ورآق لي ايضا ...جزاك الله خير
إذا حمّلت على القلب هموم الدنيا وأثقالها، وتهاونت بأوراده التي هي قوته وحياته، كنت كالمسافر الذي يحمل دابته فوق طاقتها، ولا يوفيها علفها، فما أسرع ما تقف به.
هكذا يقول ابن القيم الجوزية في كتابه الماتع "الفوائد"..وما أعظمها من فائدة لمن تأمل وتدبر..حينما تجتمع على الإنسان نفسه وتتخلى عنه همومه ويعرف قصده ومبتغاه ويسير إليه سيرا حثيثا مقللا من الأحمال والأثقال متزودا بسلاحه الذي يأمن به من غلبه الأعداء ويأنس به من وحشة الطريق الطويل وغربته.
وحينما نتأمل نجد رسولنا الكريم صلى الله عليه سلم يرشدنا إلى هذا الطريق السديد الذي يجمع للإنسان خيري الدنيا والآخرة، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه، جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له".( صحيح الجامع، رقم6510).
فما أجمل أن يصبح العبد ويمسى وليس همه إلا الله وحده فيتحمل الله سبحانه حوائجه كلها، ويحمل عنه كل ما أهمه، ويفرغ قلبه لمحبته، ولسانه لذكره، وجوارحه لطاعته...
وما أعظمها من خسارة حينما يصبح العبد ويمسى والدنيا همه فيحمله الله همومها وغمومها وأنكادها، ويوكله إلى نفسه، فشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق، ولسانه عن ذكره بذكرهم، وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وأشغالهم، فهو يكدح كدح الوحش في خدمة غيره، كالكير ينفخ بطنه ويعصر أضلاعه في نفع غيره، قال تعالي:"وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ" (الزخرف:36).
إن الشقاء الذي يعانيه إنسان العصر الحديث، والأمراض الفتاكة التي تصيبه، النفسية منها على وجه التحديد، وفي مقدمتها الاكتئاب والقلق والضجر والهم والحزن لهي نتيجة حتمية لمخالفة هذا الهدي النبوي، والإرشاد القرآني..فإذا بك تجده يصارع على الدنيا يخشى أن تفوته منها شربة ماء أو كسره خبز وما في الدنيا سوى ذلك..وتراه يقاتل ويعادي ويلد في الخصومة والفراق من أجلها فتتشعب به الهموم وتذهب به في أودية سحيقة من القلق النفسي والحيرة والاضطراب والإحساس بالضياع والخواء الروحي والضعف الإيماني وقد يكون له من الدنيا الأموال الكثيرة بين يديه ولكنها ما تغنى عنه شيئا وقد فقد نفسه وما عاد يرى غير الفقر بين عينيه.
أما إذا اطمأن القلب وسارع في واد واحد..وادي العبودية الخالصة..وخلف الهموم كلها ورائه ظهريا..واقبل على عبادة ربه جل وعلا اطمأن سائر الجسد باطمئنان الملك..رأيت إنسانا متناغما مع الكون من حوله في تسبيحه فريدة عجيبة لكم اشتاقت البشرية جميعها إلى نسمة عابرة من هوائها وتغريدة سعيدة من لحنها..ذلك أن الله بقدرته خلق الكون لخدمة الخليفة المكرم وسخرها له وذللها تذليلا..فإذا مارس حياته مسخرا الكون لعبادة ربه استقام كل شيء من حوله في منظومة متسقة لا ترى فيها عوجا ولا أمتا.. قال تعالي:"وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" (الذاريات:56)، فهذا النص القرآني يحتوي حقيقة ضخمة هائلة، من أضخم الحقائق الكونية التي لا تستقيم حياة البشر في الأرض بدون إدراكها واستيقانها، سواء كانت حياة فرد أم جماعة،أم حياة الإنسانية كلها في جميع أدوارها وأعصارها، وإنه ليفتح جوانب وزوايا متعددة من المعاني والمرامي، تندرج كلها تحت هذه الحقيقة الضخمة، التي تعد حجر الأساس الذي تقوم عليه الحياة..وأول جانب من جوانب هذه الحقيقة أن هنالك غاية معينة لوجود الجن والإنس تتمثل في وظيفة من قام بها وأداها فقد حقق غاية وجوده؛ ومن قصر فيها أو نكل عنها فقد أبطل غاية وجوده؛ وأصبح بلا وظيفة، وباتت حياته فارغة من القصد، خاوية من معناها الأصيل، الذي تستمد منه قيمتها الأولى، فقد انفلت من الناموس الذي خرج به إلى الوجود، وانتهى إلى الضياع المطلق، الذي يصيب كل كائن ينفلت من ناموس الوجود، الذي يربطه ويحفظه ويكفل له البقاء، هذه الوظيفة المعينة التي تربط الجن والإنس بناموس الوجود هي العبادة لله.(في ظلال القران).
