باب في الدفع إلى مزدلفة والمبيت فيها
والدفع من مزدلفة إلى منى وأعمال يوم العيد
بعد غروب الشمس يدفع الحجاج من عرفة إلى مزدلفة بسكينة ووقار؛ لقول جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لم يزل واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلاً حتى غاب القرص، وأردف أسامة خلفه، ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد شنق للقصواء " يعني: ناقته" الزمام، حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله، ويقول بيده اليمنى: أيها الناس! السكينة السكينة".
فهكذا ينبغي للمسلمين السكينة والرفق عند الانصراف من عرفة، وأن لا يضايقوا إخوانهم الحجاج في سيرهم، ويرهقوهم بمزاحمتهم، ويخيفوهم بسياراتهم، وأن يرحموا الضعفة وكبار السن والمشاة.
ويكون الحاج حال دفعه من عرفة إلى مزدلفة مستغفرًا؛ لقوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
وسميت مزدلفة بذلك من الازدلاف، وهو القرب لأن الحجاج إذا أفاضوا من عرفات؛ ازدلفوا إليها؛ أي: تقربوا ومضوا إليها، وتسمى أيضا جمعا؛ لاجتماع الناس بها، وتسمى بالمشعر الحرام.
قال في "المغنى": "وللمزدلفة ثلاثة أسماء: مزدلفة، وجمع، والمشعر الحرام".
ويذكر الله في مسيره إلى مزدلفة؛ لأنه في زمن السعي إلى مشاعر والتنقل بينها.
فإذا وصل إلى مزدلفة؛ صلى بها المغرب والعشاء جمعا مع قصر العشاء ركعتين بأذان واحد وإقامتين، لكل صلاة إقامة، وذلك قبل حط رحله؛ لقول جابر رضي الله عنه يصف فعل النبي صلى الله عليه وسلم: "حتى أتى المزدلفة، فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين".
ثم يبيت بمزدلفة حتى يصبح ويصلي؛ لقول جابر: "ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر، فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة".
ومزدلفة كلها يقال لها: المشعر الحرام، وهي ما بين مأزمي عرفة إلى بطن محسر، وقال صلى الله عليه وسلم: "ومزدلفة كلها موقف، وارفعوا عن بطن محسر".
والسنة أن يبيت بمزدلفة إلى أن يطلع الفجر، فيصلي بها الفجر في أول الوقت، ثم يقف بها ويدعوا إلى أن يسفر، ثم يدفع إلى منى قبل طلوع الشمس.
فإن كان من الضعفة كالنساء والصبيان ونحوهم؛ فإنه يجوز له أن يتعجل في الدفع من مزدلفة إلى منى إذا غاب القمر، وكذلك يجوز لمن يلي أمر الضعفة من الأقوياء أن ينصرف معهم بعد منتصف الليل، أما الأقوياء الذين ليس معهم ضعفة؛ فإنه ينبغي لهم أن لا يخرجوا من مزدلفة حتى يطلع الفجر، فيصلوا بها الفجر، ويقفوا بها إلى أن يسفروا.
فالمبيت بمزدلفة واجب من واجبات الحج، لا يجوز تركه لمن أتى إليها قبل منتصف الليل، أما من وصل إليها بعد منتصف الليل؛ فإنه يجزئه البقاء فيها ولو قليلاً، وإن كان الأفضل له أن يبقى فيها إلى طلوع الفجر، ويصلي فيها الفجر، ويدعوا بعد ذلك.
قال في "المغني": "ومن لم يواف مزدلفة إلا في النصف الأخير من الليل؛ فلا شيء عليه؛ لأنه لم يدرك جزءًا من النصف الأول، فلم يتعلق به حكمه".
ويجوز لأهل الأعذار ترك المبيت بمزدلفة؛ كالمريض الذي يحتاج إلى تمريضه في المستشفى، ومن يحتاج إليه المريض لخدمته، وكالسقاة والرعاة؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للرعاة في ترك المبيت.
فالحاصل أن المبيت بمزدلفة واجب من واجبات الحج لمن وافاها قبل منتصف الليل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بات بها، وقال: "لتأخذوا عني مناسككم" ، وإنما أبيح الدفع بعد منتصف الليل؛ لما ورد فيه من الرخصة.
