خرجت عائشة لتجد والدها في جدال محتدم مع رجل الأمن ، وبعض العاملين في قسم الطواريء نادت عليه ، وأخبرته أن أمها تريده حين دخل على زوجته ، كان وجهه محتقناً ، عليه أثار الإجهاد والغضب ، من النقاش الحاد ، والشعور بالإحباط لم يطق الصبر على نظراتها الكسيفة ، ولا استطاع أن يديم النظر إلى وجهها الأبيض الغض ، الذي انقبض وعــصرته آلام المخاض ، وشحب فصار أصفر ، بعد أن امتص نضارته ، الإحساس بالعجز والمهانة ، من طريقة تعامل الدكتور فيــصل معهم قال لها كأنما يريد أن يعيد إليها ولنفسه ، كرامة مهانة ، وإنسانية مهدرة :
- حبيبتي مها ، لا يهمك الدكتور قليل الأدب هذا الآن نطلع ، ونروح لمستشفى خاص ، وتولّدك دكتورة
ثم التفت إلى ابنته ليؤكد ما عزم عليه :
- عائشة هاتي عربية أنا سأساعد ماما على النزول من السرير
اعتدلت زوجته في جلستها ، وأمسكت بيد ابنتها ، لتمنعها من الذهاب ، وقالت وهي تنظر إليه ، بعيون امتلأت حباً :
- لا يا ناصر الله يخليك لنا المستشفيات الخاصة تكلف كثير ، وأنا ولادتي ، يحتمل أن تكون غير طبيعية العمليات القيصرية غالية جداً يفرجها ربك إن شاء الله
ثم أضافت ، بنغمة لا تخلو من خوف :
- تذكر جيراننا أم خالد كيف طردهم المستشفى الحكومي ، لعدم وجود أَسِرِّة لأن زوجها ، ليس من منسوبي ذلك القطاع ، وراحوا لمستشفى أهلي ، وكلفتهم الولادة أكــثر من 25 ألف ريال ما قدروا يدفعونها ، فرفض المستشفى تسليمهم المولود ، إلا بعد شهر ، لمّا استلفوا ودفعوا لهم
عائشة كانت ترقب المشهد تتأمل صراع أمها مع الألم ، وصراعها مع نفسها بين رفضها أن تذهب إلى مستشفى خاص ، سوف يكلفهم فوق ما يطيقون ، وبين قبولها بأن يتولى عملية توليدها رجل ، وهو أمر فوق أن تحتمله نغمة اليأس العميق ، بدت واضحة جداً ، وهي تعترض على اقتراح زوجــــها جملتها الأخـــــيرة : " يفرجها ربك " ، خرجت خافتة متقطعة ، وعبّرت عن حقيقة شعورها العميق ، بالأسى والمرارة ، رغم أن ظاهر كلامها خلاف ذلك حين أنهت عبارتها هذه ، أسبلت جفنيها ، ثم انزلقت على وسادتها ، فغاص رأسها في الوســــادة ، وهبط صدرها ، بعد أن زفرت نفساً عميقاً بدا المشهد ، بين انغماس رأسها في الوسادة ، وهبوط صدرها وكأنها تهوي إلى قاع
ألم عائشة تضاعف ، وهي تشـــاهد والدها تقسّمه الحيرة ، بين ما آلت إليه حال أمها ، بسبب موقف الدكتور فيصل ، وبين رغبته في أن يساعدها ، للخروج من هذا الوضع ، بنقلها إلى مستشفى خاص ، رغم ضعف إمكاناته المادية انتبهت إلى أن حيرته تضاعفت ، بعد رواية أمها لقصة أم خالد تسترجع المشهد لبضع دقائق مضت ، حين كــــان والدها ، يشرق وجهه بالأمل ، وتكسو محيّاه علامات الارتياح ، لوجود طبيب سعودي تلحظ الآن ، شعوراً بالمرارة ، يجعله يوالي ارتشاف الماء ، من زجاجة مياه صحية لم تفارق يده ، منذ أن تجادل مع العاملين في قسم الطوارئ ، حول موقف الدكتور فيصل سمعته يردد في جداله معهم : " تصوّروا يصفنا بالتخلف ، لأن زوجتي امرأة تستحي ، وتراقب ربها ، ولا تريد أن يقوم بتوليدها إلا طبيبة هل يعقل أن يكون هذا الدكتور وأمثاله ، من نفس مجتمعنا ، ويدينون بدينه ؟ " أحست أن صدمتها من تعامل الطبيب ، وخيبة أمل والدها به ، أشد أذى على نفسها ، مما اعترى والدتها من انزعاج ، لعدم وجود طبيبة تـــتولى توليدها
