يمكن للمرء أن يعد سكان بلدة العلا من محبي الترحال، فبعضهم يحاولون منذ وقت طويل الرحيل إلى سورية وبالذات إلى دمشق، وبعضهم الآخر إلى إستنبول. لذلك وجه إلينا شخص طاعن في السن منهم، ونحن جالسون في القهوة سؤالا عما إذا كنا سنواصل مسيرتنا إلى إستنبول، وحينما قلنا له ربما بعد سنة من الآن، رد فورا بصورة ساذجة قائلا سترون بالتأكيد ابني هناك، وسأعطيكم رسالة تحملونها إليه. عندما اقتربنا من المنطقة السكنية أسرع إلينا كل الفضوليين من أبناء البلدة، حاملين بنادقهم، فأحاطوا بنا من الأمام ومن الخلف، مما جعلنا نسير خلال الأزقة المسقوفة والضيقة في زحام شديد. وبعد ذلك نزلنا في فناء صغير لا يكاد يتسع لجمالنا الأربعة، ثم قدمنا التحية إلى عامل الأمير في العلا المدعو سعيد ذو البشرة السوداء، وهو شخص مختلف تماما عن العنقري البخيل في تيماء، والذي لم نحصل منه على شيء قط، بل إنه كاد يميتنا جوعا. وبينما حملت أمتعتنا إلى منزل آيل للسقوط، ذهبنا نحن إلى الديوان الذي كان في تلك الأثناء مكتظا بالضيوف، وبعد أن شربنا القهوة صعدنا الدرج إلى أعلى، حيث قدم لنا هناك الزبد والتمر الجيد، وفي أثناء ذلك وقف أحد الخدم ليقوم بطرد الذباب من أمام أفواهنا، ولكن على الرغم من ذلك سقط العديد منها في اللبن الذي أحضر قبل خمس دقائق فقط.
كان سعيد ينتظرنا منذ وقت طويل، لذلك فقد سر بقدومنا، وكان على استعداد دائم لخدمتنا، حيث جهز فورا كل ما طلبناه من مؤونة للرحلة. وبعد ظهر هذا اليوم صرح لي هوبر بخبر ظل يؤجله مدة طويلة دون سبب مقنع، مما جعلني أفاجأ به، ذلك هو أن الأمير لا يرغب في عودتي إلى حائل. لذلك فإنه يريد أن ينفصل عني، ويعود بمفرده إلى هناك من أجل إحضار الأشياء التي تركناها قبل مدة في تيماء. على أي حال يبدو أن غانم بن باني أخبر حمودا بتصريحاتي الغاضبة، مما سبب غضب حمود مني، وجعله يحاول بكل ما يستطيع أن يوعز للأمير بأن يطردني بطريقة مهذبة، ولو أن هوبر أخبرني بذلك حينما كنت في حائل لما فوجئت من ذلك، ولتمكنت من أخذ ممتلكاتي التي تركتها هناك معي في حينه. والآن ينوي هوبر الاتجاه من هنا إلى خيبر مرورا بنواحي المدينة إلى جدة، حيث نلتقي هناك مرة أخرى، بينما أذهب أنا من هنا إلى الحجر (مدائن صالح) برفقة شيخ من قبيلة بلي يقصدهنا غضيان ابن رويحل الذي سيحضر إلي بعد حين، وهناك أقوم باستنساخ النقوش، بعد ذلك أعود إلى العلا، ثم أتجه برفقة ذلك الشيخ نحو الغرب عبر مناطق سكنى قبيلة بلي إلى الوجه، ومن ميناء تلك البلدة الخاضعة للسلطة المصرية ستسنح لي بالسفر مع إحدى البواخر إلى جدة، ومن هناك ربما أتمكن من القيام برحلة إلى الطائف، أو أعود مباشرة عبر السويس إلى بيروت، أما هوبر فكان يريد أن يعود من جدة إلى حائل، ثم عبر العراق إلى دمشق، ولكن ذلك كله كان من أحلام المستقبل التي لم تتحقق.