ثم يدفع قبل طلوع الشمس إلى منى؛ لقول عمر: "كان أهل الجاهلية لا يفيضون من جمع حتى تطلع الشمس، ويقولون: أشرق ثبير كيما نغير [وثبير اسم جبل يطل على مزدلفة يخاطبونه؛ أي: لتطلع عليك الشمس حتى ننصرف]، فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم فأفاض قبل طلوع الشمس".
ويدفع وعليه السكينة، فإذا بلغ وادي محسر، وهو واد بين مزدلفة ومنى يفصل بينهما، وهو ليس منهما، فإذا بلغ هذا الوادي؛ أسرع قدر رمية حجر.
ويأخذ حصى الجمار من طريقة قبل أن يصل منى، هذا هو الأفضل، أو يأخذه من مزدلفة، أو من منى، ومن حيث أخذ الحصى؛ جاز؛ لقول ابن عباس رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة العقبة وهو على راحلته: "القط لي الحصا" . فلقطت له سبع حصيات، هي حصا الخذف1، فجعل ينفضهن في كفه، ويقول: "أمثال هؤلاء فارموا" ، ثم قال: "يا أيها الناس! إياكم والغلو في الدين؛ فإنما أهلك من كان من قبلكم الغلو في الدين" ، فتكون الحصاة من حصى الجمار بحجم حبة الباقلاء، أكبر من الحمص قليلاً.
ولا يجزىء الرمي بغير الحصى، ولا بالحصى الكبار التي تسمى حجرًا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رمى بالحصى الصغار، وقال: "خذوا عني مناسككم".
فإذا وصل إلى منى وهي ما بين وادي محسر إلى جمرة العقبة؛ ذهب إلى جمرة العقية، وهي آخر الجمرات مما يلي مكة، وتسمى الجمرة الكبرى، فيرميها بسبع حصيات، واحدة بعد طلوع الشمس، ويمتد زمن الرمي إلى الغروب.
ولا بد أن تقع كل حصاة في حوض الجمرة، سواء استقرت فيه أو سقطت بعد ذلك، فيجب على الحاج أن يصوب الحصا إلى حوض الجمرة، لا إلى العمود الشاخص، فإن هذا العمود ما بنى لأجل أن يرمى، وليس هو موضع الرمي، وإنما بنى ليكون علامة على الجمرة، ومحل الرمي هو الحوض، فلو ضربت الحصاة في العمود، وطارت، ولم ترم على الحوض؛ لم تجزئه.
والضعفة ومن في حكمهم يرمونها بعد منتصف الليل، وإن رمى غير الضعفة بعد منتصف الليل؛ أجزأهم ذلك، وهو خلاف الأفضل في حقهم.
ويسن أن لا يبدأ بشيء حين وصوله إلى منى قبل رمى جمرة العقبة؛ لأنه تحية منى، ويستحب أن يكبر مع كل حصاة، ويقول: "اللهم اجعله حجا مبرورًا وذنبا مغفورًا" ، ولا يرمي في يوم النحر غير جمرة العقبة، وهذا مما اختصت به عن بقية الجمرات.
ثم بعد رمي جمرة العقبة الأفضل أن ينحر هديه إن كان يجب عليه هدي تمتع أو قران، فيشتريه، ويذبحه، ويوزع لحمه، ويأخذ منه قسما ليأكل منه.
ثم يحلق رأسه أو يقصره، والحلق أفضل؛ لقوله تعالى: {مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} ، ولحديث ابن عمر: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حلق رأسه في حجة الوداع" ، متفق عليه، ودعا صلى الله عليه وسلم للمحلقين ثلاث مرات، وللمقصرين مرة واحدة.
فإن قصر؛ وجب أن يعم جميع رأسه، ولا يجزئ الاقتصار على بعضه أو جانب منه فقط؛ لقوله تعالى: {مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} ، فأضاف الحلق والتقصير إلى جميع الرأس.
والمرأة يتعين في حقها التقصير، بأن تقص من كل ضفيرة قدر أنملة؛ لحديث ابن عباس مرفوعا: "ليس على النساء الحلق، إنما على النساء التقصير" ، رواه أبو داود والطبراني والدارقطني، ولأن الحلق في حق النساء مثله، وإن كان رأس المرأة غير مضفور؛ جمعته، وقصت من أطرافه قدر أنملة.
