أسعد الله أوقاتكم بكل الخير
في مجتمعاتنا العربية لا تخلو معاملاتنا اليومية وعلاقاتنا الاجتماعية من نوع من العنف والصدام، الذي يفتقر إلى أساسيات الذوق الرفيع والحس المرهف الراقي، الذي يُملي ضرورة احترام الآخرين واحترام خصوصياتهم ومشاعرهم، بل وحتى أذواقهم، ومعاملتهم بأقصى درجات الاحترام والتقدير، بغض النظر عن خلفياتهم الاجتماعية أو العلمية.
فهذا زوج يقسو على زوجته، ويعاملها بفظاظة وخشونة، وتلك زوجة تخاطب زوجها بأسلوب يخلو من الاحترام والمحبة والمودة، وذاك أخ يعامل أخته بقسوة وشدة، وأخر مدرس يقسو على تلاميذه ويعنفهم، ومدير يعامل مرؤوسية بخشونة وقساوة.
بكل تأكيد أننا لم نولد هكذا ، عنيفين صداميين، بل أننا نهجن اجتماعيا لنكون هكذا، يتم تكييفنا وتطويع نفوسنا على مدار مراحل حياتنا منذ الصغر لنكون عنيفين صداميين، غير متسامحين، قساة غلاظ فظوا القول والسلوك، فأصبحنا نجيد الصدام في كل شيء ولا نجيد التعاون والتكامل، هذه مأساتنا فهي عادة شبه متأصلة فينا مردها لموروثنا الاجتماعي، وأنظمتنا التربوية وبعض القيم التي نتشربها صغاراً وكبارا في بيوتنا، التي يزرعها فينا الأهل، ومؤسسات التربية والتنشئة المجتمعية، ففي البيت صغارا تُزرع فينا قيماً من قبيل أنك الأهم والأفضل وأنك تستحق ما لا يستحقه غيرك، وعليك بأخذ حقك بشتى الطرق، وأن تكيد الآخرين وتقهرهم، فأنت بهذا المنطق رجال، وإن أبديت تراخياً أو ضعفاً أصبحت مسخرة أبناء جيلك، تُعنّف من قبل أسرتك وتُوبخ لتراخيك وتهاونك و" ضعفك" أمام الآخرين.
ثم تتعهدنا المدارس بأسلوب التربية الذي يزرع فينا نوعا من العنف والفظاظة، فالمدرس يقسو على طلابه، بالقول وربما بالفعل، يعنفهم، يوبخهم، يقلل من قيمتهم ومن احترامهم لذواتهم، فالخطأ من قبل الطالب هو كارثة يُوبخ ويُعنف عليها أيما توبيخ، بشكل يجعله يستصغر نفسه ويفقد احترامه لذاته، وفاقد الشيء لا يعطيه، فالذي لا يحترم ذاته لا يمكن أن يحترم الآخرين، يتشرب العنف والفظاظة، فيمارسها بعد ذلك سلوكاً في حياته، خاصة وهو يرى أمامه علاقة أمه بأبيه وعلاقة أقرباءه بعضهم ببعض، وعلاقته نفسه بوالديه وبإخوته، علاقة يسودها الهدوء حيناً والعنف والفظاظة أحياناً أُخر، لتصبح عنده القاعدة العنف والفظاظة، والاستثناء هو الهدوء، ثم يترجم الإنسان ذلك سلوكاً في المستقبل، فنجده أباً عنيفاً مع أولاده و وزوجاً فظأ مع زوجته، وموظفاً غليظاً مع مراجعيه، وأستاذا قاسياً على تلاميذه، ومحاوراً صدامياً عنيفا مع محاوريه.
لا يتم زرع قيم احترام الذات وتقديرها لدى النشىء، وبالتالي احترام الغير وتقديرهم وتقدير إنجازاتهم وتفهم خصوصياتهم واحترامها، و احترام أرائهم ومنح أنفسنا الوقت لسماعها وتفهمها، كما نتطبع على "الحشرية" السلبية، التي تدفعنا للتدخل فيما لا يعنينا، و" حشر" أنوفنا في قضايا وخصوصيات الآخرين، بل إن مجتمعاتنا تجعل من خصوصيات الآخرين مادة للسمر والتسلية، يتم التركيز هنا عادة على الأمور السلبية للأشخاص وليس على إيجابياتهم أو انجازاتهم، بل نحاول التقليل من قدر نجاحاتهم، قمة الاستهانة بالآخرين ومشاعرهم وخصوصياتهم، ونسعد لفضيحة ما ألمّت بشخص ما، لأننا لا نحبه أو لمجرد أن مزاجنا لا يستسيغه، نتمنى الفشل للآخرين وكأن فشلهم نجاح لنا، وكأن مصائبهم عندنا فوائد.
