عقبات في طريق المثقف
سعود البلوي
يختلف مفهوم (المثقف) عند عامة الناس باختلاف النظرة إليه، فالبعض ينظر إلى المثقف نظرة سطحية على اعتبار أنه المتعلم الحاصل على شهادة عليا ويعرفه البعض بأنه المبدع في مجال الأدب أو الفن.
بينما هناك من يرى أن المثقف هو من صفوة متعلمة ذات فعالية على المستوى الاجتماعي تمتلك الرؤية النقدية للمجتمع.
وعلى الرغم من أهمية العلم والمعرفة في تكوين المثقف إلا أنهما غير كافيين ليكون الفرد مثقفاً وذلك أن مصطلح (المثقفين) يشار به إلى فئة معينة من المجتمع تمثل النخبة (الصفوة) التي تعمل على رفعة المجتمع والرقي بثقافته.
والمثقف هو المحرك الرئيسي (للثقافة) إذ ينقلها من طور الجمود والسكون إلى طور الحركة والتحول والتفاعل.
يقول المفكر الإيطالي الشهير (أنطونيو غرامشي): إن المثقف العضوي الحقيقي هو الذي يشارك بنشاط في المجتمع من أجل التغيير نحو الأفضل اعتماداً على القراءة الموضوعية للواقع، وتحكيم الضمير في المواقف التي يجب عليه اتخاذها شجاعاً في إعلان هذه المواقف والدفاع عنها وتحمل تبعاتها.
وعن الفرق بين المثقف وغيره يقول (غرامشي): يخيل إلي أن الخطأ الأكثر شيوعاً هو أن معيار التمييز ذاك قد جرى البحث عنه في باطن النشاطات الفكرية، لا في منظومة العلاقات التي تبحث فيها هذه النشاطات، وبالتالي الفئة التي يجسدها (المثقفون) وقد صارت في المجمع العام للعلاقات الاجتماعية).
ويرجع (غرامشي) العناصر المكونة لمفهوم المثقف إلى نقطتين رئيستين.
1 إن المثقف لا يعرف من باب التفريق بين عمل ذهني وآخر عضلي بل من منطلق المكانة الوظيفية التي يقوم داخل البنية الاجتماعية.
2 إن كل طبقة اجتماعية قد تفرز شرائح من المثقفين يمثلونها ويرتبطون بها عضوياً، أي بعبارة أخرى أن لكل طبقة اجتماعية مثقفيها الذين يرتبطون بها عضوياً وينشرون وعيها وتصورها عن العالم.
ويشير المفكر الفلسطيني الراحل (إدوارد سعيد) إلى أن المثقف هو (من وهب ملكة عقلية لتوضيح رسالة أو وجهة نظر أو موقف أو فلسفة أو رأي..) ويمكننا القول: إن (المثقف) هو من اختار السعي للتنوير واجتهد في سبيل نشر الوعي والرقي الفكري للمجتمع إلى مستوى يكفل له حياة أفضل.
وقد كان الفلاسفة في الماضي يقومون بالدور نفسه الذي يفترض أن يقوم به المثقف حديثاً، لوجود صفة ملازمة لكليهما وهي (روح الدهشة والتأمل والتفكير) إذ استخدمت لفظة المثقف فيما بعد للدلالة فقط على من يقوم بهذا الدور المهم.
وفي أوروبا ترسخ دور المثقف
بدءًا من عصر (التنوير) ثم تعزز بالثورة الفرنسية (وهنا نلاحظ علاقة المثقف بالتمرد) إلا أن هذا الدور انحسر كثيراً في العصر الحديث، حيث تقوم مؤسسات (المجتمع المدني) بالدور نفسه الذي كان يقوم به المثقف، وذلك نتيجة الديموقراطية والتطور الفكري الاجتماعي.
وفي عالمنا العربي بقي دور المثقف مقيداً ومحدوداً، فأصبح العبء كبيراً على كاهله للنهوض والخروج من دائرة التخلف والتمزق الثقافي.
ورغم المسؤولية وجسامة هذا الدور الذي يحاول مثقفونا العرب القيام به على قدر الاستطاعة والاستعدادات المتاحة إلا أن هناك (عقبات) كبيرة تقف في طريق المثقف من شأنها وأد محاولات النهضة الثقافية أو تأخيرها على أقل تقدير.
