المكان : مستشفى التخصصي بالرياض- الجناح الشرقي

التاريخ : الخميس 1424/2/1 هـ .

الوقت : الساعة الثامنة ونصف ليلا.

الساعة الآن الثالثة عصرا وقد حان موعد زيارة الطبيب إلى غرفة

{ أماني }...فأخوتها و أقاربها من حولها يتلهفون لمعرفة آخر الفحوصات و التحاليل ..

الطبيب يدخل عليهم فجأة وهم مستغرقون في تفكيرهم قلقون حائرون ..

إنه يحدث نفسه هذه المرة ...

لا بد من مصارحتهم إنها أمانة ومسؤولية معا ..

ينظر إليهم متجهما يائسا وهو يحرك رأسه يمنة و يسرة وقد أعيته الحيل ثم يحدثهم بكل صراحة : - {لا أمل لها في الحياة السرطان سرى في أوصالها ودب في أحشائها..

لقد قضى على رئتها تماما ما بقي لها من عمرها إلا ساعات معدودة }...

ماذا تقول يا دكتور ؟؟!!

كيف ؟

إنها في ريعان شبابها ...

إنها أماني ذات الثماني عشرة ربيعا..

ربما تكون مخطئا ..

الكل أصابه الوجوم والحزن ينظر إلى ذاك الجسد الطاهر القابع في السرير الأبيض كل يروم إشباع ناظريه منها..

إنها نظرات الفراق .......

الأجهزة من حولها موصلة..

جهاز التنفس الاصطناعي مثبت عليها...

رباه ما هذا الذي يحدث ؟؟

أكاد لا أصدق ما أرى...

كل بات يهلل ويسبح..

ومنهم من دأب يقرأ عليها آيات من القرآن..

وآخرون يتضرعون إلى ربهم يرجون كرامة إلهية لعل الله ينجي ابنتهم ..

أماني تفيق فجأة تبكي تردد...

أنا سأموت ..

أنا خائفة من ربي ..

قد قصرت في صلاتي..

و أضعت أوامره ...

كيف سأقابل ربي !!

سامحوني يا أخوتي إن كنت قد أخطأت على أحد منكم .........

ثم تغيب عن الوعي مرة أخرى ...

حبيبتي و قرة عيني أماني

أنتِ تقولين ذلك !!

تستشعرين الفراق...

تؤنبين نفسكِ

فماذا نقول’ نحن ؟؟!!

ما عرفتك يا حبيبة قلبي البتة قد زلت خطاك إلى أوحال الذنوب ...

ما عهدتك قط منجرفة وراء أهواء الفتيات العابثات ...

كلا والله ...

بل كنتِ بريئةً ذات تصرف طفولي ...

طاهرةً عفيفة...

قد اعتاد جسمكِ في آخر حياتكِ على الصلاة والذكر وقراءة القرآن و قيام الليل...

حتى إذا انتهيتِ من قيامكِ وصلاتكِ بتي تتأوهين من شدة الألم ...

لقد عصركِ الألم .. وفتك ببدنكِ و تورمت أطرافكِ وأنتِ صابرةً محتسبة ...

أنٌى لكِ هذا وأنتِ ابنة الثماني عشر ربيعا ...

أي صبر تجرعتِيه يا حبيبتي!!!

وأي ألم فظيع تحملتيه وأنت غضة طرية !!!

رباه لقد تألمت و قاست كثيرا فارحمها و اغفر لها وارفع درجتها....

أماني حبيبتي كم كنت’ أتعجب’ يا قرة عيني وبهجة فؤادي عندما توفي والدي - رحمه الله قبل عشر سنوات , وكنتِ آنذاك بالصف الأول الابتدائي, وعندما يسألك أي أحد :

أين أباك يا أماني ؟

تجيبين وبكل براءة وعفوية وأنتِ تشيرين بيدكِ : راح هناك في المقبرة...

ثم بعد ذلك بسنوات وقد بتي تشعرين بفقد أبيك الذي كان يغرقكِ بحبهِ و حنانه , أدركتِ آنذاك أن الأمر جلل وأن المسألة ليست زيارة عابرة إلى المقبرة فحسب ...

بل إنه الموت .. الموت بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى رهيب مفزع مخيف ...

فبتي تبكين بحرقة وألم وترددين :

أريد أبي ... أحضروا لي أبي ..

فنربت’ على كتفها ..

اصبري يا أماني..

أبوكِ قد مات و في الجنة تلتقين به إن شاء الله ...

هكذا كنا نطمئنها و نحاول تهدئتها..

الأجهزة لا زالت مثبتة في جسد أماني...

أقاربها شرعوا يتوافدون من كل حدب وصوب لزيارتها في المستشفى...

حتى رجال الأمن رقت قلوبهم ..

فكانت قراراتهم صارمة على الزائرين عدا من يزور أماني ..

كانوا يقولون غرفة كذا وكذا ادخلوا بسرعة وأكثروا من الدعاء لها ..

الساعة الآن الخامسة والربع .....

