على ضفاف دجلة ..؟؟
السلام عليكم
كان رجلاً معدماً ولكنه كان سعيداً، وكانت له عائلة من زوجة وخمسة أولاد وأختين ووالدة طاعنة في السن ، له حانوت يبيع فيه الخضروات ( اليقطين والباذنجان والسلق والفجل والطماطم ) وغيرها..
حانوته هذا في طريق فرعية ، يبيع فيه سلعته على جيرانه من الفقراء ، فلم يكن له من المال مايؤجر به حانوتاً في موقع ممتاز أو يشتري به سلعة ممتازة .أما داره الخربة فتسمى من باب المجاز داراً ، وهي في حقيقتها غرفة واحدة حولها ركام من الأنقاض ، وفي هذه الغرفة ينام أفراد العائلة يطبخون ويستحمون.
وإذا ماعاد الرجل الى داره بعد غروب الشمس ، ومعه الخضرة واللحم والخبز ،تستقبله العائلة كلها بالفرح والتصفيق والأغاني والأهازيج ، ويتناولون منه مابيديه من طعام ، ويهرعون إلى القدر لأعداد العشاء .
ولم يكن في كل يوما يحضر اللحم ، فاذا كان مبيعه اليومي رابحاً استطاع أن يشتري لحماً ، وإلا فعشاء عائلته من بقايا ما كسد من خضرة حانوته .وكانت تلك العائلة تسكن إلى جوار حاكم في المحكمة العليا ، وكان ذلك الحاكم يعطف على تلك العائلة ويزورها بين حين وآخر .
وهذا الحاكم كثيراً ما حدثني عن عائلة جاره قائلاً :
(( لـم أر في حـياتي عـائلة سعيدة مثل هذه العائلة ، ولم أر فـرحـا غامراً كالفرح الذي يشيع في العائلة عندما يعود ربها من عمله مساء ، وكنت كثير ما أحب أن أعيش وقتاً سعيداً بينها حين يصل جاري إلى داره فتستقبله العائلة كلها بالتهليل والتكبير ، ثم يبدأ عملها الـدائب في إعـداد العشاء ..
فـاذا نضج الطـعـام بـدأوا بتناوله من إناء كبير فـاذا انتهـوا من عـشـائهم حمـدو الله وشكـروه ، وأكـثر من حمـده وشكـره ، ثـم آووا إلى فـراشهم الخلق البسيـط فـرحين قـانعـين ، لايتمنون على الله غـير السـتر والعافية وألاَ يحتاجون إلى انسان )).
وفي يوما من أيام الخريف ، كانت العائلة تنتظر رجلها مساء على باب الدار ، فاذا بهم يرون بعض الشرطة يحملون نعشاً ، فلما تبينت العائلة الأمر وجدت معيلها الوحيد هـو المحمول في النعش .
كان قـد أغـلـق حانوته ، وقصد القصّاب المجاور فاشترى لحماً ، وقصد الخباز القريب فـاشـترى خبزاً وحمل بقـايا خضرته من دكانه ، فلما أراد عبور الشارع دهسته سيارة طائشة ، فمات الرجل فوراً ، وتبعثر ماكان معه من زاد .
وتجمع الجـيران حـول النعش , وجمعوا من أغنيائهم بعض المال , وانفقوا على تجهيز الجثة الهامدة بعض ما جمعوه , وقدموا ما تبقى من مال زهيد إلى العائلة , وفي صباح اليوم التالي واروا الفقيد إلى مقره الاخير.
وكان أكبر أولاده في سن الخامسة عشر , يدرس في الصف الثاني في المدرسة المتوسطة الشرقية ,
ليعد نفسه ليكون موظفاً صغيراً بعد تخرجه من الإعدادية فيعاون اهله.
وبعد يومين من موت والده , نفذ آخر ماجمعه الجيران من مال للعائلة ,
وفي اليوم الثالث قصد حانوت والده.
وبدأ يعمل فيه ليعول امه و اخواته الصغار وعمته وجدته ...
وكان يعود كل يوم بعد غروب الشمس كما كان يفعل والده ...
ولكن الابتسامات غاضت إلى غير رجعة.. والفرح مات إلى الأبد ..
وكان الطعام الذي تتناوله العائلة ممزوجاً بالدموع..
لقد دفنت العائلة سعادتها مع فقيدها الحبيب..
مـرت الأيام ثقيلة بطيئة ، ودار الـزمن دورته ، فـانقضت ثـلاث سـنوات ،
ودعي الولد الكبير الى الخدمة في الجنـدية بعد ان استكمل ثمانية عشر من عمره ..
واجتمعـت العـائـلـة تتـداول الرأي هل يترك الابن الثاني مدرسته وقد أصبح في الصف الرابع الأعدادي ولم تبق له غير سنة ليتخرج من الاعدادية ليتولى ادارة حانوت أخيه ، وإذا لم يفعل فمن يعيل أهله ؟ واستقر رأي العائلة على بيع الدار ، ولو أن الخروج منها كخروج الشاة من جلدها ، لايسمى إلا موتاً او سلخاً ..!!
