الحديث الثامن :
حُرمة المسلم
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أُمرت أن أُقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك عَصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحق الإسلام ، وحسابهم على الله تعالى " .
رواه البخاري ومسلم .
أهمية الحديث :
هذا الحديث عظيم جداً لاشتماله على المهمات من قواعد دين الإسلام وهي : الشهادة مع التصديق الجازم بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وإقامة الصلاة على الوجه المأمور به ، ودفع الزكاة إلى مستحقيها .
لغة الحديث :
" أُمرت " : أمرني الله تعالى .
" الناس " : هم عبدة الأوثان والمشركون .
" يقيموا الصلاة " : يأتوا بها على الوجه المأمور به ، أو يداوموا عليها .
" يؤتوا الزكاة " : يدفعوها إلى مستحقيها .
" عصموا " : حفظوا ومنعوا ، ومنه اعتصمت بالله : امتنعت بلطفه عن معصيته .
" إلا بحق الإسلام " : هذا استثناء منقطع ، ومعناه : لكن يجب عليهم بعد عصمة دمائهم أن يقوموا بحق الإسلام من فعل الواجبات وترك المنهيات .
" وحسابهم على الله " : حساب بواطنهم وصدق قلوبهم على الله تعالى ، لأنه سبحانه هو المطلع على ما فيها .
فقه الحديث وما يرشد إليه :
1- روايات الحديث : روي معنى هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة ، تزيده وضوحاً وبياناً ، ففي صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أُمرت أن أُقاتل الناس - يعني المشركين - حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ، فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله و أن محمداً رسول الله ، وصلوا صلاتنا ، واستقبلوا قبلتنا ، وأكلوا ذبيحتنا فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها " .
وخرَّج الإمام أحمد من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إنما أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمداً رسول الله ، ويقيوا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك فقد اعتصموا - أو عصموا دماءهم وأموالهم - إلا بحقها ، وحسابهم على الله عز وجل " وخرَّجه ابن ماجه مختصراً .
2- الاقتصار على النطق بالشهادتين كاف لعصمة النفس والمال : ومن الثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبل من كل من جاءه يريد الإسلام الشهادتين فقط ، ويعصم دمه بذلك ويجعله مسلماً . ويؤيد هذا أحاديث قولية صحيحة لم يذكر فيها إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، ففي البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أُمرت أن أُقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فمن قال :لاإله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقها ، وحسابه على الله عز وجل " وفي رواية لمسلم : " حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به " .
ولا تعارض بين الأحاديث بل كلها حق ، فإن مجرد النطق بالشهادتين يعصم الإنسان ويصبح مسلماً ، فإن أقام الصلاة وآتى الزكاة بعد إسلامه ، فله ما للمسلمين وعليه ما عليهم ، وإن أخل بشئ من أركان الإسلام ، فإن كانوا جماعة لهم منعة قوتلوا ، قال تعالى : ( فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلُّوا سبيلهم ) [ التوبة : 5 ] وقال سبحانه : ( فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ) [ التوبة : 11 ] . وثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا قوماً لم يُغر عليهم حتى يُصبح ، فإن سمع أذاناً وإلا أغار عليهم ، مع احتمال أن يكونوا قد دخلوا في الإسلام .
3- التناظر بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما : وإن ما وقع من تناظر بين أبي بكر وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما بشأن قتال مانعي الزكاة ، يؤكد ما اجتمعت عليه الأحاديث من قبول الشهادتين للدخول في الإسلام ، وقتال الممتنعين بشكل جماعي عن إقامة الصلاة و أداء الزكاة ، ففي البخاري ومسلم ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستُخلف أبو بكر الصديق رضي الله عنه بعده ، وكفر من كفر من العرب ، قال عمر رضي الله عنه لأبي بكر : كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه ، وحسابه على الله عز وجل " فقال أبو بكر رضي الله عنه : والله لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة ، فإن الزكاة حق المال ، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه . فقال عمر : فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال ، فعرفت أنه الحق .
فأبو بكر الصديق رضي الله عنه استدل على قتال مانعي الزكاة من قوله صلى الله عليه وسلم " إلا بحقه " ، وعمر رضي الله عنه ظن أن مجرد الإتيان بالشهادتين يعصم الدم في الدنيا ، واستدل على ذلك بعموم أول الحديث ، ثم رجع عمر إلى موافقة أبي بكر رضي الله عنهما .
