السؤال 33:
هل ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسأل الله عز وجل أن يحيه مسكينا ويحشره في زمرة المساكين ؛ رغم أنه ثمة أدعية كثيرة ثابتة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ فيها من الفقر أو يسأل فيها العفاف والغنى والتقى، فهل يدعو الإسلام إلى الفقر؟
جواب الدكتور محمد الخرشافي :
ثبوت سؤال النبي صلى الله عليه وسلم ربه أن يحيه مسكينا :
لقد ثبت في أحاديث عدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسأل الله أن يحييه مسكينا؛ ومن هذه الأحاديث ما رواه الحاكم النيسابوري [المستدرك على الصحيحين (ج 4 / ص 358) 7911] عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول :" اللهم أحيني مسكينا وتوفني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين، وإن أشقى الأشقياء من اجتمع عليه فقر الدنيا وعذاب الآخرة" قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الذهبي قي التلخيص : صحيح.
وفي جامع الترمذي [(279) - (ج 4 / ص 577) 2352] من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : (اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة. فقالت عائشة : لم يا رسول الله ؟ قال إنهم يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفا؛ يا عائشة لا تردي المسكين ولو بشق تمرة، يا عائشة أحبـي المساكين وقربيهم فإن الله يقربك يوم القيامة).
قال أبو عيسى هذا حديث غريب صحيح
وفي صحيح مسلم [كتاب الرقاق. باب أَكْثَرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْفُقَرَاءُ...] من حديث أسامة بن زيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قمت على باب الجنة فإذا عامة من دخلها المساكين وإذا أصحاب الجَد محبوسون إلا أصحاب النار فقد أمر بهم إلى النار، وقمت على باب النار فإذا عامة من دخلها النساء).
وأصحاب الجد : بفتح الجيم، المراد أصحاب الغني والحظ في الدنيا وأصحاب الولايات.
محبوسون : أي : للحساب على الثروة التي خولهم الله إياها؛ ماذا عملوا بها؟ هل أدوا حقوقها...وأحسنوا بها ...أم فرطوا وبدلوا ولم يؤدوا حقوقها وأنفقوها في الشهوات والمحرمات...؟
ثبوت استعاذة النبي صلى الله عليه وسلم من الفقر :
وثبت كذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استعاذ بالله من الفقر وذلك في أحاديث كثيرة؛ منها :
ما رواه ابن حبان في صحيحه [(ج 3 / ص 305) 1030] من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقول : "اللهم إني أعوذ بك من الفقر والفاقة وأعوذ بك من أن أظلم أو أظلم"،
ومنها حديث عثمان بن أبي العاص [معجم الطبراني في معجمه الكبير ج 9/ ص 59 حديث رقم: 8388] : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : (اللهم إني أعوذ بك من الفقر وعذاب القبر وفتنة المحيا وفتنة الممات).
وغير هذين الحديثين كثير.
معنى المسكين في هذه الأحاديث :
المسكين في هذه الأحاديث : المتواضع كله الذي لا جبروت فيه ولا كبر؛ الهين اللين السهل القريب وليس بالسائل؛ لأن رسول الله قد كره السؤال ونهى عنه وحرمه على من يجد ما يغذيه ويعشيه.
وينظر في ذلك "التمهيد" و"الاستذكار" لابن عبد البر؛ حيث قال وإنما في معنى المسكين: "المسكين ها هنا المتواضع الذي لا جبروت فيه ولا نحوه، ولا كبر ولا بطر ولا تجبر ولا أشر".
وقال ابن جزري في شرح المسكين في مادة "سكن"
(... قد تكرر في الحديث ذِكْر [ المِسْكين والمَساكين والمَسْكَنة والتَّمَسْكُن ] وكلها يَدُورُ معناها على الخُضوع والذِّلة وقلَّة المالِ والحَال السَّيئة . واسْتَكَان إذا خَضَع . والمَسْكَنة : فْقر النَّفس . وتَمَسْكَنَ إذا تَشَبَّه بالمساكين وهم جمعُ المِسكين وهو الذي لا شيء له. وقيل هو الذي له بَعضُ الشَّيء . وقد تَقَع المسْكَنة على الضَّعف؛ ومنه حديث قَيلَة [ قال لها : صَدَقَتِ المْسكينة] أراد الضعفَ ولم يُرد الفَقْر ( قال الهروي : [ وفي بعض الروايات أنه قال لقيلة : [ يا مِسكينةُ عليكِ السكينةَ ]. أراد : عليك الوقار . يقال : رجل وديع ساكن : وقور هادىء ] ا ه . وانظر لهذه الرواية اللسان ).
