " ". اهـ.
فالله أعلم؛ هل أخرجه من طريق آخر أم رواه من أحد الطريقين المذكورين (*) ؟ وأيما
كان؛ فالحديث يتقوى بـ:
الحديث الثاني: وهو ما أخرجه أحمد قال (5/226) : ثنا يحيى بن سعيد عن
سفيان: ثني سماك عن قَبِيصة بن هُلْب عن أبيه قال:
رأيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينصرف عن يمينه وعن يساره، ورأيته - قال - يضع هذه على
صدره. وصف يحيى: اليمنى على اليسرى فوق المِفصل.
وهذا إسناد حسنه الترمذي - كما تقدم -، ورجاله رجال مسلم، غير قَبِيصة هذا؛
فقال ابن المديني، والنسائي:
" مجهول ". زاد الأول:
" لم يرو عنه غير سماك ". وقال العجلي:
" تابعي ثقة ".
وذكره ابن حبان في " الثقات " مع تصحيح حديثه - كما قال الذهبي-، وفي " التقريب ":
" مقبول ". اهـ. ويشهد له:
الحديث الثالث: قال أبو داود (1/121) : ثنا أبو توبة: ثنا الهيثم - يعني: ابن
حميد - عن ثور عن سليمان بن موسى عن طاوس قال:
كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يضع اليمنى على يده اليسرى، ثم يشد بينهما على صدره؛
وهو في الصلاة.
وهذا إسناد مرسل جيد، رجاله كلهم موثقون، وينبغي أن يكون حجة عند الجميع؛
لأنه - وإن كان مرسلاً؛ فإنه - قد جاء موصولاً من أوجه أخرى - كما رأيت -.
ويشهد له ما رواه حماد بن سلمة: ثنا عاصم الجحدري عن أبيه عن عُقْبة بن
صُهْبان قال:
إن علياً رضي الله عنه قال في هذه الآية: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} ، قال:
وضع يده اليمنى على وسط يده اليسرى، ثم وضعهما على صدره.
أخرجه البيهقي (2/30) .
ورجاله موثقون؛ غير والد عاصم الجحدري - واسمه: العَجَّاج البصري -؛ فإني لم
أجد من ذكره، وقد قال الحافظ ابن كثير في " تفسيره ":
" لا يصح عن علي ".
ثم أخرج البيهقي نحوه عن ابن عباس.
وسنده محتمل للتحسين.
ويشهد لرواية علي: ما أخرجه أبو داود (1/120) من طريق أبي طالوت
عبد السلام عن ابن جَرِير الضَّبيِّ عن أبيه قال:
رأيت علياً رضي الله عنه يمسك شماله بيمينه على الرسغ فوق السرة.
وهذا إسناد قال البيهقي (2/30) :
" حسن ".
وهو كما قال - إن شاء الله تعالى (*) -؛ فإن رجاله كلهم ثقات؛ غير ابن جرير
الضَّبِّي - واسمه: غزوان -، ووالده؛ وقد وثقهما ابن حبان، وروى عنهما غير واحد.
وقد علق البخاري حديثه هذا مطولاً في " صحيحه " (3/55) بصيغة الجزم عن علي.
ومما يصح أن يورد في هذا الباب حديث سهل بن سعد، وحديث وائل - المتقدِّمان -،
ولفظه:
وضع يده اليمنى على ظهر كفه اليسرى والرسغ والساعد. ولفظ حديث سهل:
كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة.
فإن قلت: ليس في الحديثين بيان موضع الوضع!
قلت: ذلك موجود في المعنى؛ فإنك إذا أخذت تُطَبِّق ما جاء فيهما من المعنى؛
فإنك ستجد نفسك مدفوعاً إلى أن تضعهما على صدرك، أو قريباً منه، وذلك ينشأ من
وضع اليد اليمنى على الكف والرسغ والذراع اليسرى، فجرِّب ما قلتُه لك تجدْه صواباً.
فثبت بهذه الأحاديث أن السنة وضع اليدين على الصدر، {وخلافه إما ضعيف،
أو لا أصل له} ! .