والتحق الابن الكبير بالجندية في بلـد مجـاور يتدرب على استعمال السلاح ، وكان معلم التدريب العسكري يلاحظه فيجد فيه ذهولاً وإنصرافاً عن التدريب ، فكان ينصحة تارة ،
ويعاقبه بالتعليم الاضافي تارة أخرى .. دون جدوى .
لقد كان حاضراً كالغائب ، وكان جسمه فقط مع اخوانه الجنود في التدريب ،
ولكن عقله كان بعيداً .. بعيداً .. هناك عند عائلته .
فاستدعاه معلمه يوماً ، وسأله عن مشكلته ، ففتح له قلبه وأخـبره بأمره ، فبادله المعلم الانسان حزناً بحزن وأسى بأسى ، وكف عن ملاحقته في أمر اتقان التدريب . وعرض المعلم مشكلته على آمر الفصيلة ، فأمر بتعيينه في مطبخ الجنود ليغسل القدور ، ويقطع اللحم ، ويوقد النار ، ويوزع الطعام ، أمّا أمه .. فكانت هي أيضاً حاضرة كالغائبة .
وأستقرضت بعض المال من أحد سماسرة بيع الدور لتطعم العائلة به ،
ورهنت سند الدار عند السماسرة وعرضت الدار للبيع ..
وأستمر عرض الدار أياماً على الراغبين بشرائه ، وأخيراً وبعد مرور عشرين يوماً ، باعت الدار بأربعمائة دينار ، ثم قضت تسعة أيام في معاملات حكومية رتيبة لنقل ملكيتها الى المالك الجديد وبقي يومٌ واحدٌ على موعد اعطاء البدل النقدي عن ولدها ، وكان عليها ان تسافر الى المدينة التي استقر فيها ولدها في الجندية مساء اليوم التاسع والعشرين ، لتسلم البدل النقدي صباح اليوم الثلاثين ، فإذا تأخرت عن ذلك الموعد ساعة فلن يقبل من ابنها البدل النقدي ..
وقصدت الأم مأوى السيارات التي تنقل الركاب من بلدتها إلى بلدة ولدها ،
فوجدت السيارات ولم تجد الركاب .
كان الوقت قبيل الغروب من أيام الصيف ، وانتظرت ساعة في مأوى السيارات
دون أن يحضر مسافرٌ واحد .
لقد انتظرت على أحر من الجمر ، وقد غابت الشمس ، والمسافة بين المدينتين حوالي ٢٤٠ كيلومتر تقطع بالسيارات في ساعتين ونصف فاذا لم تسافر ليلاً ضاع عليها الوقت ولن تصل إلى مدينة ولدها إلا في صباح اليوم التالي .
وعرضت على سائق احدى السيارات ان تستأجر ـ وحدها ـ سيارته على أن يسافر بها فوراً .
وقبض السائق أجرة سيارته كاملة من المرأة وتحركت السيارة في طريق جبلية وفي الطريق تحدث السائق إلى المرأة ، فعلم منها قصة بيع الدار وقصة دفع البدل النقدي عن ولدها .
وتدخل الشيطان بينهما ، فلعب دوره في تخريب ضمير السائق ،
فعزم على تنفيذ خطة لاغتصاب المال من المرأة المسكينة .
وفي أحد منعطفات الطريق ، حيث يستقر إلى جانب الطريق الأيمن وادٍ صخري سحيق أوقف السائق سيارته فجأة ، وسحب المرأة قسراً من السيارة إلى خارجها ، ونزلا إلى مسافة عشرين متراً في الوادي السحيق ، وهناك طعن المرأة بخنجره عدة طعنات ، فلما تراخت وظن أنها فارقت الحياة ، سلبها مالها ، وعاد الى سيارته تاركاً المرأة في مكانها تنزف الدماء من جروحها .
وقصد المدينة التي كان متجهاً اليها فقـد خشي أن يعـود إلى المدينة التى خلفها وراءه لئلا
ينكشف أمره ، إذ يعود اليها بدون مسافرين ، وقبل الوقت المعقول لذهابه وإيابه ...!
وعندما وصل إلى المدنية ، آوى إلى مأوى السيارات ، فزعم لأصحابه أن المسافرين
الذين كانوا معه غادروا سيارته بعد عبور الجسر .
ووجد ركاباً ينتظرون السفر إلى البلدة التي غادرها مساء ، فسافر بهم عائداً من نفس الطريق .
وحين وصل إلى المكان الذي ارتكب فيه جريمته الشنعاء ، أوقف سيارته ،
وأدعى لركابها بأنه يريد أن يقضي حاجته ثم يعود اليهم فوراً ...!
وانحدر إلى الوادي ، فسمع أنيناً خافتاً ، فقصد المرأة السابحة ببركة من الدم ، وقال لها :
(( ملعـونة ألا تزالين على قيد الحياة حتى الآن ! )).
