رحلة الإسراء والمعراج والإعجاز العلمي..؟؟
السلام عليكم
أدمج أينشتين المكان والزمان في نظرية النسبية الخاصة عام 1905م، وأعلن أنه "ليس لنا أن نتحدث عن الزمان دون المكان، ولا عن المكان دون الزمان، وما دام كل شيء يتحرك فلا بد أن يحمل زمنه معه، وكلما تحرك الشيء أسرع فإن زمنه سينكمش بالنسبة لما حوله من أزمنة مرتبطة بحركات أخرى أبطأ منه".
ولقد تحققت ظاهرة انكماش الزمن علميًّا في معامل الفيزياء، حيث لوحظ أن الجسيمات الذرية atomic particles تطول أعمارها في نظر راصدها، إذا ما تحركت بسرعة قريبة من سرعة الضوء.
وعلى سبيل المثال، يزداد نصف العمر لجسيم البيون (نصف العمر هو الزمن اللازم لينحل هذا الجسيم إشعاعيًّا حتى يصل إلى نصف كميته) في الساعة المعملية الأرضية إلى سبعة أمثال قيمته المعروفة إذا تحرك بسرعة قدرها 99% من سرعة الضوء.
وطبقًا لنظرية أينشتين، فإننا إذا تخيلنا أن صاروخًا اقتربت سرعته من سرعة الضوء اقترابًا شديدًا، فإنه يقطع رحلة تستغرق خمسين ألف سنة (حسب الساعة الأرضية) في يوم واحد فقط (بالنسبة لطاقم الصاروخ)!! وإذا فكرت في زيارة أطراف الكون فإنك ستعود إلى الكرة الأرضية لتجد أجيالاً أخرى وتغيرات كبيرة حدثت على هذا الكوكب الذي سيكون قد مر عليه حينئذ آلاف أو ملايين أو بلايين السنين بحساب أهل الأرض الذين لم يخوضوا معك هذه الرحلة المذهلة، وذلك إذا كنت قد تحركت في رحلتك بسرعة قريبة من سرعة الضوء...!!
وخلاصة القول: إن الزمن ينكمش مع ازدياد السرعة، وتزداد السرعة مع ازدياد القدرة على ذلك.
هكذا أصبح من المقنع للماديين أن السرعة والزمن والقدرة أشياء مترابطة، ولكن إذا كان هناك مخلوق أقوى من الإنسان (ينتمي إلى غير الجنس البشري، كأن يكون من الجن أو من الملائكة)، فإنه يتحرك بقوانين أخرى غير قوانين الإنسان، فيقطع المسافات ويعبر الحواجز، وأشياء أخرى كثيرة لا يتخيلها الإنسان الذي يسكن كوكبه الأرضي.
وطبقًا للنظرية النسبية أيضًا، فإنه إذا وجد كائن يسير بسرعة أكبر من سرعة الضوء، فإن المسافات تنطوي أمامه وينمحي الزمن في قطعه هذه المسافات.
وبالرغم من أن سرعة الضوء في الفراغ (أو الهواء) هي أعلى سرعة معروفة حتى الآن، فإن العلم الحديث لا ينكر وجود سرعة أكبر من سرعة الضوء في الفراغ، وإن لم يصل إليها حتى الآن، رغم سريان دقائق بيتا (B - particles) في الماء بسرعة أكبر من سرعة الضوء فيه؛ لأن هذه الدقائق اخترقت حاجز الضوء في الماء فقط وليس في الهواء أو الفراغ، فتسببت في صدور إشعاع يدعى إشعاع كيرنكوف..!!
لماذا نتدارس معجزة الإسراء والمعراج ؟
لقد أوردنا هذا العرض العلمي لكي نقرِّب للناس فهم إحدى المعجزات الحسية التي جرت لرسول الله محمد بن عبد الله ، إنها "معجزة الإسراء والمعراج". ولسنا نسعى من وراء هذا العرض وما يليه من إيضاحات أن نثبت صدق هذه المعجزة، وإنما نريد فقط أن نقرِّب فهمها للذين يستبعدون حدوثها من غير المسلمين.