كان علينا الآن أن نفكر بترتيب مناسب لانفصالنا، حيث قمنا في البداية بتقسيم النقود التي معنا، فحصل كل منا على 270 مجيديا، ثم قسمنا السجائر فحصل كل واحد منا على 25 قطعة، حيث إننا لم نكن ندخن خلال الفترة الأخيرة سوى قطعة واحدة كل ستة أو سبعة أيام من ذلك التبغ الغالي، أما من المواد الغذائية، فقد حصل كل منا على علبة ساردين ونصف كمية الشاي، وقد قمت بشراء دلة القهوة والخرج (حقيبة مزدوجة توضع على شداد الجمل)، أما الورق، ومسحوق الحمى، والحبر، ونحو ذلك فقد قسمناه بيننا.
قدم لنا في المساء عشاء وفير، وخلال الأكل أضيء المكان بواسطة شعلة من سعف النخيل، كما قام أحدهم بطرد الذباب مستخدما مهفة صغيرة، وأخيرا صعدنا السطح، حيث أشعلت النار، وأصبح بمقدورنا من جديد استنشاق الهواء الطلق.
الاثنين 17/3/1884 باشرت مع بداية هذا اليوم العمل، فالنقوش الغالية على نفسي لم تدع لي مجالا للراحة، وكما ذكرت من قبل فإن هناك في العلا كمية كبيرة من الأحجار التي تحمل نقوشا أعيد استخدامها في بناء المنازل و الأسوار، لذلك ظللت أتجول طوال اليوم في أنحاء المدينة، حتى تمكنت من العثور على الكثير منها، وما أشد دهشتي حينما رأيت أنها كتبت بحروف الخط الحميري! وقد قمت في الحال بطبع جميع النقوش التي وجدتها هناك، أما سير العمل فلم يكن شاقا إلى حد ما، إذ لم أتمكن اليوم سوى من نسخ تلك النقوش القريبة من الأرض، ولكن العمل في يوم الغد سيكون بالتأكيد أفضل مما هو عليه اليوم. خلال جولتي تلك كان يرافقني العديد من الناس، كما كانوا يتزاحمون حولي بشدة حينما أقوم بعملية بصم (طبع) النقوش، لكن ذلك كان بالنسبة لي أمرا طبيعيا، فلم يحظ حتى الحكام برفقة مثل تلك الجموع من الناس.
في المساء وصل حيلان الذي بعثه الأمير برسالة إلى تيماء وأماكن أخرى، ليبشر بالنصر الذي حققه مؤخرا، وقد كان يرتدي ملابس كثيرة، تمثلت في ثوبين وزبونين وعباءتين وأربع غتر على رأسه، في هذه الأثناء اكتظت القهوة بالناس، مما اضطر بعضهم إلى الوقوف في الفناء، لكي يتأكدوا من سماع أخبار النصر بأنفسهم من فم خادمنا محمود الذي تولى قراءة الرسالة كان فحوى الرسالة التي قام هوبر بتكليف محمود بنسخها له يقول: (لقد خرج الأمير من حائل ومعه حوالي مائتين وسبعين جوادا وحوالي خمسة آلاف شمري بجمالهم في حملة، كان يبدو في أول الأمر أنها موجهة نحو الشمال، ولكنه ظهر فجأة في المجمعة الواقعة إلى الشرق من جبال طويق، ثم غير وجهته نحو الجنوب. وبالقرب من الزلفي في وادي الرمة تقابل مع سبعة وعشرين من عيون الخصم، فقام بمحاصرتهم وقتلهم على الفور، ولم يسلم منهم سوى اثنين تركهم على قيد الحياة، لكي يذهبوا إلى معسكرهم ويخبروه بما حدث. وفي مكان ليس ببعيد من سابقه هجموا مع طلوع الشمس على معسكر جماعة ابن سعود، حيث قتلوا ثلاثة من أعمامه، وغنموا منهم حمولة سبعة جمال من البنادق، وسبعة وثلاثين جوادا، وست عشرة خيمة، وذودين من الجمال، كل واحد منهما يصل تعداده إلى مائتي جمل. كما أغاروا أيضا على عتيبة الذين فروا من أمامهم في شهر نوفمبر الماضي، وغنموا منهم ثمانية أذواد من الجمال، وخياما وعددا كثير ا من الضأن، وعبيدا، وسبع رايات أمر الأمير بإرسال اثنتين منها إلى بريدة وعنيزة ليراها أهل القصيم، وواحدة إلى قبيلة الرولة، أما الأربع الباقية فقد ركزت في ساحة المسحب في حائل، وبعد هذا النصر ستضطر الآن قبيلة عتيبة بأكملها إلى الخضوع).