وجمدت المرأة في مكانها ، وانتظـرت مزيداً من الطعنات ...! .
وانحنى السائق إلى صخرة ضخمة ليحطم بها رأس المرأة الجريح ، وما كاد يضع يديه تحت الصخرة إلا وصرخ صرخة عظيمة هـزت الوادي الصخري السحيق ، ورددتها جنباته الخالية إلاّ من الوحوش والأفاعي والهـوام ، وسمعها ركاب السيارة ، فهرعـوا لنجدته .
كانت تحت تلك الصخرة الضخمة التي أراد السائق المجرم رفعها ليقذف بها رأس المرأة الجريح ، حيّة سامّة لدغته حين كان يهم بحمل الصخرة العاتية ، فسقط إلى جانب المرأة يستغيث ويتألم ...! وحمل المسافرون السائق ، وحملوا المرأة ، وانتظروا حتى قدمت سيارة أخرى ، وطلبوا من سائقها حمل المرأة والسائق إلى المستشفى التي كانت في المدينة التي يستقر فيها ولد المرأة الجريح . وفي الطريق فارق الحياة ذلك السائق المجرم متأثراً بالسم الزعاف .
وفي المستشفى ، قدم الشرطة والمحققون العدليون ، فعرفوا القصة كاملة ، وانتزعوا مال المرأة من طيات جيوب السائق اللعين . وطلبت المرأة حضور ولدها ، فحضر في الهزيع الأخير من الليل ... وراحت المرأة في غيبوبة عميقة ، فظن الأطباء والممرضون أنها تعاني سكرات الموت ...
وعمل الطبيب على نقل الدم اليها .
وفي ضحى اليوم التالي فتحت عينيها لتقول لولدها (( ادفع البدل النقدي سريعاً ))
ثم أغمضت عينيها وراحت في سبات عميق .
ودفع الولد بدله النقدي ، وسرح من الجيش ..
وتحسنت صحة أمه يوماً بعد يوم ، حتى تماثلت للشفاء ، حيث غادرت المستشفى إلى أهلها ..
لقد كان ذلك كله من تدبير العلي القدير ...
قال الحاكم الذي هو جار لتلك العائلة (( سمعت قصة جارتنا كما سمعها الناس ، فاشتركت مع الجيران الآخرين لجمع ثمن دارها ، حتى تستعيدها من صاحبها الجديد .
وسمع صاحب الدار الجديد هو الاخر بقصتها ، فأعاد اليها سند الدار وملكيتها . وبقي المبلغ الذي جمعه لها الجيران مع ثلاثمائة دينار من أصل ثمن الدار ، فجددت بذلك المبلغ بناء الدار . وأقبل الناس على حانوت ولدها ، يشترون سلعته ويتسابقون على معاونته ... وفي خلال سنة واحدة تضخم عمله ، وأقبلت عليه الدنيا ، فانتقل إلى حانوت كبير في شارع عام في موقع محترم ....
ومرت السنون ، وفي كل عام كان في الدار بناء جديد ..
وتخرج الأولاد من مدارسهم واحداً بعد الآخر ، فأصبح أحدهم مهندساً
والآخر طبيباً والثالث ضابطاً في الجيش . . .
ولم يعد طعامهم اليومي من الشاي والخبز أو من الخبز والخضرة بل كان لهم لحم في كل يوم مع ألوان شهية أخرى من الطعام , وفتح الله عليهم بركاته ، وأغدق عليهم رعايته ، وجعلهم مثالاً للخلق الكريم بين الناس متعاونين في السراء والضراء . .
وعلى ضفاف دجلة قرب الجسر الكبير في بغداد ، دار عامرة بالخير والوفاق والسعادة .
هي الدارالجديدة التي انتقلت اليها العائلة الصابرة المحتسبة عام ( 1385 ) ، وقد تضاعف عدد العائلة فأصبحت أربع عائلات ، فقد تزوج الأولاد الكبار الثلاثة وأخصبوا ، ولكن رباط العائلة مازال قوياً ، وأم الأولاد لاتزال سيدة البيت بدون استثارة أو ازعاج )).
تلك قصة من الواقع .. ولكن حوادثها أغرب من الخيال ... وسيقول بعض الناس ان ماحدث صدفة ..
ولو أراد انسان ان يوقّت حوادث هذه القصة مثل هــذا التوقيت الدقيق لعجـز !!
لا يا إخوتي .. ان الناس يغفلون وينامون والله وحـده لايغـفـل ولا ينام .
والله سبحانه لاينسى رزق النملة في الصخرة القاسية وسط عباب المحيط ،
فكيف ينسى أرزاق الأرامل واليتامى ؟ !
والناس يخشون الناس ، والله أحق أن يخشوه ... والله يمهل ... ولكن لايهمل ...
ودعــوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب ..
حقّاً .. بشِّر القاتل بالقتل..
ولكم تحيات
ماجد البلوي
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
المفضلات