وهذه المعجزة من الصنف الذي لم يجره الله بقصد التحدي (أي: تحدي البشر)، وأعجب ما في هذه المعجزة (بشقيها) أنها غيب من جملة الغيوب التي يجب على المسلم أن يصدق بها ويثق فيها مطلقًا.
وهذه المعجزة إذا ناقشناها، فإنما نناقشها لإثبات استحالة وقوعها لبشر عادي، بكل المقاييس العلمية، أو حتى بتطبيق الفروض أو النظريات... وإلاَّ لانتفت صفتها كمعجزة، ولأمكن للإنسان العادي أن يحققها عن طريق استخدامه لأية طاقات أو سبل يخترعها العلم بمرور الزمن.
والكلام في المعجزات الحسية لرسول الله لا يجب أن نسرف فيه، بل لا يجب أن نعول على هذه المعجزات كثيرًا في الإقناع برسالة الرسول ؛ لأنها معجزات وقعت وانقضت، وقد نهى رسول الله ذاته عن التعلق بهذه المعجزات المادية، وأمرنا بالانتباه إلى معجزة واحدة باقية على مر الزمان، هي القرآن الكريم، الذي تنكشف وجوه الإعجاز فيه كلما تقادم الزمن وتوالت الأجيال، وكل جيل يكشف عن وجه أو وجوه فيه لم يكن قد كشفها الجيل السابق... فقد حدث في زمن الرسول أن انكسفت الشمس عندما مات إبراهيم بن رسول الله، فقال الناس: لقد انكسفت الشمس لموت إبراهيم. فقال لهم الرسول: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته".
تشتمل "معجزة الإسراء والمعراج" ضمن ما تشتمل السرعة الخارقة والقدرة المذهلة التي انتقل بها رسول الله في الشق الأول من المعجزة، وهو "الرحلة الأرضية"، من المسجد الحرام بمكة (في الجزيرة العربية) إلى المسجد الأقصى بالقدس (في فلسطين)، ثم السرعة والقدرة اللتان لا يستطيع الإنسان -مهما أوتي من علوم وتكنولوجيا- أن يحددهما، وذلك في الشق الثاني من المعجزة وهو "الرحلة العلوية"، أي: الصعود من حيث انتهت الرحلة الأرضية إلى الأعلى في رحلة سماوية اخترق الرسول بها طبقات الجو كلها، وعبر أرجاء الكون إلى سماء لا ولن يستطيع الإنسان أن يصل إلى تحديد أي شيء فيها، ولن يعرف عنها أي شيء سوى ما أخبره به القرآن الكريم.
رحلة الإسراء.. الرحلة الأرضية في عالم الملك
يقول الله سبحانه: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1]. {سبحان} أي: تنزه الله في قوله عن كل قول، وتنزه الله في فعله عن كل فعل، وتنزه الله في صفاته عن كل صفات. {الذي أسرى} أي: الذي أكرم رسوله بالمسير والانتقال ليلاً. {بعبده} أي: بمخلوقه الإنسان الذي اختاره لهذه المهمة العظمى، وهي مهمة هداية البشر جميعًا.
ولم يقل الله سبحانه: "بخليله" أو "بحبيبه" أو "بنبيه"، وإنما قال: {بعبده}، وفي هذا ملحظ مهم هو أن الرسول حقق مقام العبودية الخالصة لله سبحانه، فكان حقًّا "العبد الكامل" أو "الإنسان الكامل"، ولأن المطلب الأول للإسلام هو تحقيق العبودية الخالصة لله سبحانه. {ليلاً}، وفي هذا دلالة على أن الإسراء كان في جزء من الليل ولم يستغرق الليل كله، وكان الليل هو وقت الرحلتين؛ لأنه أحب أوقات الخلوة، وكان وقت الصلاة المفضل لدى رسول الله ، بل كان هو وقت الصلاة قبل أن تفرض الصلاة بالهيئة والأوقات المعروفة عليها، وكان الإسراء ليلاً ليكون أيضًا أبلغ للمؤمن في الإيمان بالغيب.
