الحمد لله ذي الفضل والجود، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فما سمعت أذن، ولا رأت عين ألطف بالعباد من رب العباد، ترى الأمور العظام والمصائب الشداد، فإذا انجلى الأمر فإذا الخير والأجر.
الله لطيف بعباده؛ خلقهم، ورزقهم، وهداهم، وأسكن من شاء منهم جنته، رحمته سبقت غضبه، وفضله سبق عقابه.
هذا الكتيب... إلى من استوحشت به الطرق، وافترقت به المسالك، وأظلته سحابة حزن، وترك له الزمن جرحًا ينزف.. الله لطيف بعباده.
الزوج والزوجة
أسرعت ذلك اليوم لإنجاز عملها رغبة في حضور محاضرة نسائية أعلن عنها، تلقيها إحدى الداعيات المعروفات بسلاسة الطرح، وضرب الأمثلة الواقعية وكان العنوان جذابًا فهو عن «السحر والشعوذة».
ولما جلست على كرسي في القاعة المكتظة، إذا بها تجد اللهفة والشوق من جميع الحاضرات لهذا الموضوع العقدي المهم، الذي بدأ يستشري ويظهر في كثير من المجتمعات لقلة الدين ولوجود العاملات في المنازل وكثرة السفر للخارج، مع ضعف في التوكل على الله عز وجل، وعدم المحافظة على تحصين النفس بالأذكار المشروعة وغيرها.
بدأت المحاضرة باسم الله تعالى والحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، ثم عرفت السحر وحكمه وأنواعه وجزاء من فعله أو قام به، أو ذهب للسحرة والعرافين امتثالاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم"من أتى عرافًا أو كاهنًا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد"ثم أسهبت في تعريف جانب يهم النساء، فقالت عن العطف، والصرف للأزواج: بأنه من أنواع السحر، ولو كان الدافع للعمل هذا حسن النية، بحيث تبرر المرأة عمل الشيطان حتى يحبها زوجها ويستقر حالها، ثم أردفت: السعادة لا تجلب بمعصية الله عز وجل.
وعندما رأت المحاضرة عيون الكثيرات نحوها قالت بيقين: وغالب النساء اللاتي يعملن السحر لأزواجهن يتم طلاقهن بعد حين من الزمن طال أم قصر، وهذه النتيجة هي من آثار معصية الله ورسوله، ومعاملتها بضد ما أرادت من السحر بأن شتت الله شملها، وفرق بينها وبين زوجها، وهذا من عقاب الدنيا فكيف بعقاب الآخرة؟!
انتهت المحاضرة، وتوالت الأسئلة لكنها سرحت بفكرها إلى من تعرف أنها آذت زوجها، وجعلت له نوعًا من سحر العطف والصرف... وتذكرت حياتها في أول الأمر وكيف آلت إلى الفراق والشتات، بعد عشرة هنية وحياة طيبة، فطلقت الزوجة وتشتت الأبناء وكرهها الزوج، وعندما قال للزوج أحد الناصحين ممن لم يعرفوا حقيقة ما جرى: اجعلها خادمة لأبنائك، وتزوج بزوجة ثانية وثالثة إن أردت، قال في نفسه وهو محق في قوله: كيف أطمئن لامرأة تعمل هذا المنكر؟ وأين لي الأمان في حياتي معها؟! ثم هل هذه المرأة مؤتمنة على تربية صغاري وهي تعصي الله عز وجل بأمر كفري؟!
طلقها، وكلما تقدم لفتاة أصابها أمر عجيب، فتتوالى أنفاسها ويضيق صدرها، ويتصبب عرقها، وتبكي ولا تنام فإذا قالت: لا، زال ما بها، وهكذا تقدم لعشر فتيات وعشرين والحالة واحدة! هم وغم، واضطراب حتى ينتهي الأمر.
حتى صرح له أب لفتاة تقدم لها أن في الأمر شيء وليست الأحوال طبيعية إطلاقًا أكثر من قراءة القرآن والأذكار المشروعة، واغتسل بالسدر وتحرى مظان الإجابة... ومرت السنة الأولى، والثانية، فإذا باللطيف بعباده يجبر كسره، ويجمع شمله، ويرزقه زوجة صوامة قوامة، أنسته شقاء السنوات الماضية، وكرب الليالي المظلمة، وفي كل يوم يحمد الله عز وجل أنها الزوجة التي يأمن معها على عيش الدنيا ويأمل أن يجمعه الله في الفردوس الأعلى.