ويسن لمن حلق أو قصر اخذ أظفاره وشاربه وعانته وإبطه، ولا يجوز له أن يحلق لحيته أو يقص شيئا منها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتوفير اللحية، ونهى عن حلقها وعن أخذ شيء منها، والمسلم يمتثل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، ويجتنب ما نهى عنه، والحاج أولى بذلك؛ لأنه في عبادة.
ومن كان رأسه ليس فيه شعر كالحليق أو الذي لم ينبت له شعر أصلاً وهو الأصلع؛ فإنه يمر الموسى على رأسه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر؛ فأتوا منه ما استطعتم".
ثم بعد رمي جمرة العقبة وحلق رأسه أو تقصيره يكون قد حل له كل شيء حرم عليه بالإحرام من الطيب واللباس وغير ذلك؛ إلا النساء؛ لحديث عائشة رضي الله عنها: "إذا رميتم وحلقتم؛ فقد حل لكم الطيب والثياب وكل شيء؛ إلا النساء" ، رواه سعيد، وعنها: "كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يحرم ويوم النحر قبل أن يطوف بالبيت بطيب فيه مسك" ، متفق عليه.
وهذا هو التحلل الأول ويحصل باثنين من ثلاثة: رمي جمرة العقبة، وحلق أو تقصير، وطواف الإفاضة مع السعي بعده لمن عليه السعي.
ويحصل التحلل الثاني وهو التحلل الكامل بفعل هذه الثلاثة كلها، فإذا فعلها؛ حل له كل شيء حرم عليه بالإحرام، حتى النساء.
ثم بعد رمي جمرة العقبة ونحر هدية وحلقه أو تقصيره يفيض إلى مكة، فيطوف طواف الإفاضة، ويسعى بعده بين الصفا والمروة إن كان متمتعا أو قارنا أو مفردًا ولم يكن سعى بعد طواف القدوم؛ أما إن كان القارن أو المفرد سعى بعد طواف القدوم فإنه يكفيه ذلك السعي المقدم، فيقتصر على طواف الإفاضة.
وترتيب هذه الأمور الأربعة على هذا النمط:
رمي جمرة العقبة، ثم نحر الهدي، ثم الحلق أو التقصير ثم الطواف والسعي.
هذا الترتيب سنة، ولو خالفه، فقدم بعض هذه الأمور على بعض؛ فلا حرج عليه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ما سئل في هذا اليوم عن شيء قدم ولا أخر؛ إلا قال: "افعل ولا حرج" ، لكن ترتيبها أفضل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رتبها كذلك.
وصفة الطواف بالبيت أنه يبتدىء من الحجر الأسود، فيحاذيهن ويستلمه بيده؛ بأن يمسحه بيده اليمنى ويقبله إن أمكن، إن لم يمكنه الوصول إلى الحجر لشدة الزحمة؛ فإنه يكتفي بالإشارة إليه بيده، ولا يزاحم لاستلام الحجر أو تقبيله، ويجعل البيت على يساره، ثم يبدأ الشوط الأول، ويشتغل بالذكر والدعاء أو تلاوة القرآن، فإذا وصل إلى الركن اليماني؛ استلمه إن أمكن، ولا يقبله، ويقول بين الركن اليماني والحجر الأسود: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} ،
فإذا وصل إلى الحجر الأسود؛ فقد تم الشوط الأول، فيستلم الحجر، أو يشير إليه، ويبدأ الشوط الثاني... وهكذا حتى يكمل سبعة أشواط.
ويشترط لصحة الطواف ثلاثة عشر شرطا هي: الإسلام، والعقل، والنية، وستر العورة، والطهارة، وتكميل السبعة، وجعل البيت عن يساره، والطواف بجميع البيت؛ بأن لا يدخل مع الحجر أو يطوف على جداره، وأن يطوف ماشيا مع القدرة، والموالاة بن الأشواط؛ إلا إذا أقيمت الصلاة أو حضرت جنازة؛ فإنه يصلي، ثم يبني على ما مضى من طوافه بعد أن يستأنف الشوط الذي صلى في أثنائه، وأن يطوف داخل المسجد، وأن يبتدئ من الحجر الأسود ويختم به.