وأما قوله تعالى: {من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى} فتفسيره: أن انتقال الرسول في رحلته الأرضية كان بين مسجدين، أولهما: المسجد الحرام بمكة في أرض الجزيرة العربية، وهو أحب بيوت الله في الأرض، والصلاة فيه تعدل مائة ألف صلاة في غيره من المساجد. وثانيهما: هو المسجد الأقصى بأرض فلسطين، مهد الأنبياء والرسل، وقد كان القبلة الأولى للمسلمين قبل أن يأتيهم الأمر بالتحول شطر المسجد الحرام الذي هو قبلتهم منذ ذلك الوقت إلى آخر الزمان.. والمسجد الأقصى من أفضل مساجد الأرض جميعًا، والصلاة فيه تعدل خمسمائة صلاة في غيره من المساجد. {الذي باركنا حوله} أي: الذي أفضنا عليه وعلى ما حوله بالبركات، دنيوية ومعنوية. {لنريه من آياتنا} أي: بعض الآيات الدالة على قدرة الله وعظمته، وليس كل الآيات.
هل حدثت المعجزة بالروح أو بالجسد أو بهما معا ؟
قد يقول قائل: إن رحلة الإسراء (ومن باب أولى: رحلة المعراج) حدثت لرسول الله منامًا، أي: رؤيا منامية، يعني بروحه دون جسده. ونحن نقول لهذا القائل: إن الرحلة الأرضية، وكذلك الرحلة العلوية، حدثتا معًا بالروح والجسد معًا، والأدلة الدامغة على ذلك كثيرة، وأقربها إلينا كلمات القرآن التي أوردناها سابقًا، فلم يقل الله: (سبحان الذي أسرى بروح عبده)، وإنما قال: {سبحان الذي أسرى بعبده}، أي: روحًا وجسدًا.. وهكذا يكون الإنسان (العبد) بشقيه الروح والجسد.
وهنا أيضا دليل دامغ آخر يكمن في لفظة {سبحان} التي افتتحت بها الآية، بل السورة كلها، وهي تعني: يتنزه الله عن الشبيه والند والنصير، ويتنزه الله عن العجز والضعف. إذن تأتي هذه اللفظة للأمور العظيمة، وتأتي في مقدمة آية أو سورة لكي تهيئ القارئ، أو السامع، إلى أنه سيقرأ أو سيسمع أمرًا عجيبًا وغريبًا وعظيمًا في نفس الوقت، وذلك إذا قاسه بمقاييسه البشرية، ولكنه هين وعادى وميسور بالنسبة لإله الكون وخالقه ومدبره وخالق نواميسه وقوانينه وقادر على خرق أي ناموس في أي وقت، وتنفيذ ما تشاء إرادته، جلت قدرته وتعالت عظمته.
وبدراسة الجو العام لحال المسلمين، والدعوة الإسلامية عموما في ذلك الوقت، نعرف أن هذه المعجزة حدثت لغرض مهم -إضافةً إلى أغراض أخرى- هو تمحيص قلوب المؤمنين بالرسول ؛ ليثبت قوي الإيمان ويظهر ضعيف الإيمان، وينكشف أمره، وخصوصًا أن الله سبحانه يُعِدّ المسلمين لحدث عظيم بعد عام واحد هو الهجرة الكبرى من مكة إلى المدينة؛ لتأسيس أعظم مجتمع إسلامي عرفته البشرية على الكرة الأرضية.