هــذا المــوقف ليس الأول ، الذي يصدمها فيه تعامل بعض السعوديين العام الماضي ، روت لها زوجة خالها ، التي كانت عائدة من رحلة خارجية ، موقف راكب سعودي ، رفض أن يتنازل لهم عن مكانه ، ليلتئم شمل الأسرة ، وتبرع بذلك شخص هندي تتذكر أن زوجة خالها ، قالت بسخرية ، تعليقاً على ذلك الموقف : " لا وبعد ، لابس قميص ( تي شيرت ) ، كاتب عليه : ارفــع رأسك أنت سعودي على ويش ؟ على زين الطبائع ! "
ابتسمت في سرها ، إذْ صادف تعليق زوجة خالها ، قناعة داخلية لديها ، بأن هذا الشعار ، ينطوي على إحساس مزيف بالتفوق ولا يخلو من نبرة عنصرية ، تكرّس فوقية فارغة
استغرقت في التفكير ، تتأمل والديها الموزعين بين عناءين : الرهاب النفسي لوالدتها من الأطباء الذكور ، وعجز والدها عن تحقيق رغبة أمها مادياً بسبب ضيق ذات اليد ، ومعنوياً بسبب صلف الدكتور وعجرفته عادت بها الذاكرة إلى سنوات مضت ، إلى حلم صغير لابنة التاسعة أمنية طفلة باحت بها في لحظة براءة ، لأم اشتكت إلى ربها في خلوتها ، عجزها ، وقلة حيلتها كادت أن تفلت منها ابــــــتسامة ، في أجـــــــواء الأسى هذه ، حــــــــــين تذكرت قولتها القديمة لأمها : " ماما لما أكبر أصير دكتورة ، وأكشف عليك " أحست أن هذه الأمنية ، صارت أكثر إلحاحاً الآن ، لتكون حقيقة شريط الذكريات انقطع فجأة ، على صوت ممرضة تزيح ستارة غرفة الفحص ، وهي تدفع سريراً بعجلات وتقول :
- " يا الله ماما ، نروح القسم ، فيه تنويم "
تناظروا فيما بينهم الأب لزم الصمت ، أما عائشة فاصطنعت ابتسامة ، لتشجع والدتها على النهوض ، وصارت تهز رأسها ، وتشير إلى السرير الذي تمسك به الممرضة أدركت والدة عائشة أن صمت زوجها ، ينطوي على موافقة ضمنية على رأي ابنتها بالاستجابة للممرضة أصلحت من ملابسها ، ونهضت واستقرت على السرير
دفعت الممرضة السرير باتجاه باب خشبي من درفتين ، لونه أزرق فاتح ، بمستطيل زجاجي يمتد عمودياً وسط كل درفة من خلال الزجاج ، يبدو ممر طويل ، يلمع بلاط أرضيته البلاستيكية ، من شدة النظافة حين انطبقت درفتا الباب ، لحظة تجاوزوه اختنقت الأصوات ، التي كانت تملأ قسم الطوارئ ، فخيّم الهدوء ، إلاّ من وقع أقدام ، لرجل يسرع الخطو ، في آخر الممر
نحيب أم أحمد المتقطع ، صار هو الأعلى ، مع ابتعاد وقع خطوات الرجل صار صوتها كذلك ، يرتفع احتجاجاً ، فيدوي في المكان معترضة على ذهابها لقسم الولادة الممرضة التي يبدو أنها قد تأثرت بحالتها النفسية ، وشاهدت انفعال الدكتور فيصل في حديثه معهم ، أشفقت عليها ، وسعت لتهدئتها بعــــبارات من نوع : " ماما ليش فيه خوف كله بسيط ، هذا فيه بنج ، ما فيه ألم إن شاء الله الله يخلي ولادة طبيعي "