وأما وضعهما تحت السرة؛ فلم يرد فيه إلا حديث واحد مسنداً، تفرد بروايته رجل
ضعيف اتفاقاً، واضطرب فيه؛ فجعله مرة من حديث علي، وأخرى من حديث أبي
هريرة، وهو:
عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي قال: ثني زياد بن زيد السُّوائي عن أبي جُحَيفة
عن علي رضي الله عنه قال:
إن من السنة في الصلاة وضعَ الكَفِّ على الكف تحت السُّرَّة.
أخرجه أبو داود (1/120) ، والدارقطني (107) ، وعنه البيهقي (2/31) ، وأحمد
(1/110) وفي " مسائل ابنه عبد الله " من طرق عنه.
ثم أخرجه الدارقطني، وعنه البيهقي من طريق حفص بن غِيَاث عن عبد الرحمن
ابن إسحاق عن النعمان بن سعد عن علي.
ثم أخرجه أبو داود، والدارقطني من طريق عبد الواحد بن زياد عن عبد الرحمن بن
إسحاق عن سَيَّار أبي الحكم عن أبي وائل قال: قال أبو هريرة: ... فذكره.
وهذا اضطراب شديد؛ مرة يقول: ثني زياد بن زيد السُّوائي عن أبي جُحَيفة عن
علي. ومرة: عن النعمان بن سعد عن علي. وأخرى: عن سَيَّار أبي الحكم عن أبي
وائل عن أبي هريرة.
وهذا اضطراب موهن للحديث؛ لو كان من اضطرب فيه ثقةً؛ فكيف به وهو
ضعيف اتفاقاً! وهو عبد الرحمن بن إسحاق هذا؛ قال أبو داود:
" سمعت أحمد بن حنبل يُضَعِّف عبد الرحمن بن إسحاق الكوفي ". وقال البيهقي:
" في إسناده ضعف ". ثم قال:
" عبد الرحمن هذا: جرحه أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، والبخاري وغيرهم ". ثم قال:
" وهو متروك ". وكذا قال الحافظ في " التلخيص " (3/526) . وقال الذهبي:
" ضعفوه ". وفي موضع آخر:
" ضعيف ". وقال النووي في " المجموع " (3/313) ، وفي " شرح مسلم " وفي " الخلاصة ":
" اتفقوا على تضعيف هذا الحديث؛ لأنه من رواية عبد الرحمن بن إسحاق
الواسطي، وهو ضعيف باتفاق أئمة الجرح والتعديل ". وقال الزيلعي (1/314) :
" قال البيهقي في " المعرفة ": لا يثبت إسناده؛ تفرد به عبد الرحمن بن إسحاق
الواسطي، وهو متروك ". وقال الحافظ في " الفتح " (2/178) :
" هو حديث ضعيف ". وقد أعرض عنه؛ فلم يورده في كتابه " بلوغ المرام "، وإنما أورد
في الباب حديث وائل في الوضع على الصدر.
وأما مذاهب العلماء في محل الوضع؛ فذهبت الشافعية - قال النووي: " وبه قال
الجمهور " - إلى أن الوضع يكون تحت صدره؛ فوق سرته. قال النووي:
" واحتج أصحابنا بحديث وائل ". قال الشوكاني (2/158) :
" والحديث لا يدل على ما ذهبوا إليه؛ لأنهم قالوا: إن الوضع يكون تحت الصدر.
والحديث مصرِّح بأن الوضع على الصدر، وكذلك حديث طاوس المتقدم، ولا شيء في
الباب أصح من حديث وائل المذكور، وهو المناسب لما أسلفنا من تفسير علي وابن عباس
لقوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} بأن (النحر) : وضع اليمنى على الشمال في محل
النحر والصدر ". اهـ.
وذهب أبو حنيفة، وسفيان الثوري وغيرهما إلى أن الوضع تحت السرة، واحتجوا
بحديث علي المتقدم، وقد علمتَ أنه حديث ضعيف اتفاقاً؛ فلا يجوز الاحتجاج به، لا سيما وقد ثبت عن راويه - أعني: علياً - من فعله خلافُه - كما سبق -؛ وهو الوضع
فوق السرة لا تحتها!
وقواعد الحنفية تقضي بترك الحديث الذي عمل راويه بخلافه - كما هو مقرر عندهم
في أصول الفقه -؛ فينبغي عليهم أن يتركوا حديث علي - لا سيما وهو ضعيف -، وأن
يأخذوا بفعله، وهو أصح من مَرْوِيِّهِ، ومؤيد بأحاديث أخرى في الباب - كما رأيت -.