فالماديون (قديمًا وحديثًا) يقيسون كل شيء بالطول والعرض والعمق، بما لديهم من مقاييس معروفة، ويزنون كل شيء بأثقال متفق عليها فيما بينهم، فإذا صادفوا غير ذلك في حياتهم، حجمًا أو وزنًا، أنكروه ورفضوه. وهكذا أنكر الماديون "معجزة الإسراء والمعراج" جملة وتفصيلاً؛ لأنها لا تخضع لقوانينهم وموازينهم.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن الذين أفرطوا في الجانب الروحي وترهبنوا، اختلفوا فيما بينهم حول كون المعجزة تمت بالروح فقط، أو بالجسد فقط، أو بهما معًا؟ وقد رددنا على هؤلاء وأولئك، وأثبتنا أن المعجزة تمت للرسول بالروح والجسد معًا؛ لأنهما إن حدثتا له بالروح فقط ما استحقت أن تكون معجزة، فالرؤيا الصادقة تحدث للصالحين من غير الأنبياء والرسل، والإنسان العادي يرى في منامه كل شيء لا يستطيع أن يبلغه في صحوه، فهو في منامه يطير ويتجول في أماكن بعيدة ومناطق فسيحة، ويحصل على آمال وينال مطالب في أحلامه فقط.
ما هو البراق ؟
بعد أن تمت الرحلتان وعاد رسول الله إلى موطنه وبيته بمكة، حكى للناس ما حدث، وكان ضمن ما قاله: إن "براقًا" جاءه وأمر أن يركبه. وهذا البراق هو الوسيلة التي نقلته في رحلته الأرضية من مكة إلى القدس. فما هو البراق يا ترى؟
أفاد أهل الاختصاص في اللغة العربية بأن البراق دابة أصغر من البغل وأكبر من الحمار، وقال بعض شراح أحاديث الرسول : إن البراق مشتق من البريق، ولونه أبيض، أو هو من "البراق"، وسمي كذلك لشدة لمعانه وصفائه وتلألئه أو توهجه. فلا ضير، إذن، أن نقترح بأن يكون البراق هو البرق الذي حمل الرسول وسار بسرعة الضوء من مكة إلى القدس في الذهاب والإياب. وتبقى المعجزة في استعمال هذه الظاهرة الطبيعية كامنة في حماية الرسول من آثارها المدمرة، والوقاية من أضرارها.
وقبل أن نغادر الرحلة الأرضية (وهي الشق الأول من معجزة الإسراء والمعراج) وننتقل إلى الرحلة العلوية السماوية، نود القول بأن الذين يستبعدون حدوث الإسراء (ناهيك عن المعراج) عليهم أن يبحثوا في الأحداث السابقة لتاريخ هذه المعجزة، ليقرءوا من مصادر موثوقة (وأقواها بالطبع هو كتاب الله المجيد القرآن الكريم) عددًا من الأحداث أو الحوادث كانتقال عرش بلقيس من مملكة سبأ باليمن (جنوب الجزيرة العربية) إلى حيث كان يقيم رسول الله سليمان في الشام (شرق البحر المتوسط).
وموجز هذه الحادثة هو أن سليمان أرسل إلى بلقيس (مملكة سبأ) رسالة يعرض فيها عليها الإيمان بالله وحده لا شريك له في الخلق والملك والتدبير، وبعد مداولات بينها وبين وزرائها (أو شعبها) استقر رأيها أن تسلم لله رب العالمين. فاتجهت إلى بلاد الشام قاصدة سليمان، وقبل أن تقترب من هذه البلاد أعد سليمان صرحًا عظيمًا لاستقبالها، ثم أراد أن يريها شيئًا من دلائل عظمة قدرة الله، فقرر أن يأتي بعرشها (من اليمن) لتجلس هي على هذا الصرح الذي أعده لها.
