د. عبدالله محمد الغذامي
كنا قد شاهدنا ان كلا من الشعب كمفهوم وكثقافة والعائلة كمفهوم وكثقافة هما مما يتصف بصفات وسمات تماثل ما تتصف به القبيلة من سمات وصفات تنسبها لثقافتها وتراها صفات تفاخر واعتزاز، من مثل الكرم والشجاعة والحمية والجوار والاصالة. وهي صفات يأخذ بها كل شعب وتأخذ بها كل عائلة تماماً مثلما هي في لب ثقافة أي قبيلة. ولسوف نرى في هذه المقالة ان الناس اذا ما استقروا في مدن فإن تجمعهم المدني يجنح الى ان يكون تجمعاً يقوم على عصبية المكان كمثيل لعصبية النسب، واذا كانت القبيلة تتخذ من النسب المشترك لأعضائها عصبية حامية وشعاراً ثقافياً ووجودياً فإن المدينة ايضاً تتخذ من مسماها ومن الانتساب لهذا المسمى قيمة عصبية مماثلة. واذا كان الشعب او العائلة هي مسميات تنطوي على قيمة عصبية وتمثل عصبة اجتماعية واقتصادية وثقافية وسياسية فإن كلا من المدينة ومن قبلها القبيلة هي عصبيات اجتماعية جوهرية ايضاً.
والحديث عن المدينة سيأخذ منا ابعاداً اربعة، وهي صيغ ثقافية ينبني عليها تكوين فكرة المدينة ومفهوم المعاش المشترك فيها، وهذه الابعاد الصيغ هي: نظام الانتساب، ونظام الطبقة، ونظام الشكل المدني، مع نظام الثقافة المدنية. وسأتناول هذه الصيغ واحدة واحدة.
وابدأ مع نظام الشكل المدني، ونحن في الجزيرة العربية نملك ثلاث صيغ للمدينة، هي:
1- المدينة المقدسة.
2- المدينة القبلية.
3- المدينة المختلطة.
ولكل شكل من هذه الاشكال نظامه الثقافي الخاص، فالمدينة المقدسة هي ما نراه في مكة والمدينة، حيث تختص المدينتان بصفتين لا تشاركهما فيهما الاخريات، الاولى هي وجود الدولة الدائم، فالمدينة من يوم هجرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) اليها ومكة ومنذ يوم فتحها وهما في ظل حكومة مركزية، ولم يجر في تاريخ أي من المدينتين ان كانتا من غير حكومة مركزية يتبعان لها، مما يجعل أمرهما السياسي في يد تلك الحكومة، وهما يتبعان بالضرورة حكومة مركزية كانت في المدينة اولاً ثم تنقلت ما بين العراق والشام وتركيا على مدى القرون حتى عادت الحكومة الى موطنها في الجزيرة العربية من بعد قرون من هجرة الحكم وتطوافه بين مدن الاسلام، وهذه المركزية السياسية جعلت مكة والمدينة تسيران في نظام اجتماعي خاص بهما، وصنعت لهما ثقافة خاصة تختلف عن ثقافة سائر بقاع الجزيرة العربية، خاصة وان الصفة الاخرى لهاتين المدينتين تساعد على بناء نظام ثقافي مختلف، وهذه الصفة الاخرى هي الهجرة الدائمة الى مكة والمدينة من عناصر المسلمين بكل اطيافهم العرقية واللغوية والاقتصادية والثقافية، مما جعل التركيب السكاني والثقافي في مكة والمدينة متميزاً ومختلفاً لتكونه من عناصر متنوعة من جهة ثم لتأثره الحتمي بأي تغير يطرأ على أي بيئة اسلامية مهما بعدت هذه البيئة، فما يجري في الهند او في تركيا او في الاندلس سوف يجد طريقه مع الحجاج ومع المجاورين الذين يقررون الاقامة فيهما، مما