كانت الممرضة ، أثناء حديثها مع أم أحمد ، تربّت على كتفها بهدوء ، أو تضع كفها على جبينها حديثها اللطيف ، ولمساتها الحانية ، جذبت انتباه عائشة ، فاختلست نظرة إلى بطاقتها الشخصية ، المعلقة على صدر معطفها استطاعت أن تلتقط اسمها الأول : روزماري أثار الاسم فضولها :
- ( سستر ) أنتِ من أندونيسيا ؟
ردّت بابتسامة :
- " لا أنا فلبين "
فاجأها الرد كأنما كانت تتمنى أن تكون من أندونيسيا ، رغم أن ملامحها ، واسمها لا يدلان على ذلك في ذهنها ارتبطت اندونيسيا بالإسلام ، والفلبين بالمسيحية همست لنفسها : " من الفـــلبين ليست مسلمة ، تعاملها طيب ، يا الله خسارة "
أبقت في نفسها أملاً أن تكون من مسلمي الفلبين ، لكنها استحت أن تسألها عن دينــها ، وأحست بحاجز نفسي ، انتصب بينهما ، يمنعها من استمرار التواصل معها حين داخلها شك بأنها مسيحية لا تدري لماذا ينتابها مثل هذا الشعور مع غير المسلمين ، رغم أنها ، ليست المرّة الأولى ، التي تقــابل فيها شخصاً غير مسلم ، بأخلاق حسنة كما أنها تصادف حالات كثيرة ، لا يكون تعامل المسلمين فيها جيداً هذا الوضع ، سبب لها إرباكاً ، وشعوراً بالإحباط إنها حاجتنا أن ننسجم مع إيماننا وقناعاتنا ، وأن ننفر من التناقض : أليس التعامل الحسن ، خلقاً إسلامياً ؟
كانت سارحة ، تقلب في ذهنها معنى اسمها : ( روزماري ) وتود لو سألتها ماذا يعــــــني ربما يفصح ذلــــــك عن دينها الذي ما زالت في شك منه ، وقد يفسر لها كما تعتقد ، علاقة ذلك ، بسلوكها اللطيف دون أن تتعرض لحرج السؤال المباشر عزّت نفسها بخاطر آخـر : " حتى لو لم تكن مسلمة تعاملها طيب " قطعت عليها الممرضة أفكارها ، حين بادرتها :
- " ليه ماما فيه خوف من ولادة " ؟
- " لا ماما ما فيه خوف ماما ما تبغى دكتور رجال يسوّي ولادة "
فتحت عينيها بدهشة وقالت :
- " بَسْ ! ما فيه مشكلة ، أنا أكلم دكتورة "
كانوا عند مدخل قسم الولادة ووضع أم أحمد النفسي قد ازداد سوءاً ، حين طلبت منهم الانتظار ، لتتولى بحث الأمر عائشة ووالدها التزموا الصمت ، لكن والدتها ، صارت تلهج بالدعاء لها بالجنة ! سحبت الممرضة الملف ، المعلق بذراع السرير المعدني ، وأسرعت إلى مكتب رئيسة جهاز التمريض
أبو أحمد علق مازحاً ليخفف عنها ، ويضفي جواً من المرح :
- تدعين لها من قلب يا أم أحمد ، تراها مسيحية كأنك تغيرت !
لم ترد لكنه أضاف باسماً :
- أيّام إعصار ( كاترينا ) ، لما كنت تدعين على الأمريكان ، بالموت والغرق ، كنت لما أقول لك : مساكين ما لهم علاقة بــ ( بوش ) وحكومته الملاعين ، قلت لي : خلهم كفار ، يستاهلون !
- الأمريكان يكرهوننا أنت ناسي إني ما دعيت عليهم ، لأنهم كفار ، لكن لأنهم يسجنون الشباب السعوديين في غوانتانامو ويقتلونهم ، ثم يقولون إنهم انتحروا وبعدين الممرضة هذي طيبة ما علي منها ، دينها لها ، أنا يهمني التعامل الطيب !
استمر في مشاكستها ، بأسلوب ، لا يخلو من الدعابة والاستفزاز :
- ما شاء الله هذا شيء جديد !