الثلاثاء 18/3/1884 في الصباح شربنا القهوة عند القاضي موسى، ثم كتبت بضعة أشياء، ولكنني لم أتمكن من مواصلة الكتابة فقد كنت أفكر كثيرا في النقوش والكتابات الحجرية، لذلك عدت إلى عملية نسخها من جديد، ولكنني من خلال ذلك العمل تأكدت من حجم الصعوبات والمشاق التي يواجهها من يتصدى لمثل هذا العمل في جزيرة العرب، إلا أن الحماسة لهذا الفن والتطلع إلى البحث العلمي يهونان من شأن تلك المصاعب، فالمرء حينما يحمل غنيمته من الورق عائدا إلى بلاده يكون أكثر سعادة وزهوا من الصياد الذي ينجح في اصطياد فريسته.
حقا إن عمل بصمة (طبعة، كليشة) في متاحف بلادي ليس فيه شيء من التعب، فهناك يقف الشخص أمام الحجر المنصوب باعتدال، ويتناول الورق والماء والفرشاة بكل راحة وهدوء، فليس هناك ريح قوية تؤدي إلى تطاير الورق من بين يديه، ولا يوجد حوله مئات من أولئك الذين يطأطئون رؤوسهم الشاهدة سير العمل باهتمام بالغ. على أي حال بعد أن ارتكبت حماقة لسماعي نصيحة هوبر بترك السلم في مدائن صالح اضطررت من أجل عمل بصمة للنقوش المكتوبة على الأحجار المثبتة في أعالي الجدران، إما أن أركب على ظهر خادمنا محمود، أو على جذع نخلة مسند على الجدار. وفي أحد البيوت الواقع فوق ممر يرتفع ثمانية أمتار تقريبا كانت توجد نافذة يعلوها حجر مكتوب عليه نقش بالخط الحميري. ونظرا لضيق فتحة النافذة فقد احترت في كيفية الوصول إليه، ولكنني استأذنت من صاحب ذلك البيت المظلم، وصعدت إلى الطابق الثاني حيث النافذة، وبينما كنت أسير هناك كادت الغرفة والنافذة آن تسقطا على الآرض، وهناك تبين لي آن باب النافدة لا ينفتح سوى إلى الداخل ونحو الزاوية اليمنى، وارتفاعها لا يتعدى الخمسين أو الستين سنتمترا، ولا يسمح بدخول جسم الإنسان بسهولة من خلالها، لذلك اضطررت في البداية إلى الانبطاح على بطني، وزحفت داخل النافذة حتى منتصف جسمي، ثم انقلبت على ظهري. وهنا بدأ مرافقي عبد الله بن إسماعيل موشي بوضع الورق المبلل بالماء على صدري فآخذه وأقوم بلصقه على الحجر المنقوش، وفي الوقت نفسه يجب علي أخذ الفرشة الموضوعة على صدري أيضا لكي أتم عملي كما ينبغي. هكذا وبينما كان مرافقي يجلس طوال الوقت فوق رجلي خوفا من أن أفقد توازني وأسقط من خلال النافذة أنهيت عمل ثلاث بصمات (كليشات) للنقش. وخلال ذلك العمل كان أهالي بلدة العلا الطيبون يهزون رؤوسهم معتبرين ذلك الصنيع نوعا من العبث، ولابد أنهم تصوروا أن تلك الأحجار التي قمت بنسخها تساوي وزنها ذهبا وفضة. بعد أن أتممت عملي عدت والسعادة تغمرني إلى البيت.