معنى الفقر الذي استعاذ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم :
قال ابن بطال المالكي في شرحه لصحيح البخاري : "والفقر هو استئصال الشىء، يقال: فقرتهم الفاقرة، إذا أصابتهم داهية أهلكتهم، والفقير عند العرب الذي قد انكسر فقار ظهره، ومن صار هكذا فقد حل به الموت، وقد يقال: مسكين لغير الفقير، ولكن لما نقصت حالته عن الكمال في بعض الأمور كما قال - صلى الله عليه وسلم - : « مسكين مسكين من لا زوجة له » وقال لقيلة: « يا مسكينة عليك بالسكينة » قالوا: وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : « اللهم أحيني مسكينًا، وأمتني مسكينًا، واحشرني في زمرة المساكين » وتعوذ بالله من الفقر، فعلم أنه أسوأ حالا وأشد من المسكنة). اهـ
وقد تنبه ابن قتيبة لما قد يحدث عند بعض من لا يحقق في الأمور وينقصه الفهم الصحيح حيث أورد الإشكال وجوابه وهذا نصه منه بالحرف :
وقال أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة صاحب "تأويل مختلف الحديث" :
((قالوا رويتم عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه تعوذ بالله من الفقر وقال أسألك غناي وغنى مولاي.
ثم رويتم أنه قال : (اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين).
وقال : (الفقر بالمؤمن أحسن من العذار الحسن على خد الفرس).
وقالوا : وهذا تناقض واختلاف؟
قال أبو محمد : ونحن نقول إنه ليس ههنا اختلاف بحمد الله تعالى. وقد غلطوا في التأويل، وظلموا في المعارضة، لأنهم عارضوا الفقر بالمسكنة، وهما مختلفان. ولو كان لقال : اللهم أحيني فقيرا وأمتني فقيرا واحشرني في زمرة الفقراء. كان ذلك تناقضا كما ذكروا.
ومعنى المسكنة في قوله : احشرني مسكينا التواضع والإخبات كأنه سأل الله تعالى أن لا يجعله من الجبارين والمتكبرين ولا يحشره في زمرتهم.
والمسكنة حرف مأخوذ من "السكون" يقال تمسكن الرجل إذا لان وتواضع وخشع وخضع
ومنه قول النبي صلى الله عليه و سلم للمصلي تبأس وتمسكن وتقنع رأسك.
يريد تخشع وتواضع لله عز و جل.
والعرب تقول بي المسكين نزل الأمر لا يريدون معنى الفقر إنما يريدون معنى الذلة والضعف وكذلك قول النبي صلى الله عليه و سلم لقيلة يا مسكينة لم يرد يا فقيرة وإنما أراد معنى الضعف.
ومن الدليل على ما أقول أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لو كان سأل الله عز و جل المسكنة التي هي الفقر لكان الله تعالى قد منعه ما سأله لأنه قبضه غنيا موسرا بما أفاء الله عز و جل عليه وإن كان لم يضع درهما على درهم.
ولا يقال لمن ترك مثل بساتينه بالمدينة وأمواله ومثل فدك إنه مات فقيرا والله عز و جل يقول { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8)} [الضحى/6-8].
والعائل الفقير كان له عيال أو لم يكن والمعيل ذو العيال كان له مال أو لم يكن فحال النبي صلى الله عليه و سلم عند مبعثه وحاله عند مماته يدلان على ما قال الله عز و جل لأنه بعث فقيرا وقبض غنيا ويدل على أن المسكنة التي كان يسألها ربه عز و جل ليست بالفقر)). انتهى كلام ابن قتيبة.
انظر : تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة ص 167..169.
منقول / رُكـْنُ الفـتْـوَى
المفضلات