إن الله جلت حكمته وتعالت مكانته وتسامت عزته لم يفرض علينا شيئاً إلا لحكمة عالية ولأسرار راقية يعرفها من وفقه الله لسلوك طريقه المستقيم ولمن هداه إلى نهج نبيه القويم فأما فريضة الحج فقد فرضها الله على المؤمنين والمؤمنات لحكم كثيرة نكتفي بواحدة منها في موقفنا هذا تكون لنا إن شاء الله عظة وعبرة
فقد جعل الله الحج للمؤمنين والمؤمنات تذكرة للسفرة إلى الدار الآخرة للعرض على الله {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ} آل عمران9
فإذا خرج الحاج من بيته فإنه يغتسل قبل لبس ملابس إحرامه ويتذكر بهذا الغسل {الغسل الذي يغسله به رفاقه لكي يودعون دنياه ويزفونه إلى مولاه إذا دعاه} ثم يلبس ملابس الإحرام وهي بيضاء ولا يوجد بينها وبين الجسم أشياء ليذكر نفسه ويتذكر من حوله لبس الأكفان إذا دعى للقاء الواحد الديان
فإذا أتم ملابس الأكفان يلبس ملابس الإحرام تذكر نداء الله يوم ينادي منادي الله لجميع الخلائق في حضرة الله فيقول كما قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يا أيتها العظام النخرة يا أيتها الأجساد البالية يا أيتها الشعور المتقطعة اجتمعوا وائتلفوا فإن الله عز وجل يدعوكم ليوم عظيم}{1}
فيتذكر هذا النداء فيلبي قائلاً لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لبيك وكلمة لبيك تعني نأتي إليك مسرعين جئنا إليك طائعين جئنا إليك بالتلبية يا أحكم الحاكمين ولم نتوانى عن إجابة دعوتك طرفة عين ولا أقل
فإذا وصل إلى ساحة عرفات تذكر ساحة العرض العظيم حيث يقف الخلائق أجمعين في مساواة كاملة في الظاهر بين يدي رب العالمين {لاَ فَضْلَ لِعَرَبِيَ عَلَى أَعْجَمِيَ وَلاَ أَعْجَمِيَ عَلَى عَرَبِيَ ، وَلاَ أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ ، وَلاَ أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلاَّ بِالتَّقْوَىٰ والعمل الصالح}{2}
فالجميع يتساوى أمام الله يلبسون ملابس واحدة ويقفون في بقعة واحدة لا فرق بين غني ولا فقير ولا أمير ولا حقير لأنه لا يسمح للوزير أن يعلق نيشاناً على صدره أو يعلق شيئاً على كتفه وإنما يتساوى الجميع ولا فرق بينهم إلا في الزفرات والحرقات والتسبيحات والدعوات التي تخرج من صدورهم وقلوبهم إلى ربهم
فمنهم من يقال له لا لبيك ولا سعديك وحجك هذا مردود عليك ومنهم من يقال له لبيك وسعديك حجك مغفور وزادك موفور وسعيك مشكور فيقولون كما قال الله يوم يجمع الناس للقاء الله {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} الشورى7
أما من يقبل الله عليه ويتقبل دعواه فهو من أهل الجنة إن شاء الله وإما من ترد الملائكة دعواه وتعلم أن تلبيته مردوده من قبل الله فهو من فريق السعير والعياذ بالله ، فإذا وقفوا على عرفات وأقروا لله بذنوبهم واعترفوا بين يديه بمساويهم وأخطائهم غفر الله عزوجل لهم ولا يبالي ولذا يقول الرسول الكريمصلى الله عليه وسلم {أعظم الناس ذنبا من وقف بعرفة فظن إن الله لم يغفر له}{3}
وقد ورد أن الإمام محمد بن المنكدر رضي الله عنه وأرضاه وكان قد حج خمسين مرة لله في يوم من أيام عرفة ألقى عليه النوم فرأى ملائكة تنزل من عند الله ويتساءلون فيما بينهم فقال بعضهم للبعض يا عبد الله تدري كم حج بيت ربنا هذا العام؟ قال: لا ، قال: ستمائة ألف ، قال: تدري كم قبل الله منهم؟ قال: لا ، قال: ستة أنفس ، قال: فقمت من نومي مهموماً مغموماً وقلت إذا كان الله لم يقبل من هؤلاء إلا ستة أنفس فأين أكون منهم؟
فلما وصلت إلى المزدلفة وصليت المغرب والعشاء قصراً وجمعاً فألقى الله عليّ النوم فإذا بهذا النفر من الملائكة وقد جاءوا وتساءلوا فيما بينهم فقال بعضهم لبعض: يا عبد الله تدري كم حج بيت ربنا هذا العام؟ قال: نعم ستمائة ألف ، قال: تدري ماذا فعل الله بهم؟ قال: نعم قبل منهم ستة أنفس ورد الباقين ، قال: تدري ماذا حكم ربك في هذا اليوم؟ قال: لا ، قال: وهب لكل واحد من الستة ، مائة ألف فشفعهم جميعاً في بعضهم وانصرفوا جميعاً مغفوراً لهم
{1} رواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن الحسن
{2} رواه البيهقي وأحمد في مسنده عن جابر
{3} قال الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء للإما الغزالى : رواه الخطيب في المتفق والمفترق والديلمي في مسند الفردوس من حديث ابن عمر بسند ضعيف ، كشف الخفاء
المفضلات