فتفقد سليمان قدرات من حضر مجلسه (جنًّا وإنسًا) وإمكاناتهم في إتمام هذه المهمة، فقال له عفريت من الجن: أنا آتيك به -من اليمن إلى الشام- قبل أن تقوم من مقامك. وقال آخر -آتاه الله العلم والقدرة من لدنه-: أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك!! وبالفعل، جاء هذا الذي آتاه الله العلم والقدرة بعرش بلقيس في زمنٍ لم يتعد طرفة عين، ولا يعرف لأحد حتى الآن كيف تم تنفيذ هذه المعجزة الخارقة. ومن نافلة القول: إن سليمان بن داود كان هو وأبوه نبيين أنعم الله عليهما بإنعامات كثيرة، وكان سليمان يأتي الخوارق كثيرًا، ويحمد الله في كل مرة أن سخر له الكون، وأخضع له الظواهر الطبيعية وخرق النواميس الكونية.
المعراج.. الرحلة العلوية السماوية في عالم الملكوت:
إن الكون الذي يستطيع الإنسان أن يبصر بعض أطرافه كون فسيح ضخم، بالرغم من أنه بكل ما يحتوي لا يمثل سوى السماء الأولى فقط، فلا نعلم ولا يعلم أحد مهما أوتي من العلم -إلا أن يكون نبيًّا أو رسولاً يتلقى الوحي- عن غير هذه السماء شيئًا، سواء كانت السماء الثانية أو الثالثة أو الرابعة أو... إلخ.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن فكرة الإله الذي يحتل مكانًا محددًا من الكون فكرة لا تتفق مع العقل الصحيح أو المنطق القويم، بل ربما نعتبر -نحن أهل الكوكب الأرضي- أناسًا في سماء أخرى بالنسبة لمخلوقات غيرنا تعيش في كوكب أو مكان لا نعلمه نحن في مجرتنا أو في مجرة أخرى من مجرات الكون الفسيح...!! إذن فالخالق العظيم، أي: الله الواحد المالك المدبر، له قوة مطلقة ولا يستطيع أحد أن يحدد له سبحانه مكانًا أو زمانًا، بل هو سبحانه موجود قبل أن يكون هنالك زمان أو مكان.
وقديمًا ذهب الناس إلى أن ما يرونه فوق رءوسهم عبارة عن سموات تسكنها الملائكة، ولكن العلم الحديث توصل إلى أن هذا ما هو إلا ظاهرة ضوئية تحدث في جو الأرض نتيجة لتشتت وتناثر ضوء الشمس الأزرق بوفرة فيه... وتوصل العلم الحديث بعد الخروج من الغلاف الجوي والتجول في الفضاء الكوني، أن الأرض ما هي إلا كوكب موجود في مجموعة تابعة للشمس، ولا يزيد سمك غلاف هذا الكوكب 1 كيلو متر، بما فيه تلك "القبة الزرقاء" التي ظنها الناس قديمًا مسكن الملائكة، ولكنها ظاهرة ضوئية تحدث في طبقة من الغلاف الجوي للأرض لا يزيد سمكها عن 200 كيلو متر.
والأمر الثالث هو أن تحول المادة إلى طاقة، ثم عودة الطاقة إلى المادة، هو أمر معلوم الآن بالكشوف العلمية الحديثة، وهو وإن كان أمرًا نظريًّا، فإنه مستحيل التنفيذ عمليًّا. إذن، فإذا قلنا بتحول جسد الرسول -وهو مادة- إلى ضوء -وهو طاقة- أو ما هو أعلى من الضوء، حتى يخترق آفاق الكون وما بعد الكون في ساعات قليلة بحسابنا البشري، فإننا بذلك نكون قد قدمنا اقتراحًا لتقريب مفهوم الحدث، وإن كنا لا نجزم بما نقترحه.
ولعل مما يدل على قصر مدة الرحلة بجانبيها -الإسراء والمعراج- هو ما رواه الرسول بعد عودته لأم هانئ -ابنة عمه- وما رواه لكل الناس بعد ذلك، ومن هذه الرواية أنه صلى العشاء مع أصحابه، ثم عاد وظهر وقت الفجر فصلى الفجر معهم...!!