ينطبق الأمر على حواراتنا في المنتديات، فما نلاحظه من حالة صدام بين الأعضاء في نقاشاتهم في المنتديات وربما في أي مكان حواري أخر هو مرتبط بطبيعتنا العربية، وبما أوردته أعلاه من أسلوب التربية الذي نتلقاه في بيوتنا ومدارسنا، نحن انفعاليون غالبا، نتعامل بردات الفعل، ولا نحكّم عقولنا، نغضب بسرعة ونرضى بسرعة، نحب بسرعة ونكره بسرعة، لا مجال لإعمال العقل ومنحه السيادة ليبسط سيطرته على مشاعرنا فيقودها بدلا من أن تقوده هي، نحن عبيد في الغالب لمشاعرنا وهي بدورها واقعة تحت وطأة انفعالاتنا غير الناضجة، نحن نعاني من عدم النضوج العاطفي والانفعالي، ينعكس هذا في مختلف سلوكياتنا ومن ضمنها حواراتنا مع الآخرين، فان اختلفنا مع احدهم فالصدام واقع، يخرج الموضوع عن سياقه وتصبح القضية كلٍ يحاول إثبات وجهة نظرة، وتعنيف الآخرين، وربما تصل فينا الدرجة للسب والشتم والتوبيخ، وننسى الهدف المبتغى من وراء الحوار والنقاش، وهو الفائدة واستعراض وجهات النظر، وننسى أن الحوار السليم المنطقي المبني على الحجج والبراهين هو الحوار الناجح السليم، فأي فكرة يتم نقاشها لابد وان نخرج من ورائها بالزبدة المفيدة، تماما كخض الحليب واللبن، الذي يؤدي في النهاية لإخراج زبدته فتعم الفائدة على الجميع، لكننا في نقاشاتنا نفتقد لمثل هذا النوع من الحوار الهادئ الرزين، نتعصب لموقفنا أو لجهة ما، نتمترس خلف مواقفنا وآرائنا ولا نعطي عقولنا فرصة لفحص هذه الآراء صحتها من عدمه، تُغلف قلوبنا وتُعمى بصيرتنا ولا هم لنا إلا الانتصار في الحوار لان "الهزيمة الحوارية" عيب وعار وترتبط بسمعتنا الإنترنتية والحوارية.
كما أننا أحيانا نبدأ الموضوع بطريقة تستفز الآخرين وكأننا نريد قهرهم وكيدهم، مما يعطي المجال للآخرين ليعاملونا كما دعوناهم من خلال أسلوبنا.
قد يكون صدام العقول ايجابيا إذا ما عرفنا أصول الحوار الهادف الايجابي، ومنحنا المجال لعقولنا كي تقودنا، وحيدنا انفعالاتنا وعواطفنا، لكنه بكل تأكيد سيكون سلبيا مقيتا قاتلا إذا ما ترافق مع تغييب العقل لصالح الانفعال والتعصب والمشاعر غير الناضجة.
علاج ذلك ليس سهلا وهو يحتاج لمجهود كبير على الصعيد التربوي، كما يبدأ العلاج من الأسرة والبيت، وهي كما نلاحظ غير مؤهلة لهذا الأمر، فالأمر يحتاج فترة زمنية طويلة لتغيير أسلوب التربية الأسرية والمدرسية.
فلنجتهد لان نكون اكثر هدوء في تعاملنا وعلاقاتنا الاجتماعية، وان نغلف اقوالنا وافعالنا بالذوق الرفيع الذي يستميل القلوب، لنكون راقيين رائعين نحظي بحترام من نعاملهم ونعاشرهم.
ولنتذكر قوله تبارك وتعالى "وَلوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ " ( أل عمران)
لكم المحبة
ناصر البلوي
المفضلات