إذ رغم الحاجة الماسة للمثقفين العضويين (القلائل في عالمنا العربي) ليمارسوا هذا الدور فيسهمون به في نهضة الثقافة العربية التي ما زالت تعيش أزمتها الثقافية إلا النتاج الفكري للمثقف العربي يصطدم بأولى العقبات وأعتاها، وهي المجتمع نفسه (عامة الناس) الغارق في الجهل والتخلف، الذي لا يقدر الدور الذي يقوم به المثقف، إذ يرى كثيرون من أفراد المجتمع أن ما يقوم به المثقف إنما هو من قبيل الأعمال الترفيهية والكماليات غير الضرورية التي لا فائدة منها، وهنا تنعدم ثقة المجتمع بالمثقف، فتتحطم السفينة قبل أن تبحر!
وبانعدام الثقة هذه تتدخل بعض (الفئات) من المجتمع لتكريس هذا المفهوم! فتعمد إلى تشويه صورة المثقف، بتصويره بأنه (خطر داخلي) أخطر بكثير مما يحيط بالمجتمع من أخطار خارجية!
وبذلك تعمل هذه الفئات على تأليب الرأي العام أو السلطة السياسية ضد المثقف، إما لأسباب نفعية بحتة تتعلق بمصالح تلك الفئات التي قد تخسر (دوراً ما) في المجتمع حين تصل أفكار المثقف الحقيقي إلى أكبر شريحة من الناس. وإما أن يكون ذلك بسبب تصورات خاطئة غير منطقية تتصورها تلك الفئات بدافع (الخوف) غير المبرر على التراث والتقاليد والإرث الثقافي، فتعمل على قمع المثقف بأشكال عدة، باسم الوطنية تارة، وباسم الدين أو العروبة تارة أخرى، للوقوف بين المثقف والمجتمع، ومنع النتاج الفكري للمثقف ومحاولة إلغائه ومصادرته بشتى الطرق!
ورغم هذه الأزمات التي تعيشها الأمة إلا أن المثقف الحقيقي يعمل بجد مؤمناً بقيمه ورؤاه دون أن يدب في نفسه الضعف، لوجود قناعة بعيدة المدى لديه تتمثل بحتمية الانتصار في الصراع مع (الجهل) الذي يطوق الشعوب العربية التي لا تثمن كثيرًا دور المثقف في محاولة فك تلك الأغلال الضاربة في عمقنا الثقافي العربي.
ومن العقبات التي تقف في طريق المثقف أيضاً فقدان المثقف حرية التعبير وبذلك تنعدم البيئة الحافزة على التفكير والإبداع والتفاعل، فيضطر بعض المثقفين للجوء إلى (الهجرة الزمانية أو المكانية) إما طلباً للحرية والبيئة المناسبة للعمل الفكري الإبداعي أو ممارسة العزلة عن المجتمع بسبب رفض المجتمع لهم وإقصائهم وإلغائهم بشكل مستمر، وهذا بمثابة الموت البطيء للمثقف، لأنه تكريس لحالة الاغتراب والإقصاء والتهميش التي يعيشها المثقف العربي اليوم.
ويجد المثقف العربي اليوم نفسه أمام معضلات كبيرة تشعره بالقزامة أمام جسامة الدور الذي عليه القيام به كفرد في المجتمع، ليجد البعض أنفسهم مجبرين على الانتحاء بشكل أو بآخر، وبالتالي تكون الفرصة سانحة والبيئة خصبة لظهور (أشباه المثقفين) على الساحة الثقافية التي احتل الإعلام جزءًا كبيراً منها، فطغى أشباه المثقفين ليضاعفوا دورهم في تظليل وخداع المجتمع، لتتشكل في أذهان الناس صورة نمطية مشوهة عن المثقف وبالتالي أصبح الخلط كبيراً بين المثقفين العضويين الحقيقيين، و(أشباه المثقفين) الذين هم في الحقيقة ليسوا سوى عملة مزيفة تأخذ شكل العملة الحقيقية لكنها تختلف عنها في القيمة ونوعية التأثير!
وعلى الرغم مما تسببه شريحة (أشباه المثقفين) من تأثير سلبي في الثقافة العربية لا سيما بالظهور الإعلامي المكثف لمناقشة موضوعات حساسة بطريقة التبسيط والتسطيح والنظرة القاصرة، إلا أن المثقف الحقيقي يكون دائماً على قدر حضوره (إن قدر له الحضور) إذ يتمتع بالموضوعية والحوار والنقد بعيداً عن شتى الحسابات الضيقة والمصالح الذاتية.
وفي ثقافتنا العربية المعاصرة نماذج مشرقة تعمل على رأب الصدع وردم الهوة في ثقافة الأمة، وأعني بهم المثقفون الحقيقيون أمثال: محمد عابد الجابري، محمد آركون، برهان غليون، عبدالله الغذامي.. وغيرهم.
http://www.al-jazirah.com.sa/culture...5/fadaat10.htm
المفضلات