- لا أنا سمعت الشيخ في صلاة التراويح في رمضان ، يقول إن الإسلام يأمر بالإحسان ، والتعامل الطيب مع الكفار ، الذين لا يأتي منهم ضرر أو أذى
- الله يجعلها سبب خير
أقـــبلت الممرضة تحمل الملف معها كانت تمشي بسكينة ، دون انفعالات ظاهرة على وجهها حين اقتربت ، قالت بهدوء وهي تعيد الملف إلى مكانه :
- " خلاص ماما ما فيه دكتور رجّال ، دكتورة ميمونة يسوّي ولادة "
صرخت أم أحمد من المفاجأة ، وصارت تردد : " يا بعد عمري ، يا بعد عمري " ، ثم التفتت إلى ابنتها :
- إيش اسمها يا ( عيّوش ) ؟
- روزماري
- يا بعد عمري يا روز
ابتسمت الممرضة ، وهي تدفع السرير إلى داخل القسم من رد فعلها الشديد كانت تراقب أم أحمد ، وقد تحول وجهها من قطعة أسى مغموسة بالدمع ، إلى مساحة من البهجة يتطاير الفرح من كل قسماته ، وتومض في وسطه ابتسامة ، افتر عنها ثغرها المرصع بثناياها البيض المتراصة بانتظام أدركت أن هذه الفرحة الكبيرة ، كانت بسبب ما قامت به ، من أجل أن تتولى توليدها طبيبة لم تزد على أن ابتسمت ابتسامة خفيفة ، ورمقتها بنظرة رضا ، ثم طلبت من زوجها أبي أحمد ، أن يبقى في غرفة انتـــظار جانبية ، لأنه ليس مسموحاً للرجال ، من غير العاملين ، بتـــجاوز هـــذه المنطقة
فرحة أم أحمد ، بما فعلته الممرضة من أجلها ، لم تقف عند حـــــــــد الدعاء لها ، والتعبير عن شكرها العميق ، لما قامت به أو حتى القبلة العنيفة ، التي طبعتها على خدها ثمة امتنان يتوارى في اللاوعي ، ترغب في ترجمته إلى ســـلوك واعي قـــــالت لعائشة :
- اسأليها عن معنى اسمها إن الله رزقني بنيّة ، لأسميها عليها
ضحكت عائشة ، ونقلت للممرضة ، التي كانت تجهز سرير التنويم ما تقوله أمها ابتسمت الممرضة ابتسامة عريضة وقالت ببهجة واضحة :
- " روزماري أووه هذا ( كريستيان نيم ) !
لم تكن لغة عائشة الإنجليزية تسعفها ، لتفهم ماذا تقصد ، وكانت على وشك أن تسألها توضيحاً لكلامها ، عندما دخلت امرأة منقبة ، ترتدي معطفاً أبيضاً فهمت عائشة ووالدتها ، من مخاطبة الممرضة لها بالدكتورة ، أنها قد تكون طبيبة من قسم الولادة عرفت بنفسها :
- أنا الدكتورة ميمونة مناوبة الليلة في قسم الولادة أنت ستكونين مريضتي وتحت متابعتي
- يعني أنتِ التي ستولّدينني يا دكتورة ؟
- نعم الدكتور عبد العزيز ، كبــــير الأطباء ، كان في الطوارئ ، وأتصل بي ، وطلب مني أن تكوني مريضتي كأنه ألمح إلى وجود مشكلة
خجلت أن تتحدث عن حالتها ولم ترد نظرت عائشة إلى أمها ، تستأذنها بالــكلام :
- أمي يا دكتورة ، عندها مشكلة مع الأطباء الرجال حالتها النفسية تسوء ، إذا كشف عليها طبيب كانت على وشك أن تنهار ، لمّا رفض طبيب في الطوارئ اسمه فيصل ، أن تتولى توليدها دكتورة ، وقال ما فيه طبيبات
- حصل خير الممرضة روز شرحت حالتها لرئيسة الممرضات في القسم ، وهي بدورها اتصلت على الطوارئ ، وصادف وجود كبير الأطباء ، مع الدكتور بشير ، وتم تكليفي بمتابعة حالتها