هذا مدخل ندخل منه إلى موضوع "المعراج"، وهو الصعود (أو آلة الصعود) من سطح الأرض إلى طبقات الجو العليا، إلى حيث الاختراق والنفاذ من أقطار الأرض وغيرها من الكواكب والنجوم، إلى حيث لا يعلم الإنسان حتى الآن.
ولكننا نرى من الأفضل أن نعجل بقراءة آيات المعراج الواردة في القرآن الكريم، وهي الآيات التي لم تذكر "المعراج" صراحة، بل يفهم منها: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى{ [النجم: 1-18].
صخرة المعراجهكذا بدأت سورة "النجم "بالحديث عن معراج النبي ، أي المعجزة العظيمة التي حدثت لرسول الله تكريمًا له، وقد رأى فيها عجائب صنع الله وغرائب خلقه في ملكوته العظيم الذي لا يحده حد. ولقد اقتضت حكمة الله أن يكون أول ألفاظ السورة جرم سماوي، أي: "النجم"، وهو إحدى الآيات الكونية التي خلقها الله، والله سبحانه يقسم بسقوط النجم أو أفوله أو انفجاره أو احتراقه، وهو قسم بشيء عظيم إذا فكر فيه الناس.
وجاءت الآية الثانية لتؤكد لأهل مكة وقت تنزل القرآن بين ظهرانيهم أن رسول الله (أي: المبعوث فيهم) لم يضل ولم يختل ولم يزل؛ لأنه رسول مختار من قبل الله سبحانه، فلا بد أن ينطق الصدق ويقول الحق ويخبر بما رأى ويحكي ما سمع، ويبلغ ما أمر أن يبلغه..
كيف يضل وكيف يزل وهو الأمين على القرآن -كتاب الله- إلى الناس جميعًا؟! إنه الوحي الذي يوحيه الله إلى رسوله ، حيث كان يأتيه جبريل -عظيم الملائكة– به، ويقرئه إياه. وجبريل هذا هو ذو قوة شديدة، وذو حسن ونضارة، وقد (استوى)، أي: ظهر على صورته الحقيقية لرسول الله محمد بن عبد الله في (الأفق الأعلى)، فاقتربا وكادا أن يتلامسا، ولكن جبريل فارق الرسول عند موضع لا تتعداه الملائكة، وقال له: إذا تقدمتَ -أي: يا محمد- اخترقتَ، وإذا تقدمتُ -أي: أنا- احترقتُ. وبعد عبور هذا الموضع تجلَّى الله لرسوله محمد بالإنعامات والتجليات والفيوضات، وأوحى إليه وحيًا مباشرًا، وكانت الصلاة المعروفة لنا هي ما أوحى الله به.
ولقد أقسم الله على أن ما يحدث به رسوله بعد عودته من هذه الرحلة هو الحق والصدق وليس بالكذب؛ لأنه لم يكذب قط طوال حياته... ولقد رأى رسول الله الآيات الكبرى لعظمة الله وقدرته المطلقة.
وعلى الرغم من أن "الإسراء" و"المعراج" حدثا في نفس الليلة (ليلة السابع والعشرين من شهر رجب قبل الهجرة بعام واحد)، فإن موضعي ورودهما في القرآن الكريم لم يترادفا، بل ذكر الإسراء أولاً (في سورة الإسراء)، وتأخر الحديث عن المعراج إلى سورة النجم التي وضعت بعد سورة الإسراء (في ترتيب سور القرآن). وقد تكون الحكمة في هذا هي جعل الإسراء (وهو الرحلة الأرضية) مقدمة للإخبار بالمعراج، وهي الرحلة العلوية التي ذهل الناس عندما أخبروا بها، فارتد عن الإسلام وقتها ضعاف الإيمان، بينما ظل على الإيمان أقوياؤه.
