{لم يَرُقْ هذا الكلام لأحد المنتحلين لمذهب الحنفية، والمتعصبين له ولو على خلاف السُّنة؛
فإنه نقل في تعليقه على " العواصم والقواصم " لابن الوزير اليماني الشطر الأول منه، ثم عقب عليه
بقوله (3/8) :
" فيه ما فيه (كذا) ، قال الإمام ابن القيم في " بدائع الفوائد " (3/91) : واختلف في موضع
الوضع ... . ثم ذكر ابن القيم عن الإمام أحمد أنه يضع فوق السرة أو عليها أو تحتها، كل ذلك واسع
عنده ".
هذا ما شغب به ذلك المتعصب على السنة الصحيحة؛ فجعل تخيير الإمام أحمد رحمه الله في
موضع الوضع دليلاً على أن وضعهما على الصدر لم يثبت في السنة!! ولو كان محباً للسنة غيوراً عليها
- كما يغار على مذهبه أن ينسب إليه ما لم يصح -، ومنصفاً في تعقبه؛ لرد ما أنكره من قولي بنقده
للأحاديث التي اعتمدت عليها في إثبات هذه السنة، وقد أشرت إلى مخرجيها هناك، ولكنه يعلم أنه
لو فعل؛ لانفضح أمره، وانكشف تعصبه على السنة!
كيف لا، وهو قد قوى أحدها؛ لكن في مكان بعيد عن المكان الأول الذي غمز فيه من ثبوتها
كما سبق؛ تعمية وتضليلاً للقراء؟! فقد ذكر (3/10) - من رواية الترمذي، وأحمد - حديثَ قبيصة
ابن هُلب عن أبيه قال:
كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأخذ شماله بيمينه. وقال عقبه:
" وقال الترمذي: حديث حسن. وهو كما قال. وزاد أحمد في رواية:
يضع هذه على صدره ". [وقد سبق هنا (ص 216) ] .
وهناك أحاديث أخرى؛ منها حديثان ذكرهما هو:
أحدهما: من مرسل طاوس قال:
كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يضع يده اليمنى على يده اليسرى، ثم يشد بهما على صدره وهو في
الصلاة.
وأعله بسليمان بن موسى الدمشقي؛ فقال (3/9) :
" فيه لين، وخلط قبل موته بقليل، ثم هو مرسل ".
وأقول: المرسل عند الحنفية حجة، وكذلك عند غيرهم إذا جاء موصولاً، أو من طرق أخرى،
كما هو الشأن هنا.
وقوله: " فيه لين ... " هو عبارة الحافظ في " التقريب "؛ لكنه حذف منها ما يدل على فضل
سليمان هذا، وأنه خير مما ذكر! ونصها فيه:
" صدوق فقيه، في حديثه بعض لين، وخولط قبل موته بقليل ".
قلت: فمثله حسن الحديث في أسوأ الاحتمالات، وصحيح في الشواهد والمتابعات، وقد قال
فيه ابن عدي - بعد أن ذكر أقوال الأئمة فيه، وساق له أحاديث من مفاريده -:
" وهو فقيه راوٍ، حدّث عنه الثقات، وهو أحد علماء الشام، وقد روى أحاديث ينفرد بها لا يرويها
غيره، وهو عندي ثبت صدوق ".
والحديث الآخر: خرّجه المذكور (3/8) من رواية الطبري (30/325) ، والحاكم (2/537) ،
والبيهقي (2/29 و 30 - 31) من طريق حماد بن سلمة عن عاصم الجَحْدَري عن عُقبة بن ظِبيان عن
علي رضي الله عنه: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} . قال:
هو وضع يمينك على شمالك في الصلاة. وقال عقبه:
" وعاصم الجَحْدَري - هو ابن العَجَّاج أبو المُجَشِّر المقرئ - لم يوثقه غير ابن حبان، وكذا عقبة بن
ظبيان. وقال ابن التركماني (2/30) : في سنده ومتنه اضطراب ".