قاطعت الأم ، وسألت بلهفة :
- يعني أكيد يا دكتورة دكتور فيصل هذا ما له علاقة ؟
- الدكتور عبد العزيز ، كبير الأطباء ، هو صاحب القرار وهو إنسان رائع ، ومن خيرة الأطباء السعوديين ويتفهم مثل هذه الحالات
أخبرتهم الطبيبة أن دلالات الفحص الأولى ، تشير إلى أن الولادة لن تكون طبيعية ، وأنها قد تحتاج إلى عملية قيصرية ، خاصة وأن الأشعة فوق الصوتية تبيّن ، ولكن بشكل غير مؤكد ، أنها قد تكون حاملاً بتوأم ثم أضافت ، موجهة الحديث لعائشة :
- قد تتأخر ولادتــــها عدة ساعات ستكون تحت المراقبة ، ولن تكون بحاجة لمرافق خذي من الممرضة رقم هاتف القسم ، ورقم التحويلة واتصلوا في الصباح للاطمئنان ، وعندما يحين موعد الزيارة بعد الظهر ، تستطيعون الحضور
عادت عائشة ووالدها إلى البيت حينما رجعت الظهر من المدرسة ، كان الخبر السار بانتظارها في غرفتها وجدت على وسادتها رسالة من والدها : ورقة بيضاء ، رسم عليها شكلاً لوجه يبتسم ، وتحته كتب هذه العبارة : " انضم اليوم عضوان إلى ( قبيلتنا ) " فهمت الرسالة : أمها ولدت توأم هذه واحدة من دعابات والدها ، الذي قال مرّة ، لما ذهبوا إلى أحد المطاعم ، ولم يجدوا مقاعد كافية لجميع أفراد العائلة أنه في المستقبل ، سوف يـــفتح مطعماً ، ويغير قــــسم العائلات ، إلى قسم ( القبائل )
لم تسعها الفـــرحة أخذت تقفز ، وتدور حول نفسها وتدندن اتجهت إلى الهاتف ، واتصلت بالمستشفى جاءها الرد ، فطلبت التحويلة ثم تتابع الرنين عدة مرات ، دون إجابة كررت الاتصال أكثر من مرّة ، وفي المرّة الرابعة ، سمعت صوتاً مختلفاً على الطرف الآخر سألت :
- ممكن أكلم أم أحمد ؟
- فيه واحدة في السرير الثاني اسمها مها ، هل هي التي تقصدين ؟
- نعم
- نائمة !
أغلقت الخط ، واستبد بها قلق أخذت تحدث نفسها مترددة : هل تتصل بوالدها ، أو تنتظر وصوله ؟ لا تدري هل هو الخوف على أمها ، أم الفضول هو ما يلح عليها بالاتصال لم يطل ترددها ، فالتقطت جوالها واتصلت فوجئت بأنه مغلق نظرت إلى ساعتها ، وقالت وهي تهز رأسها : " وقت الصلاة " اعتاد والــدها أن يغلق جوّاله ، وقت الصلاة رأت أن تنتهزها فرصة ، لتغير ملابس المدرسة ، وتصلي ثم تعاود الاتصال بوالدها سيكون وقتها ، قد فرغ من الصلاة ، وأعاد فتح جواله كانت قد انتهت من صلاتها ، حين دق جوالها بنغمة مميزة همست في سرها : " هذا البابا " ردت مازحة :
- أهلاً بشيخ ( القبيلة ) !
- يا لعّابة
قالها وهو يغالب الضحك
واصلت معابثتها له :
- كيف حال حرمكم المصون أيها الأمير ؟
- أنا في الطريق سوف نتناول غداءنا ونذهب كلمتُ والدتك الصباح ولادتها قيصرية ، وهي طيبة ، لكنها في ورطة !
ردّت بوجل :
- بسْم الله عليها عسى ما شر ؟!
- أبداً صحتها جيدة ، لكنها متورطة بالعهد الذي قطعته على نفسها
- أي عهد ؟
- بأن تسمي واحدة من البنتين ، على الممرضة روز ماري
- يعني التوأم بنتين ؟ دم دم يلاللىّ !