وقد أنصف المحقق السندي رحمه الله؛ حيث قال في " حاشية ابن ماجه " - بعد أن
ساق بعض الأحاديث التي أسلفنا ومنها حديث طاوس المرسل -:
" وهذا الحديث - وإن كان مرسلاً؛ لكن المرسل - حجة عند الكل.
وبالجملة؛ فكما صح أن الوضع هو السنة دون الإرسال؛ ثبت أن محله الصدر؛ لا
غير. وأما حديث:
إن من السنة وضع الأكف على الأكف في الصلاة تحت السرة.
فقد اتفقوا على ضعفه. كذا ذكره ابن الهمام نقلاً عن النووي، وسكت عليه ". اهـ.
وأما ما جاء في كتاب " بدائع الفوائد " لابن القيم (3/91) :
" قال - يعني: الإمام أحمد - في رواية المزني: ويكره أن يجعلهما على الصدر.
وذلك لما روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه:
نهى عن التكفير. وهو وضع اليد على الصدر ". اهـ.
فإنه استدلال عجيب! فإن الحديث - إن صح - ليس فيه النهي عن التكفير في
الصلاة، وليس كل ما كان منهياً عنه خارج الصلاة يكون منهياً عنه فيها؛ بل قد يكون
العكس؛ فقد أمرنا - مثلاً - بالقيام فيها لله تعالى، ونهينا عنه خارجها لغيره سبحانه
وتعالى، فلا يبعد أن يكون الحديث كناية عن النهي عن الخضوع لغير الله تعالى، كما يُخضَع له تعالى بوضع اليدين على الصدر في الصلاة، فيكون عليه الصلاة والسلام نهى
عن هذا الوضع لغير الله تعالى؛ لما فيه من الخضوع وتعظيم غير الله تعالى.
وبهذا يتحقق أن هذا الحديث لا تعلق له بالصلاة مطلقاً؛ على أن تفسير (التكفير) بما
ذكره الإمام أحمد مما لم نجده فيما عندنا من كتب اللغة؛ بل قال الإمام ابن الأثير في " النهاية ":
" التكفير: هو أن ينحنيَ الإنسان ويطأطئ رأسه قريباً من الركوع، كما يفعل من
يريد تعظيم صاحبه ". وفي القاموس:
" التكفير: أن يخضع الإنسان لغيره - وقال قبل أسطر: - والكَفْرُ - بالفتح -: تعظيم
الفارسيِّ مَلِكَه ". زاد الشارح:
" وهو إيماء بالرأس من غير سجود ".
وهذه النصوص من هؤلاء الأئمة تؤيد ما ذهبنا إليه من أن الحديث لا علاقة له
بالصلاة، وأن المراد به النهي عن الخضوع لغير الله تعالى.
هذا يقال فيما إن صح الحديث، وما أراه يصح؛ فإنا لم نجد له أصلاً في شيء من
الكتب التي بين أيدينا. {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} .
هذا، وإني أستغرب من ابن القيم كيف مرَّ على كلام الإمام أحمد بدون أن يعرج
عليه بأدنى تعليق! وهو من هو في اطلاعه على علم اللغة، والشرع الشريف؛ لا سيما
وأن كلام الإمام مخالف لما اعتمده ابن القيم نفسه في كتاب " الصلاة "؛ حيث ذكر في
سياق صلاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنه كان يضع يديه على صدره! فالله تعالى أعلم بأسرار القلوب وخفاياها.
ثم وجدت في " مسائل الإمام أحمد " (ص 62) رواية ابنه عبد الله عنه قال:
" رأيت أبي إذا صلى؛ وضع يديه إحداهما على الأخرى فوق السرة ".
{وقد عمل بهذه السنة الإمام إسحاقُ بن راهويه؛ فقال المروزي في " المسائل " (ص 222) :
" كان إسحاق يوتر بنا ... ويرفع يديه في القنوت، ويقنت قبل الركوع، ويضع يديه
على ثَدْيَيْهِ أو تحت الثديين ".
ومثله قول القاضي عياض المالكي في (مستحبات الصلاة) من كتابه " الإعلام "
(ص 15 - الطبعة الثالثة / الرباط) :
" ووضع اليمنى على ظاهر اليسرى عند النحر "} . ) .
منقول من / طاهر نجم الدين المحسي
المفضلات