وقفة:
قال ابن تيمية: «العوارض والمحن هي الحر والبرد، فإذا علم العبد أنه لابد منها، لم يغضب لورودهما ولم يغتم لذلك، ولم يحزن»( ).
وقال ابن الجوزي: لو أن ملكًا قال لرجل فقير: كلما ضربتك بهذا العود اللطيف ضربة أعطيتك ألف دينار؛ لأحب كثرة الضرب، لا لأنه لا يؤلم ولكن لما يرجو من عاقبته وإن أنكأه الضرب.
فلذات الأكباد
تزوجت في عز شبابها إلى شاب لا يعرفونه، ولا يعرفون أهله، ولا طبائعه وأخلاقه، فكانت النتيجة بعد سنوات الفراق المر بعد أن أنجبت طفلاً واحدًا، ولم تقف المصائب عند الفراق فحسب، فإنها لم تهنأ بعيش ولم يدعها في شأنها بل أذاقها الزوج صنوفًا من الغيبة والبهتان والاستهزاء، ثم ألحقها بإيذاء عجيب، ألا وهو حرمانها من رؤية صغيرها ومشاهدته والجلوس معه، وحرمها الشهور الطويلة لا ترى وجهه ولا تسمع صوته.
فكانت تسارع إذا اشتد بها الشوق وغلبها البكاء إلى مدرسة الصغير لتراه وهو خارج من أسوار المدرسة... تلقي عليه نظرة من بعد.. عندها يزداد بكاؤها، وهي تراه ولا تستطيع أن تضمه إلى صدرها، حتى تفتت كبدها، ولامس فقده جرحًا ينزف في سويداء قلبها! لكن الله لطيف بعباده ألهمها الصبر والسلوان على فقده، وقال لها والدها وكان رجلاً عاقلاً: إن طالت بك الأيام ليأتين بسيارته إلى بابك.
سار الزمن بطيئًا وهي تحاول نسيانه فلا تستطيع، وترسل له من يتتبع أخباره، وكيف ينام ويصحو؟ ومن يأتي بحاجته؟ ومن ينظف ثوبه ويغسله؟ بل ومن يوقظه للصلاة.. انهكها السؤال وأضناها الفراق، حتى أصابها الهم والحزن، فإذا بها تنام وصورته في مخيلتها، وتصحو وهي على أمل بعيد، أن تراه! وبين الحين والآخر تتذكر حال نبي من الأنبياء الله وقد فقد ابنه! لقد فقد يعقوب –عليه السلام- ابنه سنوات طويلة، واستمر به الحزن حتى سقط حاجباه على عينيه، فكان يرفعهما بخرقة فقيل له: ما هذا؟ فقال: طول الزمن وكثرة الأحزان! حتى فرج الله شدته ورد إليه ابنه في خير حال وأحسن مآل.
وبعد سنوات من الفراق والحرمان، أراد الله أن يكون كلام والدها حقيقة واقعة، وأن يجمع الله بينها وبين صغيرها، فإذا بالابن رجلاً يقود السيارة، ويأتي ليقف بالباب، ويقبل رأس أمه لينسيها تلك الأيام الطويلة، ببر حسن وصلة مباركة، مع ما رزقه الله من صلاح وحسن سمت! وقالت له: يا بني تضرعت لك بالدعاء سنوات طويلة، حتى رحم الله ضعفي وجبري كسري، وجمعني وإياك فإذا بي أراك على أحسن حال، وأجمل صورة فالله لطيف بعباده!.
وقفة:
قال الحسن: كان منذ خروج يوسف من عند يعقوب عليهما السلام إلى يوم رجع ثمانون سنة، لم يفارق الحزن قلبه، ودموعه تجري على خديه، ولم يزل يبكي حتى ذهب بصره، وما على الأرض يومئذ أكرم على الله تعالى منه.
المفضلات