جالت في البيت ، على إخوانها وأخواتها ، تغني وتهزج ، تبشرهم بولادة أمها لتوأم :
- ولدت أمي بنتين جميلتين مثل القمر
اتصلت بخالاتها وعماتها وبناتهن ، وأرسلت رسائل جوال لعدد من الصديقات خلال ربع ساعة ، كان الخبر قد انتشر ، مثل نور القمر ، على حد تعبيرها بين دائرة كبيرة ، من الأقارب والأصدقاء حين وصل الأب ، تناولوا غداءهم بسرعة ، ثم انطلقوا إلى المستشفى ، يرافقهم الابن الأكبر أحمد الذي يصغرها بما يزيد قليلاً عن العام تداولت هي وأحمد في السيارة ، أثناء الطريق أسماء كثيرة في الأخير علق والدهما :
- اختاروا اسماً واحداً فقط والدتكم جادة في تسمية واحدة من البنات ، على الممرضة
وصلوا المستشفى قبل بداية موعد الزيارة بخمس دقائق مسؤول الأمن كان واقفاً بالباب ، يمنع الدخول قبل بدء الموعد تماماً رفض قطعياً طلب والدها ، استجابة لتوسلاتها بأن يسمح لهم بالدخول ، وكان حازماً :
- النظام يا الطيب ما فيه دخول قبل الموعد
كانوا في مقدمة الزوار المنتظرين ، عند باب المستشفى ، ولحظة فتح رجل الأمن الباب ، وضعت علبة الشـــوكلاته في يد أحمد شقيقها ، واندفعت مثل السهم ، إلى الداخل تبسم والدها ، وهو يراها تهرول نحو المصعد ، وكتم ضحكة ، وهو يسمع تعليق شقيقها : " بابا أوقف المهبولة هذي "
في الغرفة التفوا حول سرير الوالدة ، وكان التوأم في حاضنة إلى جانبها الدعوات بالسلامة ، والتغزل بحلاوة البنتين وجمالهما والتعبير عن الدهشة بقدوم التوأم ، اختلط بأصوات أخــرى ، داخل الغرفة كانوا أول الواصلين إلى قســــم الولادة الأطباء والطبيبات لم ينهوا بعد ، جولتهم الإعتيادية على مرضاهم عائشة كانت الأكثر انفعالاً بالحدث أخذت تحاول أن تخرج إحدى البنتين ، لتحملها بين يديها ، ووالدتها تصرخ عليها لتمنعها ، وتؤكد أن التعليمات تمنع إخراجهما من الحاضنة في هذه اللحظة انزاحت الستارة ، التي تفصل بين أسِرّة المريضات ، ودخلت الطبيبة ألقت السلام ، وقالت :
- الحمد لله العملية كانت سهلة يا أم أحمد ، والبنات حالتهن ممتازة ومثل الأقمار ، ما شاء الله تبارك الله
ردّت أم أحمد ووهج ابتسامة يكسو وجهها :
- جزاك الله خيراً يا دكتورة ميمونة جهدك ودورك ما ينكر
- أبداً لم أقم إلا بالواجب بالمناسبة هل سمّيتوا الحلوات ؟
تبادلوا النظرات ثم قالت أم أحمد ، وقد برقت عيناها :
- واحدة منهن خلاص ، اتفقنا نسميها ميمونة
قالتها والتفتت إلى الجانب الآخر من ا لسرير ، حيث يصطف زوجها وأولادها وغمزت لهم بعينها لمعت عينا الطبيبة بالسرور من خلف نقابها وقالت بامتنان :
- والله ؟ هذا شرف كبير لي !
عائشة التقطت طرف الحديث ، وقالت :
- اسمك محل اتفاق يا دكتورة لكن الوالدة ، تريد أن تسمي البنت الثانية على الممرضة روز ، لكنها محرجة ، لأن الاســــــم غير عربي وغريب وأتذكر إني لما ســـــــــألت الممرضة عنـــــــــه ، قـــــــالت إنـــه " كريستيان نيم " ولم أفهم قصدها !