ثم بعد تمام الطواف يصلي ركعتين، والأفضل كونهما خلف مقام إبراهيم، ويجوز أن يصليهما في أي مكان في المسجد أو في غيره من الحرم، وهما سنة مؤكدة، يقرأ في الأولى بعد الفاتحة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وفي الثانية: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}.
ثم يخرج إلى الصفا ليسعى بينه وبين المروة، فيرقى على الصفا، ويكبر ثلاثا، ويقول: "لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيى ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير" ،
ثم ينزل من الصفا متجها إلى المروة، ويكون بذلك قد بدأ الشوط الأول، ويسعى بين الميلين الأخضرين سعيا شديدًا، وفي خارج الميلين يمشي مشيا معتادًا، حتى يصل المروة، فيرقى عليها، ويقول ما قاله على الصفا، ويكون بذلك قد أنهى الشوط الأول، فينزل من المروة متجها إلى الصفا، ويكون بذلك قد بدأ الشوط الثاني؛ يمشي في موضع مشيه، ويسعى في موضع سعيه... وهكذا حتى يكمل سبعة أشواط؛ يبدؤها من الصفا، ويختمها بالمروة، ذهابه من الصفا إلى المروة سعية، ورجوعه من المروة إلى الصفا سعيه.
ويستحب أن يشتغل أثناء السعي بالدعاء والذكر أو تلاوة القرآن.
وليس للطواف والسعي دعاء مخصوص، بل يدعو بما تيسر له من الأدعية.
وشروط صحة السعي: النية، واستكمال ما بين الصفا والمروة، وتقدم الطواف عليه.
باب في أحكام الحج التي تفعل في أيام التشريق وطواف الوداع
وبعد طواف الإفاضة يوم العيد يرجع إلى منى، فيبيت بها وجوبا؛ لحديث ابن عباس؛ قال: "لم يرخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد يبيت بمكة؛ إلا للعباس لأجل سقايته" ، رواه ابن ماجه.
فيبيت بمنى ثلاث ليال إن لم يتعجل، وإن تعجل؛ بات ليلتين: ليلة الحادي عشر، وليلة الثاني عشر.
ويصلي الصلوات فيها قصرًا بلا جمع، بل كل صلاة في وقتها.
ويرمي الجمرات الثلاث كل يوم من أيام التشريق بعد الزوال؛ لحديث جابر رضي الله عنه: "رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمرة يوم النحر ضحى، وأما بعد؛ فإذا زالت الشمس" ، رواه الجماعة،
وقال ابن عمر: "كنا نتحين، فإذا زالت الشمس رمينا"، رواه البخاري وأبو داود، وقوله: "نتحين" أي: نراقب الوقت المطلوب، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "لتأخذوا عني مناسككم".
فالرمي في اليوم الحادي عشر وما بعده يبدأ وقته بعد الزوال، وقبله لا يجزئ؛ لهذه الأحاديث؛ حيث وقته النبي صلى الله عليه وسلم بذلك بفعله، وقال: "خذوا عني مناسككم" ؛ فكما لا تجوز الصلاة قبل وقتها؛ فإن الرمي لا يجوز قبل وقته، ولأن العبادات توقيفيه.
قال الإمام العلامة ابن القيم رحمه الله وهو يصف رمي النبي صلى الله عليه وسلم كما وردت به السنة المطهرة؛ قال: "ثم رجع صلى الله عليه وسلم بعد الإفاضة إلى منى من يومه ذلك فبات بها، فلما أصبح؛ انتظر زوال الشمس، فلما زالت؛ مشى من رحله إلى الجمار، ولم يركب، فبدا بالجمرة الأولى التي تلي مسجد الحيف، فرماها بسبع حصيات واحدة بعد واحدة، ويقول مع كل حصاة: الله أكبر، ثم يتقدم على الجمرة أمامها، حتى أسهل، فقام مستقبل القبلة، ثم رفع يديه، ودعا دعاءً طويلاً بقدر سورة البقرة، ثم أتى إلى الجمرة الوسطى، فرماها كذلكن ثم انحدر ذات اليسار مما يلي الوادي، فوقف مستقبل القبلة رافعا يديه، فاستبطن الوادي، واستعرض الجمرة، فجعل البيت عن يساره، ومنى عن يمينه، فرماها بسبع حصيات كذلك...".