يجعل الوضع الثقافي فيهما ليس نابعاً من تغير ذاتي ولكنه تأثر من واقع خارجي، وهذا يفسر لنا لماذا لم تتأثر المدن الاخرى بالمتغيرات التي تحدث باستمرار في هاتين المدينتين من مثل انظمة الطبخ والملبس والمسلك وحتى المعجم اللغوي والطقس الاجتماعي بكافة تجلياته وهو ما لا نجده في أي مكان آخر ولا حتى في الجوار المباشر لهما، بل ان البوادي المجاورة والمتاخمة لهما لا تتأثر بتلك المتغيرات، وذلك لأن تلك المتغيرات هي متغيرات مجلوبة مع اصحابها وليست نابعة من البيئة المحلية، ولو نبعت من البيئة المحلية لكان لها دور في تغيير المحيط كله، ثم ان حرص الحكومات الاسلامية المتعاقبة منذ بني امية والى آخر زمن العثمانيين حرصهم على عزل مكة والمدينة عن محيطهما بسياج محكم حتى لم يكونوا ليعبئوا بالمحيط البدوي والقروي المجاور ولم يكن يعني أحد منهم سوى هاتين البقعتين مما شكل هذا الحصر القسري الذي نتج عنه حصر سياسي وثقافي واقتصادي، وكان كل ما يجري في مكة والمدينة هو مما لا صلة للمحيط به، ومن هنا نشأ في ثقافتنا الاجتماعية هذا الاختلاف النوعي في وجود مدينتين لا يتماثل وضعهما مع وضع سائر مدن المنطقة لقدسيتهما اولاً ثم لتنوع الهجرات اليهما واستمرار هذه الهجرات دون انقطاع ثم لاستقبالهما للمتغيرات الطارئة في أي بقعة اسلامية استقبالاً مباشراً ومستمراً، وهذه عناصر ايجاب، ولكن السلبي هو تعمد الحكومات المتعاقبة على عزل المدينتين عن المحيط مع اهمال المحيط العربي لهما اهمالاً تاماً وعدم الاكتراث به إلا بوصفه منطقة حرب ودار عداء، ولقد كانت كل جولات الحروب مع القبائل والمناطق الاخرى هي جولات اخماد تمرد او رد خطر او جولة تأمين طريق ولم تكن نشر ثقافة او علم او بناء مدارس ومساجد ولم يشهد التاريخ بناء مسجد او مدرسة خارج مكة والمدينة لأي دولة اسلامية في أي مكان في بقاع الجزيرة العربية، وهذا جعل لدينا نموذجاً مدنياً له طابعه الخاص. وهو الشكل الاول من اشكال المدينة التقليدية عندنا.
أما الشكل الثاني فهو شكل المدينة القبلية، وهي في غالبها مدن الجنوب، حيث انقسمت القبائل الجنوبية الى قبائل مستقرة وقبائل بدوية، وتجد ان القبيلة الواحدة من نوعين بعضها زراعي يسكن بقعة من الارض تخصه وبعضها رعوي يتنقل ولكن في شكل محدود ولا يباعد الجوار كثيراً، وتجد الباحة وبلجرشي وابها والنماص هي مدن لأهلها من القبائل وكل سكانها هم من العشيرة وهي دارهم ومستقرهم، وليس فيها تنويع خارجي، ولذا فهي مدينة قبلية تأخذ خصائص القبيلة بكل شروطها، بدءاً من الاسماء ومن اللباس ومن الحمية القبلية ومن نظام المشيخة، وهي قبيلة كأي قبيلة تاريخية غير انها مستقرة وتتخذ من الزراعة مصدراً للعيش، وهو تغير نوعي في النظام الاقتصادي والمعاشي ولكن بقي النظام الثقافي والمسلكي دون تغير جذري، والعصبة هنا هي عصبة قبلية حتى وان كانت تحت عنوان المكان وصورته، ولذا بقيت المسميات قبلية ولم تتحول الى عائلية.
