قصة طويلة عن حلم الفأر أن يصبح أسدا ..؟؟
يُحكى أن فأرا لئيما، على عادة الفئران طبعا، كان يعيش في بيت أحد القرويين النبلاء، و كان القروي كريما إلى درجة لا يتصورها عقل فأر، و فأر لئيم أيضا. كان يرى الفأر "نهمان" يجول و يصول في أرجاء البيت العامر، يأكل من مأونته و يشرب من مائه، يسكن بأمان و يعيش في اطمئنان، بل و أحيانا كان القروي الكريم يجلب للفأر اللئيم الجبن و المكسرات و يضعها عند باب الجحر حتى لا يتعبه بالبحث و يجلس ينظر.
يخرج "نهمان" متراخيا لا يكاد يستطيع فتح عينيه المنتفختين من النوم، فيشم الجبن و ينهش نهشة صغيرة يتذوق بها الطبق المعروض، فإذا أعجبه، و هو يعجبه حتما، انقض يلتهمه بشراهة و نهم، ثم يلتفت إلى الجوزة أو البندقة أو الفستقة و يُعمل فيها أسنانه الحادة يقطم و يقضم في قرمشة سريعة ..
تعجب القروي و تجعله يستلطف الفأر رغم ما فيه من عيوب و هي كثيرة كما هو معروف. فما إن ينتهي "النهمان" من مأدبته حتى يستدير عائدا أدراجه ليواصل نومه و أحلامه الفأرية تاركا بقايا الأكل و بقاياه في المكان، و تمر الأيام و سمن الفأر و راودته أحلام الجرذان السمان..
و في صبيحة يوم ربيعي خرج "نهمان" باكرا على غير عادته يرتجف من الفزع و لا يكاد يتنفس من الرعب و قصد الرجل طالبا منه المساعدة:
- ساعدني أرجوك، أنا في جوارك، لقد كدت أهلك الليلة لولا بقية عمر لا تزال تشدني إليك !
- ما بك ؟ اهدأ يا نهمان ! أنت في أمان في هذا المكان !
- نعم، أعلم، و أعلم قدراتك العجيبة في فعل المعجزات، و لذلك جئت أطلب منك تحويلي إلى قط، مثل "سيسان"، قط الدكتور فلان ( يا لأدب "النهمان"، يحفظ الأسماء و يراعي الألقاب) فإنه يخيف القطط قبل الجرذان و الفئران !
و في لحظة لا تكاد تقاس، فرك الرجل مصباحه السحري طالبا تحويل "نهمان" إلى "سيسان" و فط : تحول الفأر إلى قط ! تمطى "سينان" في الحين و ماء على الفور ثم نط خارج البيت بلا عرفان و لا امتنان.
و تمر الأيام، و في ليلة مقمرة، كان البدر المنير يرسل أشعته الفضية على الدنيا في معزوفة هادئة تسمعها الأرواح، تلهم الشعراء و العشاق و حتى "القطط" السمينة، كان صاحبنا "سينان" على سطح المنزل جاثيا في سكون يستمتع بضوء القمر و قد أخذته غفوة لذيذة راح يرسل بها و فيها أحلامه القديمة و الجديدة،
و إذا بعواء طويل يعكر الهدوء، استيقظ "سينان" الوسنان فزعا و زاد فزعه لما سمع العواء يزداد و يزداد و يتكرر و يتكاثر و يقترب منه أكثر و أكثر، نظر نظرة متفحصة و يخترق بها الغبش و المسافات و إذا بسرب من الذئاب تجوب أزقة القرية تبحث لها عن فرائس و لو من الفئران أو بقايا قمامة مفيدة من الجيران.
تسلل بصمت تسلل الهررة الماكرة و دخل المنزل و غرفة الرجل، كان "الكريم" ينام بهدوء و لم يشعر لا بعواء الذئاب و لا بتسلل "سيسان"، نظر "القط" نظرة حسد و حقد إلى النائم المطمئن، و لي نعمته، و لم يصبر حتى الصباح ليطلب طلبه الجديد و قد بيت أمرا ما، و بلؤمه المعتاد قفز بفظاظة على بطن النائم :
- ما الأمر ؟ ما بك ؟
- لقد فكرت طويلا و لم تعجبني هيئتي الجديدة هذه، فهلا حولتني إلى ذئب؟
تبسم الرجل من حرص الفأر الطموح و أومأ برأسه موافقا، و بفركة واحدة صار القط الجبان الذئب "غرثان"، و في اللحظة ذاتها، و هذا مما يثير الإعجاب في "نهمان" القديم أو "غرثان" الجديد أنه يلبس لكل حال لبوسها و يتقمص الشخصية الجديدة في التو و الحين، نظر نظرة خبيثة إلى القروي ..