إلى أن قال: "فلما أكمل الرمي؛ رجع من فوره، ولم يقف عندها [يعني: جمرة العقبة]، فقيل: لضيق المكان بالجبل، وقيل وهو أصح: إن دعاءه كان في نفس العبادة قبل الفراغ منها، فلما رمى جمرة العقبة؛ فرغ الرمي، والدعاء في صلب العبادة قبل الفراغ منها أفضل منه بعد الفراغ منها، وهذا كما كانت سنته في دعائه في الصلاة؛ إذ كان يدعو في صليها" انتهى.
ولا بد من ترتيب الجمرات على النحو التالي ك يبدأ بالجمرة الأولى، وهي التي تلي منى قرب مسجد الخيف، ثم الجمرة الوسطى، وهي التي تلي الأولى، ثم الجمرة الكبرى، وتسمى جمرة العقبة، وهي الخيرة مما يلي الكعبة، يرمي كل جمرة بسبع حصيات متوالية، يرفع مع كل حصوة يده، ويكبر، ولا بد أن تقع كل حصاة في الحوض، سواء استقرت فيه أو سقطت منه بعد ذلك فإن لم تقع في الحوض لم تجز.
ويجوز للمريض وكبير السن والمرأة الحامل أو التي يخاف عليها من شدة الزحمة في الطريق أو عند الرمي، يجوز لهؤلاء أن يوكلوا من يرمي عنهم.
ويرمي النائب كل جمرة عن مستنيبه في مكان واحد، ولا يلزمه أن يستكمل رمي الجمرات على نفسه، ثم يبدأ برميها عن مستنيبه؛ لما في
ذلك من المشقة والحرج في أيام الزحام، والله أعلم، وإن كان النائب يؤدي فرض حجه؛ فلا بد أن يرمي عن نفسه كل جمرة أولاً، ثم يرميها عن موكله.
ثم بعد رمي الجمرات الثلاث في اليوم الثاني عشر؛ إن شاء تعجل وخرج من منى قبل غروب الشمس، وإن شاء تأخر وبات ورمى الجمرات الثلاث بعد الزوال في اليوم الثالث عشر، وهو أفضل؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى}.
وغن غربت عليه الشمس قبل أن يرتحل من منى؛ لزمه التأخر والمبيت والرمي في اليوم الثالث عشر؛ لأن الله تعالى يقول: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} واليوم اسم للنهار، فمن أدركه الليل؛ فما تعجل في يومين.
والمرأة إذا حاضت أو نفست قبل الإحرام ثم أحرمت، أو أحرمت وهي طاهرة ثم أصابها الحيض أو النفاس وهي محرمة؛ فإنها تبقى في إحرامها، وتعمل ما يعمله الحاج من الوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفة ورمي الجمار والمبيت بمنى؛ إلا أنها لا تطوف بالبيت ولا تسعى بين الصفا والمروة حتى تطهر من حيضها أو نفاسها.
لكن لو قدر أنها طافت وهي طاهرة، ثم نزل عليها الحيض بعد الطواف؛ فإنها تسعى بين الصفا والمروة، ولا يمنعها الحيض من ذلك؛ لأن السعي لا يشترط الطهارة.
فإذا أراد الحاج السفر من مكة والرجوع إلى بلده أو غيره؛ لم يخرج حتى يطوف للوداع بالبيت سبعة أشواط إذا فرغ من كل أموره ولم يبق إلا الركوب للسفر؛ ليكون آخر عهده بالبيت؛ إلا المرأة الحائض؛ فإنها لا وداع عليها، فتسافر بدون وداع؛ كما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما ؛ قال: "أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت؛ إلا أنه خفف عن المرأة الحائض" ، متفق عليه، وفي رواية عنه؛ قال: كان الناس ينصرفون من كل وجه؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ينفر أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت" ، رواه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه. وعن ابن عباس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للحائض أن تصدر قبل أن تطوف بالبيت إذا كانت قد طافت للإفاضة" ، رواه أحمد. وعن عائشة رضي الله عنها؛ قالت: حاضت صفية بنت حيي بعدما أفاضت، قالت: فذكرت ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "أحابستنا هي ؟" قلت: يا رسول الله! إنها قد أفاضت وطافت بالبيت ثم حاضت بعد الإفاضة، قال: "فلتنفر إذًا" متفق عليه.
المفضلات