أما الشكل الثالث للمدينة فهو الشكل العام لنشوء المدن وهو شكل يقوم على خليط بشري تحول مع الزمن من حياة الترحل الى حياة الاستقرار وهذا الاستقرار يأخذ صيغاً متنوعة، بعضه فردي كأن يأتي فرد بحاله ويلجأ الى مكان آهل ويدخل مع اهل المكان ساكناً وعائشاً، له ما لهم وعليه ما عليهم، او ربما يأخذ الاستقرار صيغة اكثر جماعية كأن يرتحل فخذ من قبيلة او فرع من فخذ ويقرر الهجرة الى مكان ما ويقر فيه وقد يبدأ في تكوين المكان او يندمج مع ساكني المكان من قبله، ويضاف الى هذا صنف ثالث تنقطع به السبل فيلجأ الى مكان ما ويدخل مع اهله، وربما يأتي من هو فار من مشكل مثل الثأر والدماء وهذا النوع يخفي عادة مصدره ويفرح بالمأوى، وهذه كلها مصادر لتكوين تجمعات سكنية، ما تلبث هذه التجمعات ان تجد نفسها في مواجهة مع ظروف الحياة فقد يأتيها عدوان طامع من راغب بالسلب وقد يأتيها ظرف طبيعي كفيضان واد او حدوث مجاعة او وباء مرضي، وهذه كلها عوامل توحيد في مواجهة الخطر وفي شرط حماية الذات ومن هنا تنشأ العصبية المدنية بوصف ذلك ضرورة حياتية، ويصير اسم المكان علامة وشرط وجود وشرط تحالف ويتحد الناس تحت راية واحدة وزعامة تفرضها الظروف غالباً والذي يوحدهم هنا هو الخطر المداهم حيث انه يعم ولا يخص ومن هنا يتعممون كلهم تحت هدف واحد هو الدفاع عن وجودهم، وهذا سيشكل بالضرورة ثقافة واحدة تقوم على وحدة الاسم، اسم المكان، ثم في اشهار الصفات حيث سيبرز الشجاع والفارس وسيبرز الصبور وسيبرز الكريم ويبرز صاحب النخوة والمبادر الى مواجهة الظرف. وهذه كلها صفات تخلقها الظروف من جهة وتكشفها الاحداث من جهة ثانية ثم تصير علامة بارزة ومسلكاً متواتراً، وتكون ثقافة للمكان واهل المكان.
هنا تنشأ صفات وسمات تتسبها المدينة لنفسها وتدخل في اشعارها وفي حكاياتها، وتكون علامة عليها ومفخرة لها، ولا يوجد مدينة من مدن الجزيرة العربية إلا وفي سجلها هذا النوع من التاريخ الثقافي والمعاشي، وهي هنا لا تختلف عن أي قبيلة عربية أو غير عربية في وصف نفسها بصفات الكرم والشجاعة والحمية والاصالة، مما يجعل المدينة نظاماً ثقافياً يمثل لساكنيها والمنتسبين إليها عصبية لا تختلف عن العصبية القبلية. ويبقى علينا الوقوف على عناصر تتعلق بالانتساب وأخرى عن الطبقات وثقافة المدن سيكون في المقالة اللاحقة - إن شاء الله -.ملاحظة: سألني أحد القراء في موقع الرياض على الإنترنت بقوله: هل تسعى إلى المطالبة بإلغاء القبيلة في الجزيرة العربية....؟ وجوابي هو بالنفي طبعاً، فأنا هنا أحارب أول ما أحارب ثقافة الإلغاء والإقصاء، وموقفي من القبيلة يتلخص بالحديث الشريف الذي أوردته مراراً في مقالاتي هذه، وهو ما نقله ابن ماجة في سننه من سؤال أحد الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أمن العصبية أن يحب الرجل قومه...؟ قال: لا، ولكن العصبية أن يعين الرجل قومه على الظلم). والقبلية باقية وستبقى بما إنها قيمة اجتماعية وثقافية، وهذه حقيقة، ولكن لا بد أن نفرق بين القبيلة والقبائلية مثلما نفرق بين الشعب والشعوبية ومثلما نفرق بين أن تحب أهلك وثقافتك وبين أن تتعالى على المختلف عنك، أي أن تجمع بين الحب الذي هو إيجاب والتعدي الذي هو سلب وإقصاء، ولو عرفنا هذا التمييز سنكون عندها عادلين وواقعيين.
المفضلات