وأقول: هذا الحديث - وإن تكلم المومى إليه في إسناده، ويأتي بيان ما فيه؛ فإنه - يصلح
شاهداً لأحاديث الصدر لو أن الرجل ساق الحديث بالرواية الأتم، ولا يبعد أن الحامل له على
ذلك هو الانتصار لزعمه المتقدم: " فيه ما فيه "! ويظهر ذلك لكل قارئ إذا لاحظ معي ما يأتي
من أمور:
الأول: أن الرواية التي ساقها هي للحاكم، آثرها بالذكر لاختصارها، وأعرض عن لفظ رواية
الطبري والبيهقي؛ لأنها أتم، وفيها الشاهد بلفظ:
" على صدره "!
أخرجاها من أربعة طرق عن حماد بن سلمة به.
أحدها عند البخاري أيضاً في " التاريخ الكبير " (3/2/437) ؛ وهي: عن موسى بن إسماعيل
عن حماد.
ومن طريق موسى فقط أخرجه الحاكم دون الزيادة!
فهي غريبة.
فهل يجوز إيثارها بالذكر دون رواية الجماعة من جهة، وفيها زيادة على الرواية الغريبة من جهة
أخرى لولا الهوى والعصبية المذهبية!
الثاني: أنه زعم أن عاصماً الجحدري لم يوثقه غير ابن حبان!
قلت: وهذا القول منه باطل، وما أظنه خفي عليه قول ابن أبي حاتم في ترجمة عاصم هذا " روى عنه حماد بن سلمة، ويزيد بن زياد بن أبي الجعد. ذكره أبي عن إسحاق بن منصور عن
يحيى بن معين أنه قال: عاصم الجحدري ثقة ".
قلت: وقد روى عنه آخران؛ أحدهما ثقة؛ كما حققته في كتابي " تيسير انتفاع الخلان بـ (ثقات
ابن حبان) ". يسر الله لي إتمامه.
الثالث: أقر المشارُ إليه ابنَ التركماني على قوله: " في متنه اضطراب ".
قلت: وهو مردود؛ لأن شرط الحديث المضطرب أن تكون وجوه الاضطراب فيه متساوية القوة
بحيث لا يمكن ترجيح وجه منها على وجه، وليس الأمر كذلك هنا؛ لاتفاق الجماعة على رواية
الزيادة - كما تقدم -؛ فرواية الحاكم التي ليس فيها الزيادة مرجوحة - كما هو ظاهر -.
وأما الاضطراب في السند؛ فهو مُسَلَّم، فلا حاجة لإطالة الكلام ببيانه، ولكن ذلك مما لا يمنع
من الاستشهاد به - كما فعلنا -؛ لأنه ليس شديد الضعف - كما هو ظاهر -. والله سبحانه وتعالى
أعلم.
وثمة حديث رابع: من حديث وائل بن حُجر، [وقد سبق (ص 210) ] . أعله المومى إليه
بالشذوذ (3/7) ، ولكنه تعامى عن كونه بمعنى الحديث الذي قبله عن وائل أيضاً مرفوعاً بلفظ:
ثم وضع يده اليمنى على ظهر كفه اليسرى والرسغ والساعد. [وقد سبق (ص 209) ] .
وقد اعترف بصحة إسناده (3/7) ، فلو أنه حاول يوماً ما أن يحقق هذا النص الصحيح في نفسه
عملياً - وذلك بوضع اليمنى على الكف اليسرى والرسغ والساعد، دون أي تكلف -؛ لوجد نفسه قد
وضعهما على الصدر! ولعرف أنه يخالفه هو ومن على شاكلته من الحنفية حين يضعون أيديهم تحت
السرة، وقريباً من العورة! [انظر (ص 218) ] .
وبمعنى حديث وائل هذا حديثُ سهل بن سعد قال:
كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة.
رواه البخاري وغيره. [وقد سبق (ص 210) ] .
ولكن الرجل المشار إليه لا يهمه التفقه في الحديث؛ لأنه يخشى منه على مذهبه؛ لذلك يراه
الناسُ لا يهتم باتباع السنة في الصلاة، فضلاً عن غيرها، وإنما همُّه التخريج فقط. هدانا الله تعالى
وإياه} . [انتهى من " صفة الصلاة " المطبوع (ص 12 - 17/ المعارف) بتصرف يسير] .
منقول من / طاهر نجم الدين المحسي
المفضلات