في هذا اليوم وبينما كانت القهوة مكتظة بالناس حدث جلسة محاكمة ساخنة، وعلى حين فجأة دخل عدد من الأشخاص وصعدوا فورا عبر الدرج إلى أعلى، وهناك في الطابق الثاني بدأ الصراخ بصوت مرتفع، حيث بدأت هناك جلسة محاكمة لذلك الشخص الذي رفض دفع الضرائب، معللا ذلك بأن أمير حائل ليس له حق بمطالبته بأي شيء، لكونه ليس أميرا عليه، وإنما أميره شخص آخر، ولكي يشددوا عليه ويخيفوه أحضروا الخشبة أو ما يسمى بالحبس، وبالفعل أبدى ذلك الشخص استعداده للدفع قائلا: إن النقود في المنزل، فقاموا بإرسال جنديين لمرافقته، ولكنه حينما اقترب من الباب انطلق هاربا، وحيال ذلك فلا بد أن القضية ستطول، فبمجرد القبض عليه سيوضع في الحبس حتى يدفع المبلغ المطلوب منه.
دعينا في المساء للعشاء عند شخص يدعى عبد الله، حيث قدم لنا أكلة محلية معروفة هناك تتكون من الأرز وفوقها البصل المحمر وقطع من البيض ولحم الماعز، بعد ذلك ذهبت إلى سطح منزلنا وجلست في الهواء الطلق أدخن واحدة من تلك السجائر الخمس والعشرين التي بقيت في حوزتي، وقد كنت أتطلع إلى دخانها المتصاعد بحسرة، واضعا في حسابي أنه لم يبق معي منها سوى أربع وعشرين سيجارة.
الأربعاء 19/3/1884 في الصباح كان كل شيء جاهزا من أجل رحيل هوبر وحيلان الذي سيسلك الطريق نفسه الذي سيسير عبره هوبر. ذهبنا بصحبة عدد كبير من الأهالي إلى البوابة، وهناك ودع بعضنا بعضا، وتمنيت لهوبر من أعماق قلبي أن ينهي رحلته الخطرة تلك بكل سلام، نعم إن من المؤلم حقا أن يرى المرء صاحبا رافقه في الغربة وقاسمه السعادة والتعاسة يغادر إلى مكان مجهول. ماذا تراه سيواجه؟ وماذا سيحدث لي؟ فعلى حين تهددنا الأخطار من كل جانب أصبح كل منا الآن يعتمد على نفسه. ومن المؤسف أن أمنياتي تلك لهوبر لم تتحقق، فقد قتل في يوم التاسع والعشرين من يوليو من العام نفسه. في حين إن ما تمنيته لنفسي بأن تنتهي هذه الرحلة إلى الجزيرة العربية بسلام قد تحقق ولله الحمد. لا أريد الآن أن أطيل الحديث هنا وأستبق سرد الأحداث فسأذكرها في حينها. بعد أن ودعت هوبر عدت إلى سطح منزلنا، وبدأت أنظم يومياتي.
بعد الظهر أنزلت أمتعتي من السطح إلى داخل المنزل، لأن سعيدا أصبح يعتقد أنها لم تعد في مأمن هناك وربما تسرق خلال الليل. وفي حوالي الساعة الواحدة ظهرا تسللت برفقة الخادم مرزوق دون أن يرانا أحد إلى الهضبة الصخرية الواقعة في وسط البلدة التي تسمى أم ناصر، وهناك عملت بصمة (كليشة) لنقش كتب بخط حميري، وأثناء نزولي حاملا البصمة عبر ذلك الطريق الخطر وجدت أربعة نقوش جديدة خلف بعضها البعض، من بينها واحد كتب بالخط النبطي ومؤرخ في السنة الأولى لحكم حارثة ملك الأنباط. بينما كان مرافقي الخادم مرزوق يساعدني بكل مهارة ودقة ظلت تضايقنا جموع الأهالي من مختلف الأعمار بفضولها ووقاحتها، ليس ذلك فحسب بل إنهم طالبوني بإعطائهم بخشيشا (إكرامية)، تلك الكلمة التي سمعتها لأول مرة ونحن نسير عبر درب الحج، ولم أسمعها بعد ذلك ولله الحمد منذ وقت طويل، ومن المدهش أن واحدا منهم طلب مني بخشيشا مدعيا القول بأنه من بلاد النصارى، فما كان مني إلا أن بصقت على الأرض وقلت له: إنك لست من بلاد النصارى، بل أنت واحد من أولئك الكذابين. وفي مساء هذا اليوم تناولت عند سعيد عشاء عاديا تكون من الخبز والتمر
المفضلات