الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه أجمعين .

وبعد ، فقد لوحظ في الآونه الاخيره كثرة التخرص في علم الغيب ، وذكر التنبؤات التي تحدد الأحداث المستقبلية التي هي من علم الغيب ، والذي لا يعلمه إلا الله ، وهذا له تبعاته الخطيرة على عقيدة عموم المسلمين .

فانطلاقًا من واجب النصيحة ، والتحذير من مغبة الانسياق وراء هذا المنهج نذكر الجميع بما يلي :

أولا ـ من أصول عقيدة أهل السنة والجماعة أن علم الغيب علم لا يعلمه إلا الله ، فلا يعلمه ملك مقرب ، ولا نبي مرسل إلا من طريق الوحي .

دل على ذلك جملة من النصوص ، نُذكّر ببعضها :

1 ـ قول الله تعالى تعالى : عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً (الجـن:26) ، قال السعدي ـ رحمه الله ـ : أي من خلق ، بل انفرد بعلم الضمائر ، والأسرار ، والغيوب . اهـ .

2 ـ وهاهو نبي الله نوح ـ عليه السلام ـ ينكر علمه للغيب كما قال تعالى : وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ (هود:31) .

3 ـ وقال تعالى لنبيه محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ : قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ (الأنعام:50) .

4 ـ وأيضًا قال الله تعالى : وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ (الأعراف:188) .

5 ـ روى البخاري وغيره عن بن عمر عن النبي ـ صلى الله علي وسلم ـ قال : (مفاتيح الغيب خمس ، لا يعلمها إلا الله ، لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله ، ولا يعلم ما في غد إلا الله ، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله ، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله ، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله) .

6 ـ روى البخاري ومسلم عن أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : من حدثك أن محمدًا يعلم الغيب فقد كذب ، وهو يقول : (لا يعلم الغيب إلا الله) . اهـ .

والنصوص في هذا الباب كثيرة ، ولعل فيما ذكرناه الكفاية .

ثانيا ـ يجب الانتباه والحذر بأن ادعاء علم الغيب هو ضرب من الكهانة .

قال ابن القيم : من يدعي علم شيء من المغيبات ، فهو إما داخل في اسم الكاهن ، وإما مشارك له في المعنى فيلحق به . اهـ .

وصدق ـ رحمه الله ـ ، فمن يمعن النظر في ما يقوم به البعض من التخرص في علم الغيب بتحديد الأحداث المستقبلية وتواريخها يعلم أن هذا ضرب من الكهانة ؛ لأن الكهانة هي : أن يخبر عن الكوائن المستقبلية ، ويدعي معرفة الأسرار ، ومطالعة علم الغيب فيشبه حالا بحال ، ثم يحكم لهما بحكم واحد ، وهو باب يؤدي إلى الكهانة الكاذبة ، والتخرص في علم الغيب ، والتحذلق في الاستدراء على الله تعالى وعلى رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما لم يأذن به الله ـ عز وجل ـ نعوذ الله من ذلك .

بل مجرد دعواه علم الغيب يعد من الكفر كما قال ذلك في "شرح كتاب التوحيد" ص362 .

وكما قال الطحاوي : ومن ادعى علم الغيب كان من الكافرين . اهـ .

ثالثا ـ يجب التفريق بين الاستنتاجات العقلية للأحداث المستقبلية المبنية على استقراء التاريخ والأحداث ، ومخططات أصحاب الهيمنة ، والتقارير الصحفية ، والتصريحات السياسية وهي المسماة بـ (التحليلات السياسية) ، وبين التخرص في علم الغيب المبني على الوهم ، والأحلام ، والرجم بالغيب.

فالتحليلات السياسية ، تقوم على أساس حسي من علم الشهادة ، وهو ظني الحدوث .

أما المتخرص في علم الغيب ، فتقوم رؤيته على أساس خيالي من علم الغيب .

فالبعض يتخرص في علم الغيب بشبهات يظنها بينات ، فيوقع عامة الناس في بلبلة بسبب اجتهاداته الخاطئة ، فيترتب على ذلك فتن ومفاسد لا تخفى ، منها تكذيب الله تعالى ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .

وقد سبق ووقع شيء من ذلك لبعض أهل العلم ، فأنكر عليه علماء الأمة هذا التأويل .

فالطبري ـ رحمه الله ـ تأول حديث أبي ثعلبة مرفوعًا : (لن يعجز هذه الأمة من نصف يوم) رواه أبو داود والحاكم بإسناد صحيح ، فادعى ـ رحمه الله ـ أنه بقي من الدنيا نصف يوم أي (خمسمائة عام) ، فخالف بذلك صريح القرآن والحديث ، وفاته أن الحديث ليس صريحًا في أنها لا تؤخر أكثر من ذلك ، ويكفي في الرد عليه ـ رحمه الله ـ أن الأمر وقع بخلاف ما قال ، فقد مضى أكثر من ألف سنة ولم تقم الساعة !!.

المقصود أنه لو أخبر أحدهم مثلا عن حادثة وقعت في الماضي أو الحاضر ، لوقف الجميع في وجهه يطالبه بالدليل ومصدر خبر هذه الحادثة ، وإلا أتهم بالكذب والافتراء . مع أنه يتكلم عن علم الشهادة !! .

فكيف يكون الحال لو تكلم عن علم الغيب ؟ فيخبرنا بأنه في شهر كذا سوف يحدث كذا ، وفلان من الناس هو القحطاني ؟!! وأن هذه الدولة ستزول !! ثم عندما نسأله عن مصدر هذه المعلومات ؟ يخبرنا بأنه منام ، فهذا بلا ريب ضرب من الكهانة ، ومزاحمة لله في صفة من صفاته ، فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (النور:63) .

فالتوسع والتساهل في باب المنامات يفضي بلا ريب إلى الكهانة ، والرجم بالغيب ، والاستدراء على الله تعالى ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، خاصة وأن من يزعم مثل ذلك يذكره على سبيل الجزم ، كأنه اطلع على اللوح المحفوظ برؤيته المزعومة !!.

إذا تقرر هذا ، فنهيب بجميع الأخوة الأعضاء الالتزام بعقيدة أهل السنة والجماعة بعدم التخرص في علم الغيب جملة وتفصيلاً ، والله الهادي إلى سواء السبيل .



والله تعالى الموفق .









المصدر : منتدى الفجر