والمكذبون بهذا الحدث -قديمًا وحديثًا- لا عقل مدركًا واعيًا لهم؛ لأنهم لو قرءوا التاريخ لعرفوا أن أحداثًا قبل هذه الحادثة وقعت، منها مثلاً حادثة نقل عرش بلقيس من اليمن إلى الشام في ملمح البصر، التي أشرنا إليها سابقًا. فكيف بهم يكذبون رحلة الإسراء..؟! ولو أنهم قرءوا التاريخ لعرفوا أن أحداثًا قبل هذه الحادثة وقعت، منها مثلاً: رفع إدريس إلى السماء، ورفع إلياس إلى السماء، ورفع عيسى بن مريم إلى السماء... وكلها أحداث قبل رفع رسول الله محمد بن عبد الله إلى السموات العُلا، ولكنه عاد بعد الرفع ولم يمكث كما حدث لهؤلاء الأنبياء والرسل... عاد ليكمل رسالته وينشر الهدى والحق والعدل في ربوع الكرة الأرضية.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن هؤلاء المكذبين بـ"الإسراء والمعراج "لو أنهم قرءوا التاريخ لعلموا أن الأنبياء والرسل جرت على أيديهم المعجزات وخوارق العادات، وأوقف الله لهم القوانين الطبيعية والسنن الكونية، ليكون هذا وذاك أدلة على صدق دعواهم للناس. والأمثلة في هذا الشأن كثيرة، منها النار التي ألقى فيها إبراهيم توقفت فيها خاصية الإحراق، وكانت بردًا، بل وكانت أيضًا (سلامًا)، أي: أمانًا...
وانفلاق البحر لموسى حتى ظهرت اليابسة، وعبر موسى وقومه فرارًا من بطش فرعون مصر الجبار الآثم... وانقلاب (تحول) عصا موسى إلى ثعبان ضخم ابتلع حبال وعِصيّ السحرة فأخزاهم الله، وعلى التوّ ثابوا إلى رشدهم وتحولوا إلى الإيمان واتباع موسى ... وتسخير الظواهر الطبيعية لسليمان وكذلك الجن والدواب والحيوانات والطيور... وإحياء الموتى على يدي عيسى ، وإخراج الطير من الطين على يديه أيضًا... كل هذه وتلك معجزات وخوارق أجراها الله لأنبيائه ورسله؛ ليصدقهم الناس ويتبعوا الهدى الذي جاءوا به.
أغراض وأهداف الإسراء والمعراج
ونحن إذ نتحدث في "المعراج"، فإننا لم نجد فيما توصل إليه الإنسان في زماننا الحالي اكتشافًا أو اختراعًا يستدل به على تقريب فهم هذا الحدث الجلل لغير المسلمين، اللهم إلا تحول المادة إلى طاقة وبالعكس، ولكننا نكرر القول بأنه إذا كان كلٌّ من الإسراء والمعراج معجزة، فهي ليست للتحدي، ولكنها وقعت لأهداف وأغراض، نوجز أبرزها فيما يلي:
1- توالت على رسول الله قبيل حادثة الإسراء والمعراج النكبات، فإلى جانب ما كان يلاقيه من عنت وعذاب الكفار له وتصديهم لدعوته وإنزال الأذى والضرر به وبمن تبعوه من أهل مكة بالجزيرة العربية، فَقَد نصيرًا وظهيرًا له هو عمه أبو طالب، وكذلك فَقَد إنسانة عزيزة جدًّا عليه هي زوجته خديجة التي كانت له السند والعون على تحمل الصعاب والمشقات في سبيل تبليغ دعوته السامية، فكلاهما مات في غضون أيام قبيل حادثة الإسراء والمعراج؛ ولذا سمي هذا العام "عام الحزن". ومن هنا كان إنعام الله على عبده ورسوله محمد بهذه المعجزة العظيمة تطييبًا لخاطره، وتسرية له عن أحزانه وآلامه... ثم ليشهد فيها من عجائب المخلوقات وغرائب المشاهد ما تدق خفاياها عن القلوب والأفهام.