ومن المؤكد أن حديث ابن عمر وهو نص صريح في قتال مانعي الزكاة لم يكن عند أبي بكر ولا عمر ، ولم يبلغهما ، ولعل السبب في ذلك أن ابن عمر لم يعلم بما وقع بينهما من اختلاف لمرض أو سفر ، أو كان ناسياً لهذا الحديث الذي رواه .
وهذه القصة تدل على جلالة علم أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، ودقيق استنباطه وقياسه ، فقد وافق ذلك النص دون أن يكون له علم به ، وفي القصة إشارة إلى أن قتال تارك الصلاة أمر مُجمع عليه بين الصحابة ، وقد ورد النص الصريح بذلك في حديث رواه مسلم عن أم سلمة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون ، فمن أنكر فقد برئ ، ومن كره فقد سلم ، ولكن من رضي وتابع " فقالوا : يارسول الله ، ألا نقاتلهم ؟ قال : " لا ، ما صلوا ".
4- حكم من ترك جميع أركان الإسلام : وحكم من ترك جميع أركان الإسلام إذا كانوا جماعة ولهم منعة ؛ أن يقاتلوا عليها ، كما يقاتلون على ترك الصلاة والزكاة ، روى ابن شهاب الزهري عن حنظلة بن علي بن الأسقع : أن أبي بكر الصديق رضي الله عنه بعث خالد بن الوليد رضي الله عنه وأمره أن يقاتل الناس على خمس فمن ترك واحدة من الخمس فقاتلهم عليها كما تقاتل على الخمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان . وقال سعيد بن جبير : قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : لو أن الناس تركوا الحج لقاتلناهم كما نقاتلهم على الصلاة والزكاة .
أما إذا ترك المسلم أحد أركان الإسلام وامتنع عن القيام به ، فقد ذهب مالك والشافعي إلى قتل الممتنع عن الصلاة حداً ، وذهب أحمد وإسحاق وابن المبارك إلى قتله كفراً . وأما الممتنع عن الزكاة أو الصوم أو الحج ، فقال الشافعي : لا يُقتل بذلك . وروى أحمد في ذلك قولان ، والمشهور عنه قتل الممتنع عن أداء الزكاة .
5- الإيمان المطلوب : وفي الحديث دلالة ظاهرة لمذهب المحققين من السلف والخلف ؛ أن الإيمان المطلوب هو التصديق الجازم ، والاعتقاد بأركان الإسلام من غير تردد ، وأما معرفة أدلة المتكلمين والتوصل إلى الإيمان بالله بها ، فهي غير واجبة ، وليست شرطاً في صحة الإيمان ، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه هذا ، وفي غيره من الأحاديث ، يكتفى بالتصديق بما جاء به ، وولم يشترط معرفة الدليل .
6- معنى قوله صلى الله عليه وسلم " إلا بحقها " : وفي رواية " إلا بحق الإسلام " ، سبق أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه استنبط من هذا الحق إقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، ومن العلماء من استنبط منه فعل الصيام والحج أيضاً ، ومن حقها ارتكاب ما يبيح دم المسلم إذا ارتكب محرماً يُوجب القتل ، وقد ورد تفسير هذا الحديث في حديث رواه الطبراني وابن جرير الطبري عن أنس رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لآ إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله تعالى " . قيل : وما حقها ؟ قال : " زنا بعد إحصان ، وكفر بعد إيمان ، وقتل نفس فيقتل به " قال ابن رجب : ولعل آخره من قول أنس ، وقد قيل : إن الصواب وقف الحديث كله عليه . ويشهد لهذا ما في البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، إلا بإحدى ثلاث : الثّيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة " .
7- الحساب في الآخرة لله عز وجل : وهو سبحانه وتعالى يعلم السرائر ويحاسب عليها ، فإن كان مؤمناً صادقاً أدخله الجنة ، وإن كان كاذباً مرائياً بإسلامه فإنه منافق في الدرك الأسفل من النار .
أما في الدنيا فإن مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم التذكير ، قال تعالى : ( فذَكْر إنما أنت مُذكر . لست عليهم بمسيطر . إلا من تولى وكفر فيُعذبه الله العذاب الأكبر . إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم ) [ الغاشية : 21-24 ] . وفي البخاري ومسلم قال صلى الله عليه وسلم لخالد بن الوليد : " إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ، ولا أشق بطونهم " .
8- ويرشدنا الحديث إلى وجوب قتال عبدة الأوثان حتى يسلموا .
9- دماء المسلمين وأموالهم مصونة .
منقول من كتاب الوافي في شرح الاربعين النووية
تأليف الدكتور مصطفى البغا ـ محي الدين مستو
المفضلات