ولذا نجد من أبى إلا النكوص على عقبيه والتمرد على نظام الكون هذا الأزلي وذهب مسخرا ذاته وحياته لخدمة الكون غافلا عن دوره الرئيس في عبادة رب الكون وذاهلا عن مقتضى خلافته في الأرض حتما يكون الشقاء نصيبه والأودية السحيقة المتشعبة موئلا له ومستقر...قال تعالي:"وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى"(طه:124)
فالسير في طلب الدنيا، كما يقول ابن القيم رحمه الله، سير في أرض مُسبعة، والسباحة فيها سباحة في غدير التمساح، المفروح به منها هو عين المحزون عليه، آلامها متولدة من لذاتها، وأحزانها من أفراحها.
ولسنا ندعو هنا إلى الإقبال على الآخرة وترك الدنيا بالكلية، فهذا مخالف للمنهج القرآني القائل:"وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا"(القصص:77)، وإنما يجب أن تبقي الدنيا في اليد ويفرغ القلب والفكر من الشواغل إلا في عبودية الرب جل وعلا، بحيث لا يكون للإنسان إلا هم الآخرة وفقط.
فالمذموم هو أن تكون الدنيا هي "الهم" بمعنى الاهتمام بها والتشاغل بما فيها والحرص عليه ومعايشته، بحيث ينصهر قلب العبد بحب ما تصبوا إليه نفسه من هذه الدنيا، ويلتفت إليه كلية بحيث يستغرق هذا الأمر خواطره، وواردات نفسه، فيكون كالمذهول بهذا الشيء، المغرم بذكره المشغوف به دائما.
يقول الإمام الجنيد إن الله سلب الدنيا عن أوليائه، وحماها عن أصفيائه وأخرجها من قلوب أهل وداده لأنه لم يرضها لهم..ويعرف الزهد بأنه استصغار الدنيا ومحو آثارها من القلب.
والسبيل العملي كي يجتمع على العبد شمله ويمضى في طريق العبودية من غير التفات إلى غيره من الطرق المهلكة والأودية السحيقة أن يقنع بما رزقه الله منها، ولا يتطلع إلى ما سواه ولا ينظر إلى ما وهب الله غيره من العباد، ولينظر إلى من هو اقل منه حظا من الدنيا وأكبر هما وحرصا وسعيا في طلب الآخرة.
ثم يقف مليا على ما أعطاه الله منها، وليتأمل هذا الإرشاد النبوي الكريم الذي رواه عبيد الله بن محصن الأنصاري قال: قال رسل الله صلى الله عليه وسلم: "من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها) "السلسلة الصحيحة الرقم2318).
وهو العبد في طريق العبودية الذي لا يخشى على المستقبل والولد والأهل وليحسن الظن بالله انطلاقا من وعيه بقول ربه عز وجل "وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا" (النساء:9).
ثم هو يدرك أخيرا أن الآخرة هي دار المستقر وخير له من تلك الدار الفانية الزائلة "وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ"(الأنعام:32)، وشتان شتان بين نعيم مقيم خالد ودنيا لا يخلو حلوه من كدر ولا صفاؤها من غيم..
جعلناالله وإياكم من رواد الوادي الواحد وادي العبودية الخالصة له
دمتم بحفظ الرحمنمما راق لي
التعديل الأخير تم بواسطة سجى الليل ; 10-01-2009 الساعة 02:24 AM
ورآق لي ايضا ...جزاك الله خير
سبحان الله العظييييم ,,,, ولا اله الا الله
،،،اسعدني مرورك العطر الذي أنار متصفحي،،،،
،،،،دمتي بحفظ الرحمن ورعايته،،،،
جميل كلامك يا سجى الليل ويجب ان نعتبر ..واعجبني قول.. وشتان شتان بين نعيم مقيم خالد ودنيا لا يخلو حلوه من كدر ولا صفاؤها من غيم..
وعلى الانسان ان يقارن بين نعيم الدنيا الزائل ونعيم الآخره الباقي.. ويسأل نفسه والى اي وادي وصل..اشكرك اختي ولك تحياتي
سجى الليل
جزاكي الله خيرا
،،،،جميعاً،،،
شكر الله لكم وأحسن الله أليكم
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
المفضلات