و دارت في رأسه أفكار الذئاب غير أنه فكر مليا ثم قصد الباب مؤجلا فكرته إلى فرصة أخرى، و قصد الغابة المجاورة، أو قل طرفها الأول فقط. و ما كاد الصباح يطلع حتى عاد "غرثان" يجري يسابق الريح طالبا العون و الغوث:
- ساعدني، ساعدني، أرجوك، أدركني !
- ما بك ؟ ما بك ؟ اهدأ !
و لا يزيد القروي على هذا الكلام.
- لقد غيرت رأيي، حولني إلى كلب، لقد طاردتني الكلاب الليلة كلها و لولا بقية خفة من عهدي القديم لكنت الآن في خبر كان ( الله، الله، إن فأرنا معلم فعلا، لعله من كثرة ما أكل من كتب في البيت صار نحوي الفئران).
- حاضر يا جاري !
و طب ! تحول الذئب إلى كلب !
كان "لهثان"، الكلب الجديد، جاثيا كالكلاب عند الباب، أراد أن يوري القروي أنه أهل للثقة و قد لعب دور الكلب بإتقان ساعة تحوله، فها هو يبيت يحرس (؟!) نائما قرب...الباب.
ثم راودته فكرة جريئة على غير عادته: لماذا لا يقوم بجولة استطلاعية في القرية لعلة يكتشف أشياء جديدة لم يعهدها من قبل؟ نعم، نعم، ليقم و ليجر و ليمرح و ليسرح، ألم يعد من الكلاب، أبناء الليل ؟!
و ساقته خطواته من مكان إلى مكان و من مزبلة إلى مزبلة و لم ينتبه إلا و هو قرب الغابة المظلمة المهيبة. انتابته قشعريرة الهلع و بحدسه الخبيث وجد أن الفكرة مجازفة خطيرة على حياته اللئيمة فعاد أدراجه يجري حينا و يقف حينا يشمشم كالكلاب هنا و هناك، و يرشرش حيث يشاء، أوليس كلبا كامل الحقوق؟
فيسقي شجرة أو جدارا، و بينما هو في متعته الكلبية تلك و إذا بصوت قوي يخرج من الغابة اهتزت له أرجاء القرية، صوت مدوي جعل دم "لهثان" يتجمد في عروقه، جمع بقايا شجاعته، أو ما يُخيل إليه أنها شجاعة،
و أطلق لقوائمه العنان يجري و يجري لا يلوي على شيء سوى العودة إلى البيت بأقصى سرعة، و مما زاد في فزعه أنه رأى القرويين قد أوقدوا المصابيح و أخذوا يصيحون و يضربون على كل إناء محدثين ضجيجا يصم الآذان صارخين : الأسد، الأسد !
و لم تكن هذه الحال إلا لتزيد في فزع "لهثان" فيزيد من سرعته أكثر و أكثر و قلبه يصعد مرة و ينزل مرة على حسب السرعة، يكاد يخرج من فمه و يسبقه إلى البيت و أخيرا وصل، آه، كم كانت المسافة طويلة و زادها الرعب طولا و امتدادا، و صل إلى بر الأمان،
وجد القروي البطل يحمل فأسا مستعدا للقتال حتى مع الأسد الهارس، تبسم الرجل الكريم ابتسامة المشفق الرحيم و أدخل "لهثان" البيت و هو لا يقوى على الوقوف ذليلا كخرقة بالية ضمختها الأمطار، و أغلق عليه الباب، نظر "الكلب" نظرة حقيرة كسيرة و استلقى قرب المدفئة يلتقط أنفاسه بصعوبة و لم يستطع النوم ساعتها.
و في الصباح، و قد أشرقت الشمس على يوم هادئ آمن، استيقظ "البطل" الهمام، ابن الليل، و كله وجع و هلع و لم يستطع النهوض و بدون أن يتحرك من مكانه أرسل كلمات متلعثمة و قال بلا مقدمة و لا اعتذار و لا شكر و لا اعتبار.
- لي طلب أخير، أرجو ألا تردني خائبا، و قد عهدتك كريما معطاء دائما، حولني، أرجوك، إلى أسد، فقد رأيتَ ما فعلته بنا (؟!!!) زأرة واحدة البارحة !
ضحك القروي ضحكة طويـــــــــــــــلة، أرسلها من أعماق نفسه على حقارة الفأر اللئيم و نذالته و قال:
- و الله لو تحولت إلى الغول نفسه لبقيت فأرا ما دمت بهذا القلب الجبان، و مع هذا فسأساعدك، فأنت جاري و تسكن داري.
و حوله هذه المرة، و هو يدرك عواقب ما سيقدم عليه لكنه ماذا يفعل و هو الكريم بطبعه، إلى... فأر كما كان في أول عهده !
ولكم تحيات
ماجد البلوي
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
المفضلات