2- ولما كان الإسراء -وكذلك المعراج- خرقًا لأمور طبيعية ألفها الناس، فقد كانوا يذهبون من مكة إلى الشام في شهر ويعودون في شهر، لكنه -أي: رسول الله- ذهب وعاد وعرج به إلى السموات العلا، وكل هذا وذاك في أقل من ثلثي ليلة واحدة... فكان هذا شيئًا مذهلاً، أي أنه كان امتحانًا واختبارًا للناس جميعًا، وخاصة الذين آمنوا بالرسالة الجديدة، فصدق أقوياء الإيمان وكذّب ضعاف الإيمان وارتد بعضهم عن إسلامهم. وهكذا تكون صفوف المسلمين نظيفة، ويكون المسلمون الذين يُعِدهم الله للهجرة أشخاصًا أتقياء أنقياء أقوياء، لهم عزائم متينة وإرادة صلبة؛ لأن الهجرة تحتاج أن تتوفر لديهم هذه الصفات.
3- كان ضمن ما ورد على لسان رسول الله أنه حينما وصل إلى بيت المقدس التف حوله جميع الأنبياء والرسل، واصطفوا وقدموه للإمامة، وصلى بهم... وإن هذا ليعد احتفالاً بميراث النبوة الذي انتقل إلى خاتم الأنبياء والرسل، وهو محمد بن عبد الله، وانتقل بذلك من ذرية إسحاق إلى ذرية إسماعيل أبي العرب. ويعد هذا أيضًا دليلاً واضحًا على عالمية الرسالة الإسلامية، وأن الإسلام هو الدين الشامل المحتوي لكل الشرائع والعقائد السماوية السابقة؛ ولذا فهو خاتم الرسالات التي أنزلها الله إلى البشر لهدايتهم. وإضافة إلى هذا وذاك، فإن اجتماع الرسول بكل الأنبياء والرسل وصلاته بهم دليل على أن كافة الشرائع السماوية جاءت من أجل تحقيق هدف واحد، هو عبادة الله وحده لا شريك له، إلهًا واحدًا أحدًا.
4- لقد كان الصعود من بيت المقدس ولم يكن من مكة، ذا دلالات، إحداها الأمر بنشر الإسلام وتوسعة إطاره؛ وذلك لأنه الدين الخاتم الشامل الجامع الذي ارتضاه الله للناس كافة على اختلاف أجناسهم وألوانهم وشعوبهم ولغاتهم.. وفيه أيضًا أمر ضمني بنبذ الخلاف فيما بين المسلمين، بل الأمر بتوحدهم واجتماع مصالحهم.
5- يعتبر فرض الصلاة -بهيئتها المعروفة وعددها وأوقاتها اليومية المعروفة- على المسلمين في رحلة المعراج دليلاً على أن الصلاة صلة بين العبد وربه، وهي معراجه الذي يعرج عليه إلى الله I بروحه، وأنها الوقت الذي يناجي العبد فيه ربه، ويبث إليه ما يرنو إليه. فالصلاة إذن عماد الدين، ومن تركها وأهملها فكأنه هدم دينه وأضاعه.. وهذه الصلاة بهيئتها الحركية أفضل الحركات لمصالح الجسد الصحية، إضافة إلى معطياتها النفسية والروحية.
وختاما؛
فإننا لا نستطيع إحصاء ما للإسراء والمعراج من فضائل وفوائد، وإنما سقنا ما أفاء الله به علينا وعرضناه بإيجاز، ولا بد من التأكيد مرة أخرى على أن معجزة "الإسراء والمعراج" معجزة لم يتحد الله بها البشر؛ لأن البشر لن يفكروا مطلقًا في الإتيان بمثلها، أو بما يشابهها، مهما بلغت قواهم وارتقت عقولهم وتطورت مخترعاتهم، وإنما هي معجزة لاختبار قوة العقيدة وتمحيص قلوب المؤمنين، فمن كان إيمانه قويمًا صدّق، ومن كان غير ذلك كذّب أو استكثر حدوث ما حدث...
هذا، والله ولي التوفيق..
ولكم تحيات
ماجد البلوي
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
المفضلات