لا إله إلا الله ... أماني تستيقظ فجأة وتسأل من حولها مستغربة مندهشة وتقول :-

كأني سمعت’ أحدا يقول أماني رحمها الله تعالى ..

من قال إني متُ ؟؟!!

الكل يرد عليها بتلطف و رحمة وشفقة لا لا يا أماني ما أحد تكلم ..

ترى من هذا الذي تكلم ؟؟

وكيف أُلهمت هذا !!؟؟..

ثم تغط مرة أخرى في سبات عميق ..

إنها لتذكرني والله بأختها الكبرى التقية النقية في يوم وفاتها وقد اختارها الله قبل سنوات عندما أفاقت من غيبوبتها أيام مرضها كانت تقول لمن حولها :-

الليلة عندنا تسميع سورة البقرة ..!!

لابد أن أتم حفظي لهذه السورة ..

وما أشبه الليلة بالبارحة ها نحن نقف الآن مع أماني الموقف نفسه .......موقف الوداع...

ننظر إلى أماني وعيوننا ترقب الأجهزة من حولها تارة وإلى الوجه المشرق الوضاء مرة أخرى ..

الأجهزة لازالت تنبض بحركة دؤوبة ..أخوتها من حولها كأن على رؤوسهم الطير

...لكن...

الساعة الآن الثامنة والنصف ليلا ...

كنا هذه اللحظات على موعد مع حدث مأساوي ....

مؤشرات الأجهزة بدت تخبو شيئا فشيئا...

الكل يدعو و يسبح و يترنم بآيات من القرآن ..

فجأة سكنت هذه الأجهزة...

يتحرك رأس أماني إلى الخلف ..

وتشهق عدة شهقات ثم تميل برأسها بكل رقة ولطف إلى اليمين...

ننظر إليها جميعا بذهول..

ما هذا الذي يحدث ؟؟

رباه....... أهو حقا الموت ؟؟!!

أحقا زارنا هذه اللحظة ملك كريم ليأمُرَ’أن اخرجي أيتها الروح......؟؟

يناديها أخوها أماني.... أماني......................

لا تجيب أماني..

الجسم بات باردا ساكنا...

لقد ماتت أماني..

بكينا جميعا ...

إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن ولا نقول إلا ما يرضي الرب..

وإنا بفراقك يا أماني لمحزونون ...

أمها كادت تجن...

هل ماتت أماني ؟؟

سأفارقها!!

من سيؤنس وحدتي بعدها !!

تتم الإجراءات بسرعة..

ترفض الأم بكل صرامة ..

أماني تُدفنُ في الدمام ..

لا أريدها بعيدة عني أرجوكم لبوا طلبي ..

أحضروا سيارة إسعاف...

وفي الطريق كادت والدتها أن تفقد عقلها ..

أريدكم أن تذهبوا بأماني للبيت !!!!!

اذكري الله يا امرأة..

أماني ماتت ..

فتجيب بجواب الأم الثكلى : -

ولكنها طلبت مني أن أذهب بها إلى البيت !!...

الكل رأف بحالها وأخذ يهدىء من روعها ويذكرها بالله وما أعده الله لعباده المؤمنين ..

قبيل الفجر وصلت سيارة الإسعاف إلى الجامع لتُغسل و تُجهز ويُصلى عليها بعد صلاة الجمعة....

ذهبوا بها إلى المغسلة ليشرعوا في تغسيلها عند الساعة التاسعة صباحا...

قبيل الساعة التاسعة بقليل كانت شقيقتها تغسلها بالماء والسدر...

و أماني مسجاة على السرير بكل ثبات ووقار...

ساكنة... مغمضة العينين...

يا إلهي ما هذا الذي أرى !!

كأنها كانت في رحلة شاقة مضنية..

لقد تغير ذاك الوجه المتعب الذي أنهكه المرض...

بدت معالم وجهها تشع حسنا و نورا ً..

كأنك على موعد مع عرس جميل أو حفل بهي..

أيقنت’ وقتها أنها النظرة الأخيرة فما تمالكت’ نفسي إلا وأنا أضمك إلى صدري وأقبل جبينك..

آهٍ ما أقسى الفراق ..

عسى الله أن يجمعنا وإياكِ يا أماني في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر...

هناك يا حبيبتي أماني حيث السعادة الأبدية والنعيم السرمدي...

هناك يا أماني حيث الجنان والأنهار..

هناك حيث البهجة والحبور ..

هناك يا أماني حياة ننعم فيها بالخير العميم

الحياة هناك يا أماني إن غر الله لنا و رضي عنا فهو والله خير من الدنيا و زخرفها و حقارتها ..

أبشري يا أماني...

فما نرجوه من ربنا أنك وافدة على رب كريم منان يجزل العطايا ويغفر الخطايا...

وداعا ......

وداعا .......

.وداعا.. حبيبتي أماني وفي قلبي لهيب وشوق لرؤيتك....

أسأل الله الكبير المتعال أن يغفر لنا ذنوبنا جميعا وأن يرزقنا عيش السعداء وميتة الشهداء..

آمين ... آمين.. آمين ..