- أووه قصدك الممرضة روز ماري صحيح اسمها مسيحي
نظرت أم أحمد إلى زوجها ، الذي كان قد رفع حاجبيه بتعجب كأنما يريد أن يوصل لها رسالة فهمت حركة وجهه : الاسم ليس غير عربي فقط ، بل له دلالات غير إسلامية كذلك بدت على وجهها أثار الخيبة ، ولم تعلق عائشة بادرت ، لكي تنقذ الموقف فــــسألت الطبيبة ، إن كانت تقترح اسماً آخر الطبيبة التي رأت الإحباط في وجه الأم ، وأدركت رغبتها في التعبير عن امتنانها للممرضة إضافة إلى إحساسها العميق هي شخصياً ، بالعرفان لها ، بتسميتها إحدى بناتها عليها أرادت أن تتخذ موقفاً مسانداً لرغبتها فقالت :
- هناك حـــل وسط ، تتحقق من خلاله رغبة أم أحمد نأخذ نصف اسم الممرضة روزمــاري ، وتسمون البنت مارية ، تيمناً باسم زوجة الرسول صلى الله عليه وسلم ، مارية القبطية
وقع الاقتراح في نفوسهم جميعهم ، موقعاً حسناً ، ظهر على أسارير وجوههم ، التي انفرجت ، وعبّرت أم أحمد عن ذلك ، بشعور تلقائي :
- والله إنك يا دكتورة وجه خير وميمونة على اسمك
خرجت الدكتورة ، بعد أن أملت عليها عدداً من التعليمات ، بخصوص حالتها الصحية أكدت على وجوب الالتزام ببرنامج دوائي ، لعلاج التهاب بكتيري ، أظهر الفحص المخبري وجوده ، في عنق الرحم ثم قالت في ختام حديثها :
- الالتزام بأخذ الدواء ، كما هو محدد مهم الإهمال قد يؤثر في قدرتك على الإنجاب وبالمناسبة ، ممنوع الحمل ، قبل 3 سنوات على الأقل ، لأن ولادتك قيصرية
بعد أن أنهت حديثها ، مالت عليها عائشة ، وهمست في أذنها فتناولت القلم من جيب معطفها ، وانتزعت ورقة من دفتر الوصفات الدوائية ، وكتبت فيها ، ثم أعطتها إياها
عندما خرجت ، وأغلقت الستارة خلفها ، التفتت عائشة إلى والدتها مبتسمة ، دون أن تفصح عن الذي دار بينها وبين الطبيبة وقالت :
- ولا يهمك إذا حملتِ بعد 3 سنوات ، أكون قرّبت أتخرج من كلية الطب وقتها أنا سأشرف على الولادة
ابتسمت أم أحمد وأبو أحمد أما أحمد ، الذي اعتاد على مناكفة أخته ، فقد عبر عن سخريته ، بطريقته الخاصة ، حين أخرج لسانه ، وقال : " بالمشمش " لم يعجب أم أحمد تعليق أحمد على كلام شقيقته فقالت :
- إذا كانت تريد أن تكون مثل الدكتورة ميمونة أنعم وأكرم
انطلقت بعدها أم أحمد ، تثني على الدكتورة ميمونة ، وعلى التزامها وأخلاقها وصــــفت بكثــــير من الإعجاب ، كيف أن الفريق الذي كان معها في غرفة العمليات ، كله من النساء ، بما في ذلك طبيبة التخدير حديث أم أحمد عن الدكتورة ميمونة ، والفريق النسائي العــــامل معها ، يمثل تحولاً كبيراً في موقفها بقدر ما كان يعذبها ، اضطرارها للّجوء إلى أطباء رجال للفحص أو العلاج ، كانت تنفر كثيراً من فكرة شائعة ، عمّا يــدور في المستشفيات من اختلاط ، بين الرجال والنساء ، من أفراد الطاقم الطبي يتجاوز حدود الحاجة ، إلى ما تسميه إحدى صديقاتها : " قلة الحياء "
لم تكن عائشة تحتاج أكثر من ثناء أمها على الدكتورة ميمونة ، لتزداد إعجاباً بها ، ويزيد تعلقها بشخصيتها كلام أمها ، حمل أيضاً ، موافقة ضمنية على دور للمرأة ، كانت ترفضه ، وتتوجس منه ، بل وتعتبره كذلك معيباً وتدعو الله أن يحفظها منه لا تذكر كم من المرّات ، قالت أمها : " بسم الله عليك " ، حينما تفصح عن أمنيتها بأن تكون طبيبة جاء كلام أمها عن الــدكتورة ميمونة ، ليعزز الحلم الأمنية ، ويمنحه دافعاً